ج10 - ف15
أَنَا هُوَ
ماريا فالتورتا
L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO
THE GOSPEL AS REVEALED TO ME
بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}
L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ
MARIA VALTORTA
الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.
الجزء العاشر
15- (يسوع القائم في جَثْسَيْماني)
11 / 04 / 1947
الرُّسُل يرتدون أرديتهم ويسألون: «إلى أين نذهب ياربّ؟»
كلامهم لم يعد بتلك الإلفة الّتي كان عليها قبل الآلام. وإذا كان مسموحاً قول ذلك، لكنتُ أقول إنّهم يتكلّمون ونفوسهم راكعة. أكثر ممّا هي عليه وضعيّة أجسادهم، الّتي يُبقونها دوماً منحنيةً قليلاً، إجلالاً في حضرة الربّ القائم مِن الموت، وأكثر مِن تهيّبهم عندما يلمسونه، وأكثر مِن فرحهم الراجف عندما هو يلمسهم، يلاطفهم أو يعانقهم، أو عندما يوجّه لهم كلمة على وجه الخصوص، هو مظهرهم بالإجمال، الأمر الّذي لا يمكن وصفه، إنّما هو واضح جدّاً، وما يُفصِح عن ذلك هي أرواحهم أكثر مِن بشريّتهم، الّتي لا يمكن أن تعود ثانية كما كانت عليه سابقاً في علاقاتها بالمعلّم، وتؤثّر بطريقة شعورها الجديدة على كلّ فعل بشريّ.
سابقاً، هو كان "المعلّم". معلّماً كان بحسب إيمانهم الّذي يؤمن أنّه الله، إنّما الّذي كان دوماً، بالنسبة إلى حواسّهم، إنساناً. الآن هو "الربّ". إنّه الله. لم يعد هناك حاجة إلى القيام بأفعال إيمان للاعتراف بذلك. الأمر الجليّ ألغى هذه الحاجة، إنّه الله. إنّه الربّ الّذي قال له الربّ: «اجلس عن يميني.» وأَعلَنَ عن ذلك بالكلمة ومعجزة القيامة. الله هو كما الآب. وهو الله الّذي هجروه خوفاً، بعدما نالوا منه الكثير…
إنّهم ينظرون إليه دوماً بنظرة الإجلال الموقّر تلك الّتي ينظر بها مؤمن حقيقيّ إلى القربان الّذي يسطع وسط شعاع القربان المقدّس، أو كما ينظر إلى جسد المسيح الّذي يرفعه الكاهن يوميّاً في القدّاس الإلهيّ. إنّ في نظرهم، الّذي يريد أن يرى الوجه المحبوب، الأكثر وسامة مِن الماضي، هناك كذلك تعبير مَن لا يجرؤ على النظر، مَن لا يجرؤ على التوقّف لحظة للنظر… المحبّة تحثّهم على التحديق بمحبوبهم، لكنّ الرهبة تجعلهم يخفضون في الحال جفونهم ورؤوسهم، كما لو أنّ سطوعاً أبهرهم.
بالفعل، وعلى الرغم مِن أنّ يسوع، يسوع القائِم مِن الموت، لا يزال بالضبط هو، فهو في الوقت نفسه ما عاد هو. فإذا ما نظرنا إليه جيّداً، فهو مختلف. مشابهة هي ملامح وجهه، لون الشعر والعينين، القامة، اليدين والرجلين، ومع ذلك فهو مختلف. صوته وحركاته ذاتها، ومع ذلك فهو مختلف، جسده حقيقيّ، بحيث أنّه يحجب أيضاً الآن نور الشمس الآفلة الّتي يدخل شعاعها الأخير إلى الغرفة عبر النافذة المفتوحة. إنّه يُلقي وراءه ظلّ شخصه الطويل القامة، ومع ذلك فهو مختلف. لم يصبح متفاخراً، ولا جاف الطبع، ومع ذلك فهو مختلف.
جلالٌ جديد، راسخ، ينتشر حيث كان يسود المظهر المتواضع، البسيط، أحياناً شديد البساطة إلى درجة أنّ المعلّم الّذي لا يكلّ، كان يبدو منهكاً. لقد اختفى نحول الفترات الأخيرة، زالت علامات الإعياء الجسديّ والنفسيّ الّذي كانت تزيد مِن عمره، اختفت تلك النظرة الحزينة، المتوسّلة، الّتي كانت تسأل دون كلام: «لماذا تصدّونني؟ اقبلوني...»، إنّ المسيح القائِم مِن الموت يبدو حتّى أطول قامة أو أكثر صلابةً، متحرّراً مِن كلّ عبء، واثقاً بنفسه، ظافراً، جليلاً، إلهيّاً. وحتّى عندما كان عظيماً في معجزاته ذات السلطان، أو مهيباً في أكثر لحظات تعليمه أهمّية، لم يكن كما هو عليه الآن وقد قام وتمجّد. إنّه لا يبعث نوراً. لا. إنّه لا يبعث نوراً كما في التجلّي وكما في الظهورات الأولى بعد القيامة. ومع ذلك يبدو مُنيراً. إنّه حقاً جسد الله بجمال الأجساد الممجّدة، إنّه يجذب ويُرهِب معاً.
ربّما هي كذلك تلك الجروح الظاهرة جدّاً على اليدين والقدمين، الّتي توحي بذلك الاحترام العميق. لا أعلم. أعلم أنّ الرُّسُل مختلفون، على الرغم مِن أنّ يسوع وديع جدّاً معهم ويسعى إلى أن يخلق مجدّداً مناخ الماضي. قبلاً كانوا لجوجين وثرثارين جدّاً، الآن يتكلّمون قليلاً، وإذا هو لم يُجبهم، فلا يصرّون. إذا ابتسم لهم أو لأحدهم، يتغيّر لونهم ولا يجرؤون على مبادلته الابتسام. وإن هو، كما يفعل الآن، يمدّ يده لتناول ردائه الأبيض -ما يزال لابساً ثوباً أبيض أبهى مِن الأطلس الأكثر بياضاً منذ أن أصبح القائِم مِن الموت- فما مِن أحد منهم يهرع، كما كانوا يفعلون سابقاً متنازعين فرح وشرف مساعدته. يبدون خائفين مِن لمس ثيابه وجسده. ويتوجّب عليه أن يقول، كما يفعل الآن: «تعال يا يوحنّا، ساعد معلّمكَ. هذه الجروح حقيقيّة هي... ويداي الجريحتان ليستا رشيقتين كما كانتا عليه سابقاً…»
يوحنا يطيع، ويساعد يسوع على لبس ردائه الفضفاض، ويبدو كما لو أنّه يُلبِس حَبراً مِن فرط ما هي حركاته حذرة ويقظة، متحاشياً لمس يديّ يسوع حيث الجراح الحمراء. إنّما، على الرغم مِن كلّ حذره، يصدم يد يسوع اليسرى ويصيح فزعاً كأنّه كان هو الّذي تعرّض للصدم، ويحدّق بظاهر تلك اليد، خائفاً مِن أن يراها تنـزف ثانيةً. إنّه بحقّ بالغ ذلك الجرح الفظيع!
يضع يسوع يده اليمنى على رأس يوحنّا وهو يقول: «لقد كنتَ أكثر شجاعة حين تلقّيتني مُنفَكّاً مِن على الصليب. عندها كان لا يزال الدم يسيل، إلى درجة أنّ شعركَ حتّى قد اصطبغ بالأحمر. ندىً ليليّاً جديداً على العاشق الجديد. لقد قطفتَني مثل عنقود مِن على دالية... لماذا تبكي؟ لقد منحتُكَ ندى استشهادي. وأنتَ سكبتَ فوق رأسي ندى شفقتكَ. إنّما آنذاك كان يمكنكَ أن تبكي... ليس الآن. وأنتَ، يا سمعان بطرس، لماذا تبكي؟ أنتَ لم تصدم يدي. أنتَ لم ترني ميتاً...»
«آه! يا إلهي! لهذا أنا أبكي! بسبب خطيئتي.»
«لقد غفرتُ لكَ يا سمعان بن يونا.»
«لكنّني لا أستطيع أن أغفر لنفسي. لا. ما مِن شيء يمكن أن يوقف دموعي، ولا حتّى مغفرتكَ.»
«إنّما مجدي، نعم.»
«أنتَ ممجّد، أمّا أنا فخاطئ.»
