ج4 - ف160
أَنَا هُوَ
ماريا فالتورتا
L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO
THE GOSPEL AS REVEALED TO ME
بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}
L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ
MARIA VALTORTA
الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.
الجزء الرابع / القسم الثاني
160- (أثناء الذهاب إلى عِرا)
06 / 10 / 1945
أربيلا كذلك بعيدة الآن. برفقة يسوع، هناك الآن فليبّس الذي مِن أربيلا والتلميذ الآخر الذي أسمعهم ينادونه مرقس.
الطريق مُوحِلة، كما لو أنّها أمطَرَت كثيراً. السماء رمادية. نهر صغير يقطع الطريق المؤدّية إلى عِرا. وإذ قد امتلأ مِن الأمطار التي هَطَلَت بالتأكيد على المنطقة، فهو حتماً ليس بلون زُرقة السماء، بل يتلوّن بالأصفر الضارب إلى الحُمرة، كما لو أنّه كان يحمل مياهاً مرَّت على أرض حديديّة.
«إنّ الجوّ الآن مُكفهرّ. أَحسَنتَ صنعاً بصرف النساء. بالنسبة إليهنّ، الوقت غير ملائم للسفر.» يقول يعقوب بأسلوب الحِكَم. وسمعان الغيور الوادع أبداً في تسليمه الـمُطلَق للمعلّم، يُصرِّح: «المعلّم يُحسِن عملاً في كلّ ما يَفعَل. فهو ليس عديم الذكاء مثلنا. إنّه يَرَى ويُقدِّر كلّ شيء لما هو أفضل، لنا نحن أكثر منه لنفسه.»
ويوحنّا، السعيد لكونه إلى جانبه، يَنظُر إليه مِن أسفل بوجهه الباسم ويقول: «أنتَ أَحَبُّ وأَفضَل معلّم حَصَلنا ونحصل وسنحصل عليه، فضلاً عن أنّكَ الأقدس.»
«أولئك الفرّيسيّون... يا للخيبة! وحتّى سوء الطقس ساعَدَ في إقناعهم أنّ يوحنّا الذي مِن عين دور لم يكن هنا. ولكن لماذا يتصرّفون هكذا معه؟» يَسأَل هرمست الذي يَعطف كثيراً على يوحنّا الذي مِن عين دور.
يُجيب يسوع: «حقدهم ليس عليه ولا لأجله، ولكنّه مجرّد أداة يستعملونها ضدّي.»
يقول فليبّس الذي مِن أربيلا: «حسناً، فإنّ المياه أكثر مَن أقنَعَتْهم أنّ لا جدوى مِن الانتظار والارتياب بيوحنّا الذي مِن عين دور. لِيَعِش الماء! فلقد ساهَمَ كذلك في بقائكَ خمسة أيّام في بيتي.»
«مَن يدري كم سيكونون قَلِقين في عِرا! عجيب ألّا نرى أخي قادماً لملاقاتنا. يقول أندراوس.
«لملاقاتنا؟ بل هو سيأتي بعدنا.» يقول متّى.
«لا. لقد اتَّبَعَ طريق البحيرة، ذلك أنّه مِن جدرة ذَهَبَ إلى البحيرة، ومنها، بالـمَركَب إلى بيت صيدا ليرى امرأته، ويقول لها إنّ الصبي في الناصرة، وإنّه سيعود بسرعة. ومِن بيت صيدا إلى ميرون سيسلك طريق دمشق لبعض الوقت، ثمّ طريق عِرا. فهو حتماً في عِرا.»
صَمت قليل، ثمّ يقول يوحنّا مبتسماً: «ولكنّ تلك العجوز، يا ربّ!»
«كنتُ أظنّكَ سَتَهِبها فرح الموت على صدركَ كما فعلتَ مع شاول الاسخريوطيّ.» يُعلّق سمعان الغيور.
«لا، بل أردتُ لها خيراً أعظم، لأنّني أنتظر أن يَفتَح المسيح أبواب السماء، لأدعوها إليَّ. لن تنتظرني طويلاً، تلك الأُمّ. الآن، هي تعيش الذّكرى، بمساعدة أبيكَ يا فليبّس، ستكون حياتها أقلّ حزناً. أبارككَ أيضاً أنتَ وأهلكَ.»
