ج9 - ف13
أَنَا هُوَ
ماريا فالتورتا
L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO
THE GOSPEL AS REVEALED TO ME
بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}
L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ
MARIA VALTORTA
الترجمة إلى اللغة العربية: ماري حلمي وفيكتور مصلح.
الجزء التاسع
13- (الوصول إلى العلّية ووداع يسوع لأُمّه)
17 / 02 / 1944
أرى العلّية حيث سيجري تناول الفصح.
أراها بوضوح. إنّ بوسعي أن أعدّد كلّ خشونة في الجدران وكلّ شقّ في البلاط. إنّها غرفة ليست مربّعةً تماماً، إنّما هي مستطيلة بعض الشيء. وبين الجانب الأطول وذاك الأقصر قد يكون الفرق على الأكثر متراً أو يزيد قليلاً. السقف منخفض. ربّما يبدو هكذا بسبب اتّساعها الّذي لا يتناسب مع ارتفاعها. إنّها مقبّبة بعض الشيء، أي أنّ الجانبين الأقصر لا ينتهيان عند السقف بزاوية قائمة إنّما بانحناءة.
على الجانبين الأقصر نافذتان عريضتان، عريضتان ومنخفضتان، تطلاّن إلى الخارج. لا أرى إلى أين تطلاّن، أكان على فناء أم على طريق، لأنّهما مجهّزتان بأُطُر تبقيهما مغلقتين. قلتُ أُطُر: ولا أدري إن كانت الكلمة الصحيحة. هي مصاريع مِن ألواح خشبية مغلقة بإحكام بقضيب حديديّ يعبرها. البلاط مِن مربّعات كبيرة مِن الآجرّ المشويّ وقد أشحب الزمن لونَها. في وسط السقف يتدلّى مصباح زيت برؤوس متعدّدة. أحد الجدارين الأطول ليس فيه فتحات. الآخر، على العكس، في ركنه باب صغير يفضي إلى سلّم بلا درابزين مِن ست درجات، تنتهي بمسطّح مساحته حوالي متر مربّع. وهذا عليه درجة أخرى على الجدار يُفتَح الباب على مستواها. لستُ أدري إذا ما كنتُ قد أجدتُ التعبير.
الجدران مبيّضة ببساطة، دون زينة ولا زخارف. وسط الغرفة، مائدة مستطيلة، طويلة جدّاً بالنسبة لعرضها، موازية للجدار الأطول، مصنوعة مِن خشب عاديّ جداً. عند الجدارين الأطول، هناك ما يقوم مقام المقاعد. قرب الجدارين الأقصر، مِن جهة تحت النافذة، صندوق فوقه أحواض وجِرار، وتحت النافذة الأخرى خزانة أطباق منخفضة وطويلة ليس عليها شيء الآن. هذا هو وصف الغرفة الّتي سيؤكل فيها الفصح.
طوال النهار وأنا أراها بوضوح، حتّى إنّي استطعتُ أن أحصي درجات السلّم وألاحظ كلّ التفاصيل. ثمّ، الآن وقد حلّ الليل، يصحبني يسوعي إلى الباقي مِن التأمّل.
أرى أنّ الغرفة تقود عبر السلّم الصغير ذي الدرجات الستّ إلى مدخل مظلم، عن يساره بالنسبة لي، باب واسع يفضي إلى الطريق، منخفض وثقيل جدّاً، مدعَّم بمسامير وصفائح حديديّة. وفي مواجهة الباب الصغير الّذي يؤدّي مِن العلّية إلى المدخل، باب آخر يؤدّي إلى غرفة أقلّ اتّساعاً. أحسب العليّة ناجمة عن اختلاف مستويات الأرض بالنسبة إلى بقيّة المنـزل والشارع، وهي تبدو كقبو، شبه كهف نظيف ومرتّب، ولكن دائماً تحت مستوى الأرض بحوالي المتر، ربّما لجعلها أكثر ارتفاعاً ومتناسبةً مع مساحتها.
في الغرفة الّتي أراها الآن، مريم مع نساء أخريات. أتعرّف على المجدليّة ومريم أُمّ يعقوب، يوضاس وسمعان. يبدو أنّهنّ وصلن للتوّ يرافقهن يوحنّا، إذ إنّهنّ يخلعن أرديتهن، وبعد أن يطوينها، يضعنها على المقاعد المتناثرة في الغرفة، في حين يحيّين الرسول الّذي يمضي، وامرأة ورجل يهرعان لدى وصولهنّ. لديّ انطباع بأنّهما صاحبا البيت وتلميذان أو مؤيّدان للناصريّ، ذلك أنّهما ممتلئان اندفاعاً وألفة مراعية للاحترام تجاه مريم.
ثوب مريم أزرق داكن، أزرق نيليّ داكن جدّاً. على رأسها وشاح أبيض يظهر عندما تخلع رداءها الّذي كان يغطّي حتّى رأسها. وجهها ذابل جدّاً. تبدو وكأنّها قد هَرِمَت. حزينة للغاية، رغم ابتسامتها الوادعة. شاحبة جدّاً. حتّى حركاتها متعبة ومشوّشة كما لإنسان مستغرق في أفكاره.
مِن الباب الموارب أرى المالك يروح ويجيء بين المدخل والعلّيّة، الّتي أضاءها بالكامل بإضاءة رؤوس مصباح الزيت المتبقّية. بعد ذلك يمضي إلى باب الشارع ويفتحه، ويدخل يسوع مع رسله. أرى أنّ الوقت مساء، إذ إنّ ظلال الليل قد غمرت الطريق الضيّقة بين المنازل العالية. إنّه مع الرُّسُل جميعهم.