«أنتَ ممجّد، بعدما أصبحتَ صيّادي. يا بطرس، ستصيد صيداً عظيماً، وفيراً، عجائبيّاً. وبعدها سأقول لكَ: "تعال إلى الوليمة الأبديّة". ولن تبكي بعد. ولكنَّكم كلّكم تدمعون. وأنتَ يا يعقوب، يا أخي، لماذا تقبع في تلك الزاوية كأنّكَ فقدتَ كلّ النِّعَم؟»
«لأنّني كنتُ آمل أن... لكن، أتشعر بجراحكَ إذاً؟ ألا تزال تشعر بها؟ كنتُ آمل أن يكون كلّ الألم قد تلاشى بالنسبة لكَ، أن يكون كلّ أثر قد مُحيَ. فحتّى بالنسبة لنا. لنا نحن الخطأة. تلك الجروح!... كم هي مؤلمة رؤيتها!»
«نعم. لماذا لم تَمحُها؟ لدى لعازر لم تبق آثار... إنّها... إنّها بمثابة تأنيب تلك الجروح! هي تصرخ بصوت مُروِّع! هي مُبهِرة ومرعبة أكثر مِن صواعق سيناء.» يقول برتلماوس.
«إنّها تصرخ فاضحة جُبننا. لأنّنا كنّا نهرب بينما كنتَ تتلقّاها...» يقول فيلبّس.
«وكلّما نظرنا إليها، كلّما أنّبنا ضميرنا، ورمى على وجوهنا، جُبننا، بلاهتنا وتشكيكنا.» يقول توما.
«لأجل سلامنا وسلام هذا الشعب الخاطئ، طالما مُتَّ وقُمتَ لمغفرة العالم، أُمحُ هذه الاتّهامات الموجّهة إلى العالم يا ربّ!» يتوسّل أندراوس.
«إنّها خلاص العالم. فيها الخلاص. لقد فتحها العالم الّذي يكره، لكنّ المحبّة أحالتها إلى دواء ونور. بها سُـمِّر الإثم. بها عُلِّقت وثُبِّتت كلّ خطايا البشر كيما تستنفذها نار المحبّة على المذبح الحقيقيّ. عندما أوصى العليّ موسى بصنع تابوت العهد ومذبح البخور، ألم يشأهما مثقوبين مع حلقات كي يُرفَعا ويُحمَلا إلى حيث كان يشاء الربّ؟ أنا ثُقِبتُ أيضاً. أنا أكثر مِن تابوت العهد والمذبح. أنا أكثر بكثير مِن تابوت العهد والمذبح. لقد أَحرَقتُ عطر محبّتي مِن أجل الله ومِن أجل القريب، وحَمَلتُ ثِقل كلّ ظلم العالم. والعالم يجب أن يتذكّر ذلك، ليتذكّر كم كلّف الله. ليتذكّر كم أحبّه الله. ليتذكّر ما تُنتِجه الآثام. ليتذكّر أنّ الخلاص في واحد فقط. في ذاك الّذي ثقبوه. فإن لم يَرَ العالم احمرار جروحي، فهو بحقّ ينسى سريعاً أنّ إلهاً ضحّى بنفسه مِن أجل آثامه، ينسى أنّني متُّ حقاً في أفظع العذابات، ينسى ما هو البلسم لجروحه. هنا هو البلسم. تعالوا وقَبّلوه. كلّ قبلة هي تطهير أكثر ونعمة لكم. الحقّ أقول لكم إنّ التطهير والنعمة لا يكفيان أبداً، لأنّ العالم يستنفذ ما تُغدِقه السماء، ويتحتّم تعويض خرائب العالم بالسماء وكنوزها. أنا السماء، كلّ السماء فيَّ، والكنوز السماويّة تتدفّق مِن جروحي المفتوحة.»
يُقدّم يديه لقبلة رُسُله. وعليه أن يضغط هو، يديه المجروحتين، على الشفاه المتعطّشة والخائفة، لأنّ الخشية مِن زيادة آلامه يمنع تلك الشفاه مِن الضغط على تلك الجروح.
«ليس هذا ما يسبّب الألم، حتّى لو أحدث تصلُّباً. الألم هو شيء آخر!...»
«ما هو يا ربّ؟» يَسأَل يعقوب بن حلفى.
«الموت بلا طائل مِن أجل الكثيرين... إنّما هيّا بنا. امضوا إلى الأمام. سوف نذهب إلى جَثْسَيْماني... وماذا؟ أأنتم خائفون؟»
«ليس على أنفسنا يا ربّ... الأمر أنّ عُظماء أورشليم يكرهونكَ أكثر مِن ذي قبل.»
«لا تخافوا. لا على أنفسكم، فالله يحميكم. ولا عليَّ، فقد انتهت بالنسبة لي مضايقات البشريّة. سأذهب إلى أُمّي ومِن ثمّ سأوافيكم. علينا أن نمحو الكثير مِن الأمور المهولة لإثم وكراهية الماضي القريب. وسوف نفعل ذلك بالمحبّة، بعكس ما كان الإثم... أترون؟ إنّ قبلاتكم تزيل وتلطّف الألم وعاقبة المسامير في اللحم الحيّ. وكذلك، فإنّ ما سنفعله سيزيل الآثار الرهيبة ويقدّس الأمكنة الّتي دنّستها الآثام، كي لا تسبّب رؤيتها آلاماً كثيرة...»
«هل سنذهب إلى الهيكل أيضاً؟» الخوف، بل حتّى الرعب يرتسم على كلّ الوجوه.
«لا. أقدّسه بحضوري. وهذا غير ممكن له، لقد كان ذلك ممكناً، لكنّه لم يرد ذلك. لم يعد هناك فداء بالنسبة إليه. إنّه جثّة تتحلّل سريعاً. لندعه لموتاه. ليُتِمّوا دفنه. الحقّ أنّ الأسود والنسور سوف تمزّق القبر والجثّة إرباً، ولن يبقى حتّى الهيكل العظميّ للميت العظيم الّذي لم يشأ الحياة.»
يسوع يصعد الدرج ويخرج. يقتدي به الآخرون بصمت. إنّما حين يطأون الممرّ الّذي يُستخدم كردهة، يختفي يسوع. المنـزل صامت ويبدو خاوياً. كلّ الأبواب مغلقة.
يوحنّا يشير إلى الباب المواجه للعلّية ويقول: «مريم هناك. إنّها تبقى دوماً هناك، كما لو أنّها في نشوة مستمرّة. وجهها يسطع بنور فائق الوصف. إنّه الفرح الّذي يشعّ مِن قلبها. أمس، كانت تقول لي: "فَكِّر يا يوحنّا، أيّة غبطة انتشرت في ممالك الله". سألتُها: "أيّة ممالك؟" ظننتُ بأنّها كانت تعيش إيحاءات رائعة عن مملكة ابنها، الّذي انتصر حتّى على الموت. أجابتني: "في الجنّة، في المطهر، في اليمبوس. المغفرة لأهل المطهر. الصعود إلى السماء لكلّ الأبرار والمغفور لهم. الجنّة الّتي يقطنها المباركون. الله مُمجَّد فيهم. أسلافنا وأهلنا هناك فوق، مبتهجون. وأيضاً الغبطة في الملكوت الّذي هو الأرض، حيث تسطع العلامة الآن، وتَفَجَّر الينبوع الّذي يهزم الشيطان، ويمحو الخطيئة [الأصلية] والآثام. لم يعد السلام مقتصراً على ذوي الإرادة الصالحة، بل أيضاً الفداء والإعادة إلى مرتبة أبناء الله. إنّني أرى الحشود، آه! ما أكثرها! تنزل إلى ذلك الينبوع وتغوص فيه لتخرج متجدّدة، جميلة، في ثوب العرس، في لباس مَلَكيّ. عرس النفوس مع النعمة، شرف أن نكون أبناء الآب وإخوة يسوع."»
لقد خرجوا، وهم يتكلّمون، إلى الشارع ويبتعدون فيما يهبط المساء.
الشارع ليس مرتاداً كثيراً، خصوصاً في هذا الوقت، حيث يتجمّع الناس حول الموائد للعشاء. أورشليم، بعد نهر الناس الّذي غمرها للفصح، والّذي غادرها بانقضاء الأعياد، المأساوية جدّاً هذا العام، تبدو خاوية أكثر ممّا هي عادة. توما يلاحظ ذلك ويلفت انتباه الآخرين إليه.
