ج2 - ف41

أَنَا هُوَ

ماريا فالتورتا

L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO

THE GOSPEL AS REVEALED TO ME

بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}

L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ

MARIA VALTORTA

الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.

 

الجزء الثاني / القسم الأول

 

41- (يسوع في الخليل. بيت زكريا. أغليّا)

 

13 / 01 / 1945

 

يسوع الذي يتوسَّط الجَّمع السَّائِر، والذي تتقدّمه النِّعاج التي ترعى عشب المنحدر يَسأَل: «تُرى حوالي أيّة ساعة سوف نَصِل؟»

 

فيُجيب إيلي: «حوالي الساعة الثالثة (أي ما يعادل الساعة التاسعة حاليّاً). فهناك ما يُقارِب العشرة أميال.»

 

ويسأل يهوذا: «ثمّ نذهب إلى إسخريوط؟»

 

«نعم نذهب إليها.»

 

«أَلَم تكن المسافة مِن يافا إلى إسخريوط أقصر؟ المفروض أنّها ليست بالبعيدة. هل هذا صحيح أيّها الراعي؟»

 

«بفارق مِيلَين على الأكثر، زيادة أو نقصاناً.»

 

«هكذا نقطع أكثر مِن عشرين دون جدوى.»

 

فيقول يسوع: «لماذا هذا القَلَق يا يهوذا؟»

 

«أنا لستُ قَلِقاً، ولكنّكَ كنتَ قد وعدتَني بالقيام بزيارة إلى بيتي...»

 

«وسوف أذهب. فأنا أحفظ وعودي دائماً.»

 

«لقد أَرسَلتُ أُنبئ والدتي... وأنتَ، علاوة على ذلك قد قلتَ: مع الأموات نظلّ نحن حاضِرين بالروح.»

 

«لقد قُلتُها. ولكن يا يهوذا فَكّر: أنتَ لم تُعانِ بَعد مِن أجلي. وهؤلاء مضى عليهم ثلاثون عاماً وهم يُعانون، ولم يخونوا أبداً حتّى ولا ذِكري. حتّى ولا الذِّكرى. لم يكونوا يَعلَمون ما إذا كنتُ حيّاً أو ميتاً... ومع ذلك ظَلّوا أوفياء. كانوا يتذكّرونني، وَليداً، طفلاً لم يَظهَر لهم مِنّي سوى بكائي وشهيتي للحليب الوالديّ... ومع ذلك فقد كَرَّموني كإله. وبسببي ضُربوا، أُهينوا، اضطُهدوا مِثل عار اليهوديّة، ورغم ذلك لم يكن إيمانهم ليتزعزع بالضرب، لم يكن ليَنضَب، بل إنّما كان يَضرب جذوراً في الأعماق ويُصبِح بذلك أكثر صلابة.»

 

«بالمناسبة، منذ بضعة أيّام والسؤال يحرق شفتيّ. هؤلاء هم أصدقاؤكَ، وأصدقاء الله، أليس كذلك؟ لقد بارَكَهم الملائكة مع سلام السماء، أليس صحيحاً؟ لقد ظَلّوا أبراراً رغم كلّ التجارب، أليس كذلك؟ اشرح لي إذاً لماذا كانوا بؤساء؟ وحنّة؟ قُتِلَت لأنّها أحبّتكَ...»

 

«بالنتيجة فإنّكَ تريد أن تَخلص إلى القول إنّ حبّي والحبّ الذي يبادلونني إيّاه يَحمِلان سوء الطَّالِع.»

 

«لا... إنّما...»

 

«إنّما هو كذلك. لا تروق لي رؤيتكَ مُنغَلِقاً دون النور إلى هذه الدرجة، وقد استولى عليك الحسّ البشريّ إلى هذا الحدّ. لا، دعه يا يوحنّا، وأنتَ أيضاً يا سمعان. أُفَضِّل أن يتكلّم، فأنا لستُ ألومه أبداً. إنّي أريد فقط أن تتفتّح النفوس لتفسح المجال للنور كي يَلِج إلى داخلها. هلمّ إليَّ يا يهوذا، أَنصِت. إنّكَ تَنطَلِق مِن حُكم مَشتَرَك بين عدد كبير مِن الناس يعيشون الآن، وحتّى كثيرين سوف يعيشون. لقد قلتُ: حُكماً. كان ينبغي لي أن أقول: خَطَأ. إنّما بما أنّه يُفتَرَض أنّكَ ترتكب هذا دون نيّة سيّئة، عن جَهل منكَ لماهيّة الحقيقة، فهذا ليس خطأ، إنّما هو فقط حُكم غير كامل، كما يمكن أن يكون حُكم طفل. وإنّكم لَأَطفال، أيّها الناس البائسون. وأنا هنا المعلّم، لأجعل منكم بالِغِين قادِرِين على تمييز الحقّ مِن الباطل، الجيّد مِن العاطل، والأفضل مِن الفاضل. اسمعوا إذاً:

