ج2 - ف1

أَنَا هُوَ

ماريا فالتورتا

L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO

THE GOSPEL AS REVEALED TO ME

بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}

L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ

MARIA VALTORTA

الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.

 

الجزء الثاني

{السنة الأولى في الحياة العلنية}

القسم الأوّل

 

1- (وداع يسوع لأُمّه لدى مغادرته الناصرة)

 

09 / 02 / 1944

 

بَدَأَت الرؤيا أثناء التناول المقدّس.

 

أرى بيت الناصرة مِن الداخل. غرفة، تبدو وكأنّها غرفة المعيشة حيث تتناول العائلة طعامها وتسترخي في ساعات الاستراحة. إنّها غرفة صغيرة جدّاً، تحوي بكلّ بساطة طاولة مستطيلة وصندوقاً مُلاصِقاً لأحد الجدران، وهو يُستَخدَم ككرسيّ في أحد أطراف الطاولة. وعلى بقيّة الجدران يوجد نول نسيج وكرسيّ، ثم كرسيّان آخران ورفّ عليه قناديل زيت وأغراض أخرى، وباب مفتوح على الحديقة الصغيرة. حتماً هو المساء، إذ لم يبقَ سوى بقيّة شُعاع شمس على رأس شجرة باسِقة، وهي بالكاد بدأت بالاخضرار مع أولى وريقاتها.

 

يَجلس يسوع إلى الطاولة يأكل، ومريم تخدمه، فتذهب وتعود مِن باب صغير أظنّه يؤدّي إلى حيث الـمُوقِد الذي نرى وميضه مِن خلال الباب الـمُوارَب.

 

يَطلب يسوع مِن مريم مرّتين أو ثلاث مرّات أن تجلس وتأكل، ولكنّها تأبى وتهزّ رأسها وهي تبتسم ابتسامة حزن. ثمّ تجلب الخضار المسلوقة التي تبدو أنّها تحلّ محلّ الحساء، وسمكاً مقليّاً، ثمّ جبناً طريّاً بشكل كتلة تذكّرني بحجارة السيل المتدحرجة، ثمّ بعض الزيتون الأسود الصغير. على الطاولة خبز مدوّر واسع مثل طَبَق عاديّ سميك قليلاً. إنّه بالأحرى أسود لأنّه يحتوي على النخالة. أمام يسوع جَرّة ماء وكأس. وهو يأكل بصمت، بينما يَنظر إلى أُمّه بحبّ متألّمِ.

 

مريم تعاني بشكل جليّ. إنّها تذهب وتجيء لتتمالَك نفسها. وعلى الرغم مِن أنّ نور النهار ما يزال كافياً فقد أَشعَلَت قنديلاً ووَضَعَته أمام يسوع، وهي تمدّ يدها لتُداعِب رأسه خِلسة. ثمّ تَفتَح خِرجاً مِن الصوف الخام منسوجاً يدويّاً وهو غير نَفوذ، بنيّ اللون، تبحث في داخله، وتَخرُج إلى الحديقة الصغيرة ماضية إلى آخرها، تَدخُل بيت المؤونة لِتَخرُج بعدها ومعها تفّاحات مجعّدة، مِن المؤكّد أنّها تحتفظ بها مِن الصيف، وتضعها في الخِرج، ثمّ تأخذ رغيفاً وقطعة جبن وتضيفها رغم أنّ يسوع لا يريد ويقول إنّ بقيّة الأغراض تكفي.

 

تقترب مريم مجدّداً مِن الطاولة، مِن الجانب الأكثر ضيقاً على يسار يسوع وتنظر إليه يأكل. تنظر إليه بأسى، بهيام، بوجه أكثر شحوباً مِن المعتاد، يبدو وكأنّ المعاناة جَعَلَته يشيخ، بعينين أكثر اتّساعاً بسبب هالة مُزرَورَقة حولهما، وهي دليل على الدموع الـمَذروفة. إنّهما تبدوان أكثر بريقاً مِن المعتاد وقد غَسَلَتهُما الدموع التي تملأهُما، وهي على وشك أن تنهَمِر. عينين متألِّمَتَين وتَعِبَتَين.