«هكذا هو الأمر، الغرباء، الـمُرَوَّعين، غادروها على عجل بعد الجمعة، والّذين قاوموا الرعب العظيم لذلك اليوم، هربوا عند الزلزال الثاني، الزلزال الّذي حدث بالتأكيد حين خرج الربّ مِن القبر: وأولئك الّذين لم يكونوا وثنيّين قد لاذوا أيضاً بالفرار. وكُثُر، وأنا أعلم ذلك مِن مصادر جيّدة، لم يأكلوا حتّى الحَمَل، وسيكون عليهم أن يعودوا للفصح المكمِّل. وحتّى سكّان هذا المكان إمّا هربوا أو ابتعدوا، البعض لدفن موتاهم الّذين هلكوا في زلزال عشية السبت، والبعض الآخر خوفاً مِن غضب الله. الأمثولة كانت قاسية.» يقول الغيور.
«وكان جيّداً. الصاعقة، الحجارة على كلّ الخطأة!» يتشفّى برتلماوس.
«لا تقل هذا! لا تقل هذا! نحن نستحقّ العقوبات السماويّة أكثر مِن الجميع. نحن أيضاً خطأة... أتذكرون، في هذا المكان؟... منذ كم مِن الوقت؟ عشرة؟ عشر ليال... أم عشرة أعوام، أم عشر ساعات؟ هكذا تبدو لي خطيئتي، بعيدة جدّاً وقريبة جدّاً، تلك الساعات، ذلك المساء... بحيث ما عدتُ أدري أبداً... أنا الأبله! كنّا واثقين جدّاً، شرسين جدّاً، بطوليّين جدّاً! ومِن ثمّ؟ مِن ثمّ؟ آه!...» وبطرس يضرب جبهته بيده ويشير، حيث كانوا قد وصلوا إلى الساحة الصغيرة: «هوذا. وهنا خفتُ!»
«إنّما كفى! كفى يا سمعان! هو غفر لكَ، وقبله مريم. كفى! إنّكَ تعذّب نفسكَ.» يقول يوحنّا.
«آه! لو كان الأمر هكذا!... وأنتَ، يا يوحنّا، أعضدني دوماً! دوماً! قد عهد لكَ بأُمّه لأنّكَ تُحسِن الإرشاد. وهذا صحيح. أمّا أنا، الدودة الجبانة والكاذبة، فأحتاج أكثر مِن مريم للإرشاد، لأنّ هناك قشوراً على عينيّ ولا أرى...»
«سوف يصيبكَ ذلك إذا استمريتَ بالتصرف هكذا، سوف تحرق حقاً حدقتيكَ، والربّ لن يكون هنا ليشفيهما لكَ...» يقول له أيضاً يوحنّا وهو يعانقه كي يواسيه.
«يكفيني أن أرى جيّداً بنفسي. ومِن ثمّ... ليس للعينين أيّة أهمّية.»
«لكن لهما أهميّة مِن أجل الكثيرين!! كيف سيتصرف المرضى الآن؟ لقد رأيتَ تلك المرأة، أمس، كم كانت يائسة!» يقول أندراوس.
«نعم...» ينظرون إلى بعضهم البعض، ومِن ثمّ، كلّهم معاً، يعترفون: «وما مِن أحد منّا شعر بأنّه أهلٌ لوضع يديه عليها...» الاتّضاع الّذي سبّبه سلوكهم يسحقهم.
لكنّ توما يقول ليوحنّا: «إنّما أنتَ كان يمكنكَ القيام بالأمر. أنتَ لم تهرب، أنتَ لم تُنكِر، أنتَ لم تشكّ...»
«أنا أيضاً لي خطيئتي. وهي أيضاً خطيئة ضدّ المحبّة، مثل الّتي لكم. أنا، قرب قنطرة مدخل منـزل يشوع، أمسكتُ حِلقِيّا مِن رقبته، وكدتُ أخنقه لأنّه كان يشتم الأُمّ. وكرهتُ يهوذا الاسخريوطيّ ولعنتُه!» يقول يوحنّا.
«اصمت! لا تنطق ذاك الاسم. إنّه اسم شيطان، ولديَّ انطباع بأنّه ليس في جهنّم بعد، وأنّه يتجوّل هنا، حولنا، ليجعلنا نخطئ بعد.» يقول بطرس بذعر حقيقيّ.
«آه! إنّه حقاً في جهنم! إنّما حتّى لو كان هنا، فسلطانه قد خبا الآن. كان يملك كلّ شيء ليكون ملاكاً، وكان شيطاناً، ويسوع هزم الشيطان.» يقول أندراوس.
«حسناً... إنّما مِن الأفضل عدم ذكر اسمه. إنّني خائف. الآن أعلم كم أنا ضعيف. بالنسبة لكَ يا يوحنّا، لا تشعر بالذنب. الجميع سيلعنون الرجل الّذي خان المعلّم!»
«مِن الصائب القيام بذلك.» يقول تدّاوس، الّذي كان متوجّساً على الدوام مِن الإسخريوطيّ.
«لا. مريم قالت لي إنّ دينونة الله تكفيه، وأنّ علينا أن نشعر بشعور واحد فقط: بالامتنان لأنّنا لم نكن نحن الخونة. فإذا كانت هي، الأُمّ، الّتي رأت عذابات ابنها، لم تلعنه. هل علينا فِعل ذلك؟ لننسَ...»
«تلك حماقة!» يصيح أخوه يعقوب.
«ومع ذلك فإنّها كلمة المعلّم بالنسبة إلى خطايا يهوذا...» يوحنا يصمت ويتنهّد.
«ماذا؟ هل هناك خطايا أخرى؟ أنتَ تعرف... تكلّم!»
«لقد وعدتُ بالسعي إلى النسيان، وأَجهَدُ للقيام بذلك. بالنسبة إلى حِلقِيّا... أنا تخطيتُ الحدود... إنّما ذلك اليوم، كلّ منّا كان ملاكه وشيطانه إلى جانبه، ولم ننصت دوماً إلى ملاك النور...»
يقول الغيور: «أتعلم أنّ ناحوم مشلول وأنّ ابنه قد سُحِق تحت جدار أو حجر مِن الجبل؟ نعم. في يوم الوفاة. لقد وُجِد لاحقاً. آه! لاحقاً جدّاً، حين كان قد بدأ يُنتِن. وجده واحد كان ذاهباً إلى السوق. وناحوم كان مع الآخرين، أشباهه، ولا أدري ما الّذي أصابه، إن كانت صخرة أو ضربة. أعرف أنّه بدا كأنّه محطّم وما عاد يفهم شيئاً. بدا كالبهيمة، كان لعابه يسيل ويئنّ، وأمس، بيده الوحيدة السليمة أمسكَ بعنق... معلّمه الّذي كان قد ذهب إلى عنده وكان يصرخ، يصرخ: "بسببكَ! بسببكَ!" ولو لم يهرع الخدم...»
«كيف تعرف ذلك يا سمعان؟» يسألون الغيور.
«رأيتُ يوسف أمس.» يجيب باقتضاب.
«أعتقد بأن المعلّم قد تأخّر في المجيء. وأنا قَلِق.» يقول يعقوب بن حلفى.
«لنعد على أعقابنا...» يقترح متّى.
«أو لنتوقّف هنا، عند الجسر الصغير.» يقول برتلماوس.
يتوقّفون. لكن يعقوب بن زَبْدي ويعقوب الآخر، أندراوس وتوما يرجعون إلى الوراء، وينظرون إلى الأرض متأمّلين، ينظرون إلى المنازل. أندراوس يشير بيده وهو يشحب، إلى جدار منـزل حيث تبرز، فوق بياض الكلس، بقعة حمراء-بنّية ويقول: «إنّه دم! ربّما دم مِن المعلّم؟ أكان ينـزف هنا؟ آه! قولوا لي!»
«وماذا تريد أن نقول لكَ نحن إن لم يكن أحد منّا يتبعه؟» يقول يعقوب بن حلفى محبطاً.
«لكنّ أخي، وبالتأكيد يوحنّا، قد تَبِعاه...»
«ليس فوراً. ليس فوراً. يوحنّا قال لي إنّهما تَبِعاه بدءاً مِن منـزل ملاخي فصاعداً. أمّا هنا فلم يكن أحد. لا أحد منا...» يقول يعقوب بن زَبْدي.
ينظرون ذاهلين إلى البقعة العريضة القاتمة على الجدار الأبيض، على مسافة قليلة مِن الأرض، وتوما يلاحظ: «حتّى المطر لم يغسلها، ولا حتّى البَرَد الّذي تساقط بعنف هذه الأيّام لم يقشطها. لو كنتُ واثقاً أنّ هذا دمه، لكنتُ قشطتُه أنا عن ذلك الجدار...»
