ج6 - ف118

أَنَا هُوَ

ماريا فالتورتا

L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO

THE GOSPEL AS REVEALED TO ME

بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}

L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ

MARIA VALTORTA

الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.

 

الجزء السادس

{تابع السنة الثالثة في الحياة العلنية}

الكتاب الثاني / القسم الثاني

 

118- (الدين هو الحبّ والتّوق إلى الذهاب نحو مَن نؤمن به)

 

02 / 05 / 1946

 

إنَّ الوقت مُبكّر جداً على بزوغ الفجر، حيث إنَّ الزمن الذي يمرّ بين غروب القمر وبزوغ أنوار الفجر الأولى هو زمن طويل نسبياً في الصيف، بحيث أنَّه وعلى الرغم مِن مشيهم السريع، إلّا أنَّ الساعة الأكثر عتمة مِن الليل كانت قد أدركتهم بينما كانوا ما يزالون في ضواحي مدينة قيصريّة. وبما أنَّ أغصان العوسج التي أشعلوها لا تمنح ضوءاً كافياً، لذلك فقد كانوا مضطّرين لأن يتوقّفوا لبعض الوقت، وأيضاً بسبب الفتاة غير المعتادة على السّير في الليل، والتي كانت غالباً ما تتعثر بالحجارة شبه المطمورة في التراب.

 

«مِن الأفضل التوقّف لبعض الوقت، فالفتاة غير قادرة على الرؤية، كما أنّها مُتعَبة» يقول يسوع.

 

«لا، بل أستطيع المتابعة... هيا لنذهب بعيداً، بعيداً جدّاً... فقد يأتي. لقد مررنا مِن هنا عندما كنّا ذاهبين إلى ذاك البيت» تقول الفتاة فيما تصطكّ أسنانها، بِلُغة مبتَكَرة، مازِجة بين اللغة العبريّة واللاتينيّة، كي تجعل كلامها مفهوماً.

 

«سوف نذهب خلف تلك الأشجار، فهناك لن يرانا أحد. لا تخافي» يجيبها يسوع.

 

«نعم، لا تخافي. ذاك الـ... الرومانيّ، هو الآن فاقد للوعي تحت الطاولة بسبب ثمالته الشديدة...» يقول برتلماوس كي يُطمئِنها.

 

«كما أنّكِ بصحبتنا. ونحن نحبّكِ! ولن ندع أحداً يؤذيكِ. انظري! إنَّنا اثني عشر رجلاً قويّاً...» يقول بطرس، الذي هو بالكاد أطول منها، إنَّما الممتلئ بمقدار ما هي نحيلة، وذو البشرة المحروقة بالشمس بمقدار ما بياضها ناصع، كما زهرة مسكينة نَمَت في الظلّ، فزادت جاذبيّة وقيمة.

 

«أنتِ أُخت صغيرة. والأخوة يَحمون أخواتهم...» يقول يوحنّا.

 

الفتاة، وعند آخر توهّج لضوء الـمِشعَل المرتجف، تنظر إلى أولئك الذين يُشدِّدون مِن عزمها، بعينيها الصافيتين بلونهما الحديديّ-الرماديّ، المتّشحتين بالكاد باللون الأزرق، عينين صافيتين لا تزالان تلمعان بسبب الدموع التي بلَّلَتهُما في لحظات الرعب الذي كانت قد اختَبَرته قبل فترة وجيزة... إنّها حَذِرة، ومع ذلك فهي تثق بهم، وتجتاز مع الآخرين الساقية الجافّة التي ما بعد الطريق، ويدخلون إلى أرض تفضي في نهايتها إلى حيث يوجد بستان كثيف.

 

يجلسون في الظلمة وينتظرون، الرجال ربّما يرغبون بالنوم. إنّما كلّما صدرت ضجّة ما فإنّ الفتاة تنوح، وها هو صوت حصان يعدو يجعلها تتمسّك بتشنّج برقبة برتلماوس، الذي، ربّما لأنَّه مُسنّ، فإنّه يوحي بالثقة والأمان. لذا يستحيل النوم.

 

«لا تخافي! فحينما يكون المرء مع يسوع، فلا يَحدُث أي مكروه على الإطلاق» يقول برتلماوس.

