ج7 - ف217
أَنَا هُوَ
ماريا فالتورتا
L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO
THE GOSPEL AS REVEALED TO ME
بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}
L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ
MARIA VALTORTA
الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.
الجزء السابع / القسم الثاني
217- (أثناء الذهاب إلى تيكوا. إيلي-حنّة العجوز)
29 / 10 / 1946
ما يزالون أحد عشر عندما يعاودون المسير. أحد عشر مِن الوجوه مشغولة البال والمشمئزّة حول وجه يسوع المتكدّر الّذي غادر الأختين والّذي، بعد برهة مِن التفكير، قبل اجتياز البوابة، يأمر سمعان الغيور وبرتلماوس: «أنتما ابقيا هنا. ستلحقان بي إلى تيكوا في منزل سمعان، أو في منزل نيقي، بالقرب مِن أريحا، أو في بيت عَبرة؛ هذا إن أتى. و... استخدما المحبّة. هل فهمتماني؟»
«امضِ بكلّ سكينة يا معلّم. لن نسيء بأيّ شكل إلى محبّة القريب.» يؤكّد برتلماوس.
«مهما تكن الساعة الّتي يصل إليكم فيها، امضوا في الحال.»
«في الحال يا معلّم. و... شكراً على ثقتكَ بنا.» يقول الغيور.
يتبادلون القبلات، وبينما يُغلِق أحد الخدام البوّابة ويبتعد يسوع، يعود الاثنان اللذان بقيا إلى الأختين، إلى المنزل.
يسوع في المقدّمة، وحيداً؛ خلفه، بطرس بين متّى ويعقوب بن حلفى؛ ثمّ فليبّس مع أندراوس، يعقوب ويوحنّا بن زَبْدي. في الآخِر ، بأكثر صمتاً مِن الآخرين، يأتي توما ويوضاس تدّاوس. ولكنّني أخطأتُ في التعبير. فكذلك بطرس لا يتكلّم. رفيقاه يتبادلان كلمات قليلة، إنّما هو، الذي بين هذا وذاك، لا يتكلّم. يمضي بصمت ورأسه محنيّ، يبدو كما لو أنّه يتبادل حِوار صامت مع الحجارة والأعشاب الّتي يسير عليها.
الاثنان الأخيران كذلك لهما المظهر ذاته. لكن بينما توما يبدو غارقاً في التأمّل بغصن صغير مِن الصفصاف ينزع عنه الأوراق، ورقة إثر ورقة، وينظر إلى كل ورقة بعد نزعها كما ليدرس اللون الأخضر الشاحب مِن جهة، والفضّي مِن الأخرى، أو عروق نسيجها، فإنّ يوضاس تدّاوس يحدّق أمامه مباشرة. لستُ أدري إذا ما كان ينظر إلى الأفق الّذي، بعد اجتيازهم لإحدى القمم، ينفتح على ضياء ضبابيّ لسهل في الفجر، أو إنّه ينظر فقط إلى رأس يسوع الأشقر، الّذي رمى طرف معطفه إلى الخلف كما ليستمتع بشمس كانون الأوّل (ديسمبر) اللطيفة على رأسه. وينتهي بذات الوقت انشغال توما، وتأمّل يوضاس تدّاوس للأفق أو للمعلّم. فهذا الأخير يخفض عينيه ويدير رأسه لينظر إلى رفيقه، بينما توما، بعد تحويل غصينه إلى سوط صغير، يرفع بصره لينظر إلى تدّاوس، نظرة حادّة وفي الوقت ذاته طَيّبة وحزينة تلتقي بنظرة مماثلة.
«هو هكذا يا صديقي! بالضبط هو هكذا!» يقول توما وكأنه كان يُنهي حِواراً.
«نعم، هو هكذا. وألمي عظيم جدّاً... بالنسبة لي هو كذلك يتعلّق بمحبّة قريب...»
«أُدرِك. إنّما... لديكَ تبريح المودّة في القلب. لكن، وأنا؟ لديَّ وخز ضمير يؤرّقني، وهذا أسوأ بعد.»
