ج7 - ف186

أَنَا هُوَ

ماريا فالتورتا

L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO

THE GOSPEL AS REVEALED TO ME

بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}

L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ

MARIA VALTORTA

الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.

 

الجزء السابع / القسم الأول

 

186- (اليوم الكبير الأخير لعيد المظالّ)

 

13 / 09 / 1946

 

إنّ الهيكل مكتظّ حقّاً بالناس. إنّما ينقصه العنصر الأنثوي والأطفال. لا بدّ أنّ استمرار موسم كثير الرياح ومعه أمطار مبكّرة، عنيفة رغم كونها مُقتَضَبَة، قد أقنع النساء بالرحيل مع الأطفال. لكنّ الرجال مِن كلّ أرجاء فلسطين ومتهوّدي الشتات يملأون الهيكل بالتمام، لإتمام الصلوات الأخيرة، التقادم الأخيرة، والاستماع للتعاليم الأخيرة للكَتَبَة.

 

أتباع يسوع الجليليّون وقد اكتمل نصابهم، مع كَون الأعيان الأكثر أهمّيّة في الصفّ الأول، وفي الوسط يوسف بن حلفى، المعتدّ بنفسه كأحد الأقارب، مع أخيه سمعان. مجموعة أخرى متراصّة وتنتظر، هي مجموعة الاثنين والسبعين تلميذاً، أقول هذا لأشير إلى التلاميذ المختارين مِن قبل يسوع كي يبشّروا، والذين تغيّروا في العدد وفي الوجوه، لأنّ بعض القدامى ما عادوا هناك بعد الارتداد الّذي أعقب موعظة خبز السماء، وآخرين جُدُداً قد انضمّوا إليهم مثل نيقولاوس الذي مِن أنطاكية. مجموعة ثالثة، أيضاً متّحدة جدّاً وكثيرة العدد، هي مجموعة اليهود، الذين أرى بينهم رؤساء معابد عِمّاوس، حبرون، اسخريوط، أمّا مِن جوتا فحاضر زوج سارة، ومِن بيت صور والدا إليز.

 

إنّهم قرب الباب الجميل، وواضح عزمهم الإحاطة بالمعلّم بمجرّد ظهوره. وبالفعل فإنّ يسوع لا يستطيع أن يخطو خطوة واحدة داخل النّطاق مِن دون أن تحيط به تلك المجموعات الثلاث، كما لعزله عن سيّئي النيّة أو كذلك عمّن هم ليسوا سوى فضوليّين.

 

يسوع يتوجّه نحو فناء الإسرائيليّين لأداء الصلوات، والآخرون يتبعونه متراصّين بقدر ما يسمح الجمع بذلك، صامّين الآذان عن سخط مَن عليهم أن يتنحّوا ويفسحوا المجال للعدد الكبير مِن الأشخاص الّذين يحيطون بيسوع. إنّه وسط إخوته. ونظرة يوسف بن حلفى، الّذي يتفرّس بجلاء في بعض الفرّيسيّين، ليست عذبة كما تلك الّتي ليسوع، ولا سلوكه بتواضع ذلك الّذي ليسوع…

 

يُصَلّون ومِن ثمّ يعودون إلى باحة الوثنيّين. يسوع يجلس بتواضع على الأرض، ظهره إلى جدار الرِّواق. نصف دائرة تصبح أكثر فأكثر كثافة بفعل صفوف وصفوف مِن الناس، الّذين يتّخذون لهم مكاناً خلف صفوف مَن هُم أكثر قُرباً منه، ويجلسون، أو يحتشدون وقوفاً: إنّه تَرَكُّز وجوه ونظرات صوب وجه وحيد. الفضوليّون، غير العارفين القادمين مِن البعيد، ذوو النيّة السيّئة، هم وراء حاجز المخلصين هذا، ويَجهدون ليَروا، مادّين الأعناق أو واقفين على رؤوس الأصابع.

