ج2 - ف81

أَنَا هُوَ

ماريا فالتورتا

L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO

THE GOSPEL AS REVEALED TO ME

بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}

L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ

MARIA VALTORTA

الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.

 

الجزء الثاني / القسم الثاني

 

81- (يسوع يلتقي غَمَالائيل ونيقوديموس في وليمة يوسف الذي مِن الرّامة)

 

21 / 02 / 1945

 

الرّامة وَعِرَة. لستُ أدري لماذا كنتُ أتصوّرها سهلاً. ومع ذلك فروابيها تنحدر بقوّة صوب السهل الذي يَظهَر عند بعض منعطفات الطريق مِن الغرب. وفي هذه الصبيحة مِن تشرين الثاني (نوفمبر)، يغيب الأُفُق تحت الضباب الذي يبدو مثل سطح ماء لا حدود له.

 

يسوع مع سمعان وتوما. أمّا الرُّسُل الآخرون، فليسوا معه. لديَّ انطباع بأنّه يَحسب حساباً، وبشكل حكيم، للمشاعر والطبائع المختلفة للناس الذين سوف يُجالِسهم، وأنّه، حسب الظروف، يَصطَحِب الذين يمكن للمُضيف أن يَقبَلهم دون تعرّضه كثيراً للمجابهة. فهؤلاء اليهود هم أكثر حساسية مِن نساء صغيرات رومانسيّات…

 

ألحَظهُم يتحدّثون عن يوسف الذي مِن الرّامة، وتوما الذي قد يكون يعرفه جيّداً، يشير إلى أملاكه الواسعة والرائعة الواقعة على الرابية، خاصّة تلك التي تقع في جهة أورشليم، على الطريق المؤدّية إلى الرّامة مِن العاصمة لتصل بعد ذلك هذه البلدة بيافا. حسبما أَلحَظ، ذاك هو مضمون نقاشهم، وتوما يتحدّث كذلك بإعجاب عن الحقول التي يملكها يوسف، وهي تحاذي طُرُق السهل.

 

«ولكن هنا، على الأقلّ، لا يُعامَل الناس معاملة البهائم! آه! يا لدوراس هذا!» يقول سمعان. بالفعل، إنّ العاملين هنا يَحصَلون على غذاء جيّد ولباس جيّد، وهم يُظهِرون اكتفاء ورضى أناس وضعهم جيّد. وهم يُحيّون باحترام لأنّهم، بالتأكيد، يَعرفون مُسبَقاً مَن هو هذا الرجل الطويل والمميّز، الذّاهب عَبر قرى الرّامة، باتّجاه بيت معلّمهم، ويراقبونه وهم يتحدّثون فيما بينهم بصوت خافت.

 

وعندما يَظهَر بيت يوسف، يَسأَل أحد الخدّام، بعد انحناءة كبيرة: «هل أنتَ هو الرابّي الـمُنتَظَر؟»

 

«أنا هو.» يُجيب يسوع.

 

يُحيّي الرجل تحيّة بالِغة ويَجري لإعلام المعلّم. البيت مُحاط بسياج مرتَفِع ما يزال مُخضَوضِراً، وهو هنا كبديل عن الجدار العالي الذي في بيت لعازر، ويعزله عن الطريق، وتليه، بشكل مُتناغِم، حديقة مُشجَّرة بكثافة، تحيط بالمنـزل، وقد أَوشَكَت الأشجار الآن أن تفقد كلّ أوراقها. وقبل أن يَصِل يسوع، يَهرَع يوسف الذي مِن الرّامة بثيابه الفضفاضة ذات الأهداب لملاقاته، ينحني انحناءة كبيرة، ويداه متصالبتان على صدره. وهذه ليست تحيّة مَن يرى في يسوع الإله الذي أَصبَحَ بشراً، ومَن يتواضع بثني الركبة والنّـزول حتّى الأرض مع تقبيل القدمين أو هُدب ثوب يسوع، ولكنّها، مع ذلك، تحيّة فيها الكثير مِن الإجلال. وينحني يسوع كذلك، ثمّ يمنح تحيّة سلامه.

 

«ادخل يا معلّم. قد أَسعَدتَني بقبولكَ الدعوة. لم أكن أتوقّع منكَ كلّ هذا التنازل.»