 

ما هي الحياة؟ إنّها زمن انتظار، بل أقول يمبس، واليمبس الذي يمنحكموه الله الآب، للكشف عن طبيعتكم الصالحة كأبناء بَرَرَة أو فاسِدين، ولكي يحفظ لكم، حسب أعمالكم، مستقبلاً لا يَعرِف الانتظار ولا التجارب. والآن قولوا لي أنتم: هل مِن العدل، إذا ما حَصَلَ أحد ما على فرصة نادرة لإمكانيّة خدمة الله بصورة متميّزة فريدة، أن يتمتّع كذلك بامتياز خاصّ طوال حياته؟ ألا يبدو لكم بأنّه بذلك قد تَلَقَّى الكثير، ولأجل ذلك يستطيع اعتبار نفسه مَغبوطاً، حتّى ولو لم يكن كذلك بشريّاً؟ أليس مِن غير العدل لِمَن قد مَلَكَ النور في قلبه بتجلٍّ إلهيّ، وبَشَاشة الضمير الاستحسانيّة، أن يملك كذلك الأمجاد والخيرات الأرضيّة؟ أوليس ذلك تَهوُّراً أيضاً؟»

 

فيقول سمعان: «بل يا معلّم أقول إنّ هذا انتهاك كذلك للحُرمات. فلماذا إقحام المسرّات البشريّة حيث تكون أنتَ؟ عندما يحظى بكَ أحدهم -والرُّعاة هُم وحدهم الأغنياء في إسرائيل، لأنّهم نالوا حظوة وجودكَ بينهم مدة ثلاثين عاماً- فلا شيء يَلزمه بعد. لا يُوضَع أيّ شيء بشريّ على الذبيحة التكفيريّة... ولا يمكن استخدام الإناء المقدّس سوى في أمور مقدّسة. وهم مُكَرَّسون، منذ اليوم الذي رأوا فيه ابتسامتكَ... ولا شيء، لا، لاشيء لا يكون أنتَ يمكنه الولوج إلى قلوبهم التي تمتلككَ. هل يمكنني أن أكون مثلهم؟»

 

فيُجيبه يهوذا ساخراً: «حينذاك، بعد رؤية المعلّم وشفائكَ، أَسرَعتَ لاسترداد ملكيّة خيراتكَ.»

 

«صحيح. لقد قلتُ ذلك وفعلتُهُ. ولكن هل تعرف لماذا؟ إذاً فكيف يمكنكَ الحُكم إن لم تكن تعرف كلّ شيء؟ وكيل أعمالي كان قد تلقّى أوامر محدّدة، الآن سمعان الغيور قد شُفِيَ -لم يعد بمقدور أعدائه وخصومه إيذاؤه أو عزله، ولا حتّى ملاحقته لأنّه لم يعد منتمياً لأيّة ملّة، اللهم سوى ليسوع- ويستطيع التَّصرف بممتلكاته التي حَفِظَها له رجل شريف وأمين. وأنا، حين مرور ساعة على استعادتي الملكيّة، حَدَّدتُ الغاية مِن ثمنها لأحصل على مبلغ أكبر، ولِأستطيع القول... لا، لن أقول هذا.»

 

فيقول يسوع: «الملائكة هُم الذين يقولون ذلك يا سمعان، ويُدوّنونه في الكتاب الأزليّ.»

 

يَنظُر سمعان إلى يسوع، وتَلتَقي النَّظرَتان، الأولى نَظرَة مُندَهِشة والأخرى مُبارِكة.

 

«كالعادة، أنا على خطأ.»

 

«لا يا يهوذا، فأنتَ لديكَ الحسّ العمليّ. أنتَ ذاتكَ تقول ذلك.»