«لنسأل أصحاب المنـزل. ربّما يعلمون...» يقترح متّى الّذي انضمّ إليهم.
«لا، قد يكتشفون أنّنا رُسُله، يمكن أن يكونوا أعداء المسيح و...» يجيب توما.
«ولا نزال جبناء...» يختم يعقوب بن حلفى بتنهيدة عميقة.
على مهل يَدنون كلّهم مِن ذلك الجدار وينظرون… تمرّ امرأة، متأخّرة عائدة مِن السبيل بأباريق يقطر منها ماء بارد. تراقبهم، تضع أباريقها على الأرض وتستجوبهم:
«أتنظرون إلى تلك البقعة على الجدار؟ هل أنتم تلاميذ المعلّم؟ تبدون لي كذلك، حتّى لو أنّ وجوهكم مضناة و... حتّى لو لم أركم تتبعون الربّ حين مرّ مِن هنا، مقبوضاً عليه ليُساق إلى الموت. وهذا ما يجعلني غير واثقة. لأنّ التلميذ الّذي يتبع معلّمه في الأوقات الجيدة، ويشعر بالفخر كونه تلميذاً له، وينظر بقسوة إلى الّذين ليسوا مثله مستعدّين للتخلّي عن كلّ شيء ليتبعوا المعلّم، عليه أيضاً أن يتبع معلّمه في الأوقات السيئة. ذلك أقلّ ما يجب أن يفعله. وأنا لم أركم. لا. لم أركم. وإن كنتُ لم أركم، فذلك يعني بأنّني أنا، امرأة مِن صيدون، تبعتُ مَن لم يتبعه تلاميذه الإسرائيليّون. إنّما أنا تلقّيتُ نعمةً منه. أنتم... أربّما أنتم لم تتلقّوا أبداً نعمة منه؟ هذا يدهشني، لأنّه كان يغدق نعمه على الوثنيّين والسامريّين، على الخطأة وحتّى على اللصوص، مانحاً إيّاهم الحياة الأبديّة، إن لم يكن قادراً بعد أن يمنحها لأجسادهم. أربّما لم يكن يحبّكم؟ إذن هي علامة على أنّكم كنتم أسوأ مِن ثعابين أو ضِباع نجسة؛ على الرغم مِن أنّني أعتقد بحقّ، بأنّه كان يحبّ حتّى الأفاعي وأبناء أوى، ليس لما هم عليه، بل لأنّ أباه خلقها. هذا دم. نعم. إنّه دم. دم امرأة مِن ساحل البحر العظيم. في ما مضى كانت أراضٍ لغير المستنيرين، ولا يزال سكّانها مُحتَقَرين قليلاً مِن قبل العبرانيّين. ومع ذلك فقد عرفت أن تدافع عن المعلّم إلى أن قتلها زوجها. ضارباً إيّاها بعنف شديد، إلى درجة أنّه فَجَّ رأسها، ودماغها مع دمها تناثرا على جدار منـزلها حيث يبكي الآن اليتامى. لكنّها كانت قد تلقّت نعمة. المعلّم كان قد شفى زوجها الّذي أصابه داء الزهريّ. وهي كانت تحبّ المعلّم بسبب ذلك. لقد أحبّته لدرجة أنّها ماتت مِن أجله. سبقته إلى حضن إبراهيم، كما تقولون أنتم. أناليا أيضاً سبقته، أحسنت هي أيضاً أن تموت لأجله، لو لم يختطفها الموت قبلاً. وهناك أيضاً أُمّ، هناك إلى أعلى، قد غسلت الطريق بدمها، مِن دم بطنها الّذي بقره ابنها المتوحّش، كي تدافع عن المعلّم. وعجوز ماتت مِن الألم، لدى رؤيتها مَن أعاد النظر لابنها مجروحاً ومضروباً. وكهل، متسوّل، مات لأنّه انتصب للدفاع عنه وتلقّى في رأسه حجراً كان موجّهاً إلى رأس ربّكم. لأنّكم كنتم تؤمنون بأنّه كذلك، أليس كذلك؟ إنّ فرسان مَلِك يموتون حوله. مع ذلك لم يمت أحد منكم. لقد كنتم بعيدين عن الّذين كانوا يضربونه. آه! لا! واحد مات. قتل نفسه. إنّما ليس ألماً. ليس دفاعاً عن الـمعلّم. فقد باعه أوّلاً، ثمّ دلّ عليه بقبلة، ثمّ قتل نفسه. لم يكن أمامه خيار آخر. لم يكن يستطيع أن يتعاظم في الفساد. كان كاملاً. مثل بعلزبول. كان الناس ليرجمونه ليمحوه مِن الأرض. آه! أعتقد بأن تلك المرأة المفعمة شفقة الّتي ماتت كي تحول دون ضرب الشهيد، وبأن العجوز حنّة الّتي ماتت ألماً لرؤيته في تلك الحال، والمتسوّل العجوز وأُمّ صموئيل والعذراء الّتي ماتت، وأنا، الّتي لا أُحسِن الصعود إلى الهيكل لأنّني أشعر بالأسى لرؤية الحملان والطيور المضحّى بها، أعتقد بأنّنا كنّا تحلّينا بالشجاعة لرجمه، وما كنّا لنرتعش لرؤيته ممزّقاً بحجارتنا... هو كان يعلم ذلك، ووفّر على العالم مشقّة قتله، ووفّر علينا أن نصبح جلاّدين في سبيل الثأر للبريء...»
تنظر إليهم باحتقار. أصبح احتقارها بادياً أكثر بينما كانت تتكلّم. في عينيها، الكبيرتين والسوداوين، قسوة عيني مُفتَرِس كاسر بينما هما تنظران إلى المجموعة الّتي لا تدري، لا تستطيع التصرّف... تصفّر بين أسنانها الكلمة الأخيرة: «أوباش!» تلتقط أباريقها وتمضي، مسرورة لبصق ازدرائها على التلاميذ الّذين تخلّوا عن معلّمهم…
إنّهم متلاشون. يلبثون خافضي الرأس، أذرعهم تتأرجح، منهكين... الحقيقة تسحقهم. يتأمّلون في نتائج جبنهم... يصمتون... لا يجرؤون على النظر إلى بعضهم البعض. حتّى يوحنّا والغيور، البريئان مِن ذلك الإثم، هما كما الآخرين، ربّما بسبب ألم رؤية رفاقهم مقهورين هكذا، وعدم إمكانيّة تضميد الجرح الّذي أحدثته كلمات المرأة الصادقة…
الطريق بدأ يغرق في العتمة. القمر، في أيّامه الأخيرة، يطلع متأخّراً وبسبب ذلك يظلم الغسق بسرعة. الصمت مُطبِق. ليس هناك ضجيج ولا صوت بشريّ . وفي الصمت وحدها قرقرة القدرون تسود. بحيث حينما يترجّع صوت يسوع فإنّهم ينتفضون كما لو كان صوتاً مخيفاً، بينما كان صوته عذباً جدّاً وهو يقول: «ماذا تفعلون في هذا المكان؟ كنتُ انتظركم وسط أشجار الزيتون... لماذا تتأمّلون في أشياء ميتة في حين تنتظركم الحياة؟ تعالوا معي.» يسوع يبدو آتياً مِن جَثْسَيْماني باتّجاههم. يتوقف قربهم.
ينظر إلى تلك البقعة، الّتي لا تزال أنظار الرُّسُل المذعورين مُحدّقة فيها ويقول: «أصبحت هذه المرأة في سلام. وقد نسيت الألم. غير فاعلة بالنسبة لأبنائها؟ لا. بل هي فاعلة بشكل مضاعف، وسوف تقدّسهم لأنّها لا تطلب سوى ذلك مِن الله.»
ينطلق. يتبعونه بصمت.
إنّما يسوع يلتفت ويقول: «لماذا تتساءلون في قلوبكم: "ولماذا لا تطلب الهداية لزوجها؟ لا تكون قدّيسة إن كرهته..." إنّها لا تكرهه. لقد غفرت له منذ اللحظة الّتي قتلها فيها، إنّما، نَفْس قد دخلت إلى مملكة النور، ترى بحكمة وعدل. وهي ترى بأنّ ما مِن اهتداء ولا مغفرة لزوجها. عندها فهي توجّه صلواتها لأولئك الّذين يمكنهم تقبّل الخير. هذا ليس دمي، لا. ومع ذلك لقد فقدتُ الكثير منه أيضاً على هذه الطريق... لكنّ خطوات الأعداء بدّدته، وقد مُزِجَ بالتراب والأقذار، والمطر حمله منحلّاً بين طبقات التراب. لكن هناك الكثير منه، لا يزال مرئيّاً... فقد سال منه الكثير بحيث أنّ الخطوات والماء لن تكون قادرة على إزالته بسهولة. سوف نذهب معاً، وسترون دمي مُراقاً مِن أجلكم...»
