ج3 - ف42

أَنَا هُوَ

ماريا فالتورتا

L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO

THE GOSPEL AS REVEALED TO ME

بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}

L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ

MARIA VALTORTA

الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.

 

الجزء الثالث / القسم الأول

 

42- (يسوع، في طريقه إلى مجدلة، يتحدّث إلى رُعاة)

 

09 / 06 / 1945

 

لا يَصِل بطرس إلّا في صباح اليوم التالي. كان أكثر سكوناً مِنه ساعة الذهاب، إذ إنّه لم يَلقَ سِوى حسن استقبال في كفرناحوم التي كانت قد تخلَّصَت مِن ايلي ويواكيم (مُدَبِّرَي مؤامرة القبض على المعمدان).

 

«يُفتَرَض أن يَكونا هُما مُدَبِّرَي المؤامرة. بالفعل، لقد سَأَلتُ أصدقاء لي عن زَمَن رحيلهما، وفَهِمتُ أنّهما لم يعودا مُذ كانا لدى المعمدان كَتَائِبَين. وأظنّهما لن يعودا قريباً، وأقول الآن إنّهما كانا حاضِرَين ساعة الاعتقال... هناك اضطراب هائل لاعتقال المعمدان... وسأعمل على أن يَعرف ذلك، حتّى البعوض... فذلك أفضل سلاح لنا. ولقد قابلتُ كذلك سمعان الفرّيسيّ و... ولكنّه إذا كان كما ظَهَرَ لي، فيبدو أنّه مُهَيَّأ بشكل جيّد. لقد قال لي: "انصَح المعلم بألّا يتّبع الأردن مِن جهة الوادي الغربي. الجهة الأخرى أكثر أماناً". قال ذلك وهو يؤكِّد على الكلمات. وفي النهاية قال لي: "أنا لم أَرَكَ، ولم أتحدّث إليكَ. ذَكِّره أنتَ، وتصرَّف، بالنتيجة، لِما فيه خيري وخيركَ وخير الجميع. قُل للمعلّم إنّني صديق له". وكان يَنظُر إلى الجوّ وكأنّه يُكلِّم الهواء. دائماً، حتّى عندما يتصرّفون بشكل جيّد، هُم مُخادِعون و... أقول: إنّهم غريبو الأطوار، لكيلا يَستَوجِبوا ملامتكَ. آنذاك... هه! حينذاك ذهبتُ في زيارة قصيرة لقائد المائة. هكذا... أثناء قولي له: "هل خادمكَ بصحّة جيّدة؟" وتأكيده لي ذلك، قلتُ: "لحسن الحظ! انتبه للمحافظة على صحّته جيّدة، إذ يُحاوِلون إيقاع المعلّم في فخّ. وها هو المعمدان قد اعتُقِل..." وقد فَهِمَها الرومانيّ على الطَّاير. إنّه لَماكِر هذا الرجل! وقد أجاب: "حيث تكون راية رومانيّة، فستكون له حماية، وسيكون هناك مَن يُذكِّر الإسرائيليّين أنّ تحت الرايات الرومانيّة لا مجال للسماح بالمؤامرات دون التعرّض للموت أو الشقاء". إنّهم وثنيّون... ولكنَّني عانَقتُهُ. أُحِبّ كثيراً الناس الذين يُدرِكون ويتصرّفون! يمكننا الذهاب هناك إذن.»

 

«هيا بنا. ولكن لَم تكن مِن حاجة إلى كلّ ذلك.» يقول يسوع.

 

«كان يجب، كان يجب!»

 

يَستَأذِن يسوع بالانصراف مِن العائلة التي استضافَتهُ، وكذلك مِن التلميذ الجديد الذي أعطاه بعض التعليمات. وها هُم مِن جديد وحدهم: المعلّم والرُّسُل، ويَمضون عبر القرية المنعِشة، مِن خلال طريق سَلَكَها يسوع، مما يُثير دهشة بطرس الذي كان يريد سلوك طريق أخرى.

 

«هذه تُبعِدنا عن البحيرة...»

 

«سَنَصِل دائماً في الوقت المناسب إلى ما ينبغي لي عَمَله.»

 

لا يعود الرُّسُل يتكلّمون، ويتوجّهون صوب بلدة صغيرة، بيوتها قليلة ومتفرّقة. صوت جَلاجِل عظيمة لِقُطعان تتوجّه إلى المراعي الجبليّة. وعندما يتوقّف يسوع ليفسح المجال لمرور قطيع كبير، يأخُذ الرُّعاة يشيرون إليه وهم يتجمّعون. يتشاورون، ولكنّهم لا يجرؤون على فِعل أكثر مِن ذلك. يقطع يسوع التردّد والارتياب باجتيازه القطيع الذي توقَّفَ ليَقضُم العشب الكثيف. يتوجّه مباشرة ليُداعِب راعياً صغيراً وسط الكتلة الصوفية مِن الخراف التي تثغو. يَسأَله: «هل هي لكَ؟» يَعلَم يسوع جيّداً أنّها ليست للطفل، ولكنّه يريد جعله يتكلّم.