 

فيقول يوحنّا الرقيق دائماً والـمُسالِم: «آه! ولكن مع يسوع!... حتّى سمعان بطرس كان متعلّقاً بالحسّ العمليّ، والآن على العكس!... وأنتَ كذلك يا يهوذا، سوف تصبح مثله. لم يمض عليكَ سوى القليل مِن الوقت مع المعلّم، أمّا نحن ، فقد مضى علينا زمن أطول، ونحن الآن أفضل.»

 

يهوذا اليوم عصبيّ المزاج حقّاً: «هو لم يَقبَلني. لولا ذلك لكنتُ مِن أتباعه منذ الفصح.»

 

يَقتَصِر يسوع الحديث بقوله للاوي: «ألم تَذهَب أبداً إلى الجليل؟»

 

«بَلى يا سيّدي.»

 

«ستأتي معي لتقودني إلى يونا، هل تعرفه؟»

 

«نعم، كنا نلتقي دائماً في الفصح، كنتُ أذهب إليه حينذاك.»

 

يُطأطئ يوسف رأسه، يَراه يسوع. «لا يمكنكم المجيء معاً. يَبقَى أيلي فقط مع القطيع، أمّا أنتَ فستأتي معي إلى مخاضة أريحا فقط حيث سنفترق لبعض الوقت. سوف أقول لكَ بعدئذ ماذا ينبغي لكَ فِعله.»

 

«ونحن، لا شيء؟»

 

«أنتَ أيضاً، يا يهوذا، أنتَ أيضاً.»

 

يوحنّا الذي يَسبق الباقين بخطوات يقول: «لقد بانت بعض البيوت.»

 

«إنّها الخليل، تتشعّب على نهرين، مع قمّتها. هل ترى يا معلّم هذا البناء الكبير هناك، الأعلى قليلاً مِن الباقين، في هذا المرج الأخضر؟ إنّه منزل زكريّا.»

 

«فلنحثّ خُطانا.»

 

يُسرِعون في الأمتار الأخيرة مِن الطريق ويَدخُلون البلدة. أجراس القُطعان تُصدِر صوت صنّاجات عندما تتقدّم على الحجارة غير المرتّبة للطريق التي ما يزال رصفها بدائيّاً جدّاً. يَصِلون المنزل. يَنظُر الناس إلى هذه المجموعة مِن الرجال المختلفين شكلاً وسنّاً وأزياء وسط بياض القطيع.

 

يقول إيلي: «آه! لقد اختَلَف! فهنا كان يوجد شريط مُشبَّك.» والآن توجد مكانه بوّابة حديد تحجب الرؤية، كذلك جدار تصوينة أعلى مِن الإنسان، وبذلك لم يَعُد أحد يرى شيئاً.

 

«قد توجد فرجة مِن الجهة الخلفيّة. هلمّ بنا لنرى.» يَدورون حول هذا الرباعيّ الشكل الكبير، أو بالأحرى المستطيل الشكل، بَيدَ أنّ الجدار يستمرّ على ذات الارتفاع.

 

يَنظُر يوحنّا ويقول: «الجدار حديث البناء. لم يمض عليه وقت، فما يزال على الأرض كلس مع الحجارة.»

 

«وكذلك القبر لستُ أراه... لقد كان إلى جانب الغيضة، والغيضة الآن خارج السور، و... تحسبها أرض دولة. يُحتَطَب منها.» إيلي تأخذه الحيرة.

 

يرى الجَّمعَ رجل، حَطّابٌ عجوز قصير القامة ولكنّه قويّ، فيتوقّف عن نشر جذع مُقتَطَع ويأتي باتّجاه الجَّمع: «عمّن تبحثون؟»

 

«كنا نودّ الدخول إلى البيت للصلاة على قبر زكريّا.»

 

«لم يعد للقبر وجود. أفلا تَعلَمون؟ مَن تكونون؟»

 

«أنا صديق صموئيل الرّاعي، وهو...»

 

فيقول يسوع: «ليس ضروريّاً يا إيلي...» فيصمت إيلي.