 

يسوع في تلك الأثناء يستمع إلى هذا وذاك ممّن يطلبون نصائح، أو ينقلون أخباراً. هكذا يتكلّم والدا إليز منوّهَين عن أخبارها، وسائلَين إذا ما كانت تستطيع القدوم لخدمة المعلّم. وهو يجيب: «لن أبقى هنا. ستأتي لاحقاً». ويتكلّم قريب مريم الّتي لسمعان، أُمّ يهوذا الاسخريوطيّ، قائلاً بأنّه بقي لمراقبة المزارع، بينما مريم هي تقريباً دوماً مع أمّ يوحنّه. يهوذا يجحظ عينيه مندهشاً، لكنّه لا يتكلّم. ثمّ يتكلّم زوج سارة، معلناً أنّه وُلِدَ له وَلَد آخر ويَسأَل ماذا يسمّيه. يسوع يجيب: «يوحنّا إذا كان صبيّاً، حنّة إذا كانت بنتاً». ورئيس معبد عِمّاوس العجوز يهمس له بِرَويّة مسألة ضميريّة، ويسوع يجيبه بِرَويّة. وهكذا دواليك.

 

في تلك الأثناء الناس يتزايدون أكثر فأكثر. يسوع يرفع رأسه وينظر. وكون الرِّواق مرتفعاً بضع درجات، فهو، مع بقائه جالساً على الأرض، يُشرِف مِن ذلك الموضع على قسم لا بأس به مِن الباحة، ويرى وجوهاً كثيرة.

 

ينهض ويقول بصوت عالٍ، بملء صوته المضبوط والقويّ: «من هو عَطِش فليأتِ إليَّ ويشرب! ومِن جوف مَن يؤمنون بي ستتفجّر أنهار ماء حيّ.»

 

صوته يملاً الباحة الواسعة، الأروقة البهيّة، وبالتأكيد يتجاوز كذلك تلك الّتي على هذا الجانب وينتشر في كلّ مكان، طاغياً على كلّ صوت آخر، مثل رعد متناغم مليء بالوعود. يتكلّم ومِن ثمّ يصمت برهة، كما لو أنّه كان يريد إعلان موضوع العِظة، ومِن ثمّ إعطاء الوقت لِمَن ليس مهتمّاً بالاستماع للمغادرة مِن دون إزعاج بعدئذ. الكَتَبَة والأحبار يصمتون، أو بالأحرى يخفضون أصواتهم إلى همس هو حتماً خبيث. غَمَالائيل لا أراه.

 

يسوع يتقدّم، وسط نصف الدائرة الّتي تفتح مع قدومه ومِن ثمّ تنغلق خلفه، متحوّلة مِن نصف دائرة إلى حلقة. يسير على مهل، بجلال. يبدو كما لو أنّه ينزلق على رخام الأرضيّة متعدّد الألوان، بردائه المفتوح قليلاً بحيث يشكّل مِن الخلف نوعاً مِن حاشية. إنّه يذهب إلى زاوية الرِّواق، إلى الدرجة الّتي تطلّ على الباحة، وهناك يتوقّف. إنّه هكذا يشرف على جانبين مِن السّور الأول. يرفع ذراعه اليمنى بحركته المعتادة عندما يبدأ بالكلام، فيما باليد اليسرى المستندة إلى الصدر يثبّت رداءه.

 

يعيد الكلمات الافتتاحيّة: «مَن يعطش فليأتِ إليَّ ويشرب! ومِن جوف مَن يؤمنون بي ستتفجّر أنهار ماء حيّ»

 

ذاك الّذي رأى تجلّي الربّ، حزقيّال العظيم، الكاهن والنبيّ، بعدما رأى نبويّاً الأفعال النّجِسة في بيت الربّ المنتَهَك، بعدما رأى نبويّاً على الدوام أنّ فقط مَن هم مدموغون بالتاو (T) سيكونون أحياء في أورشليم الحقّة، أمّا الآخرون فسيعرفون مذبحة فمذبحة، إدانة فإدانة، عقاباً فعقاباً -والوقت قريب، أيا مَن تَسمَعوني، إنّه قريب، إنّه أقرب ممّا تعتقدون، كذلك أحثّكم كمعلّم ومخلّص ألّا تتأخّروا أكثر في دمغ ذواتكم بالعلامة الّتي تخلّص، ألّأ تتأخّروا أكثر في إحلال النور والحكمة فيكم، ألاّ تتأخّروا أكثر في التوبة والبكاء، لأجلكم ولأجل الآخرين، كي تتمكّنوا مِن أن تخلصوا- إنّ حزقيّال، بعدما رأى كلّ ذلك وكذلك أموراً أخرى، يتحدّث عن رؤيا رهيبة. رؤيا العظام اليابسة.