«إلى أين؟ إلى أين يريد الذهاب؟ أإلى المكان الّذي بكى فيه؟ إلى مقرّ القضاء؟» يتساءلون.
«لكنّ كلوديا عاودت المغادرة بعد يومين مِن السبت، ويقولون إنّها كانت ساخطة وخائفة حتّى مِن البقاء قرب زوجها [بيلاطس البنطيّ]… الرمّاح قال لي ذلك. كلوديا تفصل مسؤوليّتها عن مسؤوليّة زوجها. فهي كانت قد حذّرته مِن أن يُعذِّب البارّ، كونه مِن الأفضل أن يُعذَّب مِن قبل البشر مِن أن يكون ذلك مِن قبل العليّ، الّذي كان المعلّم مسيحه. ولم تكن بلوتينا، ولا ليديا. لقد تبعتا كلوديا إلى قيصريّة، وفاليريا ذهبت إلى بِتّير مع يُوَنّا. لو كنّ هناك، لكنّا استطعنا الدخول. إنّما الآن... لا أدري... لونجين غير موجود أيضاً، لأنّ كلوديا أرادته كمرافق لها...» يقول يوحنّا.
«ربّما إلى ذلك المكان الّذي رأيتَ فيه العشب مبلّلاً بالدم...»
يسوع، الّذي إلى الأمام، يلتفت ويقول: «على الجلجلة. هناك الكثير مِن دمي هناك، إلى درجة أنّ التراب أصبح يشبه معدناً حديديّاً صلباً. وهناك أحد ما قد سبقكم...»
«لكنه مكان نَجِس!» يصيح برتلماوس.
يسوع يبتسم بتعاطف ويجيب: «كلّ مكان في أورشليم نَجِس هو بعد الخطيئة الرهيبة. ومع ذلك فإنّكم لا تُظهِرون انزعاجاً حيال البقاء فيها عدا عن الخوف مِن الجمع...»
«لا يزال اللصّان ميتين هناك...»
«لقد متُّ هناك. وقدّستُ المكان إلى الأبد. الحقّ أقول لكم إنّه لن يكون هناك مكان أقدس مِن ذاك المكان إلى نهاية الأزمنة، وسوف يجلب الجموع مِن كلّ أصقاع الأرض وفي كلّ العصور لتُقبّل ذلك التراب. وهناك مَن سبقكم بالفعل إلى هناك. دون خشية مِن التهكّمات والانتقامات، دونما خشية مِن التنجّس. ومع أنّ الشخص الّذي سبقكم كان يملك سبباً مزدوجاً ليخشى ذلك.»
«مَن هو يا ربّ؟» يَسأَل يوحنّا، الّذي يلكزه بطرس في جنبه بكوعه كي يَسأَل هو.
«مريم أخت لعازر! كما سبق لها أن التقطت الزهور المداسة بقدميّ بينما كنتُ أدخل منـزلها قبل الفصح، ذكرى فرح وَزَّعَتها على رفيقاتها، كذلك الآن فقد أحسنت الصعود إلى الجلجلة وحفرت بيديها الأرض الّتي تصلّبت بفعل دمي، والنزول بحملها ووضعه في حضن أُمّي. لم تخف. وقد كانت معروفة بـ"الخاطئة" وكما "التلميذة". كذلك الّتي تمّ وضع ذلك التراب المأخوذ مِن موضع الجمجمة في حجرها لم تعتقد أنّها تنجّست. لقد محا دمي كلّ شيء، ومقدّسة هي الأرض حيث سقط. غداً، قبل الساعة السادسة، ستصعدون إلى الجلجلة. أنا سوف أوافيكم... إنّما مَن يريد أن يرى دمي، فها هو.» يشير إلى درابزين الجسر الصغير. «هنا ضُرِبَ فمي وسال منه الدم... فمي الّذي لم ينطق سوى بكلمات قداسة وكلمات محبّة. لماذا إذاً ضربوه، ولم يكن هناك مَن يضمّده بقبلة؟...»
يَلِجون جَثْسَيْماني. لكن على يسوع أولاً أن يفتح قفلاً يُغلِق مدخل بستان الزيتون. قفلاً جديداً. سياج صلب برؤوس حادّة، عالٍ، مغلق بقفل قويّ وجديد تماماً. يسوع لديه المفتاح، الّذي هو جديد إلى حدّ أنّه يلمع كالفولاذ، ويَفتح القفل على ضوء غصن متّقد أشعله فيلبّس ليتمكّنوا مِن الرؤية، باعتبار أنّ الليل قد حلّ الآن.
«لم يكن موجوداً... لماذا؟...» يتهامسون في ما بينهم وهم يعاينون السياج الّذي بات يعزل جَثْسَيْماني. «بالتأكيد لعازر ما عاد يريد أحداً هنا. أُنظر هناك. حجارة وطوب وكلس. الآن هناك خشب، ثمّ سيكون جدار...»
يقول يسوع: «تعالوا. لا تنشغلوا بأمور ميتة، أقول لكم... هاكم. كنتم هنا... وهنا طُوِّقتُ وقُبِض عليّ، ومِن هذه الجهة هربتم... لو كان هذا السياج موجوداً أنذاك... لكان حال دون هروبكم السريع. إنّما كيف كان يمكن للعازر أن يفكّر، وهو الّذي كان يتحرّق للحاق بي بينما كنتم أنتم تتحرّقون للفرار، أنّكم كنتم لتهربوا؟ أأعذّبكم؟ أنا تعذّبتُ قبلاً. وأريد أن أمحو ذلك الألم. قبّلني يا بطرس...»
«لا يا ربّ! لا! حركة يهوذا، هنا، في الساعة نفسها، لا، لا، لا!»
«قبّلني. إنّني بحاجة لأن تفعلوا بمحبّة صادقة حركة يهوذا المخادعة. بعدها ستكونون سعداء. سنكون أكثر سعادة. أنتم وأنا. تعال يا بطرس، قبّلني.»