 

«لماذا؟» تَسأَل الفتاة مرتجفة، فيما هي ما تزال متمسّكة برقبة الرّسول.

 

«لأنَّ يسوع هو الله على الأرض، والله أقوى مِن البشر.»

 

«الله؟ ما هو الله؟»

 

«يا للمخلوقة المسكينة! إنَّما بأيّة طريقة ربّوكِ؟ ألم يعلّموكِ أيّ شيء؟»

 

«أن أُبقي بشرتي بيضاء وشعري لامعاً، أن أُطيع أسيادي... أن أقول دائماً نعم... لكنّني لم أستطع أن أقول نعم للرومانيّ... لقد كان بغيضاً وقد أخافني... لقد كان يخيفني طوال اليوم... لقد كان حاضراً دائماً... عندما كنتُ أستحمّ، وعندما كنتُ أرتدي الملابس... يا لهما مِن عينين... يا لهما مِن يدين... آه!... ومَن لا يقول 'نعم' فإنَّه يتعرّض للضرب...»

 

«لن تتعرّضي للضرب. فلم يعد هناك مِن وجود لا للرومانيّ ولا ليديه... لم يعد هناك سوى السلام...» يجيبها يسوع.

 

الآخرون يُعلِّقون: «يا للفظاعة! لقد عُومِلت كما حيوانات الشُّغل، كحيوان، لا أكثر! بل أسوأ!... لأنَّ الحيوان يَعلَم أنَّهم يعلّمونه كي يحرث الأرض، كي يحمل السرج ويضع اللّجام، لأنَّ هذه هي وظيفته. أمّا هذه الفتاة فقد تُرِكَت هكذا دون أن تتعلّم أيّ شيء!...»

 

«لو كنتُ قد عَلِمتُ بأنّ ذلك ما سيحدث، لكنتُ رميتُ بنفسي في البحر. فقد كان يقول لي: "سوف أجعلكِ سعيدة"...»

 

«وهو بالفعل قد جعلكِ سعيدة. إنَّما بطريقة لم يكن لِيتخيّلها. سعيدة بمفهوم الأرض وبمفهوم السماء. لأنّ معرفة يسوع هي السعادة» يقول الغيور.

 

يسود الصمت: الكلّ يتأمَّلون بفظائع العالم. ثمّ، وبصوت منخفض، الفتاة تَسأَل برتلماوس: «هل تقول لي ما هو الله؟ ولماذا يسوع ذاك هو الله؟ هل لأنّه وسيم وطيّب؟»

 

«الله... كيف السبيل إلى تعليمكِ، وأنتِ المجرَّدة تماماً مِن المفاهيم الدينيّة؟»

 

«دينيّة؟ ماذا تعني بذلك؟»

 

«يا أيّتها الحكمة الإلهيّة! إنَّني كَمَن يغرق في بحر عميق! ماذا سأفعل أمام هذه الهوّة؟»

 

«ما يبدو لكَ صعباً جدّاً يا برتلماوس إنَّما هو في غاية البساطة. إنَّها هوّة، إنَّما هوّة فارغة. وبإمكانكَ أن تملأها بالحقّ. فالأمر كان سيبدو أسوأ فيما لو كانت الهوّة ممتلئة بالقذارة، بالسمّ، بالأفاعي... تَحَدَّث إليها ببساطة، كما لو أنّكَ تتحدّث إلى طفل. وهي سوف تفهمكَ أفضل ممّا قد يفعل شخص راشِد.»

 

«آه! يا معلّم! إنّما ألا يمكنكَ أن تقوم أنتَ بذلك؟»

 

«يمكنني ذلك. لكنَّ الفتاة سوف تتقبَّل كلمات إنسان مثلها بسهولة أكبر ممّا لو استَمَعَت إلى كلماتي الإلهيّة. ومِن ناحية أخرى... سوف يكون عليكم مواجهة هوّات كهذه في المستقبل، وسوف يكون عليكم أن تملأوها بي. لذلك، يتحتّم عليكم أن تتعلّموا كيف تفعلون ذلك.»

 

«هذا صحيح! سوف أحاول. اسمعي يا فتاة... هل تتذكّرين أُمّكِ؟»

 

«نعم يا سيّدي. لقد كانت قد تفتّحت الزهور لسبعة سنوات وأنا بدونها. لكنّني كنتُ معها قبل ذلك.»

