ج7 - ف165
أَنَا هُوَ
ماريا فالتورتا
L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO
THE GOSPEL AS REVEALED TO ME
بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}
L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ
MARIA VALTORTA
الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.
الجزء السابع / القسم الأول
165- (يسوع يتحدّث عن مَلَكوته وشريعته)
10 / 08 / 1946
ممتعة هي الاستراحة في هكذا هضبة صغيرة. إنّما مِن الحكمة النزول إلى الوادي فيما لا يزال الوقت نهاراً، لأنّ الظلام سيحلّ سريعاً تحت قُبّة أوراق الأشجار الكثيفة التي تغطّي الجبل.
يسوع هو أوّل مَن يَنهَض ويَذهَب ليغسل وجهه ويديه ورجليه في الساقية الصغيرة المتشكّلة مِن النبع الصغير. ومِن ثمّ ينادي رُسُله، الذين ينامون على العشب، ويدعوهم كي يستعدّوا للمغادرة. وفيما يقتدون به، حيث يغتسلون الواحد تلو الآخر في الجدول الـمُنعِش، ويملأون مطراتهم مِن خيط الماء الرفيع الذي يسيل مِن الصخرة، فإنّه يمضي لينتظرهم عند حافّة مرج صغير قرب شجرتين معمّرتين تحدّانه مِن الشرق، وينظر إلى الأفق البعيد.
فيلبّس هو أوّل مَن ينضمّ إليه، وفيما هو ينظر إلى حيث ينظر معلّمه، فإنّه يقول له: «جميل هذا المنظر! أنتَ مُعجَب به...»
«نعم، ولكنّني لم أكن أنظر فقط إلى جماله.»
«وماذا إذن؟ أكنتَ ربّما تفكّر في الزمن الذي ستصير فيه إسرائيل عظيمة، بتلك الأمكنة التي ما وراء لبنان والعاصي، التي كَدَّرَتنا عبر القرون والتي لا تزال تؤرّقنا، لأنّ هناك يَقبَع مركز السُّلطة التي تضطهدنا مِن خلال مُمثّلها؟ إنّ نبوءات العديد مِن الأنبياء فيما يخصّها هي حقّاً رهيبة: "سوف أُحطّم أشور في أرضي، وأدوسه على جِبالي... هي اليد التي تمتدّ على كلّ الأمم... ومَن سَيَقدر على ردّها؟... فدمشق لن تبقى، وسوف تصبح كومة رَدم... هكذا سيكون مصير ناهِبينا." هو إشَعياء الذي يتكلّم! وإرميا يقول كذلك: "سوف أُجعِل ناراً على أسوار دمشق، فتَأكُل أسوار أبيناداب." وهذا سيحصل عندما مَلِك إسرائيل، الموعود، يحمل صولجانه، ويكون الله قد غَفَرَ لشعبه بإرساله الـمَلِك المَسيّا لهم... آه! إنّ حزقيال هو الذي يقول ذلك: "يا جِبال إسرائيل، أَنبِتوا أغصانكم وأَثمِروا ثماركم لشعبي الذي في إسرائيل، الذي سيعود قريباً... سوف أعيد إليكَ شعبي، وسوف تكون لهم ميراثاً... لن أجعلكَ تَسمَع مُجدّداً تَعييرات الأمم..." والمزامير تُنشِد مع إيثَانَ الأَزرَاحِيِّ: "قد وَجَدتُ دواد عبدي ومَسَحتُه بِدُهني المقُدّس. يدي سوف تعضده... لن يستطيع عدوّ شيئاً ضدّه... باسمي يَعظم بالسُّلطة... ويَبسط على البحر يده وعلى الأنهار يمينه... وسوف أجعله بِكراً، الأعلى بين مُلوك الأرض." وسليمان يُنشِد: "سيبقى ما دامت الشمس والقمر... ويبسط سُلطته مِن بحر إلى بحر، ومِن النهر إلى أقاصي الأرض... سيسجد له كلّ ملوك الأرض، كلّ الأمم تكون له عبيداً..." أنتَ، المسيح، لأنّ كلّ العلامات الروحيّة والجسديّة هي فيكَ، كلّ العلامات التي أُعطِيَت مِن قِبَل الأنبياء. هللويا لكَ، يا ابن داود، الـمَلِك المَسيّا، الـمَلِك القدّوس!»
