ج3 - ف52

أَنَا هُوَ

ماريا فالتورتا

L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO

THE GOSPEL AS REVEALED TO ME

بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}

L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ

MARIA VALTORTA

الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.

 

الجزء الثالث / القسم الثاني

 

52- (السبت في مرج ابن عامر. يَعْبيص الصغير)

 

16 / 06 / 1945

 

«أعطِ ميخا ما يكفي مِن النقود، ليتمكّن غداً مِن توزيع نصيب اليوم على فلّاحي هذه المنطقة.» يقول يسوع هذا ليهوذا الاسخريوطيّ الذي يهتمّ عادة... بأموال الجماعة. ثمّ ينادي يسوع أندراوس ويوحنّا، ويُرسِلهُما إلى نقطتين يمكن منهما رؤية الطريق أو الطرقات القادمة مِن يزرعيل. بعد ذلك ينادي بطرس وسمعان ويُرسِلهُما للقاء فلّاحي دوراس، مع أمر بإيقافهم عند حدود الملكيّتين. أخيراً يقول ليعقوب ويوضاس: «احملا الطعام وهيّا بنا.»

 

يَتبَعهم فلّاحو جيوقانا، رجالاً ونساء وأطفالاً، ويَحمِل الرجال إبريقين صغيرين، يُفتَرَض أنّهما مليئان نبيذاً. بل هُما بالحريّ جَرَّتان، سِعَة الواحدة عشرة ليترات. (أرجوكم دائماً ألّا تَعتَبِروا مقاييسي دقيقة موثوقة.) ويَمضُون إلى كَرْم، الدوالي فيه متراصّة، وهو الآن مغطّى بأوراق جديدة، وهو دليل نهاية أملاك جيوقانا. بعد الكَرْم هناك حفرة ممتلئة ماء، مَن يدري كم كَلَّفَت مِن التعب.

 

«أترى؟ لقد تشاجَرَ جيوقانا مع دوراس مِن أجل هذه الحفرة. فقد كان جيوقانا يقول: "إنّها غلطة أبيكَ، إذا ما أصاب التَّلَف والخَراب كلّ شيء. فإذا لم يكن يريد عبادته، فعلى الأقلّ كان عليه أن يخشاه ولا يستفزّه." ودوراس يَصرُخ وكأنّه شيطان: "لقد أَنقَذتَ أراضيكَ بفضل هذه الحفرة، فلم تتجاوزها الحشرات..." فيقول جيوقانا: "وإذن لماذا كلّ هذا الخراب، بينما كانت حقولكَ، في السابق، هي الأجمل في مرج ابن عامر؟ إنّه عقاب الله، ثِق بذلك. لقد تجاوَزتَ الحدود. هذه المياه؟... كانت في هذا المكان على الدوام، وليست هي التي أَنقَذَتني". فيصيح دوراس: "وهذا يُثبِت أن يسوع شيطان". فيصرخ جيوقانا: "بل هو بارّ". وتشاجَرَا شِجاراً حامياً. ومنذئذ، تَحَمَّل جيوقانا تكاليف باهظة لتحويل مياه سيل إلى الحفرة، وإلى الحَفر لإيجاد مَنابِع. فلقد أَعَدَّ مجموعة حُفَر بينه وبين قريبه، وجَعَلَها عميقة، وقال لنا ما رويناه لكَ بالأمس... أساساً، هو سعيد لما جرى. لقد كان يَحسد دوراس كثيراً... والآن هو يأمل شِراء كلّ شيء، إذ سينتهي الأمر بدوراس إلى بيع كلّ شيء بسعر بخس.»

 

يُصغي يسوع بانتباه إلى كلّ هذا البَوح، وهو ينتظر فلّاحي دوراس المساكين الذين لم يتأخّروا في القدوم، والذين يَسجدون إلى الأرض حالما يَرَون يسوع في ظلّ شجرة.

 

«السلام لكم أيّها الأصدقاء. تعالوا. اليوم المجمع هنا، وأنا رئيس مجمعكم. ولكن قبل ذلك أريد أن أكون أباً لعائلتكم. اجلسوا على شكل دائرة لأعطيكم الطعام. فاليوم العروس عندكم، ونحن نقيم مأدبة العرس.»