«وخز ضمير، أنتَ؟ لا شيء لديكَ يثير وخز ضمير. أنتَ بارّ وأمين. يسوع مسرور منكَ، ونحن، لم نلقَ منكَ أبداً أيّ سبب لعثار. فكيف إذاً يأتيكَ هذا الانطباع بوخز الضمير؟»
«مِن ذكرى. ذكرى اليوم الّذي قرّرتُ فيه أن أتبع الرابّي الجديد الّذي ظهر في الهيكل... يهوذا وأنا كنّا في أحد الجوانب وأُعجِبنا بمظهر وكلام المعلّم. وقرّرتُ معاودة البحث عنه... وكنتُ حتّى أكثر إصراراً مِن يهوذا، ويمكن القول بأنّني قد جررتُه. هو كان يقول العكس، ولكنّ الأمر هو هكذا. هذا هو سبب تأنيب الضمير: الإصرار على مجيئه... لقد جلبتُ ألماً مستديماً ليسوع. ولكنّ يهوذا، حسب علمي، كان جيّداً في نظر... أناس كثيرين، وكنتُ أظنُّ أنّه مِن الممكن أن يكون نافعاً. كنتُ غبيّاً مثل كلّ الّذين لا يعرفون أن يفكّروا سوى بِـمَلك لإسرائيل أعظم مِن داود وسليمان، إنّما بمجرّد مَلِك... مَلِك كما يقول هو بأنّه لن يكون أبداً، كنتُ أرغب بشدّة أن يكون بين التلاميذ هو الّذي كان يمكنه أن يكون مفيداً!... كنتُ أتمنّى ذلك، والآن فقط أصبحتُ أُدرِك، أصبحتُ أُدرِك أكثر فأكثر إنصاف يسوع الّذي لم يقبله مباشرة، الّذي منعه حتّى مِن البحث عنه... أقول لكَ وخز ضمير! وخز ضمير! هذا الرجل ليس صالحاً.»
«هو ليس صالحاً، ولكن لا تخلق لنفسكَ وخز ضمير. فَلَم تفعل ما فعلتَ بخبث، وبالتالي ما مِن خطأ. أقول لكَ هذا.»
«هل أنتَ متأكّد مِن ذلك؟ أم إنّكَ تقول ما تقول لتواسيني؟»
«أقول هذا لأنّه الحقيقة. لا تعد تفكّر بالماضي يا توما. فذلك لا يفيد في إلغائه...»
«حسناً تتكلّم! ولكن فَكّر! لو أنّ معلّمي قد يتعرّض بسببي لمآسٍ... إنّ قلبي طافح بالقلق والشكوك. أنا خاطئ بالحكم على رفيق وحكمي لا رحمة فيه. وأنا خاطئ لأنّ عليَّ الوثوق بكلام المعلّم... هو يعذر يهوذا... أنتَ... أتصدّق أخيكَ في ذلك؟»
«في كلّ شيء، إلاّ في هذا. ولكن لا تغتمّ. فجميعنا لدينا الفكرة ذاتها. حتّى بطرس، الّذي يتلاشى كثيراً، يجتهد في التفكير بشتّى أنواع الخير حول هذا الإنسان، حتّى أندراوس الوديع أكثر مِن حَمَل صغير، حتّى متّى، الوحيد فينا الّذي لا يشمئزّ مِن أيّ خاطئ أو خاطئة. ويوحنّا الوَدود للغاية والنقيّ للغاية، صاحب المصير السعيد بعدم الخشية مِن الشرّ ولا الرذيلة، ذلك أنّه ممتلئ مِن المحبّة والطهارة بحيث لا متّسع لديه لأيّ أمر آخر. وأخي يَحوزه. أتحدّث عن يسوع، حتماً لديه أفكار أخرى مع هذه، أفكار يرى بموجبها ضرورة الاحتفاظ بيهوذا... إلى أن يستنفذ كلّ المحاولات في جعله صالحاً.»