 

سوف يأتي يوم حيث فوق عالم ميت، تحت سماء مطفأة، على صوت البوق الملائكيّ، سوف تظهر عظام وعظام أموات. مثل بطن يُفتَح ليَلِد، هكذا سوف تلفظ الأرض مِن أحشائها كلّ عظام البشر الّذين ماتوا عليها ودُفِنوا في وَحلها، منذ آدم إلى آخر إنسان. وستكون عندئذ قيامة الأموات العظمى والنهائيّة، الّتي بعدها، كما تفّاحة مِن سدوم، العالم سيفرغ، مستحيلاً عدماً. والسماء سوف تخبو بأجرامها. كلّ شيء سينتهي، ما عدا أمران أزليّان، بعيدان، عند حواف لـجّتين لا قرار لهما، على نقيض تامّ في الشكل والمظهر والطريقة الّتي بها ستستمرّ للأزل قُدرة الله: الفردوس: نور، فرح، سلام، محبّة؛ الجحيم: ظلام، عذاب، هول، كراهية.

 

إنّما أتعتقدون أنّه بما أنّ العالم لم يمت بعد والأبواق الملائكيّة لم تُبوِّق لتجمع، أنّ حقل الأرض البلا حدود ليس مغطّىً بعظام بلا حياة، يابسة للغاية، خاملة، منفصلة، ميتة، ميتة، ميتة؟ الحقّ أقول لكم إنّ الأمر هو هكذا. فوسط أولئك الأحياء، لأنّهم ما يزالون يتنفّسون، لا يحصى عدد الّذين يشبهون الجثث: العظام اليابسة الّتي رآها حزقيّال. مَن هُم هؤلاء؟ إنّهم مَن لا يملكون في ذواتهم حياة الروح.

 

يوجد منهم في إسرائيل كما في العالم بأسره. وألّا يوجد وسط الوثنيّين والمشركين سوى أموات ينتظرون أن يُبعَثوا مِن قِبَل الحياة، وهذا أمر طبيعيّ، لا يعذّب سوى أولئك الّذين ينعمون بالحكمة الحقّة، لأنّها تجعلهم يدركون أنّ الأزليّ قد خَلَقَ الخليقة له، لا للوثنيّة، ويحزن لرؤيته الكثير منها في الموت. إنّما إذا كان العليّ يحمل هذا الألم، وهو بالفعل ألم عظيم، فأيّ ألم سيكون ألمه على الّذين هم مِن أبناء شعبه وهم عظام مُبيَضّة، بلا حياة، بلا روح؟

 

إنّ المختارين، المفضّلين، المحميّين، الـمُطْعَمين، الـمُعَلَّمين على يده مباشرة أو على يد خدّامه وأنبيائه، لماذا يجب أن يحملوا وزر أن يكونوا عظاماً جافّة، فيما لأجلهم قد سال مِن السماء على الدوام خيط ماء حيويّ سقاهم حياةً وحقّاً؟ لماذا يبسوا، هم، المزروعون في أرض الربّ؟ لِمَ روحهم ميت؟ في حين أنّ كنز حكمة كامل كان قد وضعه الروح الأزليّ في تصرّفهم كي يدركوه ويحيوا منه؟ مَن منهم، وبأيّة أعجوبة سيتمكّنون مِن العودة إلى الحياة، إذا كانوا قد تركوا الينابيع، المراعي، الأنوار الّتي منحها الله، وتخبّطوا في الغشاوة، وشربوا مِن ينابيع غير نقيّة، وتغذّوا بأطعمة غير مقدّسة.

 

ألن يعودوا إذاً أبداً إلى الحياة؟ نعم. أقسم على ذلك باسم العليّ. كُثُر سيقومون. إنّ الله قد أَعَدَّ بالفعل المعجزة، وحتّى هي الآن فاعلة، وهي بالفعل قد جرَت على البعض، ومِن عظام يابسة اكتسوا مجدّداً بالحياة، لأنّ العليّ، غير المحظّر عليه شيء، قد وفى بالوعد ويفي به، ويكمله أكثر فأكثر على الدوام. هو، مِن أعالي السماوات، يصرخ لتلك العظام الّتي تنتظر الحياة: "ها إنّني سأبعث فيكِ الروح وستحيين". وأَخَذَ روحه، أَخَذَ ذاته، وشَكَّلَ جسداً ليكسو كلمته، وأَرسَلَه إلى أولئك الأموات، الّذي إذ يكلّمهم،  تُبَثّ الحياة فيهم مجدّداً.