 

«لماذا؟ فأنا أذهب كذلك إلى بيت لعازر و...»

 

«لعازر هو بالنسبة لكَ صديق. أمّا أنا فمجهول.»

 

«بل أنتَ نَفْس تبحث عن الحقّ، والحقّ لا يرفضكَ.»

 

«هل أنتَ هو الحقّ؟»

 

«أنا الطريق والحياة والحقّ. ومَن يحبّني ويَتبعني، يَجِد في ذاته الطريق الآمنة والحياة المغبوطة، ويَعرف الله، إذ إنّ الله الذي هو حبّ وعدل وهو فوق ذلك كلهّ الحقّ.»

 

«إنّكَ فَقيه عظيم. كلّ كلماتكَ تتنفّس الحكمة.» ثمّ يلتَفِت إلى سمعان «أنا سعيد بعودتكَ إلى بيتي، أنتَ أيضاً، بعد غياب طويل.»

 

«غيابي لم يكن مُتعمَّداً. أنتَ تَعلَم ما كان مصيري، وأيّ ألم ضَرَبَ حياة سمعان الصغير الذي كان أبوكَ يحبّه كثيراً.»

 

«أَعلَم، ولكَ أن تعرف أنّه لم تَصدُر قطّ مِن قِبَلي كلمة واحدة في غير صالحكَ.»

 

«أعرف كلّ شيء. فخادمي الأمين أخبَرَني أنّ الفضل في المحافظة على أملاكي يعود أيضاً إليكَ. فليُجزِكَ الله عنّي كلّ خير.»

 

«كانت لي في السنهدرين أهميّة. وقد استَخدَمتُ هذا الوضع لأُساعِد، بالحقّ، صديقاً لبيتي.»

 

«كثيرون كانوا أصدقاء عائلتي، وكثيرون كانت لهم في السنهدرين أهميّة، ولكنّهم لم يكونوا مُنصِفين مثلكَ...»

 

«وهذا مَن يكون؟ وجهه ليس غريباً عليَّ... ولكنّني لا أعرف أين...»

 

«أنا توما الملقّب بالتوأم.»

 

«آه! هل أبوكَ العجوز ما يزال على قيد الحياة؟»

 

«إنّه حيّ. وما زال على رأس عمله مع إخوتي. ولقد تَرَكتُه مِن أجل المعلّم، ولكنّه سعيد لذلك.»

 

«إنّه إسرائيليّ لا غشّ فيه. وبما أنّه تَوصَّلَ إلى الإيمان بأنّ يسوع الناصريّ هو مَسيّا، فلا يمكن أن يكون إلّا سعيداً لكون ابنه أَحَد الـمُفَضَّلين لديه.»

 

هُم الآن موجودون في الحديقة، قرب البيت.

 

«لقد تَمسَّكتُ بلعازر، وهو الآن مُتواجِد في المكتبة ومهتمّ بقراءة جلسات السنهدرين الأخيرة. لم يكن يريد البقاء إذ... أَعرِف أنّكَ أَصبَحتَ الآن تَعلَم... ولهذا السبب لم يكن يريد البقاء. ولكنّني قُلتُ له: "لا، فليس مِن الإنصاف أن تَخجَل في بيت لن يسيء إليكَ أحد فيه قطّ. ابقَ. فإذا ما انعَزَلنا، نبقى وحيدين في مواجهة عالم بأكمله، وبما أنّ العالم قد أَصبَحَ يميل إلى السوء أكثر مِن الخير، فالذي يبقى وحيداً ينهار ويُسحَق تحت الأقدام". هل ما قُلتُه حَسَن؟»

 

«حسناً قُلتَ، وحسناً فَعَلتَ.» يقول يسوع.

 

«يا معلّم، سيكون لدينا اليوم نيقوديموس... وغَمَالائيل، فهل يسوءُكَ هذا؟»

 

«لماذا أستاء؟ أنا أعرف حكمته.»

