ج6 - ف86

أَنَا هُوَ

ماريا فالتورتا

L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO

THE GOSPEL AS REVEALED TO ME

بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}

L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ

MARIA VALTORTA

الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.

 

الجزء السادس/ القسم الأول

 

86- (مع الأطفال قرب يافا... يد يسوع الشافية / الوداع في يافا)

 

07 / 02 / 1944

(مع الأطفال قرب يافا... يد يسوع الشافية)

في اتّجاه يافا: يبلغون بيت سارة. استقبال فَرِح مِن سارة وأولادها الثلاثة. يسوع سعيد مع أولاد سارة ويواكيم. يسوع يُعلّم الأولاد انطلاقاً مِن الأمور البسيطة. أصبح الآن محاطاً بسور مِن أولاد البيت. يسوع يشفي طفلاً يحتضر. تتفحّص ماريّا فالتورتا، بناء على طلبه، يد يسوع اليمنى العجائبيّة. لديها انطباع بأنّ يدها أصبحت مقدّسة للمسها ذخيرة مقدّسة.

 

رؤيا الاثنين 7 شباط 1944 الساعة 18

 

فرحي اليوم: أرى موقعاً جبليّاً. أجهل أين يكون. هناك فجّ وسط جبال تحيط سلسلتها وادياً، في عمقه يطفر سيل مُزبِداً. إنّه ضيّق إنّما، ككلّ مجاري المياه الجبليّة، يحتدّ عند مساقط صغيرة. في قبالتي يتّجه صوب الجنوب. فيما وراء منحدر آخر ينحدر بحدّة ووادٍ آخر، تُلاحَظ عدّة مرتفعات بعيدة.

 

أُدرِك أنّها مجموعة مرتفعات، ليست عالية جدّاً، بالتأكيد، إنّما هي أكثر مِن روابي. هذا يشبه أماكن كثيرة في الأبينين الّذي لنا، في وادي ماغرا مثلاً أو ضواحي بوريتا. الخُضرة فيها ملائمة لتربية الخراف أكثر مِنه لمزروعات أخرى. حقول خضراء تنحدر على منحدر لطيف أو ترتفع هنا وهناك على منحدرات شديدة حيث الأجزاء الأكثر انخفاضاً تبدو وكأنّها تتّخذ، في هذا الوقت مِن الغسق، حسبما يبدو لي، صبغة بنفسجيّة نيليّة. يُفتَرَض أن تكون بداية الصيف، حيث إنّ العشب جميل، وقد نما، ولم تحرقه الشمس بعد.

 

مِن المكان الّذي أنا فيه، أرى درباً معدّاً للبِغال يصعد صوب إحدى القرى ويتغلغل بين البيوت. طريق جبليّة نموذجيّة، كثيرة الحجارة، كثيرة اختلاف التسوية. تصعد مِن الجنوب صوب الشمال (في مواجهتي على الدوام)، لتخترق القرية وتمضي لتلتقي بالسيل الصغير، الّذي يجري بالاتّجاه المعاكس، ليس مِن جهة السَّكن، إنّما هو يتوجّه صوب عمق الوادي الصغير.

 

هناك أيضاً طريق أخرى، مِن الوادي، ترتقي أنف الجبل حيث بنيت القرية. هي ضيّقة حتّى إنّها تشبه بالأحرى العرقوب، تحاذي خطّ القمّة. أدنى منها، الجبل المغطّى بالمراعي الخضراء، ينحدر بشكل حادّ وصولاً إلى السيل الـمُزبِد، تقتحم بعده بعض المروج جبالاً أخرى مجتمعة في الشرق.

 

يصعد يسوع عبر هذا الدرب مع بعض الرُّسُل فقط: أتعرّف إلى بطرس وأندراوس ويوحنّا ويوضاس؛ أين هم الباقون؟ يسوع، المرتدي الأبيض والملتحف معطفاً أزرق غامقاً -بأكثر دقّة بلون البحر- هو حاسر الرأس ويسير برشاقة، وحيداً. في الخلف، جماعة، الرُّسُل الأربعة يتناقشون. يسوع الّذي يسبقهم ببضعة أمتار لا يقول شيئاً. هو يفكّر ويراقب الجّوار.

 

في لحظة ما، الدرب يحاذي جداراً مِن الحجارة الجافّة، كما لمنع التربة مِن الانزلاق إلى الوادي، ويبدو لي أنّه يحدّ ملكيّة خاصّة. يلج إليها يسوع. أشجار تفّاح وجوز وتين تنتصب هنا وهناك في المراعي المعتنى بها جيّداً. جميعها مصانة بدقّة متناهية ومغطّاة بالفاكهة.

 

يتوقّف يسوع للحظة في المكان حيث بالضبط أنف الجبل يشكّل نوعاً ما المثلّث الحادّ، شبيهاً بمقدّم الـمَركَب. يستند إلى الجدار وينظر إلى الأعلى، إلى الأسفل وحوله. ينتظر صعود الرُّسُل، خاصّة بطرس، البطيء. عندما يجتمعون كلّهم، يقول لهم شيئاً لم أفهمه، وهو ينحني قليلاً ليتحدّث، ذلك أنّه أطول منهم كثيراً. لم أسمع الكلام، بل أنا أخمّن القصد، ذلك أنّني أرى يوضاس يتوجّه صوب بيت مبنيّ على طرف الجدار.