«نعم. ولكن... كيف تُراه ينتهي هذا؟ لديه الكثير... ليس لديه... في النهاية، تدرك دون أن أقول ذلك. إلى أين سيصل في هذا؟»
«لا أعلم... قد ينفصل عنّا... وقد يبقى في انتظار رؤية مَن هو الأقوى في هذه المعركة بين يسوع والعالم العبريّ...»
«والأمر الآخر؟ ألا تظنّ أنّه، منذ الآن يخدم معلّمين؟»
«هذا أكيد.»
«وألا تخشى مِن تمكّنه مِن خدمة الأكثر عدداً، بشكل يؤذي المعلّم بشكل كامل؟»
«لا. أنا لا أحبّه، إنّما لا يمكنني التفكير بأنّه... أقلّه حاليّاً، لا. بالتأكيد مع ذلك أخشى أن يحدث ذلك يوماً وقد تخلى الجمع عن حماية المعلّم. فيما إذا ما كرّسه هتاف شعبيّ مَلِكاً علينا وزعيماً لنا، فأنا أكيد أنّ يهوذا يتخلّى عن العالم مِن أجله. إنّه انتهازيّ... فليضبطه الله، ويحمي يسوع ويحمينا جميعنا!...»
ينتبه الاثنان أنّهما قد أبطآ سيرهما كثيراً وأصبحا على مسافة بعيدة عن رفاقهما، ومِن دون كلام، يسرعان للّحاق بهم.
«ولكن ما الّذي كنتما تفعلانه؟» يسأل متّى. «كان المعلّم يطلبكما...»
يستعجل توما وتدّاوس في الذهاب إلى يسوع.
«عن أيّ أمر كنتما تتحدّثان؟» يَسأَل يسوع وهو يحدّق في وجهيهما.
ينظر الاثنان واحدهما إلى الآخر. التكلّم؟ عدم التكلّم؟ تَغلب الصراحة. «عن يهوذا.» يقولان معاً.
«كنتُ أعلم ذلك، ولكنّني أردتُ اختبار صراحتكما. كنتما ستؤلمانني لو كذبتما عليَّ... ولكن لا تعودا تتحدّثان عن ذلك، وخصوصاً بهذه الطريقة. هناك أمور حسنة كثيرة يمكن التكلّم عنها. فلماذا الانحطاط دائماً إلى النظر إلى ما هو مادّيّ جدّاً؟ إشَعياء يقول: "دعوا الإنسان الّذي روحه في منخريه". أنا أقول لكما: كُفّا عن تحليل هذا الرجل واهتمّا بروحه. المسخ الّذي فيه، وحشه، يجبّ ألاّ يثير انتباهكما ولا أحكامكما؛ ولكن فلتكن فيكما المحبّة، محبّة موجعة وفاعلة لروحه. حرّراه مِن المسخ المستولي عليه. أنتما لا تعلمان.»...
يلتفت لينادي السبعة الآخرين: «تعالوا إلى هنا جميعكم، لأنّ ما سأقوله مفيد للجميع، فلجميعكم الأفكار ذاتها في القلب... ألا تعلمون أنّكم تتعلّمون عبر يهوذا الإسخريوطيّ أكثر ممّا تتعلّمونه عبر أيّ آخر؟ سوف تلقون الكثير مِن أمثال يهوذا والقليل مِن أمثال يسوع في مهمتّكم الرسوليّة. إنّ أمثال يسوع سيكونون صالحين، وديعين، أطهاراً، أوفياء، مطيعين، حذرين، غير جشعين. سيكون منهم القليل جدّاً... إنّما كَم وكَم مِن يهوذا الإسخريوطيّ ستجدون، أنتم ومَن سيتبعونكم وخلفاؤكم، على دروب العالم! وكي تكونوا معلّمين وتَعلَموا، عليكم اتّباع هذه المدرسة... فهو، بعيوبه، يُظهِر لكم الإنسان كما هو؛ أنا أُظهِر لكم الإنسان كما ينبغي أن يكون. مَثَلان متساويان في الضرورة. أنتم، بمعرفة الواحد والآخر، عليكم أن تُغيّروا الأوّل إلى الثاني... وليكن صبري قاعدتكم.»