 

«نعم، كان يتمنّى رؤيتكَ... وفي الوقت ذاته البقاء ثابتاً على آرائه. تَعلَم... آراء. إنّه يقول إنّه رأى مَسيّا، وهو ينتظر الإشارة التي وَعَدَه بها لِظهوره. ولكنّه يقول إنّكَ أحد رجال الله. وهو لا يقول "رَجُل الله"، بل يقول "أحد رجال الله". تَـمَحُّكات رابّيين، أليس كذلك؟ ألم يُسيئوا إليكَ بذلك؟»

 

يُجيب يسوع: «تَـمَحُّكات. أَحسَنتَ قولاً. علينا أن نَدَعهم يَفعَلون. والأخيار سيتمكّنون بأنفسهم مِن الانضمام إلى الأغصان عديمة الفائدة والتي لا تُعطي سوى أغصان ولا تُعطي فاكهة، إنّما بعد ذلك يأتون إليَّ.»

 

«أَرَدتُ أن أقول لكَ كلماته هو، إذ، بالتأكيد، سوف يقولها لكَ بكلّ بساطة، فهو صريح.» يقول يوسف.

 

فيُجيب يسوع: «إنّها فضيلة نادرة أُثَمنّها جدّاً.»

 

«نعم، وقد قُلتُ له أيضاً: "إنّما مع المعلّم سيكون لعازر بيت عنيا". وقد قُلتُ هذا لأنّ... أي نعم، بسبب أخته. ولكن غَمَالائيل أجاب: "هل هي حاضِرة؟ لا؟ فإذا الوحل يَسقط عن الثوب الذي لم يَعُد على تماسّ معها. لقد نَفَضَه لعازر مِن ذاته. ولستُ أتلوث مِن ثوبه. وثمّ، أَظُنُّ أنّه إذا ما زاره رَجُل مِن الله في داره، فبإمكاني معاشرته حتّى ولو كنتُ فقيهاً في الشريعة".»

 

«غَمَالائيل ذو بَصيرة جيّدة. فرّيسيّ وفقيه حتّى نقيّ العظام. ولكنّه كذلك نزيه ومُنصِف.»

 

«إنّني مسرور لسماعي ذلك منكَ. يا معلّم، ها هو ذا لعازر.»

 

ينحني لعازر ليُقَبِّل معطف يسوع. إنّه سعيد لكونه معه، إنّما يبدو ارتعاشه جليّاً في انتظار الـمَدعوّين. بالتأكيد، أَعلَم أنّ على لعازر المسكين أن يضيف إلى عذاباته المعروفة لدى الناس عبر التاريخ، تلك المجهولة، والتي لا يفكّر بها أكثر الناس، ألا وهي الآلام الوجدانيّة التي يُسبّبها هذا الـمِنخَس، الذي هو الفِكر، بتساؤلاته: "ماذا سيقول لي هذا؟ ماذا يجول في فكره تجاهي؟ هل سيجرحني بكلامه أو بنظرة احتقار؟" إنّه مِنخَس جميع مِن لديهم وصمة في العائلة.

 

الآن وقد دَخَلوا إلى قاعة فخمة حيث مُدَّت الطاولات، فهم لا ينتظرون سوى غَمَالائيل ونيقوديموس، ذلك أنّ المدعوّين الأربعة الآخرين قد وصلوا. أسمعهم يُعَرِّفون بهم بأسماء: فيلكس، يوحنّا، سمعان وكورنيليوس.

 

جَلَبَة هائلة مِن خدّام يَجرون لدى قدوم نيقوديموس وغَمَالائيل، هذا الـمُتَسَربِل دائماً ثوبه الرائع والناصع كالثلج المنسوج الذي يرتديه بعَظَمَة مَلِك. يهرع يوسف لملاقاته، والتحيّة بينهما تتسم باحترام عظيم. وكذلك يسوع ينحني أمام الرابّي العظيم الذي يُبادِر بالتحيّة: «الربّ معكَ». ويُجيبه يسوع: «وليكن سلامه رفيقكَ الوفيّ على الدوام.» وينحني لعازر كذلك، ومثله يفعل الجميع.

 

يأخذ غَمَالائيل مكانه وسط الطاولة بين يسوع ويوسف. وبعد يسوع يجلس لعازر. وبعد يوسف نيقوديموس. تبدأ الوليمة بالصلوات الطقسيّة التي يتلوها غَمَالائيل، وبعد ذلك يبدأ تَبادُل المجاملات بين الشخصيّات الأساسية: يسوع وغَمَالائيل ويوسف.