 

«حسناً. وهل تتذكّرينها؟ هل تحبّينها؟»

 

«إيه!» الصرخة الممتزجة بتنهيدة تشرح كلّ شيء.

 

«لا تبكي، أيّتها المخلوقة المسكينة... اسمعي... الحبّ الذي تشعرين به تجاه أُمّكِ...»

 

«... وأبي... وأخي الصغير...» تقول الفتاة وهي تنتحب.

 

«نعم... تجاه أفراد عائلتكِ، الحُبّ الذي تشعرين به تجاه أفراد عائلتكِ، تفكيركِ بهم، رغبتكِ بالعودة إليهم...»

 

«لن يحدث ذلك ثانية أبداً!!...»

 

«وما أدراكِ!... إذن يمكننا أن نقول عن كلّ تلك المشاعر بأنّها كما دِين العائلة. فالدين إذن، أي جوهره، هو المحبّة، التفكير، الرغبة للذهاب إلى حيث يتواجد هو (أي يسوع)، ويتواجد معه أولئك الذين نؤمن بهم، والذين نحبّهم ونرغب بهم.»

 

«آه! وفيما إذا آمنتُ بالإله يسوع، فسوف يكون لديَّ دِين... إنَّ الأمر سهل!»

 

«حسناً. إنَّما أيّ مِن الأمرين هو السَّهل؟ أن يكون لديكِ دِين، أم أن تؤمني به (أي بيسوع) كإله؟»

 

«الاثنان. لأنَّه مِن السهل الإيمان بإله مثله. فالرومانيّ كان يَذكُر الكثير مِن الآلهة، وكان يُقسِم بها... فقد كان يقول: "أُقسم بالآلهة فينوس"، "أُقسم بالآلهة كيوبيد". إنَّما لا بدّ أنّها لم تكن آلهة صالحة، لأنَّه كان يقوم بأفعال غير صالحة عندما كان يأتي على ذِكرها.»

 

«الفتاة ليست غبية» يُعلّق بطرس بصوت منخفض.

 

«إنّما ما زلتُ لا أعرف ما هو الله. فأنا أراه إنساناً مثلكَ... إذن فالله هو إنسان. فبماذا يتميّز؟ بماذا هو أقوى مِن الجميع؟ فهو (تقصد يسوع) ليس لديه سيف ولا خُدّام...»

 

«يا معلّم، ساعدني...»

 

«لا يا نثنائيل! إنَّكَ تُبلي بلاءً حسناً...»

 

«أنتَ تقول ذلك انطلاقاً مِن لطفكَ... ومع ذلك، دعونا نرى كيف يمكننا المتابعة. اسمعي يا فتاة... الله ليس إنساناً. هو يرى ويسمع. إنّما هو مثل النّور. نور عظيم جدّاً بحيث يملأ السماء والأرض منيراً كلّ شيء، وهو يرى كلّ شيء، ويسود كلّ شيء، ويَأمُر كلّ شيء...»

 

«وأيضاً الرومانيّ؟ فهو إذن ليس إلهاً صالحاً. إنَّني خائفة!»

 

«إنَّ الله صالح، وهو يعطي أوامر صالحة، لقد أَمَرَ الناس بألّا يتحاربوا، بألّا يَستَعبِدوا، وبأن يتركوا الفتيات الصغيرات مع أُمّهاتهنّ، وبعدم إخافتهنّ. لكنّ البشر لا يطيعون دوماً أوامر الله.»

 

«وأنتَ تطيع...»

 

«نعم، أنا أطيع.»

 

«ولكن إذا كان هو أقوى مِن الكلّ، فلماذا لا يُرغِم البشر على إطاعته؟ وكيف يستطيع التكلّم إن لم يكن إنساناً؟»

 

«يا الله... آه! عونكَ يا معلّم...»

 

«تابِع يا برتلماوس. أنتَ معلّم حكيم، فإنَّكَ تستطيع أن تُعبِّر عن أسمى الأفكار بالكثير مِن البساطة، وتخاف؟ ألا تَعلَم أنّ الروح القدس هو على شفاه أولئك الذين يُعلّمون الحقّ؟»

 

«الأمر يبدو سهلاً جدّاً حينما نستمع إليكَ... فكلّ كلامكَ يدخل إلى ذواتنا... إنّما إخراجه عند الحاجة للقيام بما تقوم به أنتَ!... آه! يا لبؤسنا نحن البشر المساكين! يا لنا مِن معلّمين عديمي الجدوى!»

