ج9 - ف24
أَنَا هُوَ
ماريا فالتورتا
L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO
THE GOSPEL AS REVEALED TO ME
بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}
L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ
MARIA VALTORTA
الترجمة إلى اللغة العربية: ماري حلمي وفيكتور مصلح.
الجزء التاسع
24- (كرب مريم الرهيب عند القبر. تطييب جسد المخلّص.)
19 / 02 / 1944
لا فائدة مِن قول ما أختبره. فأكون أستعرض آلامي فقط، والّتي لا قيمة لها بالنسبة للآلام الّتي رأيتُها. سأكتب إذن دون تعليق على ذاتي.
أنا أحضر دفن ربّي.
الموكب الصغير، بعد نزوله مِن موضع الصّلب، يجد عند أسفله قبر يوسف الذي مِن الرّامة المحفور في كلس الجبل. يلجه الأتقياء مع جسد يسوع.
أرى القبر مجهّزاً هكذا. غرفة محفورة في الصخر في عمق حديقة مُزهِرة. تشبه المغارة، ولكن يدرك المرء أنّها محفورة بيد إنسان. هناك حجرة القبر بالمعنى الحصريّ للكلمة، بفجواتها (وهذه مصنوعة بشكل مختلف عن تلك الّتي للدَّيامِيس1). إنّها تجاويف مستديرة تخترق الصخرة مثل ثقوب الخليّة، هذا لإعطاء فكرة عنها. الآن كلّها خالية. أرى العين الفارغة لكلّ فجوة مثل بقعة سوداء في الصخر الرماديّ. ويتقدّم غرفة الدفن هذه، ما يشبه غرفة انتظار. في وسطها منضدة حجريّة مِن أجل المسح. وهي الّتي وُضِع عليها جسد يسوع في ملاءته.
يَدخله أيضاً يوحنّا ومريم. وليس أكثر لأنّ حجرة التهيئة هذه صغيرة، ولو وُجِد فيها أشخاص آخرون، لما استطاعوا أن يتحرّكوا. النساء الأخريات قرب الباب، أو بالأحرى قرب الفتحة، إذ لا باب هناك بالمعنى الحصريّ.
حَامِلا يسوع يكشفان عنه.
وأثناء إعدادهما اللفائف والطيوب في ركن على ركيزة، على ضوء مشعلين، تنحني مريم على ابنها وتبكي. وتمسحه مِن جديد بوشاحها الّذي ما يزال على كليتيّ يسوع. دموع الأُمّ هو الغسل الوحيد الّذي يتلقّاه جسد يسوع، وإن كانت غزيرة ووفيرة، إلاّ أنّها لم تنفع إلاّ في رفع الغبار والعرق والدم سطحيّاً وجزئيّاً عن هذا الجسد المعذَّب.
لا تتعب مريم مِن ملاطفة تلك الأطراف المثلجة. بنعومة أكثر ممّا لو كانت تلمس تلك الّتي لطفل وليد، تأخذ اليدين المسكينتين الممزّقتين، تضمّهما بين يديها، تقبّل أصابعه، تفردها، تحاول أن تضمّ شفتيّ الجراح كما كي تعالجها لتكون أقلّ ألماً، تضع على خدّيها يديه اللتين لن تستطيعا المداعبة، وتئنّ، تئنّ في ألمها الفظيع. تنهض وتضمّ الرجلين المسكينتين اللتين بقيتا هكذا مهملتين، كما لو أنّهما كانتا منهكتين للغاية مِن طول الطريق الّتي سلكتاها مِن أجلنا. ولكنّهما تزحزحتا كثيراً على الصّليب، وبالأخص اليسرى الّتي بقيت مسطّحة، وكأنّها لم يكن لها كاحل.
ثمّ تعود إلى الجسد وتُلاطِفه، إنّه بارد ومتصلّب. تَرى مِن جديد شقّ الرمح. الآن حيث المخلّص ممدّد على ظهره على اللوح الحجريّ، فالشق مفتوح وفاغر كالفم، يسمح برؤية أفضل للتجويف الصدريّ (زاوية القلب يمكن رؤيتها بوضوح بين القص والقوس الضلعيّ الأيسر، وحوالي سنتيمترين إلى أعلى يوجد الشقّ الّذي سبّبه سن الرمح في الفؤاد والشغاف، بطول واحد سنتيمتر ونصف، بينما الشقّ الخارجيّ عند الجهة اليمنى بطول سبعة سنتيمترات على الأقلّ) تصرخ مريم مِن جديد كما على الجلجلة. وتبدو كأنّ الرمح اخترقها مِن فرط ما تتلوّى مِن الألم واضعة يديها على قلبها، المخترَق مثل قلب يسوع. كم مِن القبلات على هذا الجرح، يا للأُمّ المسكينة!