فَرَح يوحنّا يُغلّفه غيم كثيف، أكثر مِن ذاك الذي يغطّي السماء. يراه يسوع ويقول: «ألستَ مسروراً بأن تأتي العجوز بسرعة إلى الفردوس؟»
«بلى... ولكنّني لستُ مسروراً لأنّ هذا يعني أنّكَ تمضي... لماذا الموت يا ربّ؟»
«كلّ مَن يُولَد مِن امرأة يموت.»
«أما مِن حلّ آخر، يا رب؟»
«آه! لا! ولكن كم ستكون فَرِحة مَسيرة الذين أخلِّصهم كإله وقد أحببتُهم كإنسان...»
مَجْرَيا ماء قريبان مِن بعضهما جدّاً، وقد تمّ اجتيازهما. يبدأ هطول المطر على منطقة السهل الذي يمتدّ أمام المسافرين بعد اجتيازهم الروابي التي تتقاطع مع الطريق التي تستغلّ الوادي لتستمرّ متّجهة صوب الشمال.
في الشمال، أو بالأحرى في الشمال الغربيّ، تَرتَسِم سلسلة جبال هائلة، تعلوها كُتَل ضخمة مِن السُّحُب التي تُشِكّل قِمَماً وهميّة على القِمَم الصخريّة الحقيقيّة المغطّاة بالغابات على المنحدرات، وبالثلوج على القِمَم. ولكنّها سلسلة بعيدة للغاية.
«هنا ماء، وهناك في الأعلى ثلج. إنّها سلسلة جبال حرمون. لقد اكتست قممها بمعطف هائل مِن الثلج. إذا قُيِّضَ لنا أن يكون الجوّ مشمساً في عِرا، فسترون كم القمّة العليا جميلة عندما تجعلها الشمس باللون الوردي.» يقول تيمون الذي يدفعه حبّ وطنه إلى مديح جمالات بلدته.
«ولكنّ الطقس، في هذه الأثناء، ماطر. هل ما تزال عِرا بعيدة؟» يَسأل متّى.
«نعم، لن نصلها قبل نهاية الليل.»
«فليجنِّبنا الله، إذن، متاعب الصحّة.» يقول متّى قليل التحمّس للسفر في مثل ذلك الجوّ.
إنّهم يرتدون معاطفهم، وتحتها حقائب السفر، لحمايتها مِن البَلَل، فَيَحمون بذلك ثيابهم، ليتمكّنوا مِن تبديلها لدى وصولهم، ذلك أنّ الماء يَسيل مِن الثياب التي يرتدونها، والوحل يُثقِل أرجلهم.
يسوع في المقدّمة، غارق في التفكير. الآخرون يَقضمون الخبز، ويوحنّا يمزح قائلاً: «لا حاجة للبحث عن نبع لإرواء العطش. يكفي إبقاء الرأس إلى الوراء، والفم مفتوحاً، والملائكة تعطينا الماء.»
هرمست الذي، بسبب شبابه، يتمتّع، هو وفليبّس الذي مِن أربيلا ويوحنّا، بروح الدعابة، يقول: «سمعان بن يونا كان يشتكي مِن الجِّمال، ولكنّني أُفضِّل، في هذه الرحلة، أن أكون على واحد مِن تلك الأبراج المهتزّة كما الزلازل، على هذا الوحل. ما قولكَ؟»
ويقول يوحنّا: «أقول إنّني على أَحسَن ما يرام، أينما كنتُ، طالما يسوع موجود...»
ويَشرَع الثلاثة يتحدّثون، دون انقطاع، فيما بينهم.
الأربعة الأكبر سنّاً يَحثّون الخطى للّحاق بيسوع. والمجموعة الباقية المؤلّفة مِن تيمون ومرقس يَظلّان في المؤخّرة يتحدّثان…
«يا معلّم، سيكون يهوذا بن سمعان في عِرا...» يقول أندراوس.
«بالتأكيد، ومعه توما ونثنائيل وفليبّس.»
«يا معلّم... إنّني أتحسّر على أيّام السلام هذه.» ويتنهّد يعقوب.
«ينبغي ألّا تقول هذا يا يعقوب.»