 

«الاعتراف بعدميّتكم يُهيّئ نفوسكم لتلقّي تعليم الروح المعزّي...»

 

«حسناً. اسمعي يا فتاة. إنَّ الله قويّ، قويّ جدّاً، إنَّه أقوى مِن قيصر، أقوى مِن كلّ البشر مجتمعين، بجيوشهم وعتادهم. لكنّه ليس ذاك السيّد المستبدّ الذي يُرغِم الناس دائماً على قول 'نعم' تحت طائلة الجّلْد لِمَن لا يقول ذلك. إنّ الله أب. هل كان أبوكِ يحبّكِ؟»

 

«كثيراً! لقد أسماني أوريا غالا (ذهب الغال) لأنَّ الذهب قَيّم، ولأنّ بلاد الغال هي موطننا، وقد كان يقول لي دائماً إنَّني أثمن بالنسبة إليه مِن الذهب الذي كان قد امتَلَكَه في ما مضى، وأيضاً أعزّ مِن الوطن...»

 

«هل كان أبوكِ يضربكِ؟»

 

«لا. أبداً. وحتى عندما كنتُ أُسيء السلوك، فقد كان يقول لي: "يا ابنتي المسكينة" وكان يبكي...»

 

«هكذا هو الأمر! هذا ما يفعله الله. إنَّه أب، وهو يبكي فيما إذا أسأنا السّلوك، إنّه لا يُرغمنا على إطاعته. إنّما الأشرار فسوف يُعاقَبون يوماً ما بعذابات رهيبة...»

 

«آه! جميل جدّاً! إذن فالسيّد الذي انتَزَعني مِن أُمّي وأخذني إلى الجزيرة، والرومانيّ، سينالان العذاب! وهل سوف أراهما؟»

 

«سوف تكونين بالقرب مِن الله وسوف تَرَين، فيما إذا آمنتِ به وكنتِ صالحة. إنَّما كي تكوني صالحة فعليكِ ألّا تكرهي حتّى الرومانيّ.»

 

«ألّا أكرهه؟ كيف يمكنني ذلك؟!...»

 

«بالصلاة لأجله و...»

 

«ماذا تعني بالصلاة؟»

 

«الصلاة هي أن نتكلّم مع الله لنخبره بما نريد...»

 

«لكنّني أريد مِيتة شنيعة لسيّديَّ!» تقول الفتاة بهمجية بربريّة.

 

«لا، يتوجّب عليكِ ألّا تُريدي ذلك. فيسوع لن يحبّكِ فيما إذا قلتِ ذلك...»

 

«لماذا؟»

 

«لأنّه يتوجّب علينا ألّا نكره أولئك الذين يؤذوننا.»

 

«إلّا أنّني لا أستطيع أن أحبّهما...»

 

«انسيهما في الوقت الحاضر... حاولي أن تنسيهما. ففيما بعد. وعندما تعرفين الله أكثر، فسوف تُصلّين لأجلهما... لهذا كنّا نقول بأنَّ الله قويّ، لكنّه يترك الحريّة لأبنائه.»

 

«وهل أنا ابنة لله؟ هل لديَّ أبوان اثنان؟ كم لديه مِن أبناء؟»

 

«كلّ البشر هم أبناء لله، لأنَّه هو الذي خلقهم جميعاً. أترين تلك النجوم هناك؟ هو الذي خلقها. وتلك الأشجار والنباتات؟ هو الذي خلقها. والأرض التي نجلس عليها، وذاك العصفور الذي يغرّد، والبحر الشاسع جدّاً، إنّ الله هو الذي خلق كلّ شيء وكلّ البشر. والبشر هم أبناؤه أكثر مِن أيّ شيء آخر، وهم أبناؤه بسبب ذاك الشيء المدعوّ نَفْساً، إنَّها نور، تَسمع وتَرى، إنّها ليست بِعَظَمة تلك التي لله، والتي تملأ السماوات والأرض بأسرهما، إنَّما هي رائعة الجمال، وهي لا تموت، مثله هو الذي لا يموت.»