يلقي على المالك تحيّته المعتادة: «السلام لهذا البيت»، ثمّ، بينما ينـزل الرُّسُل إلى العلّيّة، يدخل هو إلى الغرفة حيث مريم.
تحيّيه النساء التقيّات باحترام عميق ويمضين مغلقات الباب، كي يتركن مريم مع ابنها بحريّة.
يعانق يسوع أُمّه ويقبّلها على جبهتها. تُقبّل مريم أوّلاً يد ابنها ثمّ خدّه الأيمن. يُجلِس يسوع مريم ويجلس هو إلى جانبها على مقعد مجاور، يُجلِسها وهو يُمسك بيدها، ويبقى ممسكاً بيدها كذلك وهي جالسة.
يسوع أيضاً مستغرق، يفكّر، حزين، رغم اجتهاده في الابتسام. تدرس مريم تعابير وجهه بضيق. الأُمّ المسكينة الّتي تجعلها النعمة والمحبّة تدرك أنّها الساعة! انقباضات مؤلمة تجول على وجه مريم، وعيناها تتّسعان في رؤيا داخليّة لألم وحشيّ. ولكنّها لا تأتي بحركة. هي مهيبة مثل ابنها الّذي يُحدّثها، يحيّيها ويوصيها بالصلاة.
«أُمّي، أتيتُ لأستمدّ منكِ القوّة والتعزية. أنا مثل طفل صغير، يا أُمّي، محتاج إلى قلب أُمّه بسبب ألمه، وإلى صدر أُمّه لينال القوّة. لقد عدتُ، في هذه الساعة، يسوعكِ الصغير كما في الماضي. لستُ المعلّم يا أُمّي، أنا ابنكِ فقط، كما في الناصرة عندما كنتُ صغيراً، كما في الناصرة قبل أن أغادر الحياة الخاصّة. ليس لي سواكِ. إنّ الرجال، في هذه اللحظة، ليسوا بأصدقاء يسوعكِ الأوفياء. ليسوا حتّى شجعاناً في الخير. الأشرار فقط هم الثابتون والأقوياء وهم يصنعون الشرّ. إنّما أنتِ، أنتِ الوفيّة لي وأنتِ قوّتي، يا أُمّي، في هذه الساعة. اسنديني بمحبّتكِ وصلاتكِ. أنتِ وحدكِ تعلمين كيف تُصلّين في هذه الساعة وسط الّذين يحبّونني أكثر أو أقلّ. تُصلّين وتدركين. الآخرون في عيد، مستغرقون في أفكار العيد أو أفكار الجريمة، بينما أنا أتألّم مِن أمور كثيرة. أمور كثيرة ستموت بعد هذه الساعة. ومِن بينها بشريّتهم، وسوف يُحسِنون أن يكونوا أهلاً لي، كلّهم، عدا الّذي ضَلّ، والّذي ما مِن قوّة قادرة على أن تقوده على الأقلّ إلى التوبة، لكنهم حاليّاً ما زالوا غير واعين لا يدركون أنّني سوف أموت، فيما هم يبتهجون ظانّين أنّ انتصاري لم يكن يوماً بمثل هذا القرب. إنّ الهوشعنا الّتي كانت منذ بضعة أيّام قد أسكرتهم. أُمّي، مِن أجل هذه الساعة أتيتُ، وبشكل فائق الطبيعة أراها بفرح آتية. ولكنّ الأنا فيَّ تخافها أيضاً، لأنّ هذه الكأس تُدعى خيانة، جحوداً، شراسة، تجديفاً، تخلّياً. اعضديني يا أُمّي. كما عندما جذبتِ إليكِ روح الله بصلاتكِ، لتعطي بواسطته للعالم مَن تنتظره الأمم، اجذبي لابنكِ الآن القوّة الّتي تساعدني في إتمام العمل الّذي مِن أجله أتيتُ. الوداع يا أُمّي، باركيني يا أُمّي، حتّى باسم الآب. واغفري للجميع. فلنغفر معاً، منذ الآن فلنغفر للّذين يعذّبوننا.»
إنّ يسوع قد انزلق وهو يتكلّم عند قدميّ أُمّه، على ركبتيه، ينظر إليها وهو يعانق خصرها.
تبكي مريم بلا أنين، وجهها مرتفع قليلاً في صلاة داخليّة لله. تسيل الدموع على وجنتيها الشاحبتين وتسقط على صدرها وعلى رأس يسوع الّذي يتّكئ في النهاية على قلبها. ثمّ تضع مريم يدها على رأس يسوع كما لو كانت تباركه، ثمّ تنحني، تُقبّل شعره، تمسحه، تربت على كتفيه، ذراعيه، تأخذ وجهه بين يديها وتديره إليها وتضمّه إلى قلبها. وتُقبّله مرّة أخرى، وهي تبكي، على جبهته، على خدّيه، على عينيه المتألّمتين، تهدهد لهذا الرأس المسكين المتعب، كما لو كان طفلاً، كما رأيتُها تهدهد في المغارة لوليدها الإلهيّ. ولكنّها لا تغنّي الآن. تقول فقط: «ابني! ابني! يسوع! يسوعي!» إنّما بصوت يمزّقني.
ثمّ ينهض يسوع مجدّداً. يسوّي رداءه، يلبث واقفاً في مواجهة أُمّه الّتي ما زالت تبكي، وبدوره يباركها. ثمّ يتوجّه إلى الباب، وقبل أن يخرج، يقول: «أُمّي، سأرجع ثانية قبل أن آكل فصحي. صلّي في انتظاري.» ويخرج.