ثمّ تعود إلى الرأس الهاوي وتُقوّمه لأنّه ظَلّ هاوياً إلى الخلف بشكل خفيف وبشدّة جهة اليمين. تحاول إغماض الجفنين الـمُصِرّين على البقاء شبه مفتوحين، والفم الّذي بقي مفتوحاً، متشنّجاً، ملتوياً قليلاً نحو اليمين. تمشّط الشعر، الّذي كان بالأمس فقط جميلاً، والّذي أصبح الآن متشابكاً مثقلاً بالدم. تُخلّص الخصل الطويلة، تملّسها على أصابعها، وتلفّها كي تعيد لها شكل شعر يسوعها الجميل، الناعم جدّاً والمقصّب جدّاً. لا تكفّ عن الأنين وهي تتذكّره حين كان طفلاً... هذا هو الباعث الأساسيّ لألمها: ذكرى طفولة يسوع، محبّتها له، عناياتها حيث كانت تخاف حتّى مِن الهواء على هذه الخليقة الصغيرة الإلهيّة، والمقارنة بينها وبين ما صنعه البشر به الآن.
نحيبها يؤلمني، وحركتها حينما تقول وهي تئنّ: «ماذا فعلوا بكَ، ماذا فعلوا بكَ يا ابني؟» غير قادرة على رؤيته هكذا: عرياناً، متيبّساً، على حَجَر، فتحتضنه بين ذراعيها، ممرّرة ذراعها تحت كتفيه، ضامّة إيّاه باليد الأخرى على صدرها، تهدهده، هدهدة مغارة الميلاد نفسها. كلّ هذا يجعلني أبكي وأتألّم كما لو أنّ يداً كانت تحفر قلبي…
***
04 / 10 / 1944
كرب مريم الروحيّ الرهيب.
الأُمّ واقفة بجوار حَجَر المسح تتأمّل، وتُلاطِف، وتئنّ، وتبكي. نور الشعلتين المرتعش ينير وجهها بين فينة وأخرى، وأرى دموعاً كبيرة تنساب على خدّيها الشاحبين في وجهها الـمُتلَف. وأسمع الكلام. كلّه، بوضوح، رغم الهمس به بين الشفتين، حوار حقيقيّ بين نَفْس الأُمّ ونَفْس ابنها. وأتلقّى أمر كتابته.
«ابني المسكين! كَم مِن جراح!... كم تألّمتَ! انظر ماذا فعلوا بكَ!... كم أنتَ بارد يا بنيّ! أصابعكَ مثلّجة. وكم هي خامدة! تبدو وكأنّها محطّمة. وهي لم تكن أبداً خامدةً هكذا، ولا حتّى في نومكَ الطفوليّ العميق، ولا في ثقل تعبكَ كحرفيّ... وكم هما مثلّجتان! اليدان المسكينتان! أعطهما لأمّكَ، يا كنـزي، يا حبّي، يا حبّي المقدّس! انظر كيف ثُقِبَتا! ولكن انظر يا يوحنّا، أيّ شقّ! آه! يا للقساة! هنا، هنا، أعطِ لأمّكَ هذه اليد المجروحة. فأداويها. آه! لن أسبّب لكَ ألماً... سأستخدم الدموع والقبلات، وسأدفئهما بأنفاسي وحبّي. هبني ملاطفة، يا بنيّ! أنتَ جليد، وأنا أحترق مِن الحمّى. الحمّى الّتي بي ستخفّ بصقيعكَ، وصقيعكَ سيخفّ بملامسة حرارتي. ملاطفة يا بنيّ! مضت ساعات قليلة لم تلاطفني بها، وتبدو لي دهوراً. كانت تمضي أشهر بدون ملاطفاتكَ، وكانت تبدو لي ساعات لأنّني كنتُ أنتظر دائماً وصولكَ، وكنتُ أجعل مِن اليوم ساعة، ومِن الساعة دقيقة، لأقول لنفسي إنّكَ لم تكن قد ابتعدتَ لقمر أو عدة أقمار، بل فقط لبضعة أيّام، ولكن فقط لبضعة ساعات. لماذا يطول الوقت الآن؟ آه! يا للعذاب غير الإنسانيّ! لأنّكَ متّ. قتلوكَ! لم تعد على الأرض! لم تعد! أين أُرسِل نَفْسي كي تفتّش عن نَفْسكَ وتعانقها، لأنّ إيجادكَ، وامتلاككَ، وشعوري بكَ كان حياة لجسدي وروحي. أين أفتّش عنكَ مع أمواج حبّي، لم أعد أجدكَ، لم أعد أجدكَ! لم يبقَ لي منكَ سوى هذا الجثمان البارد، هذا الجثمان الّذي بلا نَفْس! أيا نَفْس يسوعي، أيا نَفْس مسيحي، أيا نَفْس ربّي، أين أنتِ؟ لماذا انتزعتم النَّفْس مِن ابني أيّتها الضباع المتوحّشة المقترنة بالشيطان؟ ولماذا لم تصلبوني معه؟ هل خفتم مِن جريمة أخرى؟ (صوتها يصبح أكثر فأكثر قوّة وممزِّقاً). وما كان ليكون قتل امرأة مسكينة، بالنسبة إليكم أنتم الّذين لم تتردّدوا في قتل الله المتجسِّد؟ ألم ترتكبوا جريمة أخرى؟ أهناك ما هو أكثر بشاعة مِن ترك أُمّ تعيش بعد قتل ابنها؟»