 

«أين هي النَّفْس؟ هل عندي واحدة؟»

 

«نعم، وهي في قلبكِ، وهي ذاك الشيء الذي يجعلك تُدرِكين بأنَّ الرومانيّ كان آثماً، وهي التي بالتأكيد سوف تجعلكِ غير راغبة بأن تكوني مثله. أليس كذلك؟»

 

«نعم...» الفتاة تفكّر مليّاً بعد تلك الـ "نَعم" المتردّدة... ثمّ تقول بثقة: «نعم! إنّها كما صوت في داخلي وكما حاجة للحصول على العون... وأنا، بصوت آخر، إنَّما الذي كان صوت ذاتي، كنتُ قد ناديت أُمّي... لأنّني لم أكن أعرف بأنّه هناك وجود لله، بأنّه هناك وجود ليسوع... فلو كنتُ أعرف، لكنتُ ناديتُه بذاك الصوت الذي أَمتَلِكه في داخلي...»

 

«لقد أحسنتِ الفهم يا ابنتي، وسوف تنمين في النور. وأنا أقول لكِ، آمِني بالله الحقّ، أَنصِتي إلى صوت نفسكِ، تجرّدي مِن الأحكام الـمُستَحدَثة، وتجرّدي أيضاً مِن إرادة الشرّ، وسوف تحظين بالله أباً. وعند الموت، الذي هو عبور مِن الأرض إلى السماء لأولئك الذين يؤمنون بالله الحقّ، والذين هم صالحون، فسوف تحظين بمكان في السماء، بالقرب مِن إلهكِ» يقول يسوع واضعاً يده على رأس الفتاة.

 

الفتاة تُبدّل وضعيتها وتركع قائلة: «أي بقربكَ. إنَّه مِن الجميل أن أكون معكَ. لا تفترق عنّي يا يسوع. أنا الآن أعلم مَن أنتَ، وها أنا أحني نفسي. في القيصريّة كنتُ خائفة مِن فِعل ذلك... لأنّكَ بَدَوتَ لي كإنسان. أمّا الآن فأنا أعلم بأنّكَ الله المحتجِب في إنسان، وأنّكَ الأب والحامي بالنسبة لي.»

 

«والـمُخلِّص يا أوريا غالا.»

 

«والـمُخلِّص. فقد خَلَّصتَني.»

 

«وسوف أُخلِّصكِ أكثر بعد. فسوف تحملين اسماً جديداً...»

 

«هل تريد حرماني من الاسم الذي أطلَقَه عليَّ أبي؟ إنّ السيّد في الجزيرة كان يدعوني أوريا كوينتيليا (الخامسة)، لأنَّهم كانوا قد قَسَّمونا بحسب لون البشرة والرقم، وأنا كنتُ الشقراء الخامسة... ولكن لماذا لا تترك لي الاسم الذي أطلَقَه عليَّ أبي؟»

 

«أنا لن أحرمكِ منه. ولكنّكِ ستحظين، بالإضافة لاسمكِ القديم، باسم جديد، وأبديّ.»

 

«وما هو؟»

 

«كريستيانا لأنّ المسيح خَلَّصكِ. ها هو الفجر يبزغ، هيا بنا... أرأيتَ يا نثنائيل كم هو سهل التحدّث عن الله للهوّات الفارغة... وأنتَ أجدتَ الكلام. الفتاة سوف تتثقّف بالحقّ سريعاً... امضِ أمامنا مع إخوتي يا أوريا...»

 

الفتاة تطيع خجلاً. فهي كانت تُفضِّل البقاء مع برتلماوس، الذي يُدرك ذلك ويَعِدها قائلاً: «أنا أيضاً سوف ألحق بكِ حالاً. اذهبي، كوني مطيعة...» وعندما يصبح مع يسوع وبطرس وسمعان ومتّى، فإنَّه يُعلّق قائلاً: «إنّه أمر مؤسف أن تحتفظ بها فاليريا، فهي لا تزال وثنيّة...»

 

«لا يمكنني فرضها على لعازر...»

 

«هناك نيقي يا معلّم» يقترح متّى.

 

«وإليز...» يقول بطرس.

 

«ويُوَنّا... إنّها صديقة لفاليريا، وفاليريا سوف تتركها معها عن طيب خاطر. وستكون في بيت صَالح» يقول الغيور.

