ج5 - ف27
أَنَا هُوَ
ماريا فالتورتا
L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO
THE GOSPEL AS REVEALED TO ME
بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}
L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ
MARIA VALTORTA
الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.
الجزء الخامس/ القسم الأول
27- (في الطريق إلى ميرون)
23 / 11 / 1945
فجر ربيعيّ جميل يَصبغ السماء بلون الورد ويُبهِج الروابي. ويغتبط التلاميذ معاً بينما هم يتجمّعون في أوّل القرية في انتظار المتأخّرين.
«اليوم الأوّل الذي لا بَرْد فيه، بعد انهمار البَرَد» يقول متّى الذي يفرك يديه.
«كان يجب أن يأتي! إنّنا في مطلع شهر آذار (مارس)!» يهتف أندراوس.
«حسناً! حسناً! لو كان علينا المضيّ على الجبال في بَرْد الأيّام الأخيرة!...» يُعقِّب فليبّس.
«ولكن إلى أين نحن ماضون بعدئذ؟» يَسأَل أندراوس.
«مَن يدري... مِن هنا نذهب إلى صفد أو إلى ميرون. إنّما بعد ذلك؟» يُجيبه يعقوب بن زَبْدي ويلتفت ليَسأَل ابنيّ حلفى: «هل تعلمان، أنتما، إلى أين نمضي؟»
«قال يسوع إنّه يريد المضيّ صوب الشمال، ليس أكثر.» يقول يوضاس بن حلفى بإيجاز.
«مرّة أخرى؟ في أوّل الشهر علينا البدء برحلة الفصح...» يقول بطرس بلا كثير حماس.
«سوف نَصِل إلى هناك في الوقت المحدّد» يُجيب تدّاوس.
«نعم. ولكن بغير استراحة في بيت صيدا...»
«سوف نمرّ مِن هناك بالتأكيد لأخذ النساء ومارغزيام» فليبّس يُجيب بطرس.
«هذا ما أرجوكم فِعله، ألّا تُظهِروا ضيقاً أو عدم حماس أو أيّ شيء آخر. فيسوع حزين جدّاً... أمس مساء كان يبكي. فبينما كنّا نُحضِّر العشاء وجدتُه يبكي. لم يكن يُصلّي على الشرفة، كما كنّا نفكر. ولكنّه كان يبكي.» يقول يوحنّا.
«لماذا؟ هل سألتَه عن ذلك؟» يقول الجميع.
«نعم. ولكنّه قال لي فقط: "أحبّني يا يوحنّا".»
«قد يكون... بسبب سكّان قورازين.»
الغيور الذي يَصِل يقول: «المعلّم قد وَصَلَ مع برتلماوس. هيّا بنا لملاقاتهما.»
يَمضون وهُم يُتابعون الحِوار: «أو بسبب يهوذا. فأمس مساء بَقِيا وحدهما...» يقول متّى.
«نعم! وكان يهوذا قد أَعلَنَ قبلها أنّه كان مضطرباً ولا يريد أحداً معه» يُعلّق فليبّس.
«حتّى المكوث مع المعلّم لم يَقبَله! وأنا الذي كنتُ سأقبل بكلّ طيب خاطر!» يتنهّد يوحنّا.
«وأنا كذلك!» يقول كلّ مِن الآخرين جميعاً.
«هذا الرجل لا يعجبني... فإمّا أنّه مريض أو مسحور أو مجنون أو به مسّ شيطانيّ... به شيء ما» يقول تدّاوس جازماً.
«ومع ذلك، ثِقوا أنّه كان مثاليّاً أثناء رحلة العودة. دافَعَ دائماً عن المعلّم وعن مصلحة المعلّم، كما لم يفعل أحد منّا قطّ. أنا، رأيتُه وسَمِعتُه! وآمُل ألا تَشُكّوا بكلامي» يؤكّد توما.
«هل تظنّ أنّنا لا نصدّقكَ؟ ولكن، لا، يا توما! وهذا يسعدنا أن يكون يهوذا أفضل منّا. ولكن هل تَراه؟ إنّه غريب الطّبع، نعم أم لا؟» يَسأَل أندراوس.
«آه! مِن جهة غريب الأطوار، فهو كذلك. ولكنّه قد يكون يتألّم مِن أجل أمور حميميّة... كذلك قد يكون الأمر بسبب أنّه لم يَفعَل المعجزات. إنّه مُتفاخِر قليلاً. آه! مِن أجل نهاية سعيدة! ولكنّه حريص على أن يفعل الكثير، وأن يكون ممدوحاً...»