 

واضح أنّ يسوع يأكل بدون شهيّة، إنّما فقط ليُرضي والدته. إنّه يفكّر أكثر مِن المعتاد، يرفع رأسه وينظر إلى مريم، يُقابِل نظرة مليئة بالدموع فيخفض رأسه احتراماً لمشاعرها. يكتفي بأخذ يدها الناعمة التي تسندها على حافّة الطاولة. يمسك بها بيده اليسرى ويَحملها إلى خدّه الذي أسندها إليه ومرّره عليها ليشعر بملاطفة تلك اليد المسكينة التي ترتجف، ثمّ يُقَبِّلها مِن ظهرها بكثير مِن الحبّ والاحترام.

 

أرى مريم تأخذ يدها الحرّة، اليسرى، إلى فمها، كما لتخنق بكاءها. ثمّ تمسح بأصابعها دمعة تجاوزت الرموش وسالت على خدّها. يُعاوِد يسوع الأكل وتَخرج مريم بسرعة إلى الحديقة الصغيرة التي ما زال فيها بقيّة مِن نور، وتختفي.

 

يَسند يسوع مِرفقه الأيسر على الطاولة، ويَسند جبهته على يده ويَغرَق في أفكاره ناسياً الأكل، يصيخ السمع ويَنهَض.

 

يَخرُج هو كذلك إلى الحديقة، وبعد أن ينظر حوله يتوجّه إلى يمين المنزل ويَدخُل إلى مغارة، تَعَرَّفتُ مِن داخلها أنّها مشغل النِّجارة، إنّما هذه المرّة بشكل مرتّب دون ألواح، دون زوائد خشبيّة ودون نار مُضطَرِمة. توجد طاولة النِّجارة والعِدَد، كلّ غرض في مكانه. وهذا كلّ شيء.

 

مريم منحنية على الطاولة تبكي وكأنّها طفلة. تسند رأسها على ذراعها الأيسر المنثني. تبكي دون صوت ولكن بألم. يَدخُل يسوع بهدوء ويقترب بخفّة، حتّى إنّها لم تتنبّه إلاّ حينما يضع ابنها يده على رأسها وهو يناديها «ماما!» بنغمة فيها عَتَب مُحِبّ.

 

تَرفع مريم رأسها وتَنظُر إلى يسوع مِن خلال وشاح مِن الدموع. تَستَنِد إليه ضامّة يديها على ذراعه الأيمن. يمسح يسوع وجهها بطرف كُمّه العريض، ويشدّها بذراعيه إلى قلبه طابعاً قبلة على جبهتها. يسوع وَقور، يبدو أكثر رجولة مِن المعتاد، ومريم تبدو أكثر شباباً ما عدا وجهها الـمُتَّسِم بالألم.

 

يقول لها يسوع: «تعالي يا ماما» وهو يشدّها بذراعه الأيمن إليه بقوّة، يسير عائداً إلى الحديقة حيث يَجلس على مقعد مُلاصِق لجدار المنزل.

 

الحديقة صامتة الآن وقد أقبَلَ الليل. هناك فقط نور قمر جميل، ووميض مُنبَعِث مِن غرفة الطعام. الليل ساكن. يسوع يتكلّم مع مريم. لم أُدرِك في البدء الكلمات التي كانت بالكاد مهموسة والتي تُوافِق مريم عليها بانحناءة مِن رأسها.

 

ثمّ أَسمَع: «دعي الأهل يأتون. لا تبقي وحيدة. سأكون أكثر اطمئناناً أثناء تأدية رسالتي. ولن يسيء حبّي إليكِ. سوف آتي غالباً، وسأخبركِ حين أكون في الجليل ولا أستطيع العودة إلى البيت، فتأتين حينذاك لرؤيتي. ماما، كان يجب أن تحين هذه الساعة... لقد بَدَأَت هنا عندما ظَهَر لكِ الملاك؛ والآن هي تدقّ ويجب أن نحياها، أليس كذلك يا أُمّاه؟ وبعدها سيأتي سلام الاختبار الذي سنجتازه والفرح. إنّما ينبغي أوّلاً أن نَعبُر هذه الصحراء مثل أجدادنا للدخول إلى أرض الميعاد. ولكنّ الربّ سيساعدنا كما ساعَدَهم. سـوف يمنحنا عونه مثل مَنّ روحيّ لتغذية أرواحنا عندما يشتدّ الاختبار. فلنقل معاً لأبينا...»