بطرس لا يكتفي بتقبيله. إنَّه يبلّل بدموعه خدّ الربّ ويتراجع وهو يُغطّي وجهه ويجلس على الأرض ليبكي. واحد بعد الآخر، يقبّله الآخرون في الموضع نفسه. البعض أكثر، البعض أقلّ، الدموع تغطي وجوههم…
«والآن هيّا بنا. كلّنا معاً. لقد فصلتُكم عنّي تلك الأمسية، ولساعات قليلة، بعدما قوّيتُكم بجسدي [الإفخارستيا]. لكنّكم سقطتم فوراً. تذكّروا دوماً كم كنتم ضعفاء، وأنّكم مِن دون مساعدة الله ما كنتم تستطيعون أن تبقوا في البرّ لساعة. هاكم. هنا أقول لمن كانوا يعتقدون بأنّهم الأقوى أنّ يسهروا، أقوياء كفاية حتّى الطلب بأن يشربوا مِن كأسي، وأن يُعلِنوا، حتى لو كان عليهم الموت، بأنّهم لن ينكروني. وتركتُهم مع إخطارهم بأن يصلّوا... تركتُهم وناموا. تذكروا ذلك وعَلِّموه، أنّ ذاك الّذي تركه يسوع، إن لم يحافظ على الاتّصال به بالتضرّع، فسوف يغلبه النعاس ويُستَولى عليه. فلو لم أوقظكم، لكان يمكن حقّاً أن تُقتَلوا أثناء نومكم وتمثلوا أمام عدالة الله مثقلين ببشريّتكم. تعالوا بعد... هاكم! أَخفِض الغصن يا فيلبّس. هوذا! مَن يريد أن يرى دمي، فلينظر. هنا، في كَرْبي الأعظم، وكشخص ينازع، تعّرقتُ دماً. انظروا... كثيراً لدرجة أنّ الأرض قد تصلّبت بفعله والعشب لا يزال مصطبغاً بالأحمر، لأنّ المطر لم يكن قادراً على إذابة الخثرات الّتي جفّت تماماً بين سيقان العشب وتويجاته. هو ذا! وهنا استندتُ، وهنا حام ملاك الربّ ليقوّيني في مشيئتي أن أعمل مشيئة الله. لأنّ، وتذكّروا هذا، إذا أردتم أن تعملوا دوماً مشيئة الله، حيث لا يستطيع المخلوق الثبات، يأتي الله مع ملاكه ليعضد البطل الـمُنهَك. حين تكونون في ضيق، فلا تخافوا مِن أن تَسقطوا في الجُبن أو الجحود، طالما واظبتم على إرادة ما يشاؤه الله. إنّ الله يجعل منكم عمالقة بطولة إذا لبثتم أوفياء لمشيئته. تذكّروا ذلك! تذكّروا ذلك! قلتُ لكم ذات مرّة أنّ الملائكة عضدتني بعد التجربة في البرّية. والآن اعلموا أنّ ملاكاً عضدني هنا أيضاً، بعد التجربة القصوى. وهكذا سيكون بالنسبة لكم ولكلّ الّذين سوف يكونون المؤمنين بي.لأنّ، الحقّ أقول لكم، كلّ ما حصلتُ عليه مِن عون، سوف تحصلون عليه أنتم أيضاً. أنا سأناله لكم بنفسي لو لم يكن الآب، بعدله الـمُحِبّ، ليمنحكم إيّاه. فقط سيكون ألمكم دوماً أدنى مِن ألمي... اجلسوا. القمر يَطلع في الشرق. سينير لنا. لا أعتقد بأنّكم ستنامون هذه الليلة، رغم أنّكم لا تزالون فقط بشراً وموغلين في البشريّة. لا. لن تناموا، لأنّه قد دخلكم عنصر فعّال لم تكونوا تملكونه قبلاً. إنّه تبكيت الضمير. هو عذاب، هذا صحيح. لكنّه لازم للعبور إلى مراحل أعلى، سواء في الخير أو في الشر. في يهوذا الإسخريوطيّ، كونه قد ابتعد عن الله، فقد نتج عنه يأس وإدانة. أمّا فيكم، أنتم الّذين لم تخرجوا أبداً مِن جوار الله -أؤكّد لكم ذلك، لأنّه لم تكن فيكم لا الإرادة ولا الإحاطة الكاملة لما وبما كنتم تفعلون- فسوف تُنتِج ندماً واثقاً يقودكم إلى الحِكمة والبرّ. ابقوا حيث أنتم. سوف أنسحب إلى هناك، على مسافة رمية حجر، بانتظار الفجر.»
«آه! لا تتركنا، يا ربّ! لقد قلتَ لنا ما نحن عندما نكون بعيدين عنكَ!» يتوسّل أندراوس راكعاً، يداه ممدودتان، كأنّه يتسوّل شفقةً.
«لديكم تبكيت الضمير. إنّه صديق طيّب للطيّبين.»
«لا تبتعد يا ربّ! قلتَ لنا بأنّنا سوف نصلّي معاً...» يتوسّل تدّاوس الّذي ما عاد يجرؤ على التعامل مع القائم مِن الموت كما قريب، ويلبث بقامته الطويلة منحنياً قليلاً إلى الأمام في وضعيّة إجلال.
«أليس التأمّل هو الصلاة الأكثر فاعليّة؟ ألم أجعلكم تُمعِنون النظر وتتأمّلون وأعطيتُكم موضوع تأمّل مذ قابلتكم على الطريق، محفّزاً قلوبكم بأفعال حقيقيّة لمشاعر مقدّسة؟ هذه هي الصلاة أيّها البشر: الاتصال بالأزليّ وبالأمور الّتي تساعد على أخذ الروح بعيداً إلى ما وراء الأرض، والتأمّل في كمالات الله وبؤس الإنسان، في الأنا، استنهاض أفعال إرادة مُـحِبَّة أو إصلاحية، التي هي دوماً أفعال تعبّديّة، حتى لو كانت إرادة تتأتّى مِن تأمُّل في إثم وعقاب. الخير والشرّ يخدمان النهاية الأخيرة، إذا ما عُرِفَت كيفيّة استخدامهما. لقد قلتُ ذلك مرّات كثيرة. إنّ الخطيئة تكون هدماً غير قابل للشفاء فقط إن لم تتبعها ندامة وتعويض. وفي الحالة المعاكسة، بتوبة القلب يُصنع ملاط صلب لإبقاء أسس القداسة متينة، وحجارتُها هي القرارات الحكيمة. هل يمكنكم الإبقاء على الحجارة متّحدة مِن دون ملاط؟ دون المادة الّتي تبدو في ظاهرها بشعة ومعدومة القيمة، إنّما الّتي مِن دونها لا تبقى الحجارة المصقولة والرخام اللامع متّحدة لتكوين البناء؟»
يسوع يهمّ بالذهاب.
يوحنّا، الّذي تحدّث إليه أخوه ويعقوب الآخر وكذلك بطرس وبرتلماوس بصوت خافت، ينهض ويتبعه قائلاً: «يسوع، إلهي، كنّا نأمل بأن نتلو معكَ الصلاة لأبيكَ. صلاتكَ أنتَ. إنّنا نشعر بأنّنا غير مغفور لنا كفاية إن لم تمنحنا أن نتلوها معكَ. إنّنا نشعر أنّنا بحاجة ماسّة إليها...»
«حيثما اتّحد اثنان بالصلاة، أكون أنا وسطهما. صلّوا في ما بينكم، وأنا سأكون وسطكم.»
«آه! لم تعد ترانا أهلاً للصلاة معكَ!» يصيح بطرس ووجهه مخبّأ بين الأعشاب، الّتي ما يزال عالقاً عليها بعض مِن الدم الإلهيّ، وهو يبكي بشدّة.
يعقوب بن حلفى يهتف: «إنّنا تعساء، يا أخـ... يا ربّ.» يستدرك فوراً، قائلاً "يا ربّ"، بدلاً مِن "يا أخي".
ويسوع ينظر إليه ويقول: «لماذا لا تقول لي "يا أخي"، أنتَ، الّذي مِن دمي؟ أنا الأخ للناس كلّهم، لكَ أخٌ ضعفين، ثلاثة أضعاف، كابن آدم، كابن داود، كابن الله. أَكمل كلمتكَ.»
«يا أخي، يا ربيّ، نحن بائسين وحمقى، أنتَ تعرف ذلك، واليأس الّذي نحن فيه يجعلنا أكثر غباءً. كيف يمكننا أن نتلوا صلاتكَ بالروح، إن كنّا لا نعرف معانيها؟»
«كم مرّة، مثل أطفال قاصرين، شرحتُها لكم! لكنّكم، بأكثر غلاظة مِن عقل التلميذ الأكثر شروداً لمعلّم، لم تحفظوا كلمتي!»
«هذا صحيح! إنّما الآن عقولنا مُسمّرة بعذاب أنّنا لم نفهمكَ... آه! إنّنا لم نفهم شيئاً! أُقِرّ بذلك باسم الجميع! وما نزال لا نفهمكَ جيّداً يا ربّ. إنّما، أرجوكَ، المسامحة على شرّنا، استخرجه مِن الشرّ نفسه الّذي يجعلنا بليدين. كنتَ قد لفظتَ آخر نَفَس، والرابّي العظيم هتف بحقيقة بلادة إسرائيل، هناك، عند أسفل صليبكَ. وأنتَ، الله الكلّي الوجود، روح الله المحرَّر مِن سجن الجسد، قد سمعتَ تلك الكلمات: "دهور ودهور مِن العمى الروحيّ تجثم على الرؤيا الداخليّة"، وهو قدّم لكَ هذه الطلبة: "في هذا الفِكر، سجين الصيغ، ادخل أنتَ أيّها المحرِّر". أيا معبودي والجدير بالعبادة يسوع، الّذي خلّصتنا مِن الخطيئة الأصليّة بتحميل ذاتكَ خطايانا، وبمحقها في اضطرام محبّتكَ المطلقة، خذ، امحَقْ أيضاً فكرنا الإسرائيليّ العنيد. أعطنا عقلاً جديداً، بتولاً كعقل وليد خرج مِن الرحم، اجعلنا ننسى كي تملأنا بحكمتكَ وحدها. أمور كثيرة مِن الماضي ماتت في ذلك النهار الرهيب. ماتت معكَ. إنّما، الآن وقد قمتَ، اجعل أن يُولَد فينا فكر جديد. اخلق فينا قلباً وروحاً جديدين، يا ربّي، وسوف نفهمكَ.» يرجو يوحنّا.