 

«لا يا سيّدي. أنا معهم، وملكيّة القطيع تعود لأناس كثيرين. ولقد تَجَمَّعنا خوفاً مِن اللصوص.»

 

«ما اسمكَ؟»

 

«زكريا بن إسحاق، ولكن والدي قد توفّيَ، وقد استُخدِمتُ وتَسلَّمتُ العمل لأنّنا فقراء، وأُمّي لديها ثلاثة أطفال آخرين أصغر منّي.»

 

«هل مضى على موته زمن طويل؟»

 

«ثلاث سنوات يا سيّدي... ومنذ ذلك الحين لَم أضحك، لأنّ أُمّي تبكي باستمرار، ولم يعد لي مَن يداعبني ويلاطفني... فأنا البِكر، وموت أبي جَعَلَني رجلاً، بينما لم أكن سوى طفل... لا ينبغي لي أن أبكي، بل أن أَكسَب... ولكنّ ذلك صعب للغاية!» وبالفعل سالت دموعه الآن على وجهه الصغير الرصين جدّاً بالنسبة إلى سنّه. اقتَرَبَ الرُّعاة وكذلك الرُّسُل. مجموعة رجال وسط حركة الخراف.

 

«أنتَ لستَ بغير أب يا زكريّا. فَلَكَ أب في السماء، أب قدّوس يحبّكَ على الدوام، إن كنتَ صالحاً، وأبوكَ لم يتوقّف عن حبّكَ لأنّه في أحضان إبراهيم. ينبغي لكَ أن تؤمن بذلك، وبهذا الإيمان تكون دائماً أفضل.» يتكلّم يسوع على مهل ويُلاطِف الطفل ويداعبه.

 

يتجاسر أحد الرُّعاة ويَسأَل: «أنتَ مَسيّا، أليس كذلك؟»

 

«نعم، أنا هو. كيف تعرَّفتَ عليَّ؟»

 

«أَعرِف أنّكَ في فلسطين، وأَعرِف أنّكَ تتفوّه بكلام مقدَّس. وبذلك تعرّفتُ عليكَ.»

 

«أتمضون بعيداً؟»

 

«إلى الجبال العالية... ها هو القَيظ يَحلّ... هل سَتُسمِعنا كلامكَ؟ في الأعلى حيث نكون، ليس لنا سوى الريح تُكلِّمنا، وأحياناً يتحدَّث الذئب ويُحدِث مجزرة، كالتي جَرَت مع والِد زكريا. لقد رَغبنا في رؤيتكَ طوال فصل الشتاء، ولكنّنا لم نعثر عليكَ أبداً.»

 

«تعالوا إلى ظلّ تلك الغَيضَة، وسأتحدّث إليكم.»

 

يَذهَب يسوع في المقدّمة ممسكاً بيده الرَّاعي الصغير، ومُداعِباً بالأخرى الحِملان التي ترفع رأسها وهي تثغو. يَجمَع الرُّعاة القطيع تحت الغابة الصغيرة، وبينما تستلقي الخراف لتجترّ أو تَقضم وتَحكّ جسمها بالجذوع، يتحدّث يسوع.

 

«قُلتُم: "في العالي حيث نكون، ما مَن يُكَلّمنا سوى الرياح، والذئب أحياناً وهو يُحدِث مجزرة". وما يَحدُث في الأعالي، يَحدُث في القلوب بِفِعل الله، والإنسان، والشيطان. فيمكن أن يكون لديكم في العالي ما هو لديكم في كل مكان.

 

هل لديكم دِراية كافية بالشريعة لمعرفة وصاياها العشر؟ وأنتَ كذلك أيّها الصبيّ؟ إذن تَعرفون الكفاية. وإذا ما مارَستُم بأمانة ما حدَّدَهُ الله في وصاياه، تُصبِحون قدّيسين. لا تتذمّروا لابتعادكم عن العالم، فإنّكم بذلك مُصانُون مِن فساد عظيم، والله غير بعيد عنكم، بل هو أقرب إليكم في تلك الوحدة حيث يتكلّم صوته بالرياح التي خَلَقَها، كذلك بالنباتات والمياه أكثر ممّا يفعل وسط الناس. هذا القطيع يعلّمكم فضيلة عظيمة، بل عظيمة جدّاً. فهو وَديع ومُطيع. يرضى بالقليل ويعتَرِف بجميل ما يَحصل عليه. يعرف أن يحبّ ويتعرّف على الذي يعتني به ويحبّه. افعلوا أنتم كذلك قائِلِين: "الله راعينا، ونحن خرافه. عينه علينا وهو يحمينا ويرزقنا، ليس ما هو نبع رذيلة، بل إنّما ما هو ضروريّ للحياة". واجعَلوا الذئب بعيداً عن القلب. الذئاب هُم الناس الأشرار الذين يُحرِّضونكم، مُضلِّلين إيّاكم للقيام بأفعال شرّيرة بأمر مِن الشيطان، والشيطان نفسه يحرّضكم على الخطيئة ليمزقكم.