 

غَمَالائيل جَليل جدّاً إنّما دون كبرياء. فهو يستمع كثيراً ويتكلّم قليلاً. ومِن الواضح، مع ذلك، أنّه يُفَكِّر في كلّ كلمة يقولها يسوع، وغالباً ما يَنظُر إليه بعينيه العميقتين، الداكنتين والرصينتين. وعندما يختتم يسوع موضوعه ويصمت، يُعيد غَمَالائيل إحياء المناقشة بسؤال في مَحلّه.

 

في البداية، لعازر مُضطَرِب قليلاً، إنّما بعدئذ يتجرّأ ويتكلّم هو أيضاً.

 

لم تكن هناك تلميحات مباشرة بخصوص يسوع حتّى ما قبيل انتهاء الوليمة، حيث احتَدَمَ النقاش بين ذاك المدعو فيلكس ولعازر، وقد اشتَرَكَ فيه فيما بعد نيقوديموس لمساندة لعازر، وثمّ المدعو يوحنّا، بشأن الحِجّة، مع أو ضدّ أحدهم، بما يخصّ المعجزات. يسوع يَلزَم الصمت. يبتسم أحياناً ابتسامة غامضة، ولكنّه يَلزَم الصمت. وكذلك غَمَالائيل، يَلزَم الصمت بينما مِرفَقه مُستَنِد على الـمُتَّكَأ ويُحَدِّق بيسوع بتركيز. ويبدو وكأنّه يريد حلّ رموز كلمة فائقة الطبيعة، منقوشة على جلد وجه يسوع النحيف الأملس والشاحب. يبدو وكأنّه يُحلّل فيه كُلّاً مِن أليافه على حِدة.

 

يؤكّد فيلكس أن قداسة يوحنّا غير قابلة للجدال، ومِن هذه القداسة غير القابلة للنقاش والبحث يَخرُج بنتيجة في غير صالح يسوع الناصريّ صانع المعجزات العديدة والمعروفة. فيقول: «المعجزة ليست دليل قَداسة، إذ إنّ حياة يوحنّا النبيّ خالية منها. وليس في إسرائيل مَن يحيا حياته. فبالنسبة له لا ولائم ولا صداقات ولا مَنافِع شخصيّة. بل ألم وسجن في سبيل الشريعة. وحياته حياة تَوَحُّد. إذ، نعم، حتّى ولو كان لديه تلاميذ، فهو لا يحيا حياة جماعة. وهو يَكشف عن أخطاء وخطايا حتّى لدى أكثر الناس نزاهة، ويُندّد بكلّ الناس، بينما... إيه! بينما معلّم الناصرة الموجود هنا قد اجتَرَحَ المعجزات، هذا صحيح، ولكنّني أرى أنّه يحبّ ما تمنحه الحياة. فهو لا يَتَمَنَّع عن الصداقات، وعفواً إذا ما قال لكَ ذلك أحد أعضاء السنهدرين القدامى، ويَمنَح بسهولة، باسم الله، الغفران والحبّ، حتّى للخَطَأَة المعروفين والموسومين بالحُرم. فما كان ينبغي أن تفعل ذلك يا يسوع.»

 

يبتسم يسوع ولا يتكلّم. ويُجيب لعازر عنه: «ربّنا القدير حُرّ في توجيه خدّامه، كيفما يريد، وحيثما يريد. لقد مَنَحَ موسى أن يَجتَرِح المعجزة ولم يمنح ذلك لهارون حَبره الأوّل. فإذن، ماذا تَستَنتِج مِن ذلك؟ هل يكون الأوّل أكثر قداسة مِن الثاني؟»

 

«بكلّ تأكيد.» يُجيب فيلكس.

 

«وبالتالي فالأكثر قداسة هو يسوع الذي يَجتَرِح المعجزات.»

 

يَرتَبِك فيلكس، ولكنّه يتمسّك بِحجّة: «لقد نال هارون الحَبريّة. وكان هذا كافياً.»

 

«لا يا صديقي.» يُجيب نيقوديموس. «فالحَبريّة كانت رسالة. وهي مقدّسة، ولكنّها لا تتعدّى كونها رسالة. ولم يكن أحبار إسرائيل كلّهم قدّيسين على الدوام، ومع ذلك كانوا أحباراً رغم عدم كونهم قدّيسين.»