«لا تعود إليّ هذه المهمّة، بل إلى الّذي كلّمتُكم عنه أثناء العشاء الأخير: كلّ واحدة مِن كلماتي تضيع في هاوية أفكاركم، كلّياً أو جزئيّاً، أو تبقى مُقفَلة ومختومة في جوهرها. وحده البارقليط، حين يأتي، سيُخرِج كلماتي مِن هاويتكم، ويفتحها لكم ليجعلكم تُدرِكون جوهرها.»
«ولكنّكَ بثثتَه فينا.» يعترض الغيور.
«ولكنّكَ قلتَ، عندما تذهب إلى الآب، هو، روح الحقّ، يأتي.» يعترض متّى بالتزامن مع الغيور.
«قولوا لي: حين يولد طفل هل لديه نَفْس مبثوثة فيه؟»
«بالتأكيد!» يجيب الجميع.
«إنّما أتملك هذه النَّفْس نعمة الله؟»
«لا. الخطيئة الأصليّة ترزح فوقها وتحرمها مِن النعمة.»
«والنَّفْس والنعمة مِن أين تأتيان؟»
«مِن الله!»
«لماذا إذن لا يمنح الله بشكل مباشر نَفْساً في حالة النعمة للمخلوق؟»
«لأن آدم قد عُوقِب، ونحن مِن خلاله. إنّما الآن وقد أصبحتَ المخلّص، فسيكون الأمر هكذا.»
«لا. لن يكون الأمر هكذا. إنّ البشر سيولدون دائماً غير طاهرين في نفوسهم، الّتي خلقها الله والّتي قد لطّخها إرث آدم. إنّما، بطقس سوف أشرحه لكم في مرّة أخرى، فإنّ النَّفْس المبثوثة في الإنسان سوف تنتعش بالنعمة، وروح الربّ سيملكها. أمّا أنتم، الـمُعمَّدون بالماء على يد يوحنّا، فسوف تُعمَّدون بنار قدرة الله. وحينذاك روح الله سوف يكون فيكم بحقّ. وسيكون المعلّم الّذي لا يستطيع البشر اضطهاده ولا طرده، والّذي سيوضح لكم، في داخلكم، روح كلماتي ومعارف أخرى كثيرة. لقد بثثتُه فيكم لأنّه فقط باستحقاقاتي يمكن امتلاك كلّ شيء ويكون مشروعاً. ستمتلكون الله، وكلمة المفوّض مِن الله يمتلك المشروعيّة. لكنّ روح الحقّ ليس بعد فيكم، كمعلّم.»
«حسناً، فليكن. سيأتي في الوقت المناسب. إنّما في انتظار ذلك أَشعِرنا بغفرانكَ. كن لنا معلّماً أيا ربّي. بعد، بعد، لأنّكَ أنتَ قلتَ بوجوب المغفرة سبعين مرة سبع مرات.» يصرّ يوحنّا ويختم -إنّه دوماً الأكثر ثقة ومحبّة- متجرّئاً على الإمساك بيديه يد يسوع اليسرى، الممدودة على طول جسده، والّتي يبدو أنّ ضوء القمر جعل مِزق المسمار يبدو أكبر بعد: «كونكَ النور الأبديّ، لا تسمح بأن يبقى خدّامكَ في الظلمات.» ويُقبّل الأصابع برفق، عند الأطراف، تلك الأصابع الّتي بقيت مطويّة قليلاً، تماماً كما هي عليه أصابع مَن جُرِح وشُفيَ إنّما الأعصاب بقيت مُتقلّصة قليلاً.
«تعالوا. لنصعد إلى أعلى وسوف نتلو الصلاة معاً.» يستجيب يسوع، تاركاً يده بين يديّ يوحنّا، فيما يهمّ بالمسير نحو أعلى حدّ مِن جَثْسَيْماني، نحو الطريق العالية الّتي، عبر حقل الجليليّين، تؤدّي إلى بيت عنيا.
هنا أيضاً يمكن رؤية أنّ أعمال التحديد الّتي أرادها لعازر هي قيد الإنجاز. وحتّى هنا، ما بعد منـزل حارس بستان الزيتون، قد شُيّد بالفعل جدار أملس وعالٍ يحاذي السياج والدرب المتعرّج اللّذين كانا يحدّان جَثْسَيْماني.
أورشليم، في الأسفل، تخرج على مهل مِن العتمة، حتّى في أجزائها الواقعة إلى الغرب، لأنّ القمر هو الآن في قبّة السماء ويبيّض كلّ شيء بمنجله [هلاله] الرفيع، الّذي يلمع كأنّه شعلة ماس موضوعة في السماء القاتمة، الّتي تخفق فيها التويجات الـمُنيرة لعدد لا يُحصى مِن النجوم، تلك النجوم العجيبة جدّاً لسماوات الشرق.
يسوع يرفع ذراعيه في وضعيّته المعتادة للصلاة ويصدح: «أبانا الّذي في السماوات.» يتوقّف ويشرح: «ليكن الأب، وهو قد أعطاكم البرهان بأن غفر لكم. وأنتم، الّذين مِن المفترض أن تكونوا كاملين أكثر مِن الجميع، أنتم، الّذين تلقّيتم نِعَماً كثيرة، والذين تقولون بأنّكم غير جديرين للغاية بالرسالة، فأيّ ربّ، إن لم يكن أباً لكم، لا يعاقبكم؟ أنا لم أعاقبكم. الآب لم يعاقبكم. لأنّ ما يفعله الآب يفعله الابن، ذلك أنّ ما يفعله الابن يفعله الآب، كوننا وحدة إلهيّة متّحدة بالمحبّة. أنا في الآب، والآب معي. إنّ الكلمة هو على الدوام قرب الله الّذي ليس له بداية. والكلمة كائن قبل كلّ شيء، منذ البدء، منذ أزليّة اسمها على الدوام، منذ أزليّة حاضرة أمام الله، وهو الله كما الله، حيث أنّه كلمة الفِكر الأزليّ.
فإذاً، عندما أكون قد مضيت، وعندما تُصلّون على هذا النحو لأبينا، أبي وأبيكم، الّذي به نحن إخوة، أنا البكر، أنتم الإخوة الأصغر، فلتكن فيكم على الدوام إرادة رؤيتي أنا كذلك في أبي وأبيكم. لتكن فيكم إرادة رؤية الكلمة، الّذي مِن أجلكم صار الـ"معلّم" وأحبّكم حتّى الموت وما وراء الموت، تاركاً لكم ذاته طعاماً وشراباً لتكونوا أنتم فيَّ وأكون أنا فيكم طالما طال المنفى، ومِن ثمّ أنا وأنتم في ملكوت الّذي علّمتُكم الصلاة له قائلين: "ليأتِ ملكوتكَ"، بعد أن تكونوا قد ابتهلتم له أن تُقدِّس أعمالكم اسم الربّ بإعطائه المجد على الأرض وفي السماء. نعم. لن يكون لكم ملكوت في السماء، ملكوت للّذين سيؤمنون مثلكم، إن لم تشاؤوا أوّلاً ملكوت الله فيكم، بالممارسة الفعليّة لشريعة الله ولكلمتي، الّتي هي كمال الشريعة الّتي أعطيت، في زمن النعمة، شريعة المختارين، أي شريعة الّذين تخطّوا الدساتير المدنيّة، الأخلاقيّة، الدينيّة للزمن الموسويّ، الّذين أصبحوا في الشريعة الروحيّة لزمن المسيح.
تَرَون ماهية امتلاك جوار الله، إنّما ليس امتلاكه فيكم، ترون ماهية امتلاك كلمة الله، إنّما ليس الممارسة الحقيقيّة لهذه الكلمة. كلّ إثم قد ارتكب بسبب امتلاكهم لله إلى جوارهم لا في قلوبهم، لامتلاك معرفة الكلمة، إنّما ليس إطاعة هذه الكلمة. كلّ شيء! كلّ شيء لأجل ذلك. البلادة والإجرام، قتل الله، الخيانة، التعذيب، موت البريء وقايينه، كلّ شيء حدث لأجل ذلك. فمن كان محبوباً مِن قِبَلي مثل يهوذا؟ لكنّه لم يمتلكني أنا-الله في قلبه. وأدين كقاتل الله، المذنب بلا حدود كإسرائيليّ وكتلميذ، كقاتل لنفسه وقاتل لله، علاوة على رذائله السبع الرئيسيّة وكلّ آثامه الأخرى.