الأُمّ، الّتي برفعها صوتها كانت قد رفعت أيضاً رأسها، تعود الآن للانحناء نحو الوجه الخامد والتكلّم بهدوء، معه لوحده: «أَقَلّه في القبر، هنا في القبر، في الداخل، نكون معاً كما كنّا معاً في النـزاع على الخشبة، ومعاً في رحلة ما وراء الحياة وفي لقاء الحياة. ولكن إن لم أقدر أن أتبعكَ في رحلة ما وراء الحياة، فإنّي أقدر أن أبقى هنا في انتظاركَ.»
تنتصب مِن جديد وتقول بصوت مرتفع للحاضرين: «ابتعدوا جميعاً. أنا أبقى. أَغلِقوا عليّ هنا معه. سأنتظره. ماذا تقولون؟ أنّ ذلك غير ممكن؟ لماذا لا يمكن؟ لو كنتُ متّ، ألا أكون هنا مستلقية بجواره، منتظرة التجهيز؟ سأكون بجواره، ولكن على ركبتيّ. كنتُ كذلك حينما أبصر النور، لطيفاً ورديّاً، في ليلة مِن ليالي كانون الأوّل [ديسمبر]. وهكذا سأكون معه الآن في هذه الليلة في عالم لم يعد له المسيح. آه! ليل حقيقيّ! لم يعد مِن نور!... آه! ليلة مثلّجة! المحبّة ماتت! ماذا تقول يا نيقوديموس؟ سأتنجّس؟ دمه لا ينجّس. أنا لم أتنجّس حينما ولدته. آه! كيف خرجتَ، أنتَ، يا زهرة بطني، دون تمزيقٍ لأنسجة، ولكن حقّاً مثل زهرة النرجس المعطَّرة، الّتي تتفتّح مِن جوهر البُصيلة وتُنتِج زهرة حتّى لو لم تعانق الأرض الرحم. إزهار بتوليّ تحقّق فيكَ، أيا أيّها الابن الآتي مِن العناق السماويّ، والمولود وسط فيض التألّقات السماويّة.»
الآن الأُمّ الممزّقة تنحني مِن جديد على ابنها. غائبة عن كلّ ما ليس هو، وتتمتم بهدوء: «ولكن أنتَ، هل تذكر يا بنيّ، هذا البهاء السامي الّذي كان يكسو كلّ الأشياء بينما كانت ابتسامتُكَ تُولَد في العالم؟ هل تذكر ذلك النور الطوباويّ الّذي أرسَلَه الله مِن السماوات كي يغلّف سرّ إزهاركَ وكي تجد نفسكَ أقلّ رفضاً مِن قِبَل هذا العالم المظلم، لكَ أنتَ الّذي كنتَ نوراً آتياً مِن نور الآب والروح الباراقليط. والآن؟... الآن ليل وبرد... وأيّ برد! أيّ برد! إنّني أرتعش منه كليّاً. أكثر برداً مِن تلك الليلة مِن كانون الأوّل [ديسمبر]. حينذاك كان فرح الحصول عليكَ كي يدفئ قلبي. وكان لديك اثنان يحبّانكَ... الآن... الآن أنا وحيدة وعلى وشك الموت أنا أيضاً. ولكنّني سأحبّكَ حبّاً مضاعفاً: نيابة عمّن أحبّوكَ قليلاً بحيث إنّهم هجروكَ لحظة الألم؛ وسأحبّكَ نيابة عمّن كرهوكَ؛ نيابة عن العالم كلّه، سأحبّكَ يا بنيّ. لن تشعر ببرودة العالم. لا، لن تشعر بها. أنتَ لم تفتح أحشائي لتُولَد، ولكن كي لا تشعر بالبرد أنا مستعدّة أن أفتحها وأُغلِقها عليكَ في عناق أحشائي. هل تذكر كم أحبّتكَ هذه الأحشاء، يا طفلي الخافق... إنّها دوماً ذات الأحشاء. آه! هذا حقّي وواجبي كأُمّ. هي رغبتي. ليس سوى الأُمّ يمكن أن تكون لها تلك الرغبة، يمكن أن يكون لها تجاه ابنها محبّة عظيمة عِظَمَ الكون.»