 

«آه! صموئيل!... نعم، ولكن منذ أن أُودِع يوحنّا بن زكريّا السجن، والبيت لم يعد ملكه. إنّها مأساة، ذلك أنّه كان يُوَزّع عائدات ممتلكاته على فقراء الخليل. وذات صباح أقبَلَ رَجُل مِن حاشية هيرودس، رمى يوئيل خارجاً، خَتَمَهُ، ثمّ عاد مع بَنَّائين لبناء السّور... وقد كان القبر هنا في الزاوية، فاشمأزَّ منه... وذات صباح وَجَدناه مُخَرَّباً، شِبه مُهَدَّم... وقد اختَلَطَت الرّفاة... جمعناها قدر استطاعتنا... وهي الآن في نعش واحد... أمّا ذاك القميء فإنه يُسكِن عشيقاته في بيت الكاهن زكريّا. والتي تَسكُنه الآن هي ممثّلة مِن روما. لذلك رَفَعَ الجدار. لا يريد لأحد أن يرى... بيت الكاهن بيت مُسَوَّر! بيت المعجزة والسابق! إنّه هو بكلّ تأكيد، هذا إن لم يكن هو مَسيّا. وكم تحمَّلنا مِن المتاعب مِن أجل المعمدان! ولكنّه عظيمنا! في الحقيقة هو عظيمنا! فمولده كان معجزة. أليصابات كانت عجوز مثل عُود يابس، وأصبَحَت خصيبة مثل شجرة تفّاح في آذار (مارس)، وهذه المعجزة الأولى، ثمّ أقبَلَت قريبة لها، قدّيسة، لمساعدتها وفكّ عقدة لسان زكريّا. كان اسمها مريم. إنّني أتذكّرها رغم أنّنا لم نكن نراها إلّا نادراً جدّاً. كيف حَدَث ذلك؟ لستُ أعلَم. يقال إنّها إرضاء لأليصابات قد وَضَعَت فم زكريا الأبكم على أحشائها الحبلى، أو إنّها وَضَعَت أصابعها في فمه. لستُ أَعلَم تماماً. إنّما ما هو أكيد، هو أنّه، بعد تسعة أشهر مِن الصمت، تَكَلَّمَ زكريّا مُمجِّداً الله بقوله: إنّ وجود مَسيّا قد أصبَحَ حقيقة واقعة. لا معلومات أخرى لديَّ. إنّما زوجتي، التي كانت موجودة هناك يومذاك، تؤكّد أنّ زكريّا قال وهو يُمجّد الله، إن ابنه سيسبقه. والآن أنا أقول: ليس كما يعتقد الناس. إنّ يوحنا هو مَسيّا وهو يسير قُدّام الله، كما كان إبراهيم يسير قُدّام الله. هاكم. ألستُ مُِحقّاً؟»

 

«إنّكَ مُحِقّ فيما يخصّ روح المعمدان الذي يسير دائماً قُدّام الله، ولكنّكَ لستَ على حقّ فيما يخص مَسيّا

 

«إذاً فتلك التي كان يقال عنها إنّها أُمّ ابن الله -حسب قول صموئيل- أولم تكن كذلك في الحقيقة؟ ألم تعد كذلك؟»

 

«لقد كانت كذلك. وقد وُلِدَ مَسيّا، يسبقه صوت صارخ في البريّة، كما قال النبيّ.»

 

«إنّكَ أوّل مَن يؤكّد ذلك. فيوحنّا، في آخر مرّة أَحضَرَ لـه فيها يوئيل جلد خروف، كما كان يفعل كلّ عام، مَطلَع الشتاء، لم يَقُل، حينما سألناه عن مَسيّا: "إنّه موجود". وعندما سيقولها هو...»

 

فيقول يوحنّا: «أيّها الرجل، لقد كنتُ تلميذاً ليوحنّا، وقد سمعتُه يقول: "هوذا حَمَل الله" وهو يشير إليه بالإصبع...»

 

«لا، لا، فإنّه هو الحَمَل. حَمَل حقيقيّ نما بمفرده، مِن دون عون أبيه وأُمّه. فما كاد يصبح ابناً للشريعة حتّى اختلى في كهوف الجبال المواجهة للصحراء، وهناك نما وترعرع، وهو يُحادِث الله. أليصابات وزكريّا ماتا، وهو لم يَحضُر. ذلك أنّ الله كان له الأب والأُمّ. ما مِن قدّيس أعظم منه. سَلوا الخليل كلّها. صموئيل كان يقول ذلك، إنّما يُفتَرَض أن يكون أهل بيت لحم على صواب. فقدّيس الله هو يوحنّا.»

 

فيسأله يسوع: «لو قال لكَ أحدهم: "أنا مَسيّا" فبماذا تجيبه؟»

 

«أقول عنه "إنّه مُجَدِّف" وأَطرُده راجِماً إيّاه بالحجارة.»