 

يَكشف يسوع عن سلّة، يأخذ منها الخبز على مرأى مِن فلّاحي دوراس الـمُندَهِشين، ويُخرِج مِن سلة أخرى القُوت الذي أَمكَنَه إيجاده: الجّبن والخضار المطبوخة وجَدْياً أو حَمَلاً مشوياً بأكمله. ويُوزِّع كلّ ذلك على المساكين البؤساء، ثمّ يَسكُب الخمر ويُدير الكأس الكبيرة حتّى يشرب الجميع.

 

«ولكن لماذا؟ ولكن لماذا؟ وهُم؟» يقول فلّاحو دوراس وهم يشيرون إلى فلّاحي جيوقانا.

 

«لقد نالوا نصيبهم.»

 

«ولكن يا لهذا المصروف! كيف استطعتَ؟»

 

«ما زال هناك أناس صالحون في إسرائيل.» يقول يسوع مبتسماً.

 

«ولكنّ اليوم السبت...»

 

«اشكروا هذا الرجل.» يقول يسوع مشيراً إلى الرجل الذي مِن عين دور. «فهو مَن قَدَّم لكم الحَمَل. والباقي كان سهل التدبير.»

 

يَلتَهِم هؤلاء الناس المساكين الطعام الذي يَجهَلونه منذ أمد بعيد. أحدهم، وهو مُسنّ إلى حدّ ما، يضمّ جانباً طفلاً في حوالي العاشرة؛ يأكل ويَبكي.

 

«لماذا تتصرّف هكذا أيّها الأب؟...» يَسأَله يسوع.

 

«لأنّ صلاحكَ عظيم جدّاً...»

 

ويقول الرجل الذي مِن عين دور بلهجته الحَلْقية: «بالحقيقة، هذا يجعل المرء يبكي، ولكنّها دموع بلا مرارة...»

 

«بلا مرارة، أَصَبتَ. ثمّ... أودُّ شيئاً. إنّ دموعي هذه هي رغبة.»

 

«ماذا تريد أيّها الأب؟»

 

«هذا الوَلَد، أتراه؟ إنّه حفيدي، وهو عندي منذ حلول الشتاء. ودوراس لا يعرف أنّه لَحق بي، ذلك أنّني أَجعَله يعيش كالحيوانات البرّية في الغابة، ولا أراه إلّا في السبت. ولو اكتَشَف وجوده، فإمّا أن يَطرده، وإمّا أن يَجعَله يَعمَل... وبذلك سيكون أسوأ مِن دابّة، حفيدي الرقيق... في الفصح سأُرسِله مع ميخا إلى أورشليم ليصبح ابناً للشريعة... وبعدئذ؟... إنّه ابن ابنتي...»

 

«هل تُسلِّمه لي أنا؟ لا تبكِ. فلديَّ أصدقاء كثيرون نزيهون وقدّيسون وليس لديهم أولاد. سَيُربّونه بقداسة، بحسب طريقي...»

 

«آه! سيّدي! منذ سَمِعتُهم يتحدّثون عنكَ، رَغِبتُ في ذلك. وكنتُ أرجو يونا القدّيس، وهو الذي أَدرَكَ ماذا يعني الخضوع لذاك المعلّم، وإنقاذ حفيدي مِن تلك الـمِيتة...»

 

«أيّها الصبيّ، هل تأتي معي؟»

 

«نعم يا سيّدي، ولن أسبّب لكَ المتاعب.»

 

«اتَّفَقنا.»

 

«ولكن... لِمَن تريد أن تَعهَد به؟» يَسأَل بطرس الذي يسحب يسوع مِن كُمِّه. كذلك هذا للعازر؟»

 

«لا يا سمعان. فهناك كثيرون لا أطفال لديهم...»

 

«وهناك أنا كذلك...» يبدو وجه بطرس وكأنّه يَهزل مِن شدّة الرغبة.