يمضي صوتها في الارتفاع، والآن، بكلّ قوّته، تقول: «ارحلوا. أنا باقية. عودوا بعد ثلاثة أيّام وسنخرج معاً. آه! رؤية العالم ثانية وأنا متّكئة على ذراعكَ، أيا بنيّ! كم سيكون العالم جميلاّ في نور ابتسامتكَ القائمة! العالم سيرتعش مِن خطوات ربّه! والأرض ارتعشت حينما انتزع الموت نَفْسكَ ومِن قلبكَ خرج روحكَ. أمّا الآن فستتزلزل... آه! ليس مِن رعب أو ألم بعد، ولكن رعشة عذبة لا أعرفها، ولكنّي أشعر بها بحدس المرأة، وهي تهزّ عذراء، تسمع وقع عريسها الآتي للعرس بعد غياب. بل أفضل أيضاً: سترتعش الأرض رعشة قداسة، كما اضطربتُ أنا، حتّى أعماق أعماقي، حينما حصلتُ في داخلي على الربّ الواحد والثالوث، حينما خَلَقَتْ إرادة الأب مع نار الحبّ البِذرة الّتي منها أتيتَ يا صغيري القدّوس، يا ولدي، يا مَن كلّكَ لي! كلّكَ! كلّكَ مِن الماما! مِن الماما!... كلّ ابن له أب وأُمّ، حتّى ابن الزنا له أب وأُمّ. أمّا أنتَ فلكَ فقط أُمّ لتصنع جسدكَ مِن الورد والزنبق، لتصنع توشيات عروقكَ السماويّة كأنهار جليلنا، وشِفاه الرمّان هذه، وهذا الشعر الأكثر ظُرفاً مِن جزّة ماعز تلالنا الشقراء، وتينكَ العينين، بحيرتين صغيرتين مِن الفردوس. لا، بل بالحريّ هما مِن الماء الّذي منه يأتي النهر الوحيد والرباعيّ مِن مكان الملذّات، والّذي يحمل معه في فروعه الأربعة، الذهب والعقيق، الزمرّد والعاج، والماس، والنخيل، والعسل والورود والثروات اللانهائيّة، أيا فيشون، أيا جيحون، أيا حِدّاقل والفرات: الطريق للملائكة المغتبطة بالله، الطريق للملوك المتعبّدين لكَ، الجوهر المعلوم أو المجهول، إنّما الحيّ، الحاضر حتّى في القلب الأكثر ظلمة! فقط أُمّكَ هي الّتي فعلت لكَ هذا بكلمتها "نعم"... مِن نغم ومحبّة شكّلتكَ، مِن نقاء وطاعة صنعتكَ، أيا فرحي! قلبكَ، ما هو؟ إنّه شعلة قلبي الّتي انقسمت كي تتكثّف في إكليل حول قبلة الله لعذرائه، هذا ما هو قلبكَ. آه!» (الصرخة ممزَّقة لدرجة أنّ المجدليّة اندفعت لنجدتها في نفس الوقت الّذي اندفع فيه يوحنّا. لم تجرؤ الأخريات، وباكيات ومحجّبات، يلقين نظرة عبر الفتحة). آه!! حطّموا قلبكَ! لهذا أنتَ بارد ولهذا أنا باردة! لم تعد فيكَ شعلة قلبي وأنا لا أقدر أن أستمرّ في الحياة بانعكاس تلك الشعلة الّتي كانت شعلتي وأعطيتُها لكَ كي تصنع لكَ منها القلب. هنا، هنا، هنا على صدري! قبل أن يقتلني الموت، أريد أن أدفئكَ، أريد أن أهدهدكَ. كنتُ أغنّي لكَ: "لا بيت، لا طعام، ليس سوى الألم". أيّتها الكلمات النبويّة! ألم، ألم، ألم لكَ ولي! كنتُ أغنّي لكَ: "نَم، نَم على قلبي". وكذلك الآن: هنا، هنا، هنا...»