 

«وإذا اجتَرَحَ معجزة لإثبات ذلك؟»

 

«أقول: "إنّ به مَسّاً مِن الشيطان"، فمَسيّا سوف يأتي عندما يُعلِن يوحنّا عن هويّته الحقيقيّة. وغَضَب هيرودس نفسـه هو الدليل على ذلك. فهو، الداهية، يَعلَم أنّ يوحنّا هو مَسيّا

 

«لم يُولَد في بيت لحم.»

 

«ولكن عندما سيُطلَق سراحه، بعد أن يُعلِن بنفسه عن مجيئه الثاني، سيَظهَر في بيت لحم. فبيت لحم كذلك تنتظره. على الرغم مِن... آه! إن لم تكن خائفاً فاذهب وخاطِب أهل بيت لحم عن مَسيّا آخر... وسترى.»

 

«هل لديكم مَجْمع؟»

 

«على بُعد مائتي خطوة مِن هنا بشكل مستقيم، عَبرَ هذه الطريق. لا يمكنكَ أن تخطئ. وإلى جانبه قبر "البقايا الـمُنتَهَكَة" (Les restes violés)

 

«إلى اللقاء وليُنِر الله قلبكَ.»

 

ويَنطَلِقون عائدين إلى الواجهة.

 

عند البوابة تَقِف امرأة في رَيعان الشباب، مثيرة، جميلة جدّاً. «سيّدي، هل تريد الدخول إلى المنزل؟ ادخل.»

 

يَنظُر إليها يسوع بصرامة مثل قاض، ولا يتكلّم. فيتصدّى لها يهوذا وبموافقة الجميع: «عودي إلى الداخل، وَقِحَة، لا تَغوينا بأنفاسكِ، أيّتها الكلبة المسعورة.»

 

يعلو المرأة احمرار شديد وتُطأطئ الرأس. وتَغيب بسرعة، مُضطَرِبة، مُهانَة مِن قِبَل الأطفال والمارّة.

 

«مَن منكم هو الطاهر لدرجة يستطيع معها القول: "لم أشتَهِ قطّ التفّاحة المقدّمة مِن حواء؟"» يقول يسوع ذلك بجدّية ويضيف: «عيّنوه لي وأنا أتوجّه إليه بالتحيّة بعبارة: قدّيس. لا أحد؟ إذاً، إن لم يكن مِن باب الاحتقار، بل مِن باب الضعف تشعرون بعجزكم عن الاقتراب مِن هذه المرأة، فانسَحِبوا. أنا لا أُرغِم الضُّعَفاء على معركة غير مُتَكافِئة. أيّتها المرأة أريد الدخول. إنّ ملكيّة هذا البيت كانت تعود لأحد أقربائي. فهو عزيز على قلبي.»

 

«تفضّل سيّدي بالدخول إذا لم تكن تشعر باشمئزاز مني.»

 

«دعي الباب مفتوحاً لِيَنظُر الناس ولا يُثَرثِروا...»

 

يمرّ يسوع جادّاً مَهيباً. تحيّيه المرأة بخضوع ولا تجرؤ على الحركة. ولكنّ كلام الناس الـمُقذِع كان يَخِزها حتّى النُّخاع. فتهرب راكضة إلى عمق الحديقة، بينما يمضي يسوع إلى أسفل السلّم، يُلقِي نظرة من خلال الباب شبه المفتوح ولكنّه لا يَدخُل. ثمّ يذهب إلى مكان القبر حيث يُوجَد الآن نوع مِن الهَياكل الوثنيّة.

 

«رُفاة الأبرار، حتّى وهي جافة ومبعثرة، تَضوع عطراً مُطهَّراً وبذور حياة أبديّة. السلام للأموات الذين كانت حياتهم مستقيمة! السلام للأطهار الذين يرقدون بالربّ! السلام للذين عانوا ولم يريدوا معرفة الإثم! السلام لعظماء الأرض والسماء الحقيقيّين! السلام!»

 

تعود المرأة لملاقاته مُتَّبِعة سياجاً يخفيها.

 

«سيّدي!»

 

«نعم، أيّتها المرأة.»

 

«ما اسمكَ يا سيدي؟»

 

«يسوع.»

 

«لم أسمع به قطّ. أنا رومانيّة: ممثّلة وراقصة. ولستُ خبيرة بغير المجون. فماذا يعني هذا الاسم؟ أنا اسمي أغليّا و... وهو يعني الرذيلة.»