 

يسوع مستغرق بالتفكير وصامت…

 

«القرار لكَ... أنا ذاهب كي أنضمّ إلى الفتاة، فهي لا تكفّ عن الالتفات إلى الوراء. إنّها تثق بي لأنّني مسنّ... لكنتُ قد احتفظتُ بها... لن تضيرني فتاة إضافيّة... ولكنّها ليست إسرائيليّة...» ويمضي نثنائيل، الطّيب جدّاً، إنَّما الإسرائيليّ جدّاً.

 

يسوع يَنظُر إليه فيما هو يمضي ويهزّ رأسه.

 

«لماذا تهزّ رأسكَ يا معلّم؟» يَسأَل الغيور.

 

«لأنّه... يحزنني أن أرى بأنَّ الأشخاص الحكماء هم أيضاً عبيد للتعصُّب الأعمى...»

 

«إنَّما... والكلام فيما بيننا... إنَّ برتلماوس على حقّ... وفي الحقيقة... يجب أن تكون حَذِراً... تذكّر سِنْتيخي ويوحنّا... لا تَدَع ذات الأمر يحدث ثانية... أَرسِلها إلى سِنْتيخي...» يقول بطرس، الخائف مِن المشاكل في حال كان يتوجّب عليهم أن يُبقوا الفتاة الوثنيّة معهم.

 

«يوحنّا لن يعيش طويلاً... وسِنْتيخي ليست مُعدّة بما فيه الكفاية كي تُعلّم فتاة كهذه... إنَّه ليس بالوضع المناسب لهكذا حالة...»

 

«ومع ذلك فعليكَ ألّا تُبقيها. ضع في اعتبارك بأنَّ يهوذا سوف يكون معنا قريباً. ويهوذا يا معلّم، اسمح لي بأن أقول لكَ، هو شخص شهوانيّ و... شخص ميّال إلى الكلام كي يحقّق لنفسه المكاسب... ولديه أصدقاء كُثُر مِن الفرّيسيّين...» يؤكّد الغيور.

 

«إنّها الحقيقة! سمعان على حقّ! ذاك هو بالضبط ما كنتُ أُفكّر فيه!» يهتف بطرس. «أَنصِت إليه يا معلّم!...»

 

يسوع مستغرق بالتفكير وصامت... ثمّ يقول: «لِنُصلّ! والآب سوف يساعدنا...» ويُصلّون بحرارة فيما هُم خلف الآخرين.

 

الفجر يبزغ أكثر فأكثر... يجتازون قرية ما ويتابعون المشي في الريف... تزداد حدّة الشمس شيئاً فشيئاً. يتوقّفون كي يأكلوا في ظلّ شجرة جوز ضخمة.

 

«هل أنتِ متعبة؟» يسوع يَسأَل الفتاة التي تأكل بلا شهيّة. «قولي لي وسوف نتوقّف.»

 

«لا، لا. لنمضِ...»

 

«لقد سألناها عدّة مرّات. لكنّها كانت دوماً تقول لا...» يقول يعقوب بن حلفى.

 

«أستطيع المتابعة، بإمكاني ذلك! لنمضِ بعيداً...»

 

إنّهم يستأنفون رحلتهم. لكنّ أوريا تتذكّر شيئاً. «لديَّ كيس نقود. السيّدات قُلن لي: "سوف تعطيه عندما تصبحون قريبين مِن الجبال." ها هي الجبال، وها أنا ذا أعطيه.» وتُفتّش في داخل الصرّة حيث كانت ليفيا قد وَضَعَت لها بعض الملابس... إنّها تُخرِج كيس النقود وتعطيه ليسوع.

 

«إنّها صَدَقَة منهنّ... لم يُرِدن أن يُشكَرنَ. إنَّهنَّ أفضل مِن كثيرين ممّن هُم مِن مِلّتنا... خذه يا متّى. وحافظ على هذه النقود. سوف نستخدمها للصَّدَقات الخفية.»

 

«هل عليَّ ألّا أُخبر يهوذا الاسخريوطيّ؟»

 

«لا.»

 

«إنّما سوف يرى الفتاة...»