 

كَمّ مرة عبر العصور صرخ إسرائيل: "لقد يبست عظامنا، رجاؤنا مات، إنّنا منفصلون!". إنّما كلّ وعد مقدّس هو،كلّ نبوءة حقيقة هي. هوذا قد حلّ الزمن حيث مُرسَل الله يفتح القبور ليُخرِج منها الأموات ويحييهم ليقودهم معه إلى إسرائيل الحقّة، إلى ملكوت الربّ، إلى ملكوت أبي وأبيكم.

 

أنا القيامة والحياة! أنا النور الآتي لإنارة مَن يرقدون في الظلام! أنا النبع الّذي منه تتدفّق حياة أبديّة.

 

مَن يأتِ إليَّ لن يعرف الموت. مَن هو عَطِش للحياة ليأتِ ويشرب. مَن يريد أن يمتلك الحياة، أي الله، فليؤمن بي، ومِن جوفه لن تتدفّق قطرات، بل أنهار ماء حيّ. لأنّ مَن يؤمنون بي سوف يُشكّلون معي الهيكل الجديد، الّذي منه تنبع المياه الشافية الّتي يتحدّث عنها حزقيّال.

 

تعالي إليَّ، أيا أيّتها الشعوب! تعالي إليَّ أيا أيّتها الخليقة! تعالي لتشكيل هيكل واحد، لأنّني لا أرفض أحداً، إنّما بدافع محبّة أريدكم معي، في عملي، في استحقاقاتي، في مجدي.

 

"وأنا رأيتُ المياه تتدفّق مِن تحت باب البيت، نحو المشرق… وكانت المياه تنزل مِن الجهة اليمنى، إلى جنوب المذبح".

 

هذا الهيكل هو المؤمنون بمَسيّا الربّ، بالمسيح، بالشريعة الجديدة، بعقيدة زمن الخلاص والسلام. وكما أنّ جدران هذا الهيكل مكوّنة مِن حجارة، هكذا مِن نُفوس حيّة سوف تتشكّل الجدران الروحانيّة للهيكل الّذي لن يموت أبداً، والّذي مِن الأرض سوف يرتفع إلى السماء، كما مؤسّسه، بعد الصراع والتجربة.

 

هذا المذبح الّذي تتدفّق منه المياه، المذبح الّذي مِن جهة المشرق، هو أنا. ومياهي تتدفّق مِن اليمين لأنّ اليمين هو مكان المختارين في ملكوت الله. إنّها تتدفّق منّي لتنسكب في مختاريَّ وتغنيهم بالمياه الحيّة، مُحَمَّلين بها، موزِّعين لها في الشمال والجنوب، في المشرق والمغرب، لمنح الحياة للأرض بشعوبها الّتي تنتظر ساعة النور، الساعة الّتي ستأتي، الّتي حتماً ستأتي إلى كلّ موضع قبل أن تكفّ الأرض عن الوجود.

 

إنّ مياهي تتدفّق وتتوزّع ممتزجة بتلك الّتي أعطيتُها وأعطيها بنفسي للّذين يتبعونني، وبرغم تَوزّعها لتحسين الأرض، فسوف تتجمّع في نهر نعمة واحد. أعمق فأعمق على الدوام، أكثر فأكثر اتّساعاً، ستنمو يوماً إثر يوم، خطوة بعد خطوة، بمياه المؤمنين الجدد، إلى أن يصبح كبحر يغسل كلّ المواضع ليقدّس الأرض كلّها.

 

الله يشاء ذلك. الله يفعل ذلك. إنّ طوفاناً قد غسل الأرض مسبّباً الموت للخطأة. إنّ طوفاناً جديداً، مِن سائل آخر هو ليس بمطر، سوف يَغسل الأرض مانحاً الحياة.

 

وبفضل فِعل نعمة سريّ، فيمكن للبشر أن يكونوا جزءاً مِن هذا الطوفان المقدِّس، مُوحِّداً إراداتهم بإرادتي، متاعبهم بتعبي، معاناتهم بمعاناتي. والعالم سوف يعرف الحقّ والحياة. ومَن أراد المشاركة فيمكنه ذلك. ووحدهم أولئك الّذين لن يريدوا التغذّي بمياه الحياة فسوف يصبحون موضعاً مستنقعيّاً ونتناً، أو سيبقون هكذا، ولن يعرفون الجني الوفير لثمار النعمة، الحكمة، الخلاص، الّتي سيعرفها الّذين سيحيون فيَّ.

 

الحقّ أقول لكم مرّة أخرى بأنّ مَن به عَطَش ويأتي إليَّ سيشرب ولن يعطش بعد، لأنّ نعمتي سوف تفتح فيه ينابيع وأنهار ماء حيّ. ومَن لا يؤمن بي سيهلك مثل مَلَّاحة حيث لا يمكن أن تدوم الحياة.