 

هو بيت مختلف تماماً عن بيت قانا! ليس له شرفة على السطح، بل تعلوه نوع مِن القُبّة المنحنية، قد تكون مِن أجل منع ثلج الشتاء مِن التراكم. بحسب منظر المكان، بالفعل، فالشتاء يحمل الثلوج أو على الأقلّ الأمطار بغزارة. عوضاً عن هذه الشرفة الناقصة، فيه إلى أحد جوانبه نتوء يبرز منه السلّم، الخارجيّ دائماً، إنّما المحميّ بسقف يبرز عنه. هذا النتوء يشكّل، على الأرض، رواقاً، وفي الأعلى ممرّاً مغطّى.

 

البيت، الأبيض بكلّيته، يتفرّد على الخُضرة المحيطة. في المقدّمة هناك أرض رحبة مغطّاة بالعشب الأخضر، وفي وسطها بئر محاط بالأشجار المثمرة مزروعة هناك بغية إنشاء بستان، ذلك أن زهوراً منثورة في محيطه، مُشَكّلة دوائر زهر. لديَّ انطباع أنّه بيت أشخاص ميسورين وأكثر رهافة مِن بيت قانا.

 

الطريق المعدّة للبغال تمرّ بجانب البيت، بشكل يمكن معه بلوغها بسهولة، وكذلك بواسطة طريق مختصرة. سياج العلّيق لا يشكّل عائقاً لا يمكن تجاوزه، وأقلّ أيضاً الحاجزان الـمُشَبّكان الريفيّان حيث يكفي دفعهما.

 

يدخل يوضاس إلى البيت دون كلفة، كما لو كان يعرف سكّانه معرفة كاملة. تخرج في الحال امرأة متهلّلة، يحيط بها أولاد ثلاثة، تحمل أصغرهم بين ذراعيها. مبتسمة تتقدّم صوب يسوع الّذي يصل في هذه الأثناء إلى البئر.

 

ألاحظ أنّ هذه المرأة سمراء جميلة جدّاً في حوالي الثلاثين مِن عمرها. شعرها الأسود والمجعّد، مُسَرّح هو في جديلتين تحيطان برأسها. كذلك عيناها سوداوان وكبيرتان.

 

لها أنف معقوف وشفتان ضخمتان، حمراوان جدّاً. كبيرة هي ومكتملة النموّ. أشير أيضاً إلى أنّ لبسها مختلف عن لبس مريم والنساء الأخريات اللواتي رأيتهنّ في قانا: هي كذلك ترتدي ثوباً طويلاً باللون الأزرق الفاتح جدّاً، ولكنّها تتلفّف بشكل كامل بما يشبه الشال الأزرق الداكن، مشدوداً عليها مبيّناً تفاصيل شكلها، يمرّ مِن تحت باطن الكتفين مِن الجانبين، ثمّ الهدب الأعلى يلفّ خلف كتفها الأيسر إلى رأسها الّذي يغطّيه. حواشي الطرف تتدلّى على جبهتها. كلّ ذلك يحملني على التفكير بأنّها ليست جليليّة، ذلك أنّ ميّزاتها الجسديّة وطريقة لبسها تختلف عمّا لاحظته لدى النساء الجليليّات.

 

الطفل الّذي تحمله بين ذراعيها، الأسمر مثلها، لا يتعدّى عمره السنتين على الأكثر. هو طفل جميل يرتدي قميصاً مِن الصوف الأبيض. مِن بين إخوته فتاة في حوالي الستّ سنوات، مقصّبة الشعر  بالكامل، شعرها الأشقر المائل إلى الكستنائيّ وترتدي الورديّ الشاحب، إضافة إلى صبيّين أصغر منها يرتديان الجلباب القصير مِن الصوف الأزرق الفاتح مثل أُمّهما. يُفتَرَض أنّهما يعرفان يسوع جيّداً، ذلك أنّهما يتزاحمان حوله ضاحِكَين.

 

الأُمّ الشابّة تحيّي يسوع مبتسمة: «ادخل يا معلّم فبيتي هو بيتكَ!»

 

يجيبها يسوع: «فليكافئكِ الربّ!»

 

ثمّ، مادّاً ذراعه الأيمن –الأيسر منثنياً إلى صدره، يمسك بطرف المعطف-، يداعب الصبيّ. أرى يد يسوع الجميلة تلمس جبهة الصبيّ، الّذي يقوم بحركات ويخبّئ رأسه وهو يضحك تحت مرفق أُمّه؛ مِن هذا العشّ يراقب يسوع ويضحك بجلبة ليدعوه إلى تكرار حركته.  

 

بالقرب مِن البئر، تحت شجرة تفاح محمّلة بالثمار الّتي بدأت تنضج، هناك مقعد حجريّ. يجلس عليه يسوع، بينما المرأة تعاود الدخول إلى البيت لجلب إبريق. يدعوها يسوع لأن تعطيه الصبيّ، الّذي يُجلسه على ركبتيه بينما هي تَنتح الماء. تعود حاملة كوباً مليئاً ماء وآخر حليباً، تقدّمهما ليسوع. وتختار له أيضاً تفّاحات ناضجة مُبعِدة الخضراء منها، وتعطيه إيّاها. وتضع الكلّ في صينيّة موضوعة على المقعد إلى جانب يسوع. يُفهَم مِن ذلك أنّها فعلت الـمِثل مرّات أخرى: فهي تعلم ما الّذي يرضيه.