«ربّي، لقد كنتُ خاطئاً كبيراً، وسأكون حتماً مثالاً، أنا كذلك. ولكنّني أودُّ أن يصبح يهوذا، الّذي لم يكن خاطئاً كما كنتُ أنا، أن يصبح المهتدي الّذي أنا عليه. هل قَولي هذا مِن الكبرياء هو؟»
«لا يا متّى، ليس مِن الكبرياء. إنّكَ تُكرِم حقيقتين بقولكَ. الأولى هي أنّ الحكمة القائلة: "إرادة الإنسان الصالحة تجترح المعجزات الإلهيّة" هي حكمة صادقة. الثانية هي أنّ الله قد أحبّك محبّةً لا نهائيّة، منذ اللحظة الّتي لم تكن تفكّر فيها بذلك، وكان يتصرّف هكذا لأنّه لم يكن يجهل قدرتكَ البطوليّة. فأنتَ ثمرة قوّتين: إرادتكَ ومحبّة الله. وأضع إرادتكَ في المرتبة الأولى، ذلك أنّ محبّة الله غير مجدية بدونها. غير مجدية، خاملة...»
«ولكن ألا يمكن لله أن يهدينا دون إرادتنا؟» يَسأَل يعقوب بن حلفى.
«بالتأكيد. ولكن فيما بعد إرادة الإنسان تكون لازمة للمثابرة في الهداية الحاصلة بشكل معجزي.»
«إذاً، لم تكن هذه الإرادة في يهوذا، ولا وجود لها لا قبل التعرّف إليكَ، ولا الآن...» يقول فليبّس بحدّة. يضحك البعض، وآخرون يتنهّدون.
يسوع هو الوحيد الّذي يدافع عن الرسول الغائب: «لا تقولوا هذا! هو كان وما زال يملكها، ولكنّ شريعة الجسد الفاسدة تسيطر عليها مِن حين لآخر. إنّه مريض... أخ مسكين مريض. في كلّ عائلة، هناك الضعيف، المريض، مَن هو الكربة، الضيق، عبء العائلة. ومع ذلك أليس هو الأحبّ إلى أُمّه، الابن الواهن؟ أليس الأكثر دلالاً بين الإخوة الأخ الصغير التعيس؟ أليس هو مَن يعطيه الأب اللقمة الأفضل، آخذاً إيّاها مِن الطبق لأجله، كي يمنحه سروراً، كي لا يجعله يفهم أنّه عبء، وكي لا يجعل آفته بهذه الطريقة ثقيلة الوطأة؟»
«صحيح، صحيح تماماً. أختي التوأم كانت هزيلة في طفولتها؛ فأنا مَن أخذتُ كلّ القوّة. ولكنّ محبّة العائلة كلّها قد دعمتها كثيراً، لدرجة أنّها الآن عروس وأُمّ نضرة» يقول توما.
«هوذا. إفعلوا أنتم مع أخيكم الروحيّ الواهن ما كنتم لتفعلونه مع أخ لكم بالجسد هو عليل الصحّة. لن تكون لي كلمة ملامة. وأنتم لا تكونوا إلّا مثلي. محبّتكم المتأنّية هي الملامة الأقوى والّتي لا يمكن أن تكون لها ردّة فعل. سوف أترك متّى وفليبّس في تيكوا لانتظار يهوذا... وليتذكّر الأوّل أنّه كان خاطئاً، والثاني أنّه أب...»
«نعم، يا معلّم، سنتذكّر ذلك.»
«في اريحا، إن لم يكن قد أصبح معنا، سأترك أندراوس ويوحنّا، وليتذكّرا أنّه ليس الجميع قد تلقّوا نِعَم الله المجانيّة بنفس السويّة... لكن اذهبوا إلى ذاك المستجدي العجوز الّذي يترنّح على الطريق. المدينة على مرأى. سيتمكّن بواسطة الصدقة مِن تأمين الخبز لنفسه.»