 

«اسمي يعني: الـمُخَلِّص.»

 

«كيف تُخَلِّص؟ ومَن؟»

 

«الذي يريد الخلاص بصدق. أُخَلِّص وأنا أُعَلِّم الطهارة ، إرادة الألم وكذلك الشَّرَف والرّفعة والخير بأيّ ثمن.» يتكلّم يسوع بغير حِدّة، إنّما كذلك دون الالتفات إلى المرأة.

 

«أنا تائهة...»

 

«وأنا مَن يبحث عن التائهين.»

 

«أنا ميتة.»

 

«أنا مَن يَهِب الحياة.»

 

«أنا قَذارة وكذب.»

 

«أنا الطُّهر والحقيقة.»

 

«أنتَ الصَّلاح كذلك، يا مَن لا تَنظُر إليَّ ولا تَلمَسني ولا تدوسني بقدميكَ، فارحَمني...»

 

«في البدء عليكِ أن ترحَمي ذاتكِ، تَرحَمي روحكِ.»

 

«تُرى ما يكون الروح؟»

 

«هو الذي يجعل مِن الإنسان إلهاً لا حيواناً. والرذيلة، الخطيئة، تقتله، وهو لو مات يُصبِح الإنسان حيواناً مثيراً للاشمئزاز.»

 

«هل سأتمكّن مِن رؤيتكَ مرّة أخرى؟»

 

«مَن يبحث عنّي يجدني.»

 

«أين تقطن؟»

 

«حيث القلوب في حاجة إلى طبيب وعلاج لتصبح مستقيمة.»

 

«إذاً... فلن أراكَ أبداً... إذ حيث أكون أنا فلا أحد يريد طبيباً ولا علاجاً ولا استقامة ولا نزاهة.»

 

«لا شيء يمنعكِ مِن أن تأتي إلى حيث أكون. سيُنادى باسمي في الطرقات، وسوف يَصِل إليكِ. الوداع.»

 

«الوداع يا سيدي. دعني أدعوكَ "يسوع". آه! ليس بدافع الألفة ورفع الكلفة!... إنّما لكي يَلِج قليل مِن الخلاص إلى أعماقي. أنا أُدعى أغليّا. اذكُرني.»

 

«نعم، الوداع.»

 

تبقى المرأة في عمق الحديقة. ويَخرُج يسوع، بمظهره الجادّ الصَّارِم. يَنظُر إلى الجميع. يُلاحِظ الارتباك بادياً على التلاميذ، والازدراء لدى الخليليّين. خادِم يُغلِق البوابة.

 

يَسلك يسوع الطريق بشكل سويّ. يَطرُق باب المَجْمع. يتقدّم شيخ صغير القدّ، حَانِقاً. لا يَمنَح يسوع فرصة حتّى للكلام. «المَجْمع محظور، ولا مجال في هذا المكان المقدّس لِمَن يَتَحَدَّثون إلى البغايا. انصَرِف!»

 

يعود يسوع أدراجه دون كلام، ويُكمِل طريقه وأَتبَاعه خلفه. حتّى يَبلغ مَخرَج الخليل. عندئذ يبدأون بالكلام.

 

يقول يهوذا: «مع ذلك، أنت أردتَ ذلك، يا معلّم. عاهِرة!»

 

«يهوذا، الحقّ أقول لكَ إنّها ستسمو إلى درجة أرفَع منكَ. والآن أنتَ يا مَن يذمّني، ماذا تقول لي عن اليهود؟ في الأماكن الأكثر قداسة في اليهوديّة، سَخِروا مِنّا وطَرَدونا... ولكن هكذا. لقد حان الوقت الذي يَعبُد فيه أهل السَّامرة والوثنيّون الإله الحقّ، أمّا شعب الربّ فسوف تتلطّخ يداه بالدم وبالجريمة... بالجريمة التي تبدو أمامها خطايا البغايا اللواتي تُبِعن أجسادهنّ وأرواحهنّ تافهة لا وزن لها. لم أستطع الصلاة على رفاة أقربائي وصموئيل البارّ. إنّما لا يهمّ. استريحي أيّتها الرُّفاة المقدَّسة، وابتَهِجي أيّتها الأرواح التي كانت تسكنها. فالقيامة الأولى وشيكة، ومِن ثمّ يأتي اليوم الذي تُعرَضُون فيه على الملائكة كخدّام للرب.»

 

يصمت يسوع وينتهي كلّ شيء.