 

لحق الرُّسُل بيوضاس وشربوا هم كذلك تحت القناطر.

 

يشرع يسوع بشرب الماء؛ ما يزال يضمّ الصبيّ ويبتسم لأنّ الولد يشدّ له شعره ولحيته. الثلاثة الآخرون يحيطون به. يمسك يسوع بالتفّاح ويعطيها الواحدة تلو الأخرى للثلاثة الأكبر، ثمّ يأكل واحدة هو كذلك. بالمقابل يعطي الصغير الحليب مِن الكأس ثمّ يشرب هو منه. يسوع مسرور. يضحك كما لم أره يضحك أبداً.

 

البنت الصغيرة تقف عند ركبتيه، وبكلّ ثقة، تضع رأسها على صدره. يسوع يداعب شعرها المقصّب. الصبيّان الصغيران كانا قد ابتعدا وهما يجريان ليعود الواحد وهو يمسك بطير حمام ضامّاً إيّاه إلى صدره، والآخر يجرّ حَمَلاً صغيراً مِن أذنه عمره بضعة أيّام وهو يثغو يائساً. يعرضان على يسوع كنوزهما.

 

يهتمّ للأمر، ولكن، إذ تأخذه الشّفقة أمام ظروف الحيوانين المسكينين، يأخذ طير الحمام، ينظر إليه بإعجاب، ثمّ يدعه يطير إلى عشّه. بعد ذلك يرفع الحَمَل على المقعد ملاطفاً إيّاه، يحفظه بأمان إلى حين عودة أُمّ الأولاد، ويعيده إلى مكانه.

 

الفتاة الصغيرة الّتي لا تملك شيئاً آخر، تنحني، تضمّ باقة مِن الزهور وتقدّمها ليسوع.

 

حتّى مع هؤلاء الأولاد يسوع هو المعلّم، ومحافظاً على إبقاء الطفل بين ذراعيه، يتحدّث إلى الأكبر سنّاً عن الزهور "الجميلة للغاية وقد خلقها الآب السماوي، مِن أكبرها حجماً إلى أصغرها. والّتي هي في عينيّ الله هي بجمال الأطفال عندما يكونون طيّبين. إذن، كي يكونوا طيّبين عليهم التشبّه بها: لا تُسبّب الأذى لأيّ كان، إنّما تمنح الجميع العطر والفرح، وتُتِمّ مشيئة الربّ على الدوام، بالنموّ حيث يشاء هو، بالتفتّح متى يشاء هو، وتركه يقطفها إذا كان ذلك يرضيه."

 

يتحدّث عن طيور الحمام "الأمينة لأعشاشها والنظيفة لدرجة أنّها لا تقف على شيء قذر. تتذكّر بيتها على الدوام، والله يحبّها بالضبط بسبب وفائها وطهارتها. على أولاد الله التشبّه بهذه اليمامات الّتي تحبّ بيت الله حيث تبني عشّ حبّها، والّتي، كي تبقى أهلاً لذلك، تعرف كيف تحافط على طهارتها.

 

يأتي بعد ذلك إلى الحِملان "الوديعة للغاية، الصبورة للغاية، المستسلمة للغاية، الّتي تؤمّن الصوف والحليب والجلد؛ الحِملان تقبل التضحية لخيرنا وتعطينا الـمَثَل الصالح للحبّ والوداعة. هي محبوبة مِن الله لدرجة أنّه أطلق على ابنه اسم’الحَمَل‘. الربّ يحب كأبناء مفضَّلين الّذين يحافظون على نَفْس حَمَل حتّى الموت.

 

بينما يتحدّث يسوع، يدخل أولاد آخرون إلى الحديقة. وبالغون أتوا هم كذلك للاستماع إليه. أُمّهات أخريات يقدّمن ليسوع أبناءهنّ، والبعض منهم مرضى، كي يلاطفهم ويضمّهم للحظة إلى قلبه. الأكبر سنّاً يفكّرون بذلك مِن ذواتهم.

 

يحيط بيسوع كوكبة مِن الأولاد، فمنهم مَن هم أمامه، خلفه، إلى جانبه وبين الساقين. لم يعد يستطيع التحرّك! ولكنّه يضحك وسط هذا السياج الهائج وحتّى المحبّ للمشاجرة. كلّ منهم يريد المكان الأوّل. مع أنّ "معلّمي البيت الصغار" لا نيّة لديهم بالتخلي عنه، ممّا يعطي يسوع الفرصة كي يكون المعلّم مِن جديد: "يجب ألاّ نكون أنانيّين، حتّى في الخير. أعلم أنّكم تحبّونني، وهذا يمنحني الفرح. أنا كذلك أحبّكم، ولكنّني أحبّكم أكثر أيضاً لو تركتم الآخرين يأتون إليَّ: قليلاً لكلّ واحد، كإخوة خيّرين. في نظر الله ونظري، أنتم جميعكم إخوة ومتساوون. الأفضل، هم الّذين يُبدون الطاعة والحب لرفاقهم فهم حتّى محبوبون أكثر مِن الله ومنّي.