«هوم! ممكن! المهمّ أنّ المعلّم حزين. انظروا إليه. إنّه يبدو وكأنّه غير الرجل الذي عرفناه. إنّما لِيَحى الربّ! لو نجحتُ في اكتشاف مَن الذي يجعل المعلّم يتألّم... فإنّني أعرف ما الذي سأفعله له» يقول بطرس.
يسوع الذي كان في حِوار متواصل مع نثنائيل، يراهم ويحثّ الخطى مبتسماً.
«السلام معكم. هل أنتم جميعاً هنا؟»
«ينقصنا يهوذا بن سمعان... كنتُ أظنُّه عندكَ، إذ قيل لي، في البيت، حيث كان مِن المفروض أن ينام، إنّ الغرفة وُجِدَت خالية وكلّ شيء مرتب...» يَشرح أندراوس.
يُقطِّب يسوع جبينه للحظة ويُفكِّر في تركيز خافضاً رأسه. ثمّ يقول: «لا يهمّ، فلنمض. سوف تقولون لأصحاب البيوت الأخيرة إنّنا ماضون إلى ميرون، ثمّ إلى جسكالا. وإذا ما بَحَثَ عنّا يهوذا فليرسلوه إلى هناك. هيّا بنا.»
يَشعر الجميع بالعاصفة في الأجواء، ويُطيعون دون أن ينبسوا ببنت شفة. ويُتابع يسوع حديثه مع برتلماوس، وهما يَسبقان الآخرين بمقدار بضعة خطوات. وأَسمَع أسماء كبيرة ترد أثناء حديثهما: هِلّيل، ياعيل، باراق، وأمجاد الوطن التي تهفو في الأرواح، وأحاديث، وتعابير الإعجاب بالأحبار العِظام. والحسرات في فم برتلماوس…
«آه! لو كان الحكيم ما يزال حيّاً! هِلّيل كان صالحاً، إنّما قويّاً كذلك. لم يكن ليضطَرِب. هو بذاته كان سيدينكَ!»
«لا تهتمّ، يا برتلماوس! وبارِك العليّ لأخذه إيّاه إلى سلامه. وهكذا لم يعرف روح الحكيم الاضطراب بسبب هكذا حِقد تجاهي.»
«ربّي! ليس الحقد فقط!...»
«حقد أكثر مِن الحبّ يا صديقي. وهكذا سيكون على الدوام.»
«لا تحزن، فنحن سوف ندافع عنكَ...»
«ليس الموت هو ما يقلقني... بل رؤية خطيئة الناس.»
«الموت، لا!... لا تتحدّث عن الموت. لن يتوصلوا إلى هذا... لأنّهم خائفون...»
«سوف يكون الحقد أقوى مِن الخوف. يا برتلماوس، عندما أموت، عندما أُصبِح بعيداً، في السماء المقدّسة، قُل ذلك للناس: "هو، قد تألّم مِن حقدكم أكثر مِن الموت"...»
«يا معلّم! يا معلّم! يا معلّم! لا تقل هذا! فلن يحقد عليكَ أحد إلى الدرجة التي يجعلكَ معها تموت. وأنتَ، يمكنكَ منعه دائماً، أنتَ يا مَن لكَ السُّلطان...»
يبتسم يسوع ابتسامة حزينة، أقول يائسة، بينما هو يرتقي الطريق الجبليّة المؤدّية إلى ميرون بخطى منتظمة. وكلّما صَعَدَ المرء، اكتشَفَ مشهداً رحبّاً جميلاً على بحيرة طبريّا، التي تبدو في ممرّ أخدود على الروابي المجاورة على شكل قوس يقطع النَّظَر على بحيرة ميرون، ثمّ فيما وراء بحيرة طبريّا، على الهضبة العليا ما بعد الأردن، وحتّى سلسلة جبال حوران البعيدة المزركشة، وطراخونيطس [اللَّجاة] والبيريه.
ومع ذلك يُحدّد يسوع الاتّجاه الشماليّ، الشمال-شرق قائلاً: «علينا الذهاب هناك بعد الفصح، إلى رُبع فليبّس. وبالكاد يكون لدينا متّسع مِن الوقت لنكون في أورشليم في العنصرة.»
«ولكن ألا يناسبكَ فِعل ذلك حالاً؟ مروراً بالجهة الأخرى للأردن، باتّجاه منابعه... والعودة عن طريق المدن العشر...»
يُمرِّر يسوع يده على جبهته، بإعياء مِن ذهن مُعَكَّر، ويتمتم: «لا أعرف، لا أدري بعد!... برتلماوس!...» يا له مِن تَخبُّط، ومِن ألم، ومِن مناشدة في صوته!...