«أعرف... ولكنّني لا أستطيع منع نفسي...» ويُطلِق تنهيدة أخرى.
«سوف يكون أيضاً سمعان بطرس مع إخوتي. ألستَ مسروراً لذلك؟»
«أنا، جدّاً! يا معلّم، لماذا يهوذا بن سمعان مختلف كثيراً عنّا؟»
«لماذا يتعاقب المطر والشمس، الحرّ والبرد، النور والظلام؟»
«ولكن لأنّه لا يمكن أن يكون الشيء ذاته على الدوام، وإلّا لانتهت الحياة على الأرض.»
«أَحسَنتَ يا يعقوب.»
«نعم، ولكن هذا لا علاقة له بيهوذا.»
«أَجِب. لماذا لا تكون النجوم كلّها مثل الشمس، كبيرة، حارة، جميلة وقادرة؟»
«لأنّ... الأرض قد تحترق تحت كلّ هذه النار.»
«لماذا لا تكون المزروعات كلّها مثل شجرة الجوز هذه؟ زراعيّاً، كلّها نباتات.»
«لأنّه لا يمكن للحيوانات أن تأكل منها.»
«وإذن، لماذا لا تكون كلّها كالعشب؟»
«لأنّه لا يعود لنا حَطَب نُشعِله، ولا خشب نبني به بيوتنا، أو نصنع منه عِدَد الشُّغل والعربات والـمَراكِب والمفروشات.»
«لماذا لا تكون الطيور كلّها نسوراً، والحيوانات كلّها فِيَلَة أو جِمالاً؟»
«كنّا أصبحنا جميعنا في الطّراوة، لو كان الأمر هكذا.»
«يبدو لكَ هذا التنوّع جيّداً إذاً؟»
«بدون أدنى شك.»
«بحسب رأيكَ... لماذا خلقها الله إذن؟»
«ليمنحنا كلّ عَون ممكن.»
«بِنِيّة صالحة إذن؟ هل أنتَ متأكّد مِن ذلك؟»
«كتأكّدي مِن أنّني حيّ في هذه اللحظة.»
«وإذاً إذا كنتَ ترى أنّه مِن العدل وجود التعدّدية في أنواع الحيوانات والنباتات والكواكب، فلماذا تريد أن يكون كلّ الناس متشابهين؟ لكلّ منهم رسالته وتدابيره. هل تبدو لكَ التعدّدية اللامتناهية للأنواع إشارة إلى قُدرَة أم ضَعف الخالق؟»
«إلى قُدرته. فالواحد يُعزّز (يَدعَم) الآخر.»
«حسناً جدّاً. ليهوذا الفائدة ذاتها، وفائدتكَ أنتَ تكون إلى جانب رفاقكَ، ورفاقكَ إلى جانبكَ. لنا في فَمِنا إثنان وثلاثون سناً، وإذا نظرتَ إليها جيّداً، وجدتَها مختلفة تماماً فيما بينها. ليس فقط في فئاتها الثلاث، بل إنّما كلّ منها له فرادته ضمن فئته. ومع ذلك، بما أنّكَ تأكل الآن، لاحِظ مهمّتها. وسترى أنّ التي تبدو لكَ الأقلّ أهمّيّة، وهي قليلة العمل، هي بالضبط التي تقوم بالوظيفة الأولى، بِقَطع الخُبز ونقله إلى الأخرى التي تجعله مُهشَّماً لِتُمرّره للأخرى التي تُحوِّله إلى عجينة. أليس كذلك؟ ويهوذا، يبدو لكَ أنّه لا يفعل شيئاً، أو أنّه يُسيء التصرّف. أُذكِّركَ أنّه بَشَّر جيّداً في جنوب اليهوديّة، وأنّه، كما قلتَ، يَعرِف أن يُقيم علاقات مع الفرّيسيّين.»
«حقّاً.»
يُعلِّق متّى: «وهو يُجيد الحصول على المال للفقراء. يَطلُب، يَعرِف أن يَطلُب كما لا أعرف أنا... يجوز أن يكون ذلك لأنّ المال قد أَصبَحَ الآن يَجعَلني أشمئزّ.»