 

الحشد، كي يُحسِن الظهور بأنّه... مطيع ومحبّ، يبتعد فجأة. فهم جميعاً أخيار! يضحك يسوع. ولكنّ المجموعة البريئة لا تتأخّر في العودة، رغماً عن الأُمّهات اللواتي وددن منع هذ المضايقة عديمة الاحترام، وبالأخصّ رغماً عن التلاميذ. يوضاس هو الأكثر تشدّداً، يوحنّا هو الأقلّ. فهو جالس وسط العشب ويضحك كذلك محاطاً بالأولاد. أمّا يوضاس فيفتح عينيه واسعاً ويتأفّف. حتّى بطرس يتذمّر.

 

الأولاد المحتشدون حول يسوع لا يعيرون بالاً على الإطلاق. ينظرون إلى الدمدمة بتحدٍّ، ووحده احترام الربّ يجعلهم يحجمون عن العبوس في وجه الرجلين. يشعرون أنّهم محميّون مِن يسوع الّذي يفتح ذراعيه ليضمّ أكبر عدد ممكن مِن الأولاد: باقة حقيقيّة مِن الأزهار الحيّة!

 

البعض يقدّمون له ألعاباً... مكسورة. بغصن صغير يعيد وضع محور العجلات لعربة صغيرة، ويعدل بواسطة خيط صغير ويدعم بقطعة مِن خشب ساق حصان خشبيّ عرضه عليه صبيّ أسمر. بعض الرّعاة الصغار الّذين تركوا قطيعهم في الشارع -رغم أن الليل يحلّ- يَدنون مِن يسوع. فيلاطفهم ويباركهم. أحدهم يحمل حَمَلاً صغيراً مجروحاً. وبما أنّ يسوع لا يرضى أن يُعَنَّف صديقه الصغير مِن سيّده، يوقف نزيف الحيوان المسكين ويعيده إليه.

 

تدخل أُمّ وتشقّ لها طريقاً. تحمل بين ذراعيها ولداً شمعيّ الصبغة، مريضاً جدّاً. يستسلم بالكامل على صدر أُمّه. ويسوع الّذي لمس أطفالاً مريضين جدّاً قدّمتهم أُمّهم، يفتح ذراعيه ويتقبّل على صدره الطفل المحتضر -أو يكاد-. تتوسّله الأُمّ راجية.

 

يستمع إليها يسوع وينظر إليها. ثمّ يتأمل الطفل الهزيل والشاحب للغاية، يلاطفه ويقبّله مهدهداً إيّاه قليلاً لأنّه يبكي. الطفل -أو الطفلة، ذلك أنّني لا أرى جيّداً بسبب الشعر الطويل إلى الأذنين- يفتح عينيه نصف فتحة ويبتسم ابتسامة حزينة. يكلّمه يسوع بلطف. وبما أنّه يهمس فلم أدرك ما قاله. والمريض الصغير يبتسم مرّة أخرى.

 

يعيده يسوع لأُمّه الباكية، ويحدّق بها بعينيه المهيمنتين: «يا امرأة آمني. غداً صباحاً سيلعب ولدك مع هؤلاء. اذهبي بسلام!» ثمّ يقوم بإشارة بركة على الوجه الصغير الشاحب.

 

وفي هذه الأثناء، أيّها الأب، لديَّ انطباع بأنّني اقتربت مِن يسوع وقلتُ له: "يا معلّم، ما الّذي في يدكَ حتّى إنّ كلّ شيء يفارق، يبرأ ويتبدّل مظهره عندما تلمسه؟"

 

في الحقيقة إنّه سؤال ساذج جدّاً، ولكنّ يسوع يجيب عليه بصلاح إلهيّ: "لا شيء يا ابنتي، ما خلا دفق حبّي الكبير. انظري إلى يدي وتأمّليها.

 

ويمدّ لي يده اليمنى. أُمسِكها بإجلال، أطراف الأصابع على أطراف الأصابع. لا أجرؤ على أكثر مِن ذلك، فقلبي يكاد يُنهك مِن الخفقان. لم ألمس يسوع أبداً. لقد لمسني هو، أمّا أنا فلم أجرؤ على الإطلاق. الآن ألمسه. أشعر بدفء أصابعه. أحس بشرته الناعمة، أظافره الطويلة (ليس أنّها مقصوصة بشكل سيّئ، ولكنّ شكلها على السلاميّة الأخيرة طويل). أرى أصابعه الطويلة الدقيقة، راحة يده المقعّرة كثيراً، ألاحظ أنّ مشط اليد أقصر كثيراً مِن الأصابع، وأرى في طرف قبضته دانتيل الشرايين.