«يا ربّ، هذا غير متاح لنا. لقد ذهب يهوذا ومعه النقود...» يقول بطرس.
«والأختان لم تعطيانا شيئاً.»
«أنتَ محقّ يا سمعان. إنّهما كَمَن أصابه الدُّوار مِن جرّاء الألم ونحن معهما. لا يهمّ. لدينا القليل مِن الخبز. ونحن شباب وأقوياء. أعطوها للعجوز كي لا يقع في الطريق.»
يبحثون في أكياسهم، يجمعون قطع الخبز، يعطونها للعجوز الّذي ينظر إليهم بدهشة.
«كُلْ، كُلْ!» يقول يسوع ليشجّعه، ويجعله يشرب مِن مطرته وهو يسأله عن وجهته.
«إلى تيكوا. سيقام سوق كبير غداً. إلاّ أنّني لم أذق الطعام منذ الأمس.»
«هل أنتَ وحيد؟»
«أكثر مِن وحيد... ابني قد طردني...» الصوت الهَرِم يمزّق القلب لدى سماعه.
«سيفتح الله لكَ أبواب الملكوت إن عرفتَ أن تؤمن برحمته.»
«وبتلك الّتي لمسيحه. ولكنّ المَسيّا لم يكون لابني، فهو لا يمكنه أن يحظى بمَسيّا، هو الّذي يكرهه، لدرجة أن يكره والده لأنّه يحبّه.»
«ألأجل هذا طردكَ؟»
«لأجل هذا، ولكي لا يخسر صداقة بعض مَن يضطهدون المسيح. أراد أن يُظهِر لهم أن كرهه يفوق كرههم له، لدرجة أنّه تفوّق حتّى على صوت الدم.»
«يا للفظاعة!» يقول جميع الرُّسُل.
«لكان أكثر هولاً لو كانت لي أفكار ابني ذاتها.» يقول العجوز بحدّة.
«ولكن مَن يكون؟ إذا ما كنتُ قد أدركتُ جيّداً فَمِن المفروض أنّه أحد ذوي السلطان وكلمته مسموعة...» يقول توما.
«يا رجل، ليس أباً مَن يقول اسم ابنه المذنب لكي يُحتقَر. عليَّ أن أقول بأنّني جائع وبردان، أنا الّذي بالكثير مِن العمل قد زدت مِن تحسين وضع البيت لأجعل ابني سعيداً. إنّما لا أكثر مِن ذلك. فَكّر أنّني مِن اليهوديّة وهو كذلك مِن اليهوديّة وهكذا فنحن مِن الذرّية ذاتها، ولكنّنا لا نفكر بالطريقة ذاتها. ما عدا ذلك عديم الجدوى.»
«وألا تطلب شيئاً مِن الله، وأنتَ البارّ؟» يَسأَل يسوع بتؤدة.
«أن يلمس قلب ابني ويقوده إلى الإيمان بما أؤمن.»
«ولكن لكَ، فقط لكَ، ألا تطلب شيئاً؟»
«أن أقابل مَن هو بالنسبة لي ابن الله، لأكرّمه وأموت بعد ذلك.»
«ولكن إن متّ فلا تعود تراه. ستكون في اليمبس...»
«لوقت قليل. أنتَ رابّي، أليس كذلك؟ لقد كَلَّ نظري... العمر... دموعي الكثيرة، والجوع كذلك... ولكنّني أرى عِقَد الحزام... إذا كنتَ رابّي صالحاً، كما يبدو لي، فَمِن المفروض أنّكَ تدرك أنتَ كذلك أنّ الزمن قد حان، أقصد، الزمن الّذي تكلّم عنه إشَعياء. ستأتي الساعة الّتي يحمل فيها الحَمَل كلّ خطايا العالم ويحمل كلّ شرورنا وآلامنا، ولهذا السبب سوف يُطعَن ويُقدَّم ذبيحة لكي نشفى ونكون بسلام مع الأزليّ. وإذن، للأرواح كذلك، سيكون السلام... آمل ذلك معتمداً على رحمة الله.»