يَخفض سمعان الغيور وجهه الذي أَصبَحَ قرمزيّاً لشدّة احمراره. يَراه أندراوس فيسأله: «هل تَشعُر بِضِيق؟»
«لا، لا... التَّعب... لستُ أدري.»
يُحدِّق فيه يسوع، ويزداد احمراراً. ولكن يسوع لا يقول شيئاً.
يَجري تيمون إلى الأمام: «ها قد أَصبَحَت البلدة التي تَسبق عِرا مرئيّة. يمكننا التوقّف فيها وطلب بعض الحمير.»
«ولكن المطر قد توقّف، فَيجدر بنا المتابعة.»
«كما تريد يا معلّم. ولكن لو سمحتَ لي، سأذهب إلى الأمام.»
«هيّا.»
يَذهَب تيمون وهو يجري مع مرقس، ويقول يسوع مبتسماً: «يريدنا أن نَدخُل دخول الظَّافِرين.»
يَجتَمِع الكلّ مِن جديد. يتركهم يسوع، وقد احتَدَم حديثهم حول تنوّع المناطق، ليرجع إلى الخلف ومعه الغيور. وعندما يُصبِحان مُنفَرِدَين، يَسأَله يسوع: «لماذا علا وجهكَ الاحمرار يا سمعان؟»
يُصبِح وجهه كالجمر، ولا يتكلّم. يُكرِّر يسوع السؤال، ويزداد احمراره وصمته. يعيد يسوع السؤال.
«يا رب، أنتَ تَعلَم! لماذا تَجعَلني أبوح؟» يهتف الغيور الذي يتألّم وكأن أحداً يُعذِّبه.
«هل أنتَ متأكّد؟»
«هو لم يُنكِر ذلك. ومع ذلك قال: "إنّني أتصرّف هكذا على سبيل الحيطة. تفكيري سليم. فالمعلّم لا يُفكِّر في الغد مطلقاً". قد يكون ذلك صحيحاً. ولكن، في هذه الحال... إنّه على الدوام... على الدوام... يا معلّم، قُل أنتَ الكلمة الصحيحة.»
«هذا دليل على أنّ يهوذا يظلّ على الدوام "إنساناً". وهو لا يعرف أن يسمو ليكون روحاً فقط. ولكنّكم، جميعكم، متشابهون إلى حدّ ما. تَخشون أشياء تافهة. تَقلَقون مِن تَبصُّرات لا طائل منها. لا تعرفون أن تؤمنوا أنّ العناية الإلهيّة قادرة وحاضرة. حسناً وليبقَ هذا فيما بيننا. أليس كذلك؟»
«نعم، يا معلّم.»
ساد الصمت فترة. ثمّ قال يسوع: «سنعود قريباً إلى البحيرة... سيكون مِن المستحسَن الارتياح قليلاً بعد مسير طويل. سوف نمضي نحن الاثنين لبعض الوقت، حوالي عيد الأنوار. أنتَ وحيد... أمّا الآخرون فلديهم عائلاتهم، لذلك فستبقى أنتَ معي.»
«يا ربّ، يهوذا وحيد، توما كذلك، وحتّى متّى وحيد.»
«لا تُفكِّر في ذلك. سوف يحتفل كلّ منهم مع عائلته. فمتّى لديه أخته. وأنتَ بمفردكَ. إلّا إذا كنتَ ترغب في الذهاب إلى بيت لعازر...»
«لا يا ربّ.» يصيح سمعان. «لا. صحيح أنّني أحبّ لعازر، ولكن أن أكون معكَ، فهذا يعني أنّني في الجنّة. شكراً لكَ يا ربّ.» ويُقبِّل له اليد.
ما أن يتجاوزوا البلدة، حتّى يعود ليظهَر على الدرب المتماوج، تحت هَطل جديد للمطر، تيمون ومرقس، وهُما يصيحان: «توقفوا! ها هو ذا سمعان بطرس ومعه مطايا. قابلتُهُ، وقد كان قادماً. منذ ثلاثة أيّام وهو يأتي تحت المطر، إلى هذا المكان، مع الدَّواب.»
يتوقّفون تحت شجرة بلوط تحميهم قليلاً مِن المطر. وها هو بطرس قادم راكباً حماراً على رأس قافلة مِن المطايا، وهو يُشبِه راهباً، تحت الغطاء الذي يخفي رأسه وكتفيه داخله.