 

يترك يسوع لي يده برفق. هو الآن واقف بينما أنا أجثو. وبالتالي فانا لا أرى وجهه، ولكنّني أخمّن أنّه يبتسم، فهذا يُفهَم عندما يقول: "ترين أيّتها النّفْس التي أُحِبّ، أنّ لا شيء خصوصيّ. إنّ سنوات عملي قد منحتني كفاءة إصلاح ألعاب الأولاد، وأنا أستخدمها، فهي تسمح كذلك باستقطاب المخلوقات الّتي أفضّلها إليَّ: الأولاد. إنّ إنسانيّتي الّتي تتذكّر أنّها تفتحت على كونها عاملة، هي التي تعمل على هذا. وألوهيّتي تعمل عندما أشفي الأولاد المرضى، مثلما أتصرّف عندما أعالج الألعاب المريضة والحِملان. ولا شيء لديَّ سوى حبّي وقدرتي كإله. ولا أسكبها بفرح كهذا على أحد آخر كما على هؤلاء الأبرياء الّذين أقدّمهم لكم كمثال لولوج ملكوت السماوات. استريح وسطهم. إنّهم بسطاء وصادقون. وأنا مَن تقع عليه الخيانة، ولديَّ هلع مِن الخونة، أجد السلام إلى جانبهم، ذلك أنّهم لا يعرفون الخيانة. وأنا مَن سأكون الّذي سيشَكّ به الكثيرون، أجد السلام إلى جانب هؤلاء الّذين لا يعرفون الارتياب. أنا مَن سينكرني أناس، إذ يفكّرون كبالغين، سيفكّرون بأمانهم الخاصّ ساعة العاصفة، أجد تعزيتي إلى جانب هؤلاء الّذين يؤمنون بي دون تخيّل ما يجلبه لهم إيمانهم مِن خير أو شرّ. هم يؤمنون لأنّهم يحبّونني. أنتِ أيضاً كوني نقيّة مثل طفل، كواحدة مِن هؤلاء. بذلك تحصلين على ملكوت السماوات الّذي يُفتَح بتأثير دفع يسوع نافذ الصبر، المتحرّق لوجود الّذين يحبّهم بالأكثر إلى جانبه. الآن اذهبي بسلام، ألاطفكِ كواحد مِن هؤلاء الصغار، لأرضيكِ. اذهبي بسلام."  

 

دوّنوا أنّ هذه الرؤيا قد أتتني بينما وقد كانت نفسي تتقزّز مِن إجابة غير مستحبّة -ولم تكن الأولى لهذا اليوم!- كنتُ أبكي، مثبّطة العزيمة، يملأني الحزن والاشمئزاز أمام ما ألاحظه في نَفْس الآخر. فكان لهذه الرؤيا أن هدّأتني ثمّ أبهجتني. ولكن عندما استطعت بعدئذٍ مِن الحصول على فرح الإحساس بأصابع يسوع، فقد اختبرت عذوبة النشوة تمحو كلّ مرارة.

 

أَحتَفظ بإحساس لمس يد يسوع، وأركّز نظري على يدي الّتي تكتب. تبدو لي أكثر قداسة مِن كونها على تواصل مع إجابة. فليكن يسوعي مباركاً!.  

 

***

 

05 / 03 / 1946

(الوداع في يافا)

في صبيحة ساكنة، يتحدّث يسوع إلى شعب يافا. آه! يمكن القول إنّ يافا بأجمعها عند قدميه. حتّى الرُّعاة، الذين هُم عادة متفرّقون على روابي الجبال، هُم هنا، خلف الجمع مع النّعاج. حتّى الذين يمضون عادة إلى أمكنة أخرى، إلى الحقول، إلى الغابات، إلى الأسواق، هُم هنا. العجائز هُم هنا، حول يسوع، الأطفال الضاحكون والصبايا والعروسات الشابّات، والحوامل الموشكات على الوضع والحاملات الوَلَد على صدرهن. يافا بأكملها.

 

أنف الجبل الممتدّ صوب الجنوب هو المدرّج الذي يستقبل هذا التجمّع الوديع، الجالس على العشب أو الرّاكب فوق سور مِن حجارة جافة، والمحيط أفق واسع، وفي الأعلى سماء بلا حدود، وفي الأسفل السيل الذي يضحك ويتلألأ تحت شمس الصبيحة، في جمال الجبال الـمُعشِبة، المحرّجة، وهُم، سكّان يافا، يُنصِتون إلى المعلّم الذي يتكلّم، واقفاً، مُستَنِداً إلى شجرة جوز شاهقة، ببياض ثوبه الكتّاني البارز على الجذع القاتم، ووجهه الباسم، وعيناه اللامعتان مِن فرح كونه محبوباً، وشعره الـمُنار بمداعبات الأشعّة الـمُقبلة مِن الشرق. في صمت الاحترام، والانتباه، يقطعه فقط تغريد العصافير وخرير السيل الذي يجري في الأسفل، والذي تنـزل كلماته بهدوء في القلوب، وصوته العظيم يملأ الجوّ الساكن بتناغمه.