وجالسة على حافّة الحَجَر، تأخذه على ركبتيها وهي تمرّر ذراع ابنها حول كتفيها، ساندة رأس ابنها على كتفها وساندة رأسها على رأسه، ضامّة إيّاه إلى صدرها وهي ممزَّقة ومفطّرة القلب، تهدهده وتُقبّله.
يقترب نيقوديموس ويوسف واضِعَين على ما يشبه المقعد، في الجهة الأخرى مِن الحَجَر، أواني ولفائف، وكفناً نظيفاً وحوضاً مليئاً بالماء، على ما أظنّ، وقطع ضماد، على ما يبدو.
تَرى مريم وتسأل بصوت مرتفع: «ماذا تفعلان؟ ماذا تريدان؟ تجهيزه؟ لماذا؟ اتركاه على ركبتيّ أُمّه. لو توصّلتُ إلى تدفئته، سيسرع في قيامته. لو استطعتُ تعزية الآب وتعزيته مِن كراهية قاتليه، سيسرع الله في غفرانه، وهو في عودته.»
المتألّمة تهذي تقريباً.
«لا، لن أعطيه لكما! لقد أعطيتُه مرّة، أعطيتُه مرّة للعالم والعالم لم يقبله. قتله لأنّه لم يكن يريده. الآن لن أعطيه بعد! ماذا تقولان؟ إنّكما تحبّانه؟ حسناً! ولكن، لماذا لم تدافعا عنه؟ هل انتظرتما لتقولا له إنّكما كنتما تحبّانه، إلى حين لم يعد يسمعكما... كم هو مسكين حبّكما! ولكن لو كنتما تخافان العالم لدرجة عدم جرأتكما على الدفاع عن بريء، فعليكما على الأقلّ ردّه لي، أنا أُمّه، كي تدافع عن ولدها. كانت تعلم مَن يكون وما كان يستحقّ. أنتما!... أنتما حصلتما عليه كمعلّم، ولكنّكما لم تتعلّما شيئاً. أليس ذلك صحيحاً؟ أأكذب ربّما؟ ولكن ألا تريان أنّكما لا تؤمنان بقيامته؟ هل تؤمنان بها؟ لا. لماذا أنتما هنا، تُعدّان اللفائف والطيوب؟ لأنّكما تظنّان أنّه مجرّد ميت مسكين، اليوم متجمّد، وغداً متفسّخ، ولهذا تريدان تطييبه. اتركا هناك مراهمكم. تعاليا اعبدا المخلّص بقلب رعاة بيت لحم النقيّ. انظرا: في نومه، هو فقط متعب يرتاح. كم تعب في حياته! لقد تعب على الدوام وباطّراد، وثمّ، في الساعات الأخيرة هذه!... والآن هو يرتاح. بالنسبة لي، بالنسبة لأُمّه هو ليس سوى ولد كبير متعب ينام. مضجعه بائس وكذلك حجرته! إنّما كذلك مهده الأوّل لم يكن أكثر جمالاً، ولا مسكنه الأوّل أكثر متعة. الرُّعاة تعبّدوا للمخلّص وهو طفل نائم. وأنتما اعبدا المخلّص في نومه المنتصر على الشيطان. ومِن ثمّ، كما الرُّعاة، امضيا وقولا للعالم: "المجد لله! الخطيئة ماتت! الشيطان انهزم! وليكن السلام على الأرض وفي السماء بين الله والبشر!" أَعِدّا السُّبُل لعودته. أنا أُرسِلكما، أنا الّتي جعلتني الأمومة كاهنة طقسيّة. امضيا. قلتُ إنّني لا أريد. لقد غسلتُه بدموعي، وهذا يكفي. لا نفع للباقي، ولا تتصوّرا أنّكما ستضعانه عليه. سيكون مِن الأسهل له أن يقوم إن كان متخلّصاً مِن هذه اللفائف المأتميّة وغير النافعة. لماذا تنظر إليّ هكذا يا يوسف؟ وأنتَ يا نيقوديموس؟ هل رعب هذا اليوم جعلكما في خبل؟ هل فقدتما الذاكرة؟ ألا تتذكّران؟ "لهذا الجيل الشرّير والفاسق الّذي يطلب آية، فلن يعُطى إلاّ آية يونان... كذلك سيكون ابن البشر في قلب الأرض ثلاثة أيام وثلاث ليال". ألا تتذكّران؟ "إنّ ابن الإنسان يُسَلَّم إلى أيدي الناس فيقتلونه، لكنّه سيقوم في اليوم الثالث". ألا تتذكّران؟ "انقضوا هيكل الله الحقّ هذا وأنا في ثلاثة أيّام أقيمه". الهيكل كان جسده أيا أيّها البشر. أتهزّ رأسكَ؟ تشفق عليّ؟ أتظنّني مجنونة؟ ولكن كيف؟ لقد أقام الأموات، ألن يتمكّن مِن إقامة نفسه؟ يوحنّا؟»
«أُمّي!»