«ليبارككَ الله، يا معلّم! ولكنّني كنتُ قد خمّنتُ بأن تكون مبلّلاً كمن وَقَعَ في البحيرة! هيّا بنا بسرعة، وليركب الجميع. عِرا متأجّجة منذ ثلاثة أيّام، لكثرة المدافئ المضرَمَة لتجفيفكَ! بسرعة، بسرعة... بأيّ حال! ولكن انظروا! ألم تستطيعوا حمايته؟ آه! عندما لا أكون معكم! انظروا إذن! إن شعره يُظهِره وكأنّه كان غارقاً. يُفتَرَض أن تكون متجمِّداً بفعل هذا البَلَل! يا للتهوّر! وأنتم؟ وأنتم؟ يا للمساكين! وأنتَ أوّلهم، يا أخي الأبله، وثمّ الجميع! ما أحلاكم! إنّكم تشبهون أكياساً واقعة في مستنقع. هيّا بنا بسرعة! آه! لن أثق، بعد الآن، في أن أعهد به إليكم. إنّي غارق في الرَّوع...»
«لقد تكلّمتَ كثيراً يا سمعان.» يقول يسوع بهدوء، بينما يخبّ حماره إلى جانب حمار بطرس في مقدّمة القافلة. يُكرِّر يسوع: «كلام كثير، إنَّما لا طائل منه. فأنتَ لم تقل إذا ما وَصَلَ الآخرون... إذا ما كانت النساء قد مضين، إذا ما كانت امرأتكَ بصحة جيّدة. لم تقل لي شيئاً.»
«سوف أروي لكَ كلّ شيء. ولكن لماذا ذهبتَ تحت هذا المطر؟»
«وأنتَ لماذا أتيتَ؟»
«لأنّني كنتُ متشوّقاً لرؤيتكَ، يا معلّم.»
«وأنا، لأنّني كنتُ متشوّقاً لملاقاتكَ يا سمعاني.»
«آه! يا معلّمي الحبيب! كم أحبّكَ! زوجة، وَلَد، بيت؟ هم لا شيء، فلا شيء جميل إذا لم تكن أنتَ موجوداً. هل تُصدِّق أنّني أحبّكَ بهذا القَدْر؟»
«أُصدِّق. أنا أعرف مَن تكون يا سمعان.»
«مَن؟»
«إنّكَ طفل كبير مليء بالأخطاء التي غَطَّت الكثير مِن المميزات الجميلة. إنّما توجد واحدة غير مُغطَّاة. إنّها نزاهتكَ في كلّ شيء. حسناً، مَن في عِرا؟»
«يوضاس أخوكَ مع يعقوب، ثمّ يهوذا مع الآخرين. يبدو أنّه فَعَل خيراً كثيراً، يهوذا. الجميع يمدحونه...»
«هل طَرَحَ عليكَ أسئلة؟»
«آه! كثيراً! لم أُجِب على أيّ منها، قائلاً إنّني لا أعرف شيئاً. بالفعل، ماذا أعرف غير أنّني رافقتُ النّساء حتّى جدرة؟ أنتَ تَعلَم... لم أقل له شيئاً عن يوحنّا الذي مِن عين دور. يظنّه معكَ. عليكَ قول ذلك للآخرين.»
«لا. فَهُم كذلك لا يعرفون أين هو يوحنّا. لا يفيد في شيء أن يقال أكثر في ذلك. إنّما هذه الحمير!... لثلاثة أيّام!... يا لها مِن مصاريف! والفقراء؟»
«الفقراء... يهوذا لديه الكثير مِن الدَّوانِق، وهو يهتمّ بذلك. هذه الحمير لم تكلّفني فلساً واحداً. أهل عِرا كانوا سيعطونني ألفاً دون مقابل مِن أجلكَ. لقد اضطرُرِتُ إلى رفع صوتي لأمنعهم مِن المجيء لملاقاتك مع جيش مِن الحمير. تيمون على حقّ. هنا الجميع يؤمنون بكَ. إنّهم أفضل منّا...» ويتنهّد.