 

بينما أنا أكتب، هو يكرّر مرّة أخرى أهمّيّة الطاعة للوصايا العشر، المتقنة، في تطبيقها في القلوب، بمذهبها الذي هو المحبّة «لبناء المسكن في الأرواح حيث سيسكن الربّ إلى اليوم الذي فيه يمضي الذين عاشوا أوفياء للشريعة للسكنى فيه في ملكوت السماوات.» تلك كانت كلماته. ويتابع: «لأنّ الأمر هو هكذا. سُكنى الله في الإنسان والإنسان في الله يحصل نتيجة الطاعة لشريعته، التي تبدأ بوصيّة حبّ، والتي هي حبّ مِن أوّل وصيّة إلى آخر وصيّة مِن الوصايا العشر. إنّه المسكن الحقيقيّ الذي يريده الله، الذي يسكن فيه الله، ومكافأة السماء، التي تُقتَنَى بالطاعة للشريعة، هي المسكن الحقيقيّ الذي ستسكنون فيه مع الله، إلى الأبد.

 

ذلك أن -تذكّروا إشَعياء في الفصل (66)- الله ليس له على الأرض مَسكَن، التي هي مجرّد مقعد صغير، فقط مقعد صغير للانهائيّته، وهو الذي عرشه السماء، التي هي كذلك صغيرة، لا شيء، لتتّسع للاّنهائيّ، بل إنّما مسكنه في قلب الناس. وحده الصلاح الأكمل لأب كلّ محبّة يمكنه منح أبنائه استقباله، وهذا سرّ لا حدود له، يتعاظم باطّراد، إنّ الله الواحد والثالوث، الروح الأطهر، المثلّث الأقانيم، يمكنه أن يكون في قلب الناس. آه! متى، أيّها الآب القدّوس، ستسمح لي أن أجعل مِن الذين يحبّونكَ ليس فقط هيكلاً لروحنا، ولكن، بفضل كمال حبّكَ وغفرانكَ، خباء، بجعل كلّ قلب تابوت العهد حيث يوجد خبز السماء الحقيقيّ، كما كان الأمر في أحشاء المباركة بين كلّ النساء؟

 

آه! أيّها المحبوبون تلاميذ يافا التي هيّأها لي إنسان بارّ، خلّوا في ذهنكم النبيّ وما يقول، وهو الربّ الذي يتكلّم، متوجّهاً إلى الذين يبنون الهياكل الحجريّة الفارغة، حيث لا استقامة ولا حبّ، ولا يعرفون بناء العرش لربّهم في ذواتهم بالطاعة لوصاياه. النبيّ يقول: "ما هذا البيت الذي تبنونه لي، وما هذا المكان لراحتي؟" ويريد القول: "تظنّون أنّكم ملكتموني لأنّكم رفعتم لي بعض الجدران البائسة؟ أتظنّون أنّكم تُسعِدونني بممارساتكم الكاذبة التي لا تتوافق مع قداسة الحياة؟" لا. لا يمكن امتلاك الله بأمور خارجيّة تخفي قروحاً وخواء، كمعطف ذهبيّ ملقى على أبرص أو على تمثال مِن صلصال أجوف، بلا حياة للنَّفْس.

 

والربّ، سيّد العالم، يقول معترفاً بفقره كمَلِك عنده أتباع قليلون، وكأب مسكين لأبناء كثيرون فرّوا مِن مَسكنه: "لِمَن أنظر إن لم يكن للفقير، لِمَن له قلب تائب يرتجف لكلامي؟" لماذا هو يرتجف؟ ألمجرّد خوفه مِن الله؟ لا. بل لإجلال عميق، لمحبّة حقيقية. بتواضع الخاضع، الابن الذي يقول، الذي يعرف أنّ الربّ هو الكلّ وأنّه هو لا شيء، ويرتجف مِن التأثّر شاعراً أنّه محبوب، مغفور له، يستمدّ المعونة مِن الكلّ.

 

آه! لا تبحثوا عن الله بين المتكبّرين! ليس هو هناك. لا تبحثوا عنه بين القلوب القاسية. فهو ليس هناك. لا تبحثوا عنه بين القساة. فهو ليس هناك. إنّه لدى البسطاء، لدى الأنقياء، لدى الرُّحماء، لدى فقراء الروح، لدى الودعاء، لدى الذين يبكون دون دعاء بالشرّ، لدى الباحثين عن الاستقامة، لدى الـمُضطَهَدين، لدى محبّي السلام. فهناك هو الله. إنّه في أولئك الذين يتوبون ويبغون الغفران ويَسعون للتكفير. وهُم لا يقدّمون الأضاحي ثوراً أو نعجة، تقدمة هذا أو تلك، حتى يُصفق لهم الناس، بِذُعر مِن العقاب خرافيّ، بكبرياء الظهور كاملين. ولكنّهم يُضحّون بقلبهم المتواضع والتائب، إذا كانوا خطأة؛ وبقلبهم الطائع حتّى البطولة، إذا كانوا بارّين. فهذا ما يرضي الربّ. تلك هي التقادم التي يبذلون أنفسهم لها بالكنوز فائقة الوصف مِن الحبّ والمتعة فائقة الطبيعة. لا يبذلون أنفسهم مِن أجل الأشياء الأخرى. أولئك أصبح لهم متعتهم البائسة في الكراهية، ولا جدوى مِن دعوة الله لهم إلى سُبُله، طالما اختاروا سبيلهم. لأولئك، لا يُرسَل سوى التخلّي، العقاب والذعر، لأنّهم لم يستجيبوا للربّ، لم يطيعوا، فَعَلوا الشرّ تحت نَظَر الله، مع السخرية والفساد الذي اختاروه.