 

«لا أخالُكَ تريد القول إنّ كبير الكَهَنَة إنسان مُجرّد مِن النعمة!» يهتف فيلكس.

 

«فيلكس... لا ندخلنّ في هذا الجحيم. فأنا وأنتَ وغَمَالائيل ويوسف ونيقوديموس، جميعنا يَعرِف أموراً كثيرة...» يقول المدعو يوحنّا.

 

«ولكن كيف؟ ولكن كيف؟ غَمَالائيل، تَدَخَّل إذن!...» فيلكس يُصدَم.

 

«إن كان مُنصِفاً، فسيقول الحقيقة التي لا تودّ سماعها.» يقول الثلاثة الذين تَأَلَّبوا ضدّ فيلكس.

 

يُحاوِل يوسف إعادة الهدوء. يبقى يسوع مُلتَزِماً الصمت. وكذلك توما والغيور وسمعان الآخر صديق يوسف. يبدو غَمَالائيل وكأنّه يلهو بأهداب ثوبه، ولكنّه يَنظُر إلى يسوع خِلسة.

 

«تكلّم إذن يا غَمَالائيل.» يَصرخ فيلكس.

 

«نعم، تكلّم، تكلّم.» يقول الثلاثة.

 

«أنا أقول إنّ علينا إبقاء هَنّات العائلة في الخَفاء.» يقول غَمَالائيل.

 

«هذا ليس جواباً!» يَهتف فيلكس. «يبدو وكأنّكَ تَعلَم أنّ في بيت الحَبر وَصمات.»

 

«هذا هو التعبير عن الحقيقة.» يقول الثلاثة.

 

يَنتَصِب غَمَالائيل، ويلتفت إلى يسوع قائلاً: «هو ذا المعلّم الذي يفوق كلّ الفقهاء. فليتحدّث هو عن هذا الموضوع.»

 

«أنتَ شِئتَ ذلك. وأنا أُطيع، فأقول: الإنسان هو الإنسان. والرسالة تتجاوز الإنسان. ولكنّ الإنسان، حينما يتولّى رسالة، وإذا ما اتَّخَذَ الله صديقاً له، يصبح قادراً على القيام بها بشكل فائق البشر، وهو يحيا حياة القداسة. فالله هو الذي قال: "أنتَ كاهِن حسب الأمر الذي أَعطَيتُكَ". ماذا كُتِب في سِفر العدد؟ "مَذهَب وحقيقة". هاكم ما كان ينبغي أن يكون لدى الأحبار. في المذهب، ليكن التوصّل إليه مِن خلال تأمّل مستديم يمتدّ نحو معرفة الحكمة. وفي الحقّ، بالوفاء الـمُطلَق للخير. فَمَن يَنخَرِط في الشرّ يَدخُل في الكذب ويَفقد الحقيقة.»

 

«حسناً! لقد أَجَبتَ كما رابّي عظيم. وأنا غَمَالائيل أقول إنّكَ تتفوّق عليَّ.»

 

«فليُفسِّر إذن، هذا، لماذا هارون لم يَجتَرِح المعجزات بينما موسى فَعَلَها.» يهتف فيلكس بِجَلَبة. 

 

فيُجيب يسوع دونما إبطاء: «ذلك أنّه كان على موسى أن يَفرِض وجوده على جماعة مِن الإسرائيليّين ثَقيلي الفَهم مُظلِمي النَّفْس حتّى الـمُعارضة، وأن يتوصّل إلى الحصول على نفوذ وسُلطة عليهم، بشكل يمكنه مِن إخضاعهم لإرادة الله. فالإنسان هو المتوحِّش الأزليّ والطفل الأزليّ في آن. وهو يَندَهِش ويُصدَم بكلّ ما يَخرج عن المألوف. والمعجزة هي: نور يتحرّك أمام الأجفان الـمُظلِمة، هي صوت قُرب الآذان المسدودة. تُوقِظ، تَلفت الانتباه. إنّها تُعلِن: "الله هنا".»

 

«تقول هذا لأنّكَ صاحب مصلحة فيه.» يُجيب فيلكس.