«سمعان، يا سمعان! لقد كُرِّمنا فيما وراء الأردن؛ فمحكوم بالأشغال الشاقّة، ووثنيّات، وخاطئات، ونِساء، قد أعطوكم درساً في الكمال. احفظ ذلك في ذاكرتكَ يا سمعان بن يونا، على الدوام.»
«سوف أحاول، يا ربّ. ها هُم، ها هُم طلائع أهل عِرا. انظر إلى هذا الكمّ مِن الناس! ها هي أُمّ تيمون. ها هما أخواكَ بين الجّمع. وها هُم التلاميذ الذين كنتَ قد أَرسَلتَهم قبل أولئك الذين أتوا مع يهوذا الاسخريوطيّ. ها هو أثرى رجل في عِرا، مع عبيده. كان يودّ أن تكون ضيفه، ولكن أُمّ تيمون فَرَضَت حقوقها، وستَحلّ أنتَ في بيتها. انظر! إنّهم منـزعجون لأنّ المطر يُطفِئ المشاعل. هناك مرضى كثيرون، هل تَعلَم؟ لقد ظلّوا في المدينة، جانب الأبواب، لِيَروكَ مباشرة. أحدهم، لديه مخزن للخشب، وقد استَقبَلَهم تحت العنبر. إنّهم هناك منذ ثلاثة أيّام، المساكين؛ مذ وصلنا ونحن مندهشون لأنّكَ لم تكن هناك.»
هتاف الجموع يمنع بطرس مِن المتابعة فيصمت. يبقى إلى جانب يسوع مثل الفارس. الجموع التي أدرَكاها تُفسِح المجال، ويمرّ يسوع على حماره، وهو لا يكفّ عن المباركة أثناء مروره.
يَدخُلون المدينة.
«إلى المرضى في الحال.» يقول يسوع غير مبالٍ بالاحتجاجات الصادرة عن الذين يودّون جعله في موضع محميّ، تحت سقف، وتأمين الطعام له والنار، خوفاً مِن أن يعاني كثيراً. فيجيبهم: «إنّهم يُعانون أكثر منّي.»
يَدور إلى اليمين. ها هو رُواق مخزن الخشب المحاط بسور. الباب مفتوح على مصراعيه، ويَصدُر هتاف نائح: «يا يسوع، يا ابن داود، ارحمنا!»
كورس يترجّى، يلحّ، وكأنّها طُلبة. أصوات أطفال، أصوات نساء، أصوات رجال وأصوات عجائز. أصوات حزينة وكأنّها ثغاء حملان تتألّم، كئيبة وكأنّها أصوات أُمّهات يَمُتن، يائسة كأصوات أناس لم يبق لهم سوى أمل وحيد، مرتجفة، كأصوات أناس لم يعودوا يعرفون سوى البكاء…
يَدخُل يسوع ضِمن السُّور. ينتَصِب قدر الإمكان على الرِّكابين، ورافعاً يده اليمنى، يقول بصوته الجبار: «لكلّ الذين يؤمنون بي، سلام وبركة.»
يَجلس مجدّداً على السَّرج، ويُحاوِل العودة إلى الدرب، ولكنّ الجمع يزحمه، وأولئك الذين شُفوا يتزاحمون حوله. وعلى ضوء المشاعل التي تشتعل محتمية بالأروقة، وتُنير الظلام، تُرى الجموع، وهي تَظهَر في نشوة الفرح، مُهلِّلة للربّ. والسيّد الذي يختفي وسط باقة مِن الأطفال الـمُبرَئين الذين وضعتهم أُمّهاتهم بين ذراعيه، على صدره، وحتّى على عنق الحمار، مُمسِكات بهم حتّى لا يَقَعوا. إنّهم مِلء ذراعيّ يسوع، كما لو كانوا زهوراً، ويبتسم مُغتَبِطاً، مُقبّلاً إيّاهم، لأنّه لا يستطيع مباركتهم، حاملاً إيّاهم هكذا بين ذراعيه. أخيراً أُخِذ الأطفال منه، وها هم العجائز الذين بَرئوا على يده، يبكون مِن الفرح، ويُقبِّلون ثوبه، ثمّ الرجال والنساء…
كان الليل قد هَبَطَ تماماً عندما تمكَّنَ مِن الدخول إلى بيت تيمون، والاستراحة قرب النار بثياب جافة.