«ألم ترَ المعلّم أبداً؟»
«لا. لقد سمعتُه يتكلّم في الهيكل، أثناء الأعياد. ولكنّني قصير، والعمر يجعلني أكثر قصراً، ونظري كليل، كما قلتُ. لذلك، إذا ما مضيت وسط الجمع، لا أرى بسبب مَن هم أمامي، وإذا ما بقيتُ بعيداً، لا أرى بسبب المسافة. آه! أودُّ لو أراه! مرّة واحدة على الأقلّ!»
«سوف تراه أيّها الأب، سيجعلكَ الله ترضى. وفي تيكوا هل لكَ مكان تمضي إليه؟»
«لا. سأمكث تحت رواق أو تحت أحد المداخل. ولقد اعتدتُ على ذلك.»
«تعال معي. أعرف إسرائيليّاً صالحاً. سيستقبلكَ باسم يسوع، معلّم الجليل.»
«إنّما أنتَ أيضاً جليليّ. أرى ذلك مِن لهجتكَ.»
«نعم... هل أنتَ متعب؟ ولكنّنا أصبحنا عند طلائع المنازل. سوف ترتاح قريباً ويمكنكَ استرداد قواكَ.»
ينحني يسوع ليقول أمراً ما لبطرس، ويتحرّك بطرس ليقول للآخرين ما قاله له يسوع، والذي لستُ أدري ما هو. ومن ثمّ، مع ابنيّ حلفى ويوحنّا، يحثّ الخطى لدخول المدينة. يتبعه يسوع مع الآخرين، موافقين خطواتهم مع خطوات العجوز الّذي لم يعد يتكلّم، منهكاً تماماً، بشكل ينتهي معه إلى البقاء في الخلف مع أندراوس ومتّى.
تبدو المدينة خاوية. إنّها الظهيرة والكثير مِن الناس في البيوت لتناول الطعام. بعد بضعة أمتار، ها هو بطرس: «تمّ الأمر يا ربّ. سمعان يستقبله لأنّكَ أنتَ مَن استقدمه، ويشكركَ لأنّكَ فكّرتَ به.»
«لنبارك الربّ! فما زال أبرار في إسرائيل. وهذا العجوز أحدهم، وسمعان آخر. نعم، ما زال هناك أناس صالحون، رحماء، أوفياء للربّ. وهذا يُعوّض عن كثير مِن المرار، ويجعل المرء يأمل أن تلين العدالة الإلهيّة بسبب هؤلاء الأبرار.»
«إنّما!... ابن يطرد أباه كي لا يخسر صداقة، حتماً، بعض الفرّيسيّين المتنفّذين!»
«لهذه الدرجة يمكن أن تصل الكراهية تجاهكَ! أنا مغتاظ مِن ذلك!» يقول فليبّس.
«آه! سوف ترون ما هو أعظم!» يجيب يسوع.
«ما هو أعظم؟ وماذا أكثر مِن طرد أب لأنّه لا يكرهكَ؟ عظيمة هي خطيئة هذا الرجل!...»
«أعظم منها ستكون خطيئة شعب ضدّ إلهه... ولكن فلننتظر الرجل العجوز...»
«مَن يمكن أن يكون ابنه؟»
«فرّيسيّ!»
«سنهدرينيّ!»
«رابّي.»
تختلف الآراء.
«بائس. لا تحاولوا معرفة ذلك. اليوم ضرب أباه، غداً سيضربني. ترون إذن أنّ خطيئة يهوذا، بابتعاده هكذا كولد شقيّ، ليست بشيء عند المقارنة. ومع ذلك، سأصلّي مِن أجل هذا الابن الجاحد، مِن أجل هذا العبرانيّ الّذي يهين الله، لكي يتوب. أنتم، افعلوا الأمر ذاته... تعال أيّها الأب. ما اسمكَ؟»
«إيلي-حنّة. لم أكن سعيداً أبداً! فقد مات أبي قبل ولادتي وأُمّي أثناء ولادتي. أُمّ أُمّي، الّتي ربّتني، أطلقت عليَّ اسميّ أبي وأمّي مجتمعَين.»