 

الحقّ أقول لكم إنّ الينبوع لن ينقطع مِن بعدي، لأنّني لن أموت بل سأحيا، وبعد أن أكون قد رحلتُ، رحلتُ لا مُتُّ، لأفتح أبواب السماء، فإنّ آخَر يشبهني سوف يأتي، وسوف يكمل عملي، بجعلكم تفهمون ما قلتُه لكم، وبإضرامكم ليجعل منكم "أنواراً"، حيث أنّكم قبلتم النور.»

 

يسوع يصمت.

 

الجمع، الّذي كان صامتاً تحت تأثير الموعظة، يهمس الآن ويعلّق بأشكال مختلفة.

 

أحدهم يقول: «يا له مِن كلام! إنّه نبيّ حقيقيّ!»

 

آخر يقول: «إنّه المسيح. أقول لكم. ولا حتّى يوحنّا كان يتكلّم هكذا. وما مِن نبيّ يمتلك هكذا سلطان.»

 

«ومِن ثمّ هو يجعلنا نفهم الأنبياء، حتّى حزقيّال، الغامض جدّاً في رموزه.»

 

«أسمعتَ، هه!؟ المياه! المذبح! إنّ الأمر واضح!»

 

«والعظام اليابسة؟! أرأيتَ كيف اضطرب الكَتَبَة والفرّيسيّون والكَهَنة؟ لقد فهموا المزمور!»

 

«نعم! وقد أَرسَلوا الحرّاس. إنّما هم!... قد نسوا الإمساك به ولبثوا كما أطفال يَرَون ملائكة. انظروا إليهم هناك! يبدون مشدوهين»

 

«انظر! انظر! هناك قاضٍ يستدعيهم ويوبّخهم. لنذهب ونسمع!»

 

في تلك الأثناء يسوع يشفي المرضى الّذين جُلِبوا إليه ولا يعير اهتماماً لأيّ أمر آخر إلى أن تصل إليه مجموعة مِن الكَهَنَة والفرّيسيّين، بعد شقّ طريق عبر الجمع، على رأسهم رجل في حوالي الثلاثين-الخامسة والثلاثين مِن العمر، الّذي أرى أنّ الجميع يفرّون منه بخوف يصل إلى حدّ الذُّعر.»

 

«أما تزال هنا؟ ارحل! باسم الكاهن الأعظم!»

 

يسوع يستقيم -وقد كان منحنياً فوق مشلول- وينظر إليه بسكينة وَوَداعة. ثمّ يعاود الانحناء ليضع يديه على المريض.

 

«ارحل! أفهمتَ؟ يا فاتن الجموع. أو نعتقلكَ.»

 

«امضِ، وسبّح الربّ بحياة قداسة.» يقول يسوع للمريض الّذي ينهض معافىً، وهذا جوابه الوحيد، فيما الّذين يهدّدونه ينفثون سمومهم، والجمع، بهوشعناته، يحذّرهم مِن الإساءة إلى يسوع.

 

إنّما إن كان يسوع وديعاً، فيوسف بن حلفى ليس كذلك، إنّه ينتصب نافخاً صدره، مُرجعاً رأسه إلى الوراء ليبدو أطول قامة، ويصيح: «أليعازر، أيا أنتَ وأمثالك الّذين تودّون إسقاط صولجان الابن المختار لله ولدواد، اعلَم بأنّكَ تقطع كلّ شجرة، وشجرتكَ أوّلاً، تلك الّتي تفخر بها كثيراً. لأنّ شَرّكَ يحرّك سيف الربّ فوق رأسكَ!» وأراد قول المزيد، لكنّ يسوع يضع يده على كتفه قائلاً: «سلام، سلام، يا أخي!» ويوسف، الـمُحمرّ سُخطاً، يصمت.