يمكن امتلاك ملكوت الله فيكم الآن بأكثر سهولة، لأنّني حصلتُ لكم عليه بموتي. لقد افتديتُكم بألمي. تذكّروا ذلك. ولا يدوسنّ أحد النعمة لأنّها كلّفت حياة الله ودمه. فليكن إذن ملكوت الله فيكم، أيّها البشر، بواسطة النعمة! ليكن على الأرض بواسطة الكنيسة، وفي السماء لجمهور الطوبابويّين، الّذي إذ عاش والله في قلبه، متّحداً بالجسد الّذي رأسه هو المسيح، متّحداً بالكرمة الّتي يُكَوِّن كلّ مسيحيّ غصناً منها، مستحقّين أن يرتاحوا في ملكوت مَن لأجله صُنِعت كلّ الأشياء: أنا الّذي أُكلّمكم، والّذي منحتُ نفسي للمشيئة الأبويّة كي يتمّ كلّ شيء. لذلك، أستطيع أن أُعَلِّمكم، دونما رياء، أنّه يتوجّب القول: "لتكن مشيئتكَ على الأرض كما في السماء". كما أتممتُ أنا مشيئة أبي، حتّى إنّ تلعات الأرض، النباتات، والزهور، وحجارة فلسطين، وجسدي الجريح، وشعباً بأسره يمكنه قول ذلك.
افعلوا أنتم كما فعلتُ أنا وصولاً إلى أقصى الحدود، إلى حدّ الموت على الصليب إذا ما شاء الله ذلك. لأنّني، تذكّروا هذا، قد فعلتُ ذلك، وما مِن تلميذ يستحقّ الرحمة أكثر ممّا أنا استحققتُها. ومع ذلك فقد استنفذتُ الألم الأعظم. ومع ذلك فقد أطعتُ مقدّماً التنازلات على الدوام. تعرفون ذلك. وسوف تفهمون ذلك أكثر بعد في المستقبل عندما تتشبّهون بي متجرّعين رشفةً مِن كأسي... أبقوا هذه الفكرة حاضرة دائماً أمامكم: "بطاعته للآب، هو قد خلّصنا". وإذا ما أردتم أن تكونوا مُـخَلِّصين، فاعملوا ما عملتُه أنا. سيكون منكم مَن سيذوق حتّى عذاب الصليب، وآخرون سيقاسون تعذيب الطُّغاة، أو عذاب المحبّة، مَن نفي السماوات بالتوق إليها حتّى الشيخوخة قَبل الصعود إليها. فليكن ذلك، لتكن مشيئة الله في كلّ شيء. فَكِّروا، بأنّ معاناة الموت أو معاناة الحياة، فيما أنتم تودّون الموت للمجيء إلى حيث أنا، هما سيّان في عينيّ الله إذا نُفِّذا بطاعة فَرِحَة. إنّهما مشيئة الله. لأجل ذلك هما مقدّسان.
"أعطنا خبزنا كفافا يومنا". يوماً فيوماً، ساعة فساعة. إنّ ذلك إيمان. إنّه محبّة. إنّه طاعة. إنّه تواضع. إنّه رجاء أن نطلب خبز يوم واحد ونقبله كما هو. اليوم حلو، في الغد هو مرّ، كثيراً كان، قليلاً، مع توابل، أو مع رماد. دوماً ما هو مِن العدل، فالله الّذي هو الآب مَن يعطيه. فإذاً هو صالح.
سأُكلّمكم في مرّة أخرى عن الخبز الآخر، الّذي تكون مفيدة إرادة أكله كلّ يوم، وأن يُصلّى إلى الآب أن يُبقي عليه. لأنّ الويل لتلك الأيّام وتلك الأمكنة حيث لا يكون موجوداً بفعل إرادة البشر! الآن وقد أدركتم كم البشر أقوياء في أعمالهم الظلاميّة. صلّوا إلى الآب ليُدافِع عن خبزه ويُعطيكم إيّاه، وأن يعطيكم إيّاه كلّما أتت الظلمات كي تخنق النور والحياة كما فعلت في السبت. إنّ السبت المقبل سيكون بغير قيامة. تذكّروا ذلك كلّكم. وإذا لم يعد بالإمكان قتل الكلمة، فما زال بالإمكان قتل عقيدته، وإخماد حرّية وإرادة محبّته لدى كثيرين. إنّما حينذاك كذلك الحياة والنور ينتهيان بالنسبة إلى البشر. والويل لذلك اليوم! ليكن الهيكل مثالاً لكم على ذلك. تذكّروا: قد قلتُ: "إنّه الجثّة العظيمة".
"اغفر لنا ذنوبنا، كما نحن نغفر للمذنبين إلينا".
وحيث إنّكم كلّكم خطأة، فكونوا إذن لطيفين مع الخطأة. تذكّروا كلماتي: "ما الفائدة مِن النظر إلى القذى الّذي في عين أخيكَ إذا لم تُخرِج أولاً الخشبة الّتي في عينكَ؟" إنّ الروح الّذي بَثثتُه فيكم، ذلك الأمر الّذي أعطيتُكم إيّاه، يمنحانكم سلطان مغفرة خطايا القريب، باسم الله. إنّما كيف يمكنكم أن تكونوا قادرين على فِعل ذلك إن لم يغفر الله لكم خطاياكم؟ سوف أحدّثكم عن ذلك في مرّة أخرى. للآن أقول لكم: اغفروا لمن يُسيء إليكم ليُغفر لكم، ولتحظوا بحقّ الغفران أو الإدانة. الـمُنـزَّهون عن الخطأ فقط يمكنهم أن يفعلوا ذلك بعدالة مطلقة، مَن لا يغفر وهو آثِم ويختلق الشكّ، هو مُرائي وجهنّم تنتظره. فإذا كانت لا تزال هناك رحمة بالنسبة إلى اليتامى القاصرين، فسوف يكون الحكم قاسياً على أوصياء اليتامى القاصرين، المذنبين بآثام كهذه أو أعظم، على رغم أنّهم يمتلكون مِلء الروح لمساعدتهم.
"لا تُدخِلنا1 في التجربة، لكن نجّنا مِن الشرير". ها هو التواضُع، حجر أساس الكمال. الحقّ أقول لكم أن تُبارِكوا مَن يسيئون إليكم لأنّهم يُعطونكم ما هو ضروريّ لعرشكم السماويّ.
لا. التجربة ليست الخراب، إذا لبث الإنسان متواضعاً أمام الآب وسأله ألاّ يسمح للشيطان ولا للعالم ولا للجسد بأن تنتصر عليه. إنّ أكاليل الطوباويّين مزدانة بالحجارة الكريمة للتجارب الّتي انتصروا عليها. لا تبحثوا عن التجارب، إنّما لا تكونوا جبناء حين تأتي. كونوا مُتواضِعين، وبالتالي أقوياء، اهتفوا لأبي وأبيكم "نجّنا مِن الشرّير"، وستهزمون الشرّ. وستُقدِّسون حقّاً اسم الله بأعمالكم، كما قلتُ في البدء، لأنّ كلّ إنسان سيقول وهو يراكم: "الله موجود، ذلك أنّهم يعيشون مثل آلهة، مِن فرط ما هو كامل مسلكهم"، وسيأتون إلى الله، مُضاعِفين شعب ملكوت الله.
اركعوا لأبارككم، ولتفتح بركتي ذهنكم لتتأمّلوا.»
يسجدون على الأرض ويباركهم، ويختفي كما لو أنّ شعاع القمر امتصّه.
بعد برهة يرفع الرُّسُل رؤوسهم، مندهشين لعدم سماع كلمات أخرى، ويرون أنّ يسوع قد اختفى... يخفضون وجوههم إلى الأرض، في الخوف القديم لكلّ إسرائيليّ يدرك أنّه كان على اتّصال بالله كما هو في السماء.
----------
1- الجمعية العامة للمؤتمر الأسقفي الإيطالي في الدورة 72 بتاريخ (15 نوفمبر 2018) في بيانها الختامي: (رابط البيان)، وافقت على تعديل المقطع الأخير من صلاة الأبانا ليصبح: "لا تتركنا نتعرّض للتّجربة" (Non abbandonarci alla tentazione). بدلاً مِن: "لا تُدْخِلنا في تجربة" (Non ci indurre in tentazione). وقد صادق قداسة البابا فرنسيس على هذا التعديل ضمناً في المقابلة العامّة يوم (الأربعاء 1 مايو 2019). (رابط المقابلة).