«بالحقيقة أنتَ عَالِي، أيّها الرجل، وابنك يشبه فينّيس1.» يقول فليبّس الّذي لا يمكنه تمالك نفسه أمام خطيئة كهذه.
«لا سمح الله يا رجل، فينّيس مات في حال الخطيئة، وقد مات عندما تمّ الاستيلاء على تابوت العهد. هذا شقاء لنفسه ولكلّ إسرائيل.» يجيب العجوز.
«انظر، هذا بيت صديق لي وأحصل على ما أطلب منه. هو لسمعان، رجل بارّ أمام الله والناس. يستقبلكَ بمحبّة مِن أجلي، إذا ما كنتَ تَقبَل هذا المكان.» يقول يسوع قبل أن يطرق على الباب.
«وهل يمكنني الاختيار؟ سألتمس بركات السماء على الّذي سيمنحني زاد ومأوى المحبّة. ولكنّني أودُّ أن أعمل. فليس عيباً أن أكون خادماً. العيب هو ارتكاب الخطيئة...»
«سنقول ذلك لسمعان.» يقول يسوع مع ابتسامة إشفاق، ناظراً إلى العجوز وقد تحوّل إلى لا شيء بالفاقة والألم المعنويّ.
يُفتَح الباب: «أُدخل يا معلّم، السلام لكَ ولِمَن هم معكَ. أين هو هذا الأخ الّذي جلبتَه لي؟ لأتمكّن مِن أن أمنحه قبلة السلام والترحيب.» يقول رجل في حوالي الخمسين مِن عمره.
«ها هو، وليكافئكَ الربّ.»
«قد كافأني. فأنتَ ضَيفي، ومَن يحصل عليكَ يحصل على الله. لم أكن أنتظركَ، ولا يمكنني إكرامكَ كما أودّ. لكنّني أسمع أنّكَ تنوي العودة بعد عدّة أيّام وسأكون مستعدّاً لاستقبالكَ كما يليق.»
هم الآن في غرفة حيث جُهّزت أحواض يتصاعد منها البخار مِن أجل الاغتسال. يبقى العجوز خَجِلاً أمام الباب، ولكنّ ربّ البيت يأخذه مِن يده ويقوده إلى مقعد، يبغي أن ينزع له نعاله بيده، خدمته كملك، ثمّ يُلبِسه نعال جديد بينما يقول العجوز: «لماذا؟ ولكن لماذا؟ أتيتُ لخدمتكَ وأنتَ تخدمني! هذا لا يستقيم.»
«هذا يستقيم يا رجل. لا يمكنني أن أتبع الرابّي لأنّ منزلي يستوجب حضوري، ولكنّني كما أدنى تلميذ للمعلّم القدّيس، أرتّب أموري بحيث أضع كلامه موضع التطبيق.»
«أنتَ تعرفه جيّداً. أنتَ تعرفه بحقّ، ذلك أنّكَ صالح. كثيرون يعرفونه في إسرائيل، ولكن كيف؟ بعيونهم وحقدهم، وبالتالي فهم لا يعرفونه. تُعرَف امرأة عندما لا يعود شيء مجهول مِن ناحيتها ويصبح امتلاكها كاملاً. هكذا هو الأمر بالنسبة ليسوع الناصريّ، الّذي لا أعرفه بالنظر، ولكنّني أعرفه أكثر مِن أناس كثيرين لأنّني على يقين مِن أنّ فيه تكمن الحكمة. أمّا أنتَ فتعرفه بحقّ، هو ومذهبه.»
ينظر الرجل إلى يسوع، ولكنّه لا يقول شيئاً.
يتابع العجوز: «لقد قلتُ لهذا الرابّي بأنّني أريد العمل...»