 

«يا سمعان، لقد قُلتُها لكَ. ينبغي لكَ أن تكون "الأب" لكلّ الأبناء الذين سأتركهم لكَ ميراثاً، إنّما عليكَ ألّا تكون مربوطاً بسلسلة ابن يخصّكَ. لا يجرحنَّكَ ذلك. إنّكَ ضرورة مُلِحَّة للمعلّم، فلا يمكنه الاستغناء عنكَ مِن أجل مسألة عاطفيّة. إنّني متطلّب جدّاً يا سمعان. إنّني أكثر تطلّباً حتّى مِن الزوجة الأكثر غيرة. أحبّكَ حبّاً أثيراً، وأريدكَ بالكامل لي ومنّي.»

 

«حسناً سيّدي... حسناً... فليكن كما تشاء.» بطرس المسكين بطوليّ في تلك الموافقة على مشيئة يسوع.

 

«سيكون ابن كنيستي الناشئة. اتّفقنا؟ سيكون للجميع وليس لأحد. سيكون "ابننا" الصغير. سيَتبَعنا عندما تَسمَح الظروف، أو يَلحَق بنا. سيكون الرُّعاة هُم الأوصياء عليه، وهُم الذين يحبّون في كل الأطفال "الطفل يسوع" الذي "لهم". تعال هنا يا صغيري. ما اسمكَ؟»

 

«يَعْبيص بن يوحنّا، وأنا مِن يهوذا.» يقول الصبيّ دون تردّد.

 

«نعم، نحن يهود.» يؤكِّد العجوز. «كنتُ أعمل في أراضي دوراس في اليهوديّة، وقد تزوَّجَت ابنتي مِن رجل مِن المنطقة. كنتُ أعمَل في الغابات قُرب الرّامة. وهذا الشتاء...»

 

«رأيتُ الكارثة...»

 

«لقد نجا الصبيّ لأنّه كان بعيداً عند أحد الأقارب... في الحقيقة لقد حَمَلَ اسمه جيّداً يا سيّدي! لقد قُلتُها مباشرة لابنتي: "لماذا هذا الاسم؟ ألا تَذكُرين الكِتاب العتيق؟ [1 أخ 4: 9-10] ولكنّ زوجها أراد تسميته كذلك، وسُمّيَ يَعْبيص.»

 

«"سَيَبتهل الصبي إلى الربّ، فيباركه الربّ، ويُوَسِّع حدود خيراته، ويد الربّ في يده، ولن يتحمّل البؤس بعد". وسيمنحه الربّ ذلك ليعزّيكَ أنتَ، أيّها الأب، وأرواح الموتى، وليشدّد عزيمة اليتيم. والآن وقد فَصَلتم حاجات الجسد عن حاجات النَّفْس بفعل محبّة تجاه الصبيّ، فاسمَعوا الـمَثَل الذي فَكَّرتُ به مِن أجلكم:

 

كان رجل كثير الثراء. وكان له مِن الثياب أجملها. وكان يختال بثيابه التي مِن الأرجوان والخزّ في الأماكن العامّة وفي بيته. وكان مواطنو بلدته يُجِلّونه باعتباره الأكثر سلطاناً في البلدة، وأصدقاء له يتملّقون كبرياءه للاستفادة منه. كانت بيوته مفتوحة يوميّاً لمآدِب فاخِرة، حيث المدعوُّون، وجميعهم مِن الأغنياء، وليس فيهم واحد مِن الـمُعوِزين، يتزاحمون ويتملّقون الغنيّ الرديء. وقد كانت مآدبه مشهورة بوفرة طعامها ولذّة خمرها.

 

وكان في البلدة ذاتها مُعْوِز، فقير فقراً مُدقِعاً. وكان بؤسه عظيماً كما كان عظيماً ثراء ذلك الغني. إنّما خلف بؤس الفقير لعازر البشريّ، كان كنـز مختبئاً، وهو أكثر عَظَمَة مِن بؤس لعازر وغِنى الغنيّ الرديء. وهذا الكنـز كان قداسة لعازر الحقيقيّة. ٍفإنّه لم يكن يتجاوز الشريعة قطّ، ولا حتّى بسبب الحاجة، وبشكل خاصّ، فقد حَفظ وصيّة الحبّ، حُبّ الله وحُبّ القريب. وكما يفعل الفقراء دائماً، كان يجلس على باب الأغنياء طالِباً صَدَقَة، لكيلا يموت جوعاً. وقد كان يذهب كلّ ليلة إلى باب الغنيّ الرديء، على أمل الحصول على فُتات مِن بقايا الولائم الباذِخَة الـمُقامة في القاعات فاحشة الثراء.