 

يسوع لا يُجيب... إنّهم ينطلقون مجدّداً، لكنّهم يُتابعون بصعوبة بسبب الحرّ الشديد والغبار والنّور المبهر. ثمّ يبدأون بصعود -ما أظنّ بأنّها- إحدى أولى مرتفعات جبل الكرمل. وبالرغم مِن أنّه يوجد هنا ظلّ أكثر وبرودة أكثر، إلّا أنَّ أوريا تمشى ببطء، وهي غالباً ما تتعثّر.

 

برتلماوس يعود إلى الخلف إلى حيث يسوع: «يا معلّم، الفتاة محمومة ومُنهَكة. ماذا علينا أن نفعل؟»

 

إنّهم يتشاورون. هل عليهم التوقّف؟ أم إنّ عليهم حَمْلها والمتابعة؟ إنّهم حائرون. أخيراً يُقرّرون بأنّ عليهم، على الأقلّ، الوصول إلى الطريق المؤديّة إلى سيكامينون [حيفا] لطلب المساعدة مِن مُسافر ما لديه حصان أو عَرَبَة. إنَّهم يرغبون بحمل الفتاة على أذرعهم، إنَّما هي تتحلّى بإرادة بطوليّة للمضيّ قدماً وتُردّد على الدوام: «باستطاعتي المشي، أنا بخير!» وتريد المتابعة بنفسها. إنّها شديدة الاحمرار، عيناها محمومتان، وهي حقّاً مُنهَكة. لكنّها لا تستسلم... إنّها تمشي ببطء، وقد قَبِلت بأن يسندها كلّ مِن برتلماوس وفيلبّس... إنّما هي تستمرّ بالمشي... بالفعل كلّهم مُتعَبون. إنّهم مُدرِكون بأنَّ عليهم المتابعة، ولذلك فَهُم يُتابِعون…

 

إنَّهم عند القمّة. ثمّ هناك الـمُنحَدَر المعاكس... وها هو مرج ابن عامر في الأسفل، وفيما وراءه التلال التي تتوضّع عليها الناصرة…

 

«إن لم نجد أحداً، فسوف نتوقّف عند الفلاّحين...» يقول يسوع…

 

إنّهم يُتابِعون... وعندما أوشكوا على الوصول إلى السهل، يَرَون مجموعة مِن التلاميذ. هناك إسحاق، ويوحنّا الذي مِن أفسس مع أُمّه، وهابيل الذي مِن بيت لحم مع أُمّه، وتلاميذ آخرين لا أعرف أسماءهم. ومِن أجل المرأتين هناك عربة ريفيّة يجرّها بغل قويّ. هناك أيضاً الراعيان دانيال وبنيامين، والـمُعَدّي يوسف وآخرين.

 

«إنَّ العناية الإلهيّة هي التي تساعدنا!» يهتف يسوع ويطلب مِن الجميع التوقّف كي يذهب ليتحدّث مع التلاميذ، وأيضاً كي يتحدّث مع المرأتين بشكل خاصّ.

 

يأخذ المرأتين جانباً مع إسحاق، ويروي لهم جزءاً مِن قصّة أوريا: «لقد انتَشَلناها مِن سيّد شهوانيّ... أودُّ أخذها إلى الناصرة لمعالجتها، لأنَّها تعاني مِن الخوف والإجهاد. إنَّما ليس لديَّ واسطة نقل. إلى أين كنتم ذاهبين؟»

 

«إلى بيت لحم الجليل، إلى عند ميرتا. لأنّه يستحيل احتمال الحرّ في السهل» يُجيب إسحاق.

 

«اذهبوا إلى الناصرة أوّلاً، أَسأَلكم ذلك مِن مُنطَلَق الرحمة. خذوا الفتاة إلى أُمّي وقولوا لها بأنّني سأكون عندها في خلال يومين أو ثلاثة. الفتاة محمومة، لذا لا تُولوا اهتماماً لِهَذيانها. سوف أُخبِركم لاحقاً...»

 

«نعم يا معلّم. سنفعل كما تشاء. سوف ننطلق في الحال. يا للمخلوقة المسكينة! أكان يَجْلدها؟» يَسأَل الثلاثة.

 

«كان يريد تدنيسها.»

 

«أه!... كم عمرها؟»

 

«حوالي ثلاثة عشر عاماً...»