 

يتوجّهون صوب المخرج. وخارج الأسوار يتمّ إعلام يسوع بأنّ رؤساء الكَهَنَة والفرّيسيّين قد وَبّخوا الحرّاس لعدم اعتقالهم يسوع، وبأنّهم بَرَّروا أنفسهم قائلين بأنّ ما مِن أحد أبداً قد تكلّم مثل يسوع. وهي إجابة أثارت حَنَق أمراء الكَهَنَة والفرّيسيّين، الّذين كان بينهم العديد مِن أعضاء السنهدرين. لدرجة أنّهم، كي يُثبتوا للحرّاس أنّ الحمقى فقط هم مَن يفتنهم مجنون، فقد أرادوا المجيء للقبض عليه كمجدِّف. وأيضاً لتعليم الجمع فهم الحقيقة. لكنّ نيقوديموس، الّذي كان حاضراً، كان قد عارض قائلاً: «لا يمكنكم التحرّك ضدّه. إنّ شريعتنا تمنع إدانه شخص قبل الاستماع إليه ورؤية ما يفعله. ونحن لم نسمع ولم نرَ منه سوى أمور غير مستوجبة للإدانة.» الأمر الّذي جعل غضب أعداء يسوع ينصبّ على نيقوديموس ومعه تهديدات وشتائم وإهانات، كما لو كان أحمقاً وخاطئاً. وأليعازر بن حنانيا كان قد مضى شخصيّاً، مع الأكثر حنقاً، لطرد يسوع، كونهم غير متجرّئين على فِعل المزيد، بسبب الجمع.

 

يوسف بن حلفى حانق. يسوع ينظر إليه ويقول: «أترى ذلك، يا أخي؟» ولا يقول المزيد… إنّما ثمّة الكثير في تلك الكلمات! فيها التنبيه إلى أنّه على حقّ، سواء تكلّم أم بقي صامتاً، فيها التذكير بكلامه، فيها الإشارة إلى ماهيّة الطبقات المهيمنة في اليهوديّة، إلى ما هو الهيكل، وهلمّ جرّاً.

 

يوسف يخفض رأسه ويقول: «معكَ حقّ...» يصمت مفكّراً. ثمّ، وبشكل مفاجئ، يلقي بذراعيه حول عنق يسوع ويبكي على صدره قائلاً: «أيا لأخي المسكين! يا لمريم المسكينة! يا للأُمّ المسكينة!» أعتقد أنّ يوسف يستشعر بجلاء، في تلك اللحظة، مصير يسوع.

 

«لا تبكِ! افعل أنتَ أيضاً، مثلما أنا أفعل، مشيئة أبينا!» يقول يسوع ليشدّد عزمه ويُقبّله ليعزّيه.

 

حين يهدأ يوسف قليلاً، يتوجّهان صوب المنزل حيث يُستَضاف، وهناك يتبادلان التحيّة بالعِناق. ويوسف، المتأثّر كثيراً، كثيراً، يقول ككلمات له أخيرة: «امض بسلام، يا يسوع! رغم كلّ شيء. ما قلتُه لكَ قرب الناصرة أكرّره لكَ، وبأكثر تشديداً بعد. اذهب في سلام. اهتمّ فقط بعملكَ. أنا أهتمّ بالباقي. اذهب وليشدّد الله عزمكَ.» ويعانقه مجدّداً، في مناخ أَبَويّ، ويلاطفه كما ليترك على رأسه بركته كرئيس للعائلة. ثمّ يحيّي يوسف أخويه. يتبادلون التحيّة كذلك مع سمعان. إنّما ألاحظ أنّ يعقوب، لا أدري لأيّ سبب، هو إلى حدّ ما متحفّظ مع يوسف والعكس صحيح. أمّا مع سمعان فثمّة ودّ أكثر.

 

يوسف يقول ليعقوب هذه الكلمة: «أعليَّ إذن أن أقول بأنّني فقدتُكَ؟»

 

«لا، يا أخي. عليكَ أن تقول بأنّكَ تَعلَم أين أنا وأنّه بالتالي يعود إليكَ أن تجدني. دونما ضغينة. لا بل على العكس سأصلّي كثيراً لأجلكَ. إنّما في أمور الروح يتوجّب عدم اتّخاذ مسارين معاً. تَعلَم ما أريد قوله...»

 

«ترى بأنّني أدافع عنه...»

 

«تدافع عن الإنسان والقريب. ذلك غير كافٍ لمنح نفسكَ أنهار النعمة الّتي كان يتحدّث عنها. دافع عن ابن الله، دون خوف مِن العالم، دونما حسابات مصلحيّة، وستغدو كاملاً. وداعاً. أوصيكَ بأُمّنا وبمريم الّتي ليوسف...»

 

لا أدري إذا ما سمع يسوع، لأنّه منهمك بتحيّة الناصريّين والجليليّين الآخرين. وما أن انتهت التحيّات حتى يأمر: «هيّا بنا إلى جبل الزيتون. مِن هناك نتّجه إلى مكان ما...»