 

كان يتمدّد على الدرب، قرب الباب، وينتظر بصبر. إنّما لو كان الغنيّ يلاحظ وجوده لكان يَطرده، لأنّ ذلك الجسد الذي تغشاه القروح وسيّئ التغذية، وقد سَتَرَته الأسمال، كان مَنظَراً مُكدِّراً لـِمَدعوّيه. هكذا كان الغنيّ يتكلّم. في الحقيقة كان ذلك، لأنّ مَنظَر بؤس وصلاح لعازر كان مَذمَّة دائمة له. وقد كانت كلابه الـمُشبَعَة أكثر إشفاقاً منه، وهي التي كانت تحمل أطواقاً ثمّينة. فلقد كانت تدنو مِن لعازر الفقير وتلعق جراحه، نابِحة مِن الفرح بسبب مداعباته، وكانت تجلب له بقايا المائدة الثريّة. وهكذا، وبفضل تلك الحيوانات، عاش لعازر رغم شحّ الغذاء، إذ حسب تصرّف الرجل، كان سيموت، لأنّه لم يكن يُسمَح له بالدخول إلى القاعات بعد انتهاء الولائم لالتقاط الفُتات الساقطة مِن الطاولات.

 

وكان يوم، مات فيه لعازر، فلم يأبَه لموته أحد على الأرض، ولم يبكه أحد. بل على العكس، منذ ذلك اليوم سَعِدَ الرجل لعدم رؤيته على عَتَبَة داره، ذلك البؤس الذي كان يسمّيه "خِزياً"، أمّا في السماء، فقد تنبّه الملائكة لذلك. وحين لَفَظَ أنفاسه، في كوخه البارد العاري، كانت الطغمات السماويّة حاضِرَة، فتقبَّلَت روحه بانبهار نورانيّ، ونَقَلَته على أناشيد أوشعنا إلى أحضان إبراهيم.

 

وبعد مدّة، مات الغنيّ. آه! يا للمأتَم الفخم! كلّ المدينة، وقد عَلِم الجميع بوفاته فأسرعوا إلى الساحة التي كان بيته قد شُيّد عليها، ليُظهِروا أنفسهم كأصدقاء لتلك الشخصيّة، فضولاً منهم، أو لمصلحة لهم مع ورثته، يَنضَمّون إلى الجنازة، وتتصاعد الصيحات حتّى السماء، ومع صيحات المأتم مدائح كاذبة "للعظيم"، "للمُحسِن"، "للمستقيم" الذي مات.

 

هل يمكن لكلمة الإنسان تغيير دينونة أو حكم الله؟ هل يمكن للدفاع أو التبرير البشريّ تغيير ما كُتِبَ في سِفر الحياة؟ لا، لا يمكن ذلك. فالحُكم الذي صَدَرَ قد صَدَر، وما كُتِبَ قد كُتِب. ورغم مأتمه الاحتفالي، فقد دُفِن روح الغني الرديء في الجحيم.

 

حينئذ، وفي ذلك السجن الرهيب، وهو يأكل ويشرب النار والظلمات، ويلاقي البُغض والعذاب مِن كلّ حدب وصوب، وفي كلّ لحظة مِن الأزليّة، إذ به يَرفَع بَصَرَه إلى السماء، صوب السماء التي رآها خلال جزء صغير مِن الدقيقة في بهاء ساطع، وقد كان بهاؤها الذي لا يوصف قد طُبِعَ في ذهنه، عذاباً له وسط العذابات المريعة، ورأى في العلاء إبراهيم، بعيداً ولكنه نورانيّ ومَغبوط... وفي أحضانه، نورانيّاً ومغبوطاً كذلك، كان لعازر، لعازر الفقير، الـمُحتَقَر سابقاً والمرذول والبائس. والآن؟... والآن هو البهيّ، بفضل نور الله وقداسته، الغنيّ بحبّ الله، والـمُعجَبون به ليسوا الناس، بل ملائكة الله.