«هللويا!» يهتف معاً الآخرون الذين انضمّوا إلى يسوع وفيلبّس وسَمِعوا كلمات هذا الأخير. وتتردّد الهللويا بالصدى مِن حنجرة إلى حنجرة ومِن رابية إلى رابية…
يسوع ينظر إليهم بحزن شديد... ويُجيب: «ولكن ألا تتذكّرون ما يقوله دواد عن المسيح، وما يقوله عنه إشَعياء... إنّكم تأخذون مِن الأنبياء العسل اللذيذ والنبيذ الـمُبهِج... إنّما لا تفكّرون أنّه كي يكون مَلِك الملوك، فإنّ على ابن الإنسان أن يَشرَب مُرّاً وخلّاً، ويَلبس أرجوان دمه... لكنّها ليست غلطتكم إن كنتم لا تفهمون. إنّ فهمكم الخاطئ سببه المحبّة. أريد فيكم محبّة مختلفة. إنّما في الوقت الحاضر لا يمكنكم ذلك... إنّ عصوراً مِن الخطيئة تَحول دون أن يكون النور في البشر. لكنّ النور سَيَهدم الأسوار ويَدخل إليكم... هيا بنّا.»
يعودون إلى الدرب الجبليّة التي كانوا قد غادروها كي يصعدوا إلى المرتفع البعيد، يهبطون بسرعة صوب الوادي. الرُّسُل يتكلّمون فيما بينهم بصوت خافت…
ثمّ يَهرَع فيلبّس إلى الأمام، ينضمّ إلى المعلّم ويَسأَل: «هل أَثَرتُ استياءكَ يا ربّ. لم أكن أريد أن... هل أنتَ غاضب منّي؟»
«لا يا فيلبّس. إنّما أودُّ أن تفهموا أنتم على الأقلّ.»
«لقد كنتَ تنظر إلى هناك بكثير مِن الشَّوق...»
«لأنّني كنتُ أفكّر في كَمّ الأماكن التي لم تحظَ بي بعد... والتي لن تحظى بي... لأنّ زمني ينقضي... كم هو قصير زمن الإنسان! وكم هو بطيء الإنسان في التصرّف!... كم تشعر الروح بحدود الأرض تلك!... إنّما... أبتاه، لتكن مشيئتكَ!»
«ومع ذلك فقد جُلتَ في كلّ مناطق الأسباط القديمة يا معلّمي. لقد قَدَّستَها لمرّة على الأقلّ، لذلك يمكن القول بأنّكَ اهتممتَ بأمر الأسباط الاثني عشر...»
«هذا صحيح. إنّما، بعدئذ، سوف تفعلون ما لم يسمح لي الزمن بفِعله.»
«أنتَ القادر على إيقاف الأنهار وتسكين البحار، أليس بمقدوركَ إبطاء الزمن؟»
«أستطيع. لكنّ الآب في السماء، الابن على الأرض، المحبّة في السماء وعلى الأرض، تَوَّاقون لإتمام المغفرة...» ويستغرق يسوع في تأمّل عميق يحترمه فيلبّس، ويتركه وحده وينضمّ لرفاقه حيث يروي لهم الحِوار.
…لقد أضحى الوادي قريباً الآن، ويمكن رؤية طريق، طريق رئيسيّة حقيقيّة، قادمة مِن جهة الجنوب وتتّجه غرباً، وتلتفّ تماماً عند قاعدة الجبل وتستمرّ مُحاذِية لقاعدته، ومِن ثمّ تتّجه مباشرة نحو قرية جميلة مُنبَسِطة في الخُضرة قرب جدول، قاعه مغطّى بالحصى، مع بعض مِن القصب الصامد هنا وهناك، خصوصاً في الوسط، حيث مجرىً صغير، مجرّد مجرىً ضيّق، يصرّ على الجريان نحو البحر.
يتجمّعون كلّهم معاً قبل أن يَسلكوا الطريق الرئيسيّة، وما كادوا يَقطعون بضعة أمتار حتّى يأتي رَجُلان لملاقاتهم وهما يُلقِيان التحيّة.
«إنّهما تلميذا رابّيين، وأحدهما لاويّ، ما الذي يريدانه؟» يقول الرُّسُل فيما بينهم، وهم غير مسرورين على الإطلاق بلقائهما. لا أعرف كيف استَنتَجوا أنّهما تلميذان وأنّ أحدهما لاويّ. ما زلتُ لا أفهم لغة عُقَد الشرائط والأهداب والأسرار الأخرى للملابس الإسرائيليّة.