ينحني برتلماوس قليلاً، كما لو أنّ هذه اللهجة الجديدة والغريبة لدى يسوع قد جرحته، ويقول وقد جعله حبّه لاهثاً: «ما بكَ يا معلّم؟ ما الذي تبغيه مِن نثنائيل العجوز؟»
«لا شيء يا برتلماوس... صلاتكَ... لكي أرى جيّداً ما ينبغي لي فِعله... ولكن ينادون علينا، برتلماوس... فلنتوقّف هنا...»
يتوقّفان أمام مجموعة مِن الأشجار. ويَنفَذ الآخرون مِن منعطف الدرب جماعة: «يا معلّم، يهوذا يتبعنا راكضاً وقد انقطع نفسه...»
«إذن فسوف ننتظره.»
وبالفعل ظَهَرَ يهوذا بعد ذلك راكضاً... «يا معلّم... لقد تأخّرتُ... ظللتُ نائماً و...»
«أين، إذا كنتُ لم أجدكَ في المنـزل؟» يَسأَله أندراوس بدهشة.
يبقى يهوذا لدقيقة منذهلاً، ولكنّه يتمالك نفسه بسرعة قائلاً: «آه! لا يروق لي أن يكون فِعلي التكفيريّ معروفاً! لقد بقيتُ في الغابة طوال الليل، أصلّي وأفعل الإماتات.. وفي الفجر غَلَبَني النعاس... فأنا ضعيف... ولكنّ الربّ العليّ سيرأف بخادمه المسكين. أليس كذلك يا معلّم؟ واستيقظتُ متأخّراً مُنهَك القوى.»
«بالفعل وجهكَ ذاوٍ تماماً» يُعلّق يعقوب بن زَبْدي.
يضحك يهوذا: «طبعاً! ولكنّ نفسي أكثر فرحاً. فالصلاة تنفع. الكفّارة تجعل القلب مبتهجاً، وأيضاً متواضعاً وسخيّاً. أيّها المعلّم اغفر ليهوذا الأبله...» ويجثو عند قدميّ يسوع.
«نعم. هيّا انهض ولنمضِ.»
«امنحني السلام بقبلتكَ. فتكون دلالة على مسامحتك إيّاي لمزاجي السيّيء أمس. لم أكن أريدكَ، صحيح، ولكنّ ذلك كان لأنّني كنتُ أريد أن أصلّي...»
«كان بإمكاننا الصلاة معاً...»
يضحك يهوذا ويقول: «لا، لم يكن بإمكانكَ الصلاة معي الليلة الفائتة، أو أن تكون حيث كنتُ...»
«آه! مثلاً! لماذا؟ إنّه معنا على الدوام وهو الذي علّمنا الصلاة!» يقول بطرس مندهشاً.
يضحك الجميع إلّا يسوع. يُحدّق بيهوذا الذي يُعانِقه وينظر إليه بعين جذلى بِمَكر لاذع، كما لو أنّه كان يتحدّاه.
يتجرّأ ويُكرّر: «أليس صحيحاً أنّكَ لم تكن لتستطيع أن تكون معي هذه الليلة؟»
«لا، لم أكن لأستطيع ذلك. لم أكن أستطيع، ولن أستطيع مطلقاً، بالفعل، إنّ كائناً ثالثاً، مثلكَ، ليس سوى لحم ودم، وفي الأمكنة التي ترتادها، لا يمكنه مشاركتي عِناق روحيّ مع أبي. فأنا أحبّ العزلة التي يَسكنها الملائكة لأنسى أنّ الإنسان هو نتانة جسد أفسدته الشهوة والذهب والعالم والشيطان.»
لم يعد يضحك يهوذا ولا حتّى بعينيه. يُجيب بجدّيّة: «إنّكَ لعلى حقّ. لقد رأى روحكَ الحقيقة. إلى أين نحن ذاهبون إذن؟»
«لتكريم قبور عظماء وأبطال شعب الله.»
«ماذا؟ كيف؟ ولكن غَمَالائيل لا يحبّكَ، ولكن الآخرين يكرهونكَ» يقول البعض.
«لا يهمّ. أَنحني على قبور الأبرار الذين ينتظرون الفِداء. وسوف أقول لرفاتهم: "قريباً سيكون الذي مَنَحَ روحكم التنفّس في ملكوت السماء، مستعدّاً للنزول في اليوم الأخير ليجعلكم تعيشون في الفردوس للأبد".»
يَمشون، ويَمشون، حتّى يبلغوا بلدة ميرون: بلدة جميلة، منظّمة، مليئة بالأنوار والشمس وسط الهضاب الخصيبة والقمم المزروعة بالغابات.
«فلنتوقّف. بعد الظهر سنذهب مِن هنا، باتّجاه جيسكالا. إنّ القبور العظيمة منتشرة على طول تلك المنحدرات، في انتظار قيامة المجد.»