 

وهَتَفَ الغنيّ الرديء باكياً: "يا أَبَتِ إبراهيم، ارحمني! أَرسِل لعازر، إذ لا يمكن أن يكون لي أَمَل بأن تفعلها أنتَ، أَرسِل لعازر يَغمس طَرَف إصبعه في الماء ويُبرِّد به لساني، لأنّني أعاني أشدَّ العذاب في هذا السَّعير الذي يَختَرِقني دونما توقُّف ويحرقني!"

 

فأجاب إبراهيم: "تذكَّر يا بنيَّ أنّكَ نلتَ خيراتكَ في حياتكَ، بينما نال لعازر بلاياه. هو عَرِف أن يجعل مِن بلاياه خيراً، بينما لم تعرف أنتَ أن تَفعل بخيراتكَ سوى الشرّ. فَمِن العدل إذن، أن ينال هو اليوم التعزية، وتنال أنتَ العذاب. ومع كلّ هذا، فلم يَعُد ممكناً فِعل ذلك. فالقدّيسون مُنتَشِرون على وجه الأرض ليستفيد منهم الناس. ولكن، حينما، رغم هذا القُرب، يبقى الإنسان كما هو -في حالتكَ- شيطاناً، فَمِن غير المجدي اللجوء إلى القدّيسين بعدئذ. والآن، نحن منفصلون. ففي الحقل يكون العشب مُختَلِطاً، إنما بعد الحصاد، فيُفصَل العشب الجيّد عن السيّئ. هكذا هو الأمر بِكُم وبِنا. لقد كنّا على الأرض سويّة، وقد طَرَدتُمونا، وكنّا نتعذّب بألف شكل، ونَسيتُمونا، غير مبالين بشريعة الحبّ. والآن نحن منفصلون. ولقد أُقيمَت هُوّة بيننا وبينكم، بحيث لا يستطيع الذين يريدون الاجتياز مِن هنا إليكم ولا الذين هناك يستطيعون اجتياز الهوّة الرهيبة للقدوم إلينا".

 

ويصيح الغنيّ، وقد اشتدّ بكاؤه: "يا أبتِ القدّيس، أَسأَلكَ، على الأقل، أن تُرسِل لعازر إلى بيت أبي. فلي خمسة إخوة. وأنا لم أُدرِك الحبّ يوماً، ولا حتّى الحبّ بين الأهل، إنّما الآن فأُدرِك هول ألّا تكون محبوباً. وبما أنّ هنا، حيث أنا، هو البُغض، فالآن أَدرَكتُ، وفي هذه اللحظة الخاطفة التي رأت نفسي فيها الله، ما معنى الحبّ. ولا أريد لإخوتي أن يعانوا الآلام ذاتها التي أعاني. إنّني مُرَوَّع مِن أجلهم، لمجرّد التفكير بأنّهم يحيون الحياة التي كنتُ أحياها. آه! أَرسِل لعازر ليُعرِّفهم على المكان الذي أنا فيه، والسبب الذي مِن أجله صِرتُ فيه. ولكي يقول لهم إنّ الجحيم موجود، وإنّه مُريع، وإنّ الذي لا يحبّ الله والقريب يمضي إلى الجحيم. أَرسِله! ليَحتَاطوا في الوقت المناسب، ولا يضطرّوا إلى المجيء هنا، إلى مكان العذاب الأبديّ".

 

ولكنّ إبراهيم أجابه: "عند إخوتكَ موسى والأنبياء، فليَستَمِعوا إليهم."

 

ويجيب الغنيّ ونفسه ترتعد: "آه! يا أبتِ إبراهيم! واحد مِن الأموات يؤثّر فيهم أكثر... استمع إليَّ! ارحم!"

 

ولكنّ إبراهيم قال: "إنْ لم يَستَمِعوا إلى موسى والأنبياء، فلن يؤمنوا حتّى ولو قام واحد مِن الأموات، لمدّة ساعة، ليقول لهم كلام الحقّ. عدا ذلك، فَمِن غير العدل أن يَترك أحد المغبوطين أحضاني ليمضي ويتلقّى إهانات أبناء العدوّ. بالنسبة إليه، زمن الإهانات قد وَلّى. والآن هو في السلام، ويبقى فيه بأمر مِن الله الذي يرى عدم جدوى تجربة التحدّث إلى الذين لا يؤمنون بكلمة الله ولا يحيونها."