«نعم، نعم، سنجد عملاً لكَ، إنّما الآن هيّا إلى المائدة. يا معلّم، تلاميذكَ على وشك الوصول. هل يمكننا الجلوس إلى المائدة رغم ذلك أم تفضّل انتظارهم؟»
«أودّ انتظارهم، إنّما إن كان لديكَ عمل تؤدّيه...»
«آه! يا معلّم، أنتَ تعلم أن طاعتي لأصغر رغباتكَ فرح لي.»
بدأ لدى العجوز في هذه الآونة أوّل شكّ بهويّة الرجل الّذي أغاثه في الطريق، ثمّ ينظر إليه، ينظر إليه، ثمّ ينظر إلى رفاقه... يتفحّصهم بانتباه... ويدور حولهم... يدخل ابنا حلفى مع يوحنّا. يناديهم يسوع بأسمائهم.
«آه! يا الله العليّ! ولكن إذن... هو أنتَ!» يهتف العجوز ويرتمي أرضاً ليبجّله.
لم تكن دهشته أقلّ مِن دهشة الآخرين. غريبة هي هذه الطريقة في التعرّف على المعلّم! حتّى إنّ بطرس يسأله: «ما الشيء المميّز في هذه الأسماء المعروفة جدّاً في إسرائيل، حتّى تجعلكَ تدرك أنّكَ في حضرة مَسيّا؟»
«ذلك أنّني أعرف يهوذا (يوضاس). وهو يأتي دائماً عند ابني و...» ويتوقّف، منزعجاً لذكر ابنه…
«أمّا أنا، فلم أرَكَ قطّ يا رجل» يقول تدّاوس جاعلاً نفسه أمامه، منخفضاً ليكون مواجهه تماماً.
«ولا أنا أعرفكَ. ولكنّ أحدهم يدعى يهوذا، تلميذ المسيح، يأتي غالباً عند ابني، وسمعتُ كلاماً عن يوحنّا ويعقوب وسمعان صديق لعازر بيت عنيا وأموراً أخرى كثيرة... سماع ثلاثة أسماء معروفة بكونهم التلاميذ الأكثر حميميّة للمعلّم! وهو، صالح للغاية!... فقد أدركتُ، هاك! ولكن أين هو يهوذا الآخر؟»
«هو ليس هنا، ولكن هذا صحيح. لقد أدركتَ. إنّه أنا. الربّ صالح أيّها الأب. لقد رغبتَ برؤيتي، ورأيتَني. لنبارك رحمات الله... لا تبتعد يا إيلي-حنّة. كنتَ تظلّ قريباً منّي عندما كنتُ أنا بالنسبة لكَ مجرّد مسافر لا أكثر. لماذا تريد الابتعاد عنّي الآن وقد عرفت أنّني المبتغى؟ أنتَ لستَ تعرف كم عَزّاني قلبكَ! لا يمكنكَ معرفة ذلك. فأنا مَن تلقّى، بالأكثر، ولستَ أنتَ... فعندما ثلاثة أرباع إسرائيل، بل أكثر، يكرهونني لدرجة الإجرام، عندما يبتعد الضعفاء عن دربي، عندما أشواك الجحود، الحقد، الافتراء، تجرحني في كلّ ناحية، عندما لا أتمكّن مِن إيجاد العزاء في فكرة أنّ تضحيتي ستكون خلاصاً لإسرائيل، فإنّ إيجاد شخص مثلك، أيّها الأب، يكون بمثابة التعويض عن ألمي... أنتَ لا تعرف... لا أحد يعرف أحزان ابن الإنسان الأكثر فأكثر عمقاً. أنا عطشان للمحبّة... وقلوب كثيرة هي ينابيع جافّة لا فائدة مِن اقترابي منها... ولكن هيّا بنا...»
وبإبقاء العجوز بالقرب منه، يدخل الغرفة حيث جُهِّزت الموائد...
----------
1- أنظر سفر صموئيل الأوّل (2 : 12 - 36).