وحين يصبح يسوع على بُعد حوالي المترين مِن الرَّجُلين، وحين ليس هناك مجال للالتباس باعتبار أنّ الطريق خالية مِن مسافرين متّجهين إلى القرية مشياً أو على ظهور الخيل، فهو يردّ على تحيّاتهما المتكرّرة ويقف منتظراً.
«السلام لكَ أيّها الرابّي» يقول اللّاوي الذي كان قد اقتَصَرَ قبلها على تحيّة عميقة.
«السلام لكَ. ولكَ» يقول يسوع، مُخاطِباً الآخر.
«هل أنتَ الرابّي المدعو يسوع؟»
«أنا هو.»
«إنّ امرأة قد دخلت البلدة قبل الساعة السادسة وقالت بأنّها قد تكلّمت على الطريق مع رابّي أعظم مِن غَمَالائيل، فهو طيّب إلى جانب كونه حكيماً. وقد بَلَغَنا الخبر، ومعلّمونا أَجَّلوا مغادرتنا إلى أورشليم وأرسلونا كلّنا للبحث عنكَ: اثنان منّا على كلّ طريق متّجهة نزولاً مِن جيسكالا نحو طرق السهل. باسمهم وبواسطتنا يقولون لكَ: "تعال إلى البلدة، لأنّنا نريد أن نسألكَ."»
«وعن أيّ موضوع؟»
«كي تُفصِح عن رأيكَ حول حَدَث حَصَلَ في جيسكالا، وعواقبه لا تزال قائمة.»
«وأليس لديكم علماء إسرائيل العظماء كي يُقَدّروا الحكم؟ لماذا اللجوء إلى الرابّي المجهول؟»
«إذا كنتَ أنتَ مَن يقصده الرابّيين، فأنتَ لستَ مجهولاً. ألستَ يسوع الناصريّ؟»
«أنا هو.»
«إنّ حكمتكَ معروفة مِن قِبَل الرابّيين.»
«وكراهيتهم الشديدة تجاهي أعرفها.»
«ليس كلّهم، يا معلّم. فالأعظم فيهم والأكثر برّاً لا يكرهكَ.»
«أعرف. إنّما هو لا يحبّني كذلك. إنّه يستقصي عنّي، إنّما هل الرابّي غَمَالائيل في جيسكالا؟»
«لا. لقد سَبَقَ أن غادَرَ كي يكون في سيفوريس قبل السبت. لقد غادَرَ مباشرة بعد الحُكم.»
«لِمَ تبحثون عنّي إذن؟ أنا كذلك يجب أن أحترم السبت، وبالكاد سأصل إلى ذاك المكان في الوقت المناسب. لا تؤخّراني أكثر.»
«أأنتَ خائف يا معلّم؟»
«لستُ خائفاً لأنّني أعرف أنّ السُّلطان لم يُمنَح لأعدائي بعد. إنّما أترك متعة الحُكم للحُكَماء.»
«ما الذي تقصده؟»
«أنّني لا أَحكُم. أنا أغفر.»
«إنّكَ تُحسِن الحُكم بشكل أفضل مِن أيّ شخص آخر. غَمَالائيل قال ذلك. لقد قال: "وحده يسوع الناصريّ هو مَن يَحكم بالعدل هنا."»
«حسناً. لكنّكم كنتم قد حكمتم بالفعل. وما عاد بالإمكان إعادة النظر بالمسألة. كان رأيي ليكون تهدئة المشاعر قبل الحُكم. فإذا ما كانت هناك خطيئة كان الخاطئ ليتوب أو يُكفّر. وإن لم تكن هناك خطيئة، لما كانت عقوبة لأحدهم، في عينيّ الله، شبيهة بجريمة القتل العمد.»
«يا معلّم! كيف لكَ أن تَعلَم؟ المرأة قد أَقسَمَت بأنّكَ لم تتحدّث إليها سوى عن شؤونها... و... ها أنتَ تَعلَم... فهل أنتَ إذاً نبيّ حقّاً؟»
«أنا مَن أنا. الوداع. السلام لكَ. الشمس تغرب» ويدير ظهره ليمضي باتّجاه القرية.
«لقد فعلتَ الصواب يا معلّم! لقد كانوا بالتأكيد ينصبون لكَ فخّاً!» الرُّسُل متضامنون مع المعلّم. لكنّ ثناءاتهم وحججهم تُقطَع بِفِعل الرَّجُلين آنِفَيّ الذّكر اللّذَين يَلحَقان بهم متوسّلين يسوع كي يصعد إلى جيسكالا.