 

لهذه الكلمة معنى واضح وَجَليّ لا يستدعي شرحه.

 

وهنا قد عاش، في الحقيقة، مُحقِّقاً القداسة، لعازر الجديد، عزيزي يونا، الذي، مِن البديهيّ أن يكون مَجده بقرب الله، في الحماية التي يمنحها لِمَن يتحلّى بالرجاء به. إليكم، نَعَم، يمكن ليونا أن يجيء كصديق ونصير، وسيأتي إليكم، إذا كنتم صالحين على الدوام. إنّني أريد، وأقول لكم ما قُلتُه له الربيع الماضي، إنّني أودُّ التمكّن مِن المجيء لمعونتكم جميعاً، حتّى مادّيّاً، ولكنّني لا أستطيع، وأتألّم لذلك. لا أستطيع سوى أن أدلّكم على السماء، لا يمكنني سوى تعليمكم حكمة الإذعان لإرادته العظيمة، وأنا أَعِدُكم بالملكوت في المستقبل. لا يكن لديكم حقد أبداً، لأيّ سبب كان. فالحقد في العالم له سلطان، ولكنّ الحقد محدود على الدوام. أمّا الحبّ، فلا حدود لسلطانه ولا لزمانه. أَحِبّوا إذن، كي يُدافِع عنكم الحبّ، ويشدّ عزيمتكم على الأرض ويكافئكم في السماء. فأفضل كثيراً أن يكون المرء لعازراً مِن أن يكون الغنيّ الرديء، كونوا على ثقة مِن ذلك. توَصَّلوا إلى الإيمان به فتكونوا مَغبوطين.

 

لا تَروا بالعقاب الذي نَزَلَ بتلك الحقول كلمة حقد، حتّى ولو بَرَّرَت الأعمال ذلك الحقد. لا تُفسِّروا المعجزة بشكل خاطئ. فأنا الحبّ، ولم أكن لِأَضرب. ولكن بما أن الحبّ قد عَجِزَ عن ثني الغنيّ المتوحّش عن عَزمِه، فقد تَرَكتُه للعدل، والعدل ثَأَرَ لاستشهاد يونا وإخوته. أمّا أنتم فاستَنتِجوا الدَّرس مِن تلك المعجزة: العَدل متيقّظ على الدوام، حتّى ولو بدا غائباً، والله، بما أنه سيّد كلّ الخليقة، فيمكنه استخدام الكائنات الأكثر صُغراً، كاليسروع والنمل، ليَلسَع قلب القاسي والجَّشِع ويُميته وهو يتقيّأ السمّ الذي يخنقه.

 

أبارككم الآن، إنّما سأصلّي مِن أجلكم عند كلّ فجر. وأنتَ أيّها الأب، لا يكن لديكَ أيّ همّ مِن جِهة الحَمَل الذي أوكَلتَه إليَّ. سآتي به إليكَ بين الحين والحين لِتَسعَد برؤيته ينمو بالحكمة والصَّلاح على درب الله. سيكون حَمَلكَ لهذا الفصح الفقير، الحَمَل الأكثر ظُرفاً مِن كلّ الحملان المقدَّمَة على مذبح يهوه. يَعْبيص، سَلِّم على جدّكَ، ثمّ هيّا تعال إلى مُخلِّصكَ، إلى راعيكَ الصالح. السلام لكم!»

 

«آه! يا معلّم! أيّها المعلّم الصالح! تَرْكُكَ!...»

 

«نعم، مؤلم. ولكن ليس مِن الخير أن يَجِدكُم الـمُراقِب هنا. جئتُ إلى هذا المكان مُتعمِّداً تجنيبكم العقوبات. أطيعوا حبّاً بالحبّ الذي يُقدِّم لكم هذه النصيحة.»

 

يَنهَض المساكين، والدموع في عيونهم، ويمضون إلى محنتهم. يباركهم يسوع مرّة أخرى، ثمّ، يد الصبيّ في يده، والرجل الذي مِن عين دور مِن الجهة الأخرى، يعود مِن الدرب ذاته إلى بيت ميخا، وقد لاقاه أندراوس ويوحنّا اللذان، بعد أدائهما مهمّة المراقبة، يعودان إلى إخوتهما.