 

يَنهَض يسوع ومريم معه. يرفعا نظريهما صوب السماء. إنّهما ذبيحتان حيّتان تتألّقان في الليل. يسوع يقول ببطء، إنّما بصوت جليّ، مُفَصِّلاً الكلمات، الصلاة الربّانية. وشَدَّدَ على الجملتين: «ليأتِ ملكوتكَ. لتكن مشيئتكَ.» مُفَصِّلاً إيّاهما جيّداً أكثر مِن الجُّمَل الأخرى. إنّه يصلّي وذراعاه ممدودتان، ليس بالضبط على شكل صليب، إنّما مثل الكاهن حينما يقول: «ليكن الربّ معكم». وتُبقِي مريم يديها مضمومتين.

 

ثمّ يَعودان إلى البيت، ويسوع الذي لم أَرَهُ أبداً يشرب الخمر، يَسكُب في كأس، مِن جرّة على الرفّ، قليلاً مِن النبيذ الأبيض ويحملها إلى الطاولة. يأخذ مريم مِن يدها ويجعلها تجلس إلى جانبه وتشرب مِن هذا النبيذ، حيث يَغمِس كِسرَة خبز ويُطعِمها إيّاها، ومريم تُذعِن نتيجة الإلحاح. ويَشرَب يسوع ما تَبَقَّى مِن الخمر.

 

ثمّ يشدّ أُمّه إليه، إلى قلبه. يسوع ومريم ليسا متَّكِئَين، بل هُما جالسان مثلنا للطعام. لقد توقّفا عن الكلام، إنّهما ينتَظِران. مريم تُلاطِف يد يسوع اليمنى وركبتيه. ويسوع يُلاطِف ذراع مريم ورأسها.

 

ثمّ يَنهَض يسوع وتَنهَض مريم معه. يتعانقان ويتلاثمان مرّات كثيرة، كثيرة. يبدوان في كلّ لحظة أنّهما يريدان الافتراق، ولكنّ مريم تُعاوِد شدّ ابنها إليها. إنّها السيّدة العذراء... ولكنّها أُمّ، وباختصار هي أُمّ فُرِضَ عليها الانفصال عن ابنها، وهي التي تَعرِف إلى أين سينتهي به هذا الانفصال. فلا يقولنَّ بعد أحد إليَّ إنّ مريم لم تتألّم. لقد كنتُ أعتَقِد بذلك سابقاً، أمّا الآن فاعتقادي أكثر رسوخاً.

 

يَأخذ يسوع معطفه الأزرق القاتم، ويتدثّر به على كتفيه، ويغطّي رأسه بالقبّعة. ثمّ يَحمِل الخِرج وَربَاً على صدره لكيلا يضايق مسيره. ومريم تساعده ولا تنتهي مِن ترتيب ثوبه، المعطف والقبّعة، وبين الحين والحين تُلاطِفه أيضاً.

 

يتوجّه يسوع صوب الباب بعد أن يقوم بإشارة بَرَكَة للبيت، فتتبعه مريم، وعند العَتَبَة يتلاثمان للمرّة الأخيرة.

 

الطريق صامتة ومُوحِشة، مضاءة بالقمر. يبدأ يسوع رحلته. يلتَفِت مرّتين لينظر إلى أُمّه التي تظلّ مُستَنِدة إلى الباب، أكثر بياضاً مِن القمر، ومُشِعَّة خلف دموعها الصامتة. يبتعد يسوع باطّراد على الطريق البيضاء، ومريم ما تزال تبكي مُستَنِدَة إلى الباب. ثمّ يختفي يسوع عند المنعطف.

 

لقد بَدَأَ طريقه كَكارِز، الطريق التي ستنتهي في الجلجلة. تَدخُل مريم وعيناها تدمعان وتُغلِق الباب. وهي كذلك قد بَدَأَت طريقها التي ستقودها إلى الجلجلة...