«لا. الغروب قد يدركني وأنا في الطريق. قولا لِمَن أرسَلَكُما بأنّني أتقيّد بالشريعة، أتقيّد بها دائماً، عندما لا يُلحِق الالتزام بها الضرر بالوصيّة التي هي أهمّ مِن وصيّة السبت: وصيّة المحبّة.»
«يا معلّم، يا معلّم، نتوسّل إليكَ. هذه حقّاً مسألة محبّة وعدل. تعال معنا يا معلّم.»
«لا أستطيع. وأنتما كذلك لا تستطيعان مُعاوَدَة الصعود في الوقت المناسب.»
«لدينا الإذن بأن نفعل ذلك في هذه الحالة.»
«وماذا؟ لقد رُفِعَ الصوت عندما كُنتُ أشفي مريض وأغفر له في السبت، وأنتما قد سُمِح لكما بانتهاك السبت لأجل جِدال عَقيم؟ هناك إذاً مكيالان في إسرائيل؟ انصرفا! انصرفا واتركاني أذهب.»
«يا معلّم، إنّكَ نبيّ وبالتالي فإنّكَ تَعلَم. إنّني أؤمن بذلك، وهذا الرجل يؤمن بذلك. لماذا تصدّنا؟»
«لماذا!...» يسوع يُحدِّق بهما ويتوقّف. عيناه الصارمتان، اللتان تخترقان وتَنفَذان إلى ما وراء حُجُب الجسد لقراءة القلوب، تتفرّسان بهيمنة في الاثنين اللذين أمامه. ومِن ثمّ فإنّ عينيه، اللتان لا يمكن احتمالهما ساعة القسوة، الوادعتين جدّاً ساعة المحبّة، تتبدّل نظرتهما متّخذتين تعابير المحبّة والإشفاق بحيث أنّه لو كان القلب يرتعد مِن الخوف قبلاً بفعل سلطان النَّظرَة، فإنّه الآن يرتجف انفعالاً أمام المحبّة المتألّقة للمسيح. «لماذا!» يُكرّر... «لستُ أنا، إنّما البشر هم مَن يَصدّون ابن الإنسان، وعليه الاحتراس مِن إخوته. إنّما لأولئك الذين ليس في قلوبهم خُبث أقول: "تعالوا" وأقول أيضاً: "أَحِبّوني" لأولئك الذين يكرهونني...»
«وبالنتيجة، يا معلّم...»
«بالنتيجة إنّني ذاهب إلى القرية لأجل السبت.»
«على الأقلّ انتظرنا.»
«إنّني راحل عند غَسَق السبت. لا يمكنني الانتظار.»
يَنظر الرجلان إلى بعضهما، يتشاوران مع بعضهما وقد لَبِثا إلى الوراء، ومِن ثمّ، أحد الاثنين وهو الأكثر بشاشة، والذي كان قد تَكَلَّمَ تقريباً طوال الوقت، يركض عائداً.
«يا معلّم، إنّني باقٍ معكَ إلى ما بعد السبت.»
بطرس، الذي هو بجانب يسوع، يَجذبه مِن ثوبه مُجبِراً إيّاه على الاستدارة إلى ناحيته ويَهمس: «لا. جاسوس.» ويوضاس تدّاوس خلف ابن عمّه، يُسِرّ إليه: «لا تثق به.» ونثنائيل، الذي كان قد مضى قُدُماً مع سمعان وفيلبّس، يلتفت وينظر بصرامة بما معناه: «لا.» حتّى الاثنان الأكثر مَيلاً إلى الثقة بالآخرين، أندراوس ويوحنّا، يُشيران بِلا مِن وراء الزميل اللَّجوج.
لكنّ يسوع لا يعير اهتماماً لمخاوفهم الـمُرتابة ويجيب باختصار: «ابقَ» وعلى الآخرين أن يُذعِنوا.