 

«صاحب مصلحة؟ ما الذي يُضيفه لي اجتراح المعجزة؟ هل يمكنني أن أبدو أكبر إذا ما وَضَعتُ غريسة عشب تحت قدمي؟ فالعلاقة بين المعجزة والقداسة واحدة. هناك قدّيسون لم يَجتَرِحوا معجزات قطّ، كما أنّ هناك مجوساً ومُستَحضِري أرواح يَستَخدِمون قوى غامضة ليَفعلوا ذلك، يعني أنّهم يَفعَلون أموراً تفوق البشر دون أن يكونوا قدّيسين، بل هم شياطين؟ وسأكون أنا نفسي قدّيساً حتّى ولو لم أعد أجترح المعجزات.»

 

«جيّد جدّاً! أنتَ عظيم يا يسوع!» يؤكّد غَمَالائيل.

 

«وحسب رأيكَ، من هو هذا "العظيم"؟» يتابع فيلكس ملتفتاً إلى غَمَالائيل.

 

«أعظم نبيّ عرفتُه، بأفعاله أكثر منه بأقواله.» يُجيب غَمَالائيل.

 

«إنّه مَسيّا، أقولها لكَ يا غَمَالائيل. آمِن به يا مَن أنتَ حكيم ومُصيب.» يقول يوسف.

 

«كيف؟ أنتَ أيضاً يا مَن تُوجّه اليهود، أنتَ الكبير، مجدنا، تقع في هذه العبادة الوثنيّة مِن أجل إنسان؟ ولكن مَن يُبرهِن لكَ أنّه المسيح؟ أمّا أنا فلن أؤمن، حتّى ولو كنتُ أراه يَجتَرِح المعجزات. إنّما لماذا لا يَجتَرِح معجزة أمامنا؟ قُل له ذلك أنتَ يا مَن تُمجّده. قُل له ذلك أنتَ يا مَن تُدافِع عنه.» يقول فيلكس لغَمَالائيل ويوسف.

 

«أنا لم أَدعُه ليتسلّى به الأصدقاء، أرجو أن تتذكّر أنّه ضَيفي.» يُجيب يوسف بجفاء.

 

يَنهَض فيلكس وينصرف بغضب وفظاظة.

 

لحظة صمت. ويلتفت يسوع إلى غَمَالائيل: «وأنتَ أفلا تطلب معجزات لتؤمن؟»

 

«ليست معجزات رجل مِن الله هي التي تَنـزَع المهماز الذي أحمل في قلبي، مِن جرّاء تلك الأسئلة الثلاثة التي تبقى دون إجابة.»

 

«أية أسئلة؟»

 

«هل مَسيّا حيّ؟ هل كان ذاك؟ هل هو هذا؟»

 

«إنّه هو. أقولُها لكَ يا غَمَالائيل!» يَهتف يوسف. «ألا تُلاحِظ أنّه قدّيس؟ ومختلف عن الآخرين؟ مُقتَدِر؟ نعم. وإذن، ماذا تنتظر لتؤمن؟»

 

لا يردّ غَمَالائيل على يوسف، بل يلتفت إلى يسوع: «مَرّة... لا تمتعض يا يسوع إذا ما كنتُ متشبّثاً بأفكاري... ذات مرّة، عندما كان هِلّيل العظيم والحكيم ما يزال على قيد الحياة، اعتقدتُ، وهو مثلي، أنّ مَسيّا كان في إسرائيل. وميض عظيم للشمس الإلهيّة في يوم شتاء بارد، لم يكن يريد أن ينتهي! كان الفصح... وكان الناس يرتجفون بسبب موسم الجليد... بعد سماعي لتلك الكلمات قُلتُ: "إسرائيل قد خَلص! ومنذ اليوم وَفرة في الحقول وبَرَكَة في القلوب! لقد ظَهَرَ الـمُنتَظَر بأوّل بَريق له". ولم أُخطئ. يمكنكم جميعاً أن تتذكّروا أيّ محصول جُنِيَ في تلك السنة ذات الثلاثة عشر شهراً، واستمرَّ الأمر كذلك...»