 

اسهَروا، أنتم أيّها الرُّعاة، يا مَن تَعرفون عادات الذئب. إنّه مُراوِغ وماكِر بقدر ما هي النِّعاج بسيطة وبريئة. يقترب على مهل، بعد أن يكون قد رَاقَبَ مِن الأعلى عادات القطيع، يقتَرِب مُتسلِّلاً بين الأدغال، ولكي لا يَلفت الانتباه إليه، يبقى بلا حَراك مثل صخرة. ألا يبدو مثل كتلة ضخمة مُكوَّرة بين الأعشاب؟ إنّما، فيما بعد، حينما يتأكّد أنّ لا أحد ساهر يُراقِب، يَنقَضّ على الحَمَل ويَقبض عليه بين أنيابه. هكذا يفعل الشيطان، يراقبكم ليعرف نقاط ضعفكم. يَحوم حولكم، يبدو وكأنّه غير مؤذ وغائِب. إنّه بعيد دائماً، ولكنّ عينه لا تفارقكم، ثمّ يَنقَضّ على غفلة منكم ليجرّكم إلى الخطيئة، وهو ينجح في ذلك أحياناً. إنّما بالقرب منكم يوجد طبيب وصديق رَؤوف. الله وملاككم. إذا ما جُرِحتُم، إذا ما مَرضتُم، لا تبتعدوا عنهما كما يفعل الكلب المسعور. بل إنّما على العكس، اهتفوا لهما باكِين: "العَون!" فالله يَغفر لِمَن يتوب، وملاككم جاهز تماماً للتضرّع إلى الله مِن أجلكم ومعكم.

 

أَحِبّوا بعضكم جيّداً، وأَحِبّوا هذا الصبيّ. على كلّ واحد منكم أن يشعر قليلاً أنّه أب لليتيم. وليكن وجود طفل بينكم مُلطِّفاً لتصرّفاتكم كلّها بالكابح المقدَّس الكامِن في الاحترام الموجَّه للطفل. وليكن قُربكم منه تعويضاً له عما انتَزَعَه منه الموت. يجب أن تحبّوا القريب. وهذا الصبيّ هو القريب الذي يأتَمِنكم عليه الله بشكل خاصّ. اجعَلوه بإرشادكم، صالحاً ومؤمناً ونزيهاً دون رذائل. إنّه أفضل مِن أيّ مِن هذه الخِراف. الآن، إذا كنتم تعتنون بالخراف لأنّها عائدة للمعلّم الذي يعاقبكم إذا ما تركتموها تَنفق، فبالأحرى ينبغي لكم الاعتناء بتلك النَّفْس التي يأتمنكم عليها الله باسمه وباسم أبيه الذي مات. وضعه كيتيم حزين جدّاً. لا تجعلوه أكثر صعوبة. لا تستغلّوا صِغَر سِنّه للتنغيص عليه. فَكِّروا أنّ الله يرى أعمال ودموع كلّ واحد مِن الناس، وهو يأخذ كلّ شيء بعين الاعتبار ليُكافِئ بموجبه أو يُعاقِب.

 

وأنتَ أيّها الصبيّ، تَذكَّر أنّكَ لستَ وحيداً أبداً. الله يراكَ، وكذلك روح أبيكَ. فعندما يجعلكَ أيّ شيء تضطَرِب، أو يحملكَ إلى الشرّ، قُل: "لا. لا أريد أن أُصبِح يتيماً إلى الأبد". لأنّكَ تكون كذلك لو أَهلَكتَ قلبكَ بالخطيئة.

 

كونوا صالحين. أبارككم ليكون كلّ الخير فيكم. لو كانت طريقنا واحدة، لكنتُ حَدَّثتُكم طويلاً. ولكنّ الشمس ارتَفَعَت في الأفق. وينبغي لكم الذهاب، وأنا كذلك. أنتم لِتَضَعوا الخِراف في مأمَن مِن حَرّ الشمس، وأنا لأنتزع مِن القلوب قيظاً آخر أكثر هَولاً. صَلّوا لكي يَروا فيَّ الرَّاعي. وداعاً يا زكريا. كُن صالحاً، السلام لكم.»

 

يُقبِّل يسوع الرَّاعي الصغير ويباركه. وبينما يبتعد القطيع ببطء، يتبعه بالنَّظَر، ثم يُتابِع طريقه.

 

«قُلتَ إنّكَ ستَنتَزِع قيظاً آخر مِن القلوب... أين نحن ذاهبون؟» يَسأَل الاسخريوطيّ.

 

«في الوقت الحاضر حتّى ذاك المكان الأكثر ظلّاً حيث الجدول. نأكل هناك، وبعد ذلك تَعلَمون أين نذهب.»