الرجل قد أضحى مسروراً ويشعر أكثر بالإلفة. هو أيضاً أَدرَكَ بوجوب الإفصاح عن اسمه، ومَن هو، ولماذا هو في فلسطين رغم أنّه مولود في الشَّتَات، إنّما كان مُكَرَّساً لله منذ ولادته، لأنّه كان «عزاء لوالديه»، اللذين، وبغية اعترافهما بجميل الربّ الذي رَزَقَهُما به، فقد عَهِدا به إلى أقارب في أورشليم، كي يكون منتمياً للهيكل. وهناك، وخلال خدمته لبيت الله، فقد التقى بغَمَالائيل حيث أَصبَحَ تلميذه المجتهد والمحبوب. «لقد أَطلَقَا عليَّ اسم يوسف، لأنّني، على مثال يوسف العجوز، خَلّصتُ أُمّي مِن ألم أن تكون عاقِراً. إنّما أُمّي كانت دائما تقول "يا عزائي" عندما كانت تطعمني، ولذلك فقد غَدَوتُ بالنسبة للجميع برنابا. أيضاً الرابّي الكبير يدعوني هكذا لأنّه يَجِد السّلوان في أفضل تلاميذه.»
«احرص على أن يُطلِق الله عليكَ هذا الاسم، والأهمّ أن يناديكَ هكذا» يقول يسوع.
يَدخُلون القرية.
«أتعرفها؟» يَسأَل يسوع.
«لا، لم أكن هنا قطّ. إنّها المرة الأولى التي آتي فيها إلى هنا، إلى نفتالي. الرابّي أتى بي معه ومع آخرين، لأنّني بقيتُ وحيداً...»
«هل الله صديقكَ؟»
«آمُل ذلك. أحاول أن أخدمه بأفضل ما أستطيع.»
«إذن فأنتَ لستَ وحيداً. الوحيد هو الخاطئ.»
«أنا يمكن أن أخطئ أيضاً.»
«على اعتبار أنّكَ تلميذ أحد الرابّيين العظماء، فإنّكَ بالتأكيد تعرف الشروط التي يغدو معها الفعل خطيئة.»
«كلّ شيء يا ربّ هو خطيئة. الإنسان يخطئ باستمرار، لأنّ الفُروض هي أكثر عدداً مِن لحظات النهار. والاعتبارات والظروف لا تساعدنا دائماً في تجنّب ارتكاب الخطيئة.»
«صحيح أنّ حتّى الظروف على وجه الخصوص هي التي غالباً ما تقودنا للخطيئة. إنّما هل لديكَ تَصَوُّر واضح عن السّمة الرئيسيّة لله؟»
«العدل.»
«لا.»
«السلطان.»
«لا.»
«...الشدّة.»
«إطلاقاً.»
«ومع ذلك... هي تَبَدَّت كذلك في سيناء وحتّى بعد ذلك...»
«حينذاك شُوهِد العليّ وسط البروق التي كانت تحيط وجه الآب والخالق بهالة رهيبة. إنّكم حقّاً لا تعرفون وجه الله الحقّ. فلو كنتم تعرفونه وتعرفون روحه، لكنتم أدركتم أنّ السّمة الأساسيّة لله هي المحبّة، والمحبّة الرحيمة.»
«أَعلَم أنّ العليّ قد أَحَبَّنا. نحن الشعب المختار. لكنّ خدمته مَهولة!»
«إن كنتَ تَعلَم أنّ الله محبّة، فكيف تقول بأنّه مُريع؟»
«لأنّنا بالخطيئة نخسر محبّته.»
«لقد سألتُكَ قبلاً فيما إذا كنتَ تَعلَم الشروط التي بموجبها يغدو الفعل خطيئة.»
«عندما لا يكون فِعلاً مِن الأحكام الستمائة والثلاثة عشر، أو مِن التقاليد، القرارات، العادات، التبريكات والصلوات، إلى جانب وصايا الشريعة العشر، أو لا يتماشى مع تعاليم الكَتَبَة، عندها يكون خطيئة.»
«حتى إذا كان الإنسان لم يَقُم به عن إدراك تام وقبول إراديّ كامل؟»
«حتّى في هذه الحال. كذلك، مَن بوسعه القول: "أنا لا أخطئ."؟ مَن يحظى لدى موته بالسلام في حضن إبراهيم؟»
«هل روح البشر كامل؟»
«لا، لأنّ آدم قد خطئ، ونحن نحمل تلك الخطيئة فينا. إنّها تجعلنا ضعفاء. الإنسان فَقَدَ نعمة الربّ، القوّة الوحيدة التي تقودنا...»
«وهل يَعلَم الربّ ذلك؟»
«هو عالِم بكلّ شيء.»