 

أمّا أنتم، أنتم أحبّائي الذين مِن يافا، أنتم الذين ترتجفون حبّاً في معرفة الله، أنتم المحتَقَرون بسببي مِن أصحاب السلطة الذين يعتبرونكم أغبياء، والمستمرّون في حبّي رغم الاحتقار، أنتم المنبوذون، وستكونون كذلك أكثر وأكثر بسبب اسمي وبسببي، مرفوضين كأبناء سِفاح لإسرائيل، كأبناء زنى لله، بينما فيكم بالتحديد وفي الذين يشبهونكم تمّ تطعيم فَسيلة الحياة الأبديّة، التي جذورها في الآب، ومِن أجل ذلك أنتم جزء مِن الله، أنتم مِن الله، أنتم الذين تحيون مِن نسغه، أنتم يا مَن يُراد إقناعكم أنّكم على ضلال، أنتم يا من عيونكم بسيطة ولكن تنيرها النعمة. يودّون تبرير أنفسهم في عيونكم كي لا يَظهَروا مُدنِّسي المقدَّسات ومجرمين، يا مَن قيل فيكم: "فليُظهِر الربّ مجده وسنتعرّف عليه مِن خلال فرحكم ذاته." سيكون لكم الفرح. وهم سيُخزون.

 

آه! إنّني أسمع منذ الآن، وبعد التشوّش الذي سيسحقهم، وإنّما لن يجعلهم أفضل، أَسمَع منذ الآن الأفاعي التي لن تكفّ عن الأذى إلاّ حينما تُسحَق رؤوسها المقيتة، والتي تَلسَع وتَقتُل حتّى حينما تُشطَر إلى شطرين، حتّى ولو لم تَظهَر سوى رؤوسها عبر تجلٍّ لله ساحق، أسمعهم منذ الآن يصيحون: "كيف يمكن أن يلد الربّ فجأة شعبه الجديد، إذا كنّا نحن، الذين حُمِلنا منذ زمن بعيد في أحشائه، لم نولد بعد للنور؟ هل يمكن لإحداهنّ أن تلد دون أن يملأ صراخ الألم البيت؟ هل أمكن للربّ أن يلد قبل الأوان؟ هل يمكن للأرض أن تُنتِج في يوم واحد؟ وهل يمكن لشعب كامل أن يُولَد في وقت واحد؟"

 

أنا أجيب، وأنتم تذكّروا الإجابة لتعطوها للذين يضطهدونكم ساخرين: "لا يمكن مطلقاً أن يُولَد للنور الذين هم ثمرة ميتة في أحشاء الله، ثمرة جفّت لأنّها انفصلت عن الرحم وبقيت هامدة، كمرض خفيّ في الأحشاء بدل أن يكون جنيناً ينمو. ولكي يرمي مِن أحشائه البذار الميت ويكون له أبناء، ولكي لا يموت اسمه على الأرض، عاد الله خصيباً بأبناء جدد، موسومين بوسمه (التاو=T)، وفي السرّ، في الصمت، كي لا يستطيع الشيطان والشياطين الذين يساعدون لوسيفوروس مِن الأذيّة، بتقديم الزمن بحرارة حبّه، وَلَد ابنه وهو يُنجِب في الوقت ذاته شعبه، ذلك أنّ الربّ يستطيع كلّ شيء". آه! هو قالها على لسان النبيّ إشَعياء: "ألا يمكنني الإنجاب، أنا الذي يجعل الآخرين ينجبون؟ أأنا الذي يمنح الآخرين الخصوبة، أُصبِح عقيماً؟"

 

افرحوا مع أورشليم السماوات، ابتهجوا معها، أنتم جميعاً يا مَن تحبّون الربّ! افرحوا معها فرحاً حقيقيّاً، أنتم يا مَن تنتظرون، أنتم يا مَن ترجون، أنتم يا مَن تتألّمون!

 

آه! عودي، عودي إليَّ، أيّتها الكلمات! الكلمات الآتية مِن كلمة الله. الكلام الذي قاله الناطق بكلمة الله: إشَعياء، نبيّه. تعالي، عودي إلى النبع، أيّتها الكلمات الأزليّة، لكي تنتشري في حديقة الله، في هذا القطيع، في هذا النسل!

 

آه! تعالي! إنّها إحدى الساعات والتجمّعات التي مِن أجلها أُعطيتِ، أيّتها الكلمات النبويّة، يا رنّات الحبّ، يا صوت الحقّ!

 

ها هي آتية! ها هي تعود إلى مَن أوحى بها! ها أنا، باسم الآب، باسمي، واسم الروح، أقولها لِمَن أَحَبّهم الله، اختارُهم مِن وسط قطيع الله، الذي كان مِن المفروض ألاّ يُعتَبَر سوى حِملان، وانحرف مع تيوس وحيوانات أكثر قذارة. ستشربون وتشبعون مِن أثداء التعزية الإلهيّة وتحصلون على متع وفيرة مِن مجد الله متعدّد الأشكال.