 

«الجبان! الفاسق القذر! سوف نعتني بها، إنّنا أُمّان بحقّ، وقد استحققنا أن نكون كذلك عن جدارة، لا بالتزكية، أليس ذلك صحيحاً يا نُعْمي؟»

 

«بالتأكيد يا ميرتا. هل أنتَ مُزمِع أن تتّخذها كتلميذة يا ربّ؟»

 

«لا أعرف بعد...»

 

«إن قرَّرتَ ذلك، فنحن باقيات هنا. فأنا لن أعود إلى أفسس. لقد أرسلتُ أصدقاء لي كي يبيعوا كلّ شيء. سوف أبقى مع ميرتا... نرجوكَ أن تتذكَّرنا فيما إذا احتاجت الفتاة إلى أيّ شيء. لقد ساعَدْتَنا بتخليص ابنينا، ونحن نريد مساعدتها.»

 

«سوف ننظر في الأمر لاحقاً...»

 

«يا معلّم، إنَّ الامرأتين التلميذتين جديرتان بالثقة لقداستهما...» يقول إسحاق مؤكِّداً.

 

«إنَّ الأمر في ذلك لا يعود لي... صَلّو بحرارة، ولا تقولوا أيّ شيء لأيّ كان. هل فهمتم؟ لأيّ كان.»

 

«سوف نَعقُد ألسنتنا.»

 

«تعالوا واجلبوا معكم العربة.» ويعود يسوع ويتبعه كلّ مِن المرأتين وإسحاق الذي يقود العربة.

 

الفتاة متمدّدة على العشب سعياً لالتماس بعض البرودة لحرارتها المرتفعة.

 

«يا للمخلوقة المسكينة! إنّما لن تموت، أليس كذلك؟»

 

«يا لها مِن طفلة جميلة!»

 

«يا عزيزتي، لا تخافي. إنّني أُمّ، أتعلمين؟ تعالي... أسنُديها يا ميرتا... إنّها مُنهَارة... ساعِدنا يا إسحاق... لنضعها هنا حيث لن تتعرّض للكثير مِن الاهتزازات... لنضع صرّة ملابسها تحت رأسها... لنضع أرديتنا تحتها... بَلّل هذه الأقمشة يا إسحاق، وسوف نضعها على جبهتها... يا لها مِن حُمّى، يا للفتاة المسكينة...»

 

المرأتان حَذِرتان وعطوفتان. أوريا مُنهَارة تماماً بفعل الحرارة المرتفعة، بحيث هي تقريباً غائبة عن الوعي…

 

لقد تمّ إعداد كلّ شيء... يمكن للعربة أن تنطلق... وقبل أن يبدأ إسحاق باستخدام السوط يتذكّر: «يا معلّم، إن ذهبتَ إلى الجسر، فسوف تَجِد يهوذا الاسخريوطيّ. إنّه ينتظرك هناك كما متسوّل... إنّه هو مَن أخبَرَنا بأنّكَ قادم إلى هنا. السلام لكَ يا معلّم. سوف نَصِل إلى الناصرة بحلول الليل!»

 

«السلام لكَ يا معلّم» تقول المرأتان التلميذتان.

 

«السلام لكم!»…

 

العربة تمضي بِعُجالة…

 

«الشكر للآب!...» يقول يسوع.

 

«نعم. هذا جيّد للفتاة، وجيّد مِن جهة يهوذا، فمِن الأفضل ألّا يَعلَم بشيء...»

 

«نعم. هذا أفضل. أفضل بكثير بحيث سوف أطلب مِن قلوبكم القيام بتضحية، بحيث سوف نفترق قبل وصولنا إلى الناصرة، وأنتم يا أهل البحيرة سوف تذهبون إلى كفرناحوم مع يهوذا، فيما أذهب أنا مع أخويّ، ومعنا توما وسمعان، إلى الناصرة.»

 

«سوف نفعل ذلك يا معلّم. وماذا ستقول لأولئك التلاميذ الذين ينتظرونكَ؟»

 

«سأقول بأنّه كان علينا الاستعجال لإعلام أُمّي بوصولي... هيّا بنا...» وينضمّ إلى التلاميذ، السعداء جدّاً لكونهم برفقة معلّمهم، بحيث لا يَطرَحون عليه أيّة أسئلة.