«فإذن، أتعتقد بأنّ ليس لديه رحمة بحيث لا يَأخذ بعين الاعتبار ما يَجعَل الإنسان ضعيفاً؟ هل تعتقد بأنّه يُطالِب السُّلالة الـمُبتلية بما كان يمكنه أن يُطالِب به آدم الأوّل؟ هنا يَكمن الفرق الذي لا تأخذونه بعين الاعتبار. الله هو العدل، نعم، إنّه القُدرة، نعم. يمكن أيضاً أن يكون شديداً مع الخاطئ غير التائب الذي يُواصِل الخطيئة. إنّما عندما يرى أنّ واحداً مِن أولاده -كلّكم أولاد على الأرض التي هي فقط ساعة واحدة مِن أبديّة الروح، الذي سوف يغدو راشداً عند الامتحان الروحيّ للرُّشد الأبديّ في الدينونة الخاصّة- عندما يرى أن أحد أطفاله قد خطئ لأنّه غافِل، أو بطيء في التمييز، لأنّه غير متعلّم كفاية، أو لأنّه ضعيف جدّاً بأمر أو بعدّة أمور، فهل تعتقد أنّ الآب كُليّ القداسة يمكنه أن يدينه بشدّة مُتصَلِّبة؟ أنتَ قُلتَها، الإنسان فَقَدَ النعمة، والقوّة كي يَصدّ التجارب والشهوات. والله يعرف ذلك. وعلى المرء ألّا يخاف مِن الله ويهرب منه كما فَعَلَ آدم بعد خطيئته. بل أن يتذكّر بأنّه محبّة. وجهه يسطع على البشر، لا كي يحيلهم رماداً، إنّما بالحريّ كي يعزّيهم، كما تعزّي الشمس بأشعّتها. ليست الشدّة، إنّما المحبّة هي التي تُشِعّ مِن الله: أشّعة شمس، وليس سِهاماً صاعِقة. وفضلاً عن ذلك... ما الذي تفرضه المحبّة مِن ذاتها؟ أتفرض عبئاً لا يمكن حَمله؟ قانوناً لا تُحصى مواده وسهلة النسيان؟ لا. فقط عشر وصايا، كي يَكبَح مثل مُهر الإنسان-الحيوان، الذي مِن دون لجام سوف يَندَفِع إلى الهلاك. إنّما حينما يُخلَّص الإنسان، حين تُعاد النعمة إليه، حين يُرسَّخ ملكوت الله، أي، حينما تَسود المحبّة، فإنّ أبناء الله ورعايا الـمَلِك سوف يُعطون وصيّة واحدة فقط، والتي ستتضمّن كلّ شيء: "أَحِبّ إلهكَ بكلّ ذاتكَ وقريبكَ مثل نفسكَ." لأنّ، آمِن بذلك أيّها الرجل، الله-المحبّة، لا يمكنه سوى أنّ يُخفّف النِّير ويجعله لطيفاً، والمحبّة سوف تجعل خدمة الله ممتعة، فلا يعود محلّ خوف، بل محبوباً. فقط محبوباً. محبوباً لذاته ومحبوباً بإخوتنا. كم ستكون سهلة الشريعة الأخيرة! كما هو الله، الكامل في بساطته. اسمع: أَحبِب الله بكلّ ذاتكَ، أَحبِب قريبكَ كنفسكَ. فَكّر. أليست الأحكام الستمائة والثلاثة عشر الثقيلة، وكلّ الصلوات والتبريكات متضمّنة في هاتين العبارتين، بتجريدهما مِن التفاصيل غير المجدية، التي هي ليست مِن الدين بل مِن العبوديّة حيال الله؟ إذا ما أحبَبتَ الله فإنّكَ حتماً تُكَرِّمه في كلّ ساعة. وإن أَحبَبتَ قريبكَ، فإنّك لن تفعل أيّ شيء قد يؤلمه. فلا تكذب، لا تسرق، لا تقتل أو تَجرَح، لا تَزني. أليس كذلك؟»
«نعم... أيّها المعلّم البار، أودُّ أن أبقى معكَ. إنّما غَمَالائيل قد سَبَقَ أن خَسِر بسببكَ أفضل تلاميذه... أنا...»
«لم تحن بعد ساعة المجيء إليَّ، وعندما تحين، فإنّ معلّمكَ ذاته سوف يقول لكَ، لأنّه إنسان بارّ.»
«أهو كذلك، حقّاً؟ تقول ذلك؟»
«أقول ذلك لأنّها الحقيقة. أنا لا أُسقِط أحداً كي أرتفع على حساب أولئك الذين سَقَطوا. إنّني أعترف لكلّ واحد بِقَدره... إنّما هم ينادوننا... لا بدّ أنّهم قد وَجَدوا مأوىً لنا. هيّا بنا...»