 

هاكم! الربّ يقول لكم: سأسكب عليكم كنهر مِن السلام وكسيل يفيض، سيكون عليكم أكثر مِن مجد الأمم كثيراً. مجد السماء يفيض عليكم. ستمتصّونه محمولين على صدره، وعلى ركبتيه ستتلقّون ملاطفاته. نعم، مثل أُمّ تلاطف ابنها، كما ألاطف أنا هذا الصغير الذي أطلقتُ عليه اسمي (ويأخذ يسوع الصغير يسّى مِن بين ذراعيّ والدته التي تكاد تكون عند قدميه، وسط أبنائها الثلاثة) هكذا أعزّيكم يا مَن تحبّونني وستستمرّون في حبّي، وقريباً ستكون تعزيتكم أبديّة في ملكوتي. سترونه ويَفرَح قلبكم، وتخضوضر عظامكم ثانية كالعشب، إذ تتحرّرون مِن كلّ خوف بسبب أمانتكم، عندما يأتي الربّ في النار، على عربة شبيهة بالإعصار، ليقود في النار والحبّ والعدل، ليُعاقِب أو يشيد، فاصلاً النّعاج عن الذئاب، أي عن الذين كانوا يظنّون أنفسهم يتقدّسون ويتطهّرون، بينما هم على العكس كانوا يصبحون عابدي أوثان.

 

الربّ الذي يمضي الآن، سيعود، وطوبى لِمَن سيجدهم ثابتين حتّى النهاية.

 

هذا هو وداعي ومعه بركتي. اركعوا كي أقوّيكم بها. فليبارككم الربّ ويحفظكم. وليُظهِر لكم الربّ وجهه ويرحمكم. وليمنحكم الربّ سلامه.

 

امضوا! دعوني أصرف الطيّبين مِن طيّبي يافا.»

 

يمضي الناس على مضض. ولكن ها إنّ طفلاً يقول ليسوع: «ربّي دعني أُقبّل يدكَ.» وما أن وافق يسوع، حتّى أراد الجميع تقبيل الجسد المقدّس لحَمَل الله. وحتّى الذين ابتعدوا صوب المدينة عادوا وكان الوابل مِن القُبلات: قُبلات أطفال على الوجه، قبلات العجائز على اليدين، وقبلات النساء على القدمين الحافيتين في العشب، مع الدموع وكلمات الوداع والبركة.

 

يتقبّلها يسوع بصبر وللجميع سلام خاصّ.

 

في النهاية يُرضِي الجميع... تبقى العائلة الـمُضيفة... تلتصق بيسوع. وتقول سارة: «هل إنّكَ لن تعود أبداً؟»

 

«لا، يا امرأة، مطلقاً. ولكنّنا لن نفترق. فحبّي سيكون معكِ على الدوام، معكم، وحبّكم معي. لن تنسوني، أعرف ذلك. ولكنّي أقول لكم: حتّى في الساعات الآتية الأكثر روعاً، لا تقبلوا الكذب، ولا حتّى كزائر عابر أو غازٍ غير متوقَّع... أعطني الصغير، يا سارة.»

 

تعطي المرأة يسّى، ويجلس يسوع على العشب ويسّى على صدره ويتكلّم منحنياً فوق شعر الطفل: «تذكّروا دائماً أنّني الحَمَل الذي جعلكم إسحاق تحبّونه حتّى قبل أن تعرفوني، وأنّ الحَمَل دائماً بريء، كهذا الطفل، حتّى ولو سُربِل جلد ذئب لإظهاره مسيئاً. تذكّروا أنّني أكثر براءة مِن هذا الوليد... الذي، وهو المغبوط! بسبب براءته وصغره لن يتمكّن مِن إدراك افتراءات الناس على ربّه، وهكذا لن يضطرب... وسيستمرّ في حبّي هكذا... كما الآن... فليكن لكم قلبه، فليكن لكم مِن أجل الحَمَل، الصديق، البريء، المخلّص، الذي يحبّكم ويبارككم بشكل متفرّد. وداعاً يا مريم! تعالي وامنحيني قبلة... وداعاً، يا عمّانوئيل! تعال أنتَ أيضاً... وداعاً، يا يسّى، حَمَل الحَمَل... كونوا صالحين... أحبّوني...»

 

«أتبكي، يا ربّ!؟» تَسأَل البنت الصغيرة مندهشة، وهي ترى دمعة تلمع على شعر يسّى.

 

«يبكي؟» يَسأَل زوج سارة.

 

«أتبكي، يا معلّم! لماذا؟» تَسأَل المرأة.

 

«لا تحزنوا لدموعي. إنّها حبّ وبركة... وداعاً يا سارة. وداعاً أيّها الرجل. تعاليا كالآخرين، قَبِّلا صديقكما الذي يمضي...» وبعد تلقّيه قُبلات الزوجين على يديه، يُعيد الطفل إلى ذراعيّ أُمّه. يُبارِك مرّة أخرى، ثمّ يُسرِع في الهبوط مِن الدرب الذي أتى منه.

 

تتبعه أصوات وداع الذين مكثوا هناك حتّى أسفل الرابية: أصوات الرجال عميقة، تلك التي للنساء متأثّرة، والتي للأطفال حادّة. ثمّ لم يعد سوى السّيل، الذي يصعدون فيه صوب الشمال، الذي ما زال يحيّي المعلّم الذي يغادر أرض يافا إلى الأبد.