 

«أيّة كلمات سَمِعتُ؟ ومَن ذا الذي كان يتفوّه بها؟»

 

«لقد كان في أواخر سنيّ الطفولة... ولكنّ الله كان يتألّق في وجهه البريء الجميل... منذ تسع عشرة سنة وأنا أفكّر بذلك، وأحتفظ بتلك الذكرى... وأسعى لأن أسمع ذلك الصوت مرة أخرى... لقد كان كلامه كلام حكمة... أيّ جزء مِن الأرض يحتضنه؟ أنا أُفكّر:... لقد كان هو الله على شكل طفل، لكي لا يُخيف الإنسان. مثل البرق وهو يَعبر الأجواء، فتبدو السماء سريعة في الشرق والغرب، في الشمال والجنوب، هو، الإلهيّ، بمظهر الصّلاح الرحيم، وبصوت ووجه طفل وفِكر إلهيّ، يَجوب الأرض ليقول للناس: "أنا هو". كذا هو فِكري... متى سيعود إلى إسرائيل؟... متى؟ وأُفكّر: متى ستكون أرض إسرائيل مذبحاً لقدميه الإلهيّتين؟ ويئنّ قلبي لدى رؤيتي حقارة إسرائيل: أبداً. آه! إجابة قاسية! وهي حقيقيّة! هل يمكن للقداسة أن تحلّ، مُتَمَثِّلة في شخص مسيحه، طالما الكراهية مُتَأصِّلة فينا؟»

 

«يمكنها ذلك، بل تفعلها لأنّها رحمة.» يُجيب يسوع.

 

يَنظُر إليه غَمَالائيل مُفَكِّراً ثمّ يَسأَله: «ما هو اسمكَ الحقيقيّ؟»

 

يَنتَصِب يسوع مَهيباً ويقول: «أنا هو الكائن. فِكر وكلمة الآب. أنا مسيح الربّ.»

 

«أنتَ؟... لا أستطيع التصديق. عظيمة هي قداستكَ، إنّما ذاك الطفل الذي أؤمن به، هاكَ ما قاله آنذاك: "سأُعطي إشارة... سوف ترتعد هذه الحجارة عندما تحين ساعتي". وأنا أنتظر تلك الإشارة لأؤمن. أيمكنكَ أن تعطيني إيّاها لتُقنِعني بأنّكَ أنتَ هو الـمُنتَظَر؟»

 

كِلاهُما، الآن، واقفان، عظيمان ومَهيبان، الواحد في ثوبه الواسع مِن الكتّان الأبيض، والآخر في ثوبه البسيط مِن الصوف الأحمر القاتم، الواحد كبير السنّ، والآخر شاب بعينين سائدتين وعميقتين، وكلّ منهما يَنظُر إلى الآخر بإمعان.

 

ثمّ يَخفض يسوع ذراعه اليمنى التي كانت منثنية على صدره؛ وكما لو كان يُقسِم، يَهتِف: «تريد هذه الإشارة، وسوف تكون لكَ! ها أنذا أُردّد العبارات القديمة: "حجارة الهيكل سوف ترتعد عند كلماتي الأخيرة". انتَظِر هذه الإشارة يا فَقيه إسرائيل، أيّها الرجل المستقيم، ثمّ آمِن إذا ما كنتَ تبغي الغفران والخلاص. طوبى لكَ منذ الآن لو كنتَ تستطيع الإيمان! ولكنّكَ لا تستطيع ذلك. زهور مِن الإيمان الـمَغلوط بخصوص وَعد حقّ، وأكوام مِن الكبرياء، كَجِدار، تَسدّ في وجهكَ طريق الحقّ والإيمان.»

 

«حسناً تقول. سأنتظر هذه الإشارة. وداعاً. فليكن الربّ معكَ.»

 

«وداعاً يا غَمَالائيل. فليُنِرْكَ الروح الأزليّ ويُوجّهْكَ.»

 

الجميع يُحيّون غَمَالائيل الذي ينصرف مع نيقوديموس ويوحنّا وسمعان الذي مِن السنهدرين. ويبقى يسوع مع يوسف ولعازر وتوما وسمعان الغيور وكورنيليوس.

 

«إنّه لا يستسلم!...أتمنى لو يكون مِن ضمن تلاميذكَ، وَزن حاسم في صالحكَ... ولستُ أنجح في ذلك.» يقول يوسف.

 

«لا تحزن. فلا يمكن لأي مُؤثِّر أن يُنقِذني مِن الصاعقة التي تتهيّأ الآن. إنّما غَمَالائيل، فإذا لم يقف في صفي ولصالحي، فلن يقف كذلك ضدّ المسيح. إنّه واحد يَنتَظِر...»

 

وينتهي كلّ شيء.