«نعم، نادني "أُمّي". لا يمكنني العيش وأنا أفكّر أنّني لن أُدعى هكذا! يوحنّا: لقد كنتَ حاضراً حينما أقام ابنة يائير وشاب نائين. ألم يكونا ميتين؟ لم تكن مجرّد غفوة ثقيلة؟ أجب.»
«كانا ميتين. الفتاة منذ ساعتين، والشاب منذ يوم ونصف اليوم.»
«وقاما مِن الموت بأمره؟»
«قاما مِن الموت بأمره.»
«هل سمعتما؟ أنتما الاثنان، هل سمعتما؟ ولكن لماذا تهزّان الرأس؟ آه! ربما تريدان القول إنّ الحياة تعود أسرع لمن هو بريء وشاب. ولكن ابني هو البريء! وهو الشاب على الدوام. ابني هو الله!...»
تُلقي الأُمّ نظرة مُمزَّقة ومحمومة على الأوّلَين، اللذين، إذ هما منهكان إنّما مُعانِدان، يعدّان لفائف الأربطة المغموسة في الطيوب. تخطو مريم خطوتين. لقد أعادت إضجاع الابن على الحَجَر برقّة كمن يضع وَليداً في مهده. تخطو خطوتين، وتنحني عند أسفل الـمَضْجَع المأتميّ، حيث تبكي المجدليّة راكعة. تمسكها مِن كتفها، تهزّها، تناديها: «مريم، أجيبي. إنّهما يظنّان أنّ يسوع لا يمكنه أن يقوم لأنّه إنسان وقد مات مِن الجراح، ولكن ألم يكن أخوكِ أكبر سنّاً منه؟»
«بلى.»
«ألم يكن جرحاً بكلّيّته؟»
«بلى.»
«ألم يكن متفسّخاً قبل نزوله القبر؟»
«بلى.»
«ألم يقم مِن الموت بعد أربعة أيّام مِن الاختناق والتفسّخ؟»
«بلى.»
«فإذاً؟»
صمت مُطبِق وطويل. ثمّ صيحة لا إنسانيّة. تترنّح مريم واضعة يدها على قلبها. فيمسكونها، ولكنّها تُبعِدهم. تبدو كما لو أنّها تُبعِد الأتقياء. ولكن في الحقيقة كانت تُبعِد مَن هي وحدها تراه. وتصيح: «تراجع! تراجع! أيّها الشرس! ليس هذا الانتقام! اصمت! لا أريد سماعكَ! اصمت! آه! إنّه يلسع قلبي!»
«مَن يا أُمّي؟»
«أيا يوحنّا، إنّه الشيطان! الشيطان الّذي يقول: "لن يقوم. لم يقل هذا أيّ نبيّ". أيا إيّها الله العليّ! ساعدوني جميعاً، أيّتها النفوس الصالحة، أنتم، أيّها البشر الأتقياء! إنّ عقلي يضطرب! ما عدتُ أذكر شيئاً. ماذا يقول الأنبياء؟ ماذا يقول المزمور؟ آه! مَن يكرّر لي المقاطع الّتي تتكلّم عن يسوعي؟»
إنّها المجدليّة الّتي، بصوتها الرنّان، تتلو مزمور داود الّذي يتكلّم عن آلام المسيح.
تبكي الأُمّ بأكثر حدّة، يسندها يوحنّا، وتنهمر دموعها فوق ابنها الميت الّذي غُمِر بها. ترى ذلك مريم، تمسحه وتقول بصوت منخفض: «دموع غزيرة، وحينما كنتَ شديد العطش لم أستطع أن أعطيكَ ولا حتّى قطرة واحدة منها. والآن... أنا أغمركَ بها! وكأنّكَ شجيرة تحت ندى كثيف. هنا، إذ تمسحكَ أُمّكَ يا بنيّ! ذقتَ مرارة كثيرة! فلا يسقطنّ بعد على شفتيكَ الجريحتين مرار وملح دموع الأُمّ!...»
ثمّ تنادي بصوت مرتفع: «مريم. داود لا يقول... أتعرفين إشَعياء؟ قولي لي كلامه...»
تقول المجدليّة فقرة الآلام وتُنهي وهي تَشهَق: «...سَلَّم للموت حياته وأُحصيَ مع الأثمة، وهو الّذي حَمَلَ خطايا العالم وشفع في الخطأة.»
«آه! اصمتي! الموت، لا! لم يُسَلَّم للموت! لا! لا! آه! لا يزرعنّ عدم إيمانكم، مع تجربة الشيطان، الشكّ في قلبي! هل ينبغي لي ألاّ أصدّقكَ يا بنيّ؟ ألاّ أصدّق كلامكَ المقدّس؟! آه! قل ذلك لنَفْسي! تكلّم. مِن الضفاف البعيدة حيث ذهبتَ لتُحرّر مَن ينتظرون مجيئكَ، أَلقِ صوتكَ النَّفْسيّ إلى نَفْسي الّتي تنتظركَ، إلى نَفْسي الّتي هي هنا، مستعدّة لاستقبال صوتكَ. قُل لأُمّكَ إنّكَ ستعود. قُل: "في اليوم الثالث سأقوم". أرجوكَ ذلك يا ابني وإلهي! ساعدني على حماية إيماني. إنّ الشيطان يلفّه في دوّامة ليخنقه. لقد رفع الشيطان فمه الثعبانيّ عن جسد الإنسان لأنّكَ أنتَ انتزعتَ منه هذه الفريسة، والآن هو يغرز أنيابه السامّة في لحم قلبي ويشلّ خفقاته، القوّة والحرارة. إلهي! إلهي! إلهي! لا تسمح بأن أرتاب! لا تدع الشكّ يثلّجني! لا تمنح الشيطان حريّة أن يقودني إلى اليأس! ابني! ابني! ضع يدكَ على قلبي. وهي ستطرد الشيطان. ضعها فوق رأسي. وستعيد له النور. قَدِّس شفتيّ بلمسة كي تقوى على قول: "أنا أؤمن" حتّى في مواجهة عالم بأكمله لا يؤمن. آه! أيّ ألم في عدم الإيمان! يا أبتاه! يجب الغفران كثيراً لمن لا يؤمن. ذلك أنّ غياب الإيمان... غياب الإيمان... يجعل كلّ هَول سهلاً. أقول لكَ ذلك... أنا الّتي أشعر بذلك العذاب. يا أبتاه، الرحمة لعديمي الإيمان! أعطهم أيّها الآب القدّوس، أعطهم، باسم هذا القربان المذبوح، وباسمي، القربانة الّتي ما تزال تُذبح، أَعطِ الإيمان لعديمي الإيمان!»
صمت طويل.
يشير نيقوديموس ويوسف إلى يوحنّا والمجدليّة.
«تعالي يا أُمّي.» هي المجدليّة الّتي تتكلّم مُحاوِلة إبعاد مريم عن ابنها وفصل أصابع يسوع المتشابكة في أصابع مريم الّتي تُقبّلها وهي تبكي.
تنتصب الأُمّ. إنّها مهيبة. تمدّ للمرّة الأخيرة تلك الأصابع المسكينة الّتي هجرها الدم، تضع يده الخامدة على طول جسده. ثم تُنـزِل ذراعيها نحو الأرض، في استقامة، والرأس مائل إلى الخلف قليلاً، تصلّي وتُقَدّم. لا يُسمَع الكلام. ولكن مِن كامل هيئتها يمكن إدراك أنّها تصلّي. إنّها حقّاً الكاهنة على المذبح، الكاهنة في لحظة التقدمة. «نقدّم لعظمة جلالكَ، يا مانح العطايا، القربان الطاهر، القربان المقدّس، القربان البريء مِن الدَّنَس...»
ثمّ تلتفت: «افعلوا إذن، ولكنّه سيقوم. عبثاً ترتابون في عقلي، وأنتم عميان عن الحقيقة الّتي قالها لكم. عبثاً يحاول الشيطان مهاجمة إيماني. مازال ينقص فِداء العالم العذاب الّذي يسبّبه الشيطان المهزوم لقلبي. إنّني أتحمّله وأُقدّمه مِن أجل الّذين سيأتون. الوداع يا بنيّ! الوداع يا ولدي! الوداع يا صغيري! الوداع... الوداع... يا أيّها القدّوس... الصالح... المحبوب للغاية والـمُحِبّ... الجمال... الفرح... نبع السلام... الوداع... على عينيكَ... شفتيكَ... شعركَ الذهبيّ... أعضائكَ المثلّجة... قلبكَ الـمُختَرق... آه! على قلبكَ الـمُختَرق... قُبلتي... قُبلتي... قُبلتي... الوداع... الوداع!... ربي! ارحمني!»
***
تكملة رؤيا 19 / 02 / 1944
…انتهى الـمُعِدّان مِن إعداد اللفائف. يذهبان إلى المنضدة ويعرّيان يسوع حتّى مِن وشاحه. وفي إعداد سريع جدّاً، يمرّران إسفنجة، أظنّ ذلك، أو قطعة مِن الكتان على الأعضاء الّتي ترشح مِن ألف موضع. ثمّ يمسحان كلّ الجسد بطيوب. حقّاً يغمرانه بطبقة مِن المرهم. في البداية رفعاه لينظّفا أيضاً المنضدة الحجريّة، حيث يضعون الكفن، المتدلّي أكثر مِن نصفه مِن رأس الـمَضجَع. ويعيدان إضجاعه على صدره، ويمسحان الظهر كلّه، الفخذين، الساقين، كلّ الجزء الخلفيّ. ثمّ يديرانه بتؤدة، منتبهين لئلاّ تُزال طبقة الدهن، ثمّ يقومان أيضاً بِدَهن الجزء الأماميّ. في البداية الجذع ثمّ الأعضاء. أوّلاً الأرجل، وفي النهاية اليدين، اللتين يضمّانهما عند أسفل البطن. المفروض أن يكون مزيج الطيوب لزجاً كالصمغ، لأنّني أرى اليدين ثابتتين في مكانها، بينما كانتا مِن قبل تنـزلقان باستمرار بسبب ثقلهما كأعضاء ميتة. القدمان لا. إنّهما تحافظان على وضعهما: الواحدة أكثر استقامة والأخرى أكثر تمدّداً. في النهاية الرأس. بعد أن دُهِن بكلّ عناية، بحيث أنّ الملامح اختفت تحت طبقة الدهن، يربطان الذقن بضمادة كي يُبقيا الفم مغلقاً.
تئنّ مريم بأكثر حدّة.
ثمّ يرفعان طرف الكفن المتدلّي ويطويانه على يسوع. فيختفي تحت هذا الكفن الكتانيّ السميك. لم يعد سوى شكل مغطّى بنسيج.
يَنظر يوسف ليرى أنّ كلّ شيء في مكانه، ويضع أيضاً على الوجه كفناً مِن الكتان وأنسجة أخرى، تشبه ضمادات مستطيلة قصيرة وعريضة، تتّجه مِن اليمين إلى اليسار، فوق الجسد لتثبّت الكفن، جيّد الالتصاق بالجسد. ليس كما يُرى في المومياء، ولا في قيامة لعازر. إنّه نواة ضماد.
اختفى الآن يسوع. حتّى شكله أضحى مبهماً تحت الأقمشة. فهو أشبه بحزمة طويلة مِن القماش، ضيّقة عند الطرفين، أعرض في الوسط، موضوعة على الحَجَر الرمادي.
مريم تبكي بأكثر حدّة.
***
يقول يسوع:
«واستمرّ العذاب بهجمات دوريّة حتّى فجر الأحد. أثناء الآلام تلقّيتُ تجربة واحدة. ولكنّ الأُمّ، المرأة، قد كفّرت عن المرأة، حاملة وزر كلّ سوء، لمرّات عديدة. والشيطان جَدَّ في مطاردة المنتصرة بوحشيّة مضاعفة مائة مرّة. مريم انتصرت عليه. لمريم التجربة الأكثر وحشيّة. تجربة ضدّ جسد الأُمّ، تجربة ضدّ قلب الأُمّ. تجربة ضدّ روح الأُمّ. يظنّ العالم أنّ الفداء اختتم مع آخر نَفَس لي. لا. الأُمّ قد أكملته، بإضافة عذابها المثلّث للتكفير عن الشهوة الثلاثيّة، بجهادها لثلاثة أيّام ضدّ الشيطان الّذي كان يحاول ثنيها عن الإيمان بكلامي وإنكار إيمانها بقيامتي. مريم كانت الوحيدة الّتي استمرّت بالإيمان. إنّها عظيمة ومغبوطة أيضاً بسبب هذا الإيمان.
لقد عرفتِ [ماريا فالتورتا] هذا [العذاب] كذلك. ألم مبرِّح في ألم جَثْسَيْماني. لن يدرك العالم هذا الطرح. ولكنّ "الّذين هم في العالم وليسوا مِن العالم" سيدركونه ويحبّون الأُمّ المتالّمة بشكل أقوى. لأجل ذلك منحتُكِ إيّاه. اذهبي بسلام مع بركتنا.»
----------
1- [دَيامِيس]: مقابر تحت سطح الأرض تتألّف مِن حجرات وممرّات وفجوات للقبور.