ج6 - ف94
أَنَا هُوَ
ماريا فالتورتا
L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO
THE GOSPEL AS REVEALED TO ME
بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}
L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ
MARIA VALTORTA
الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.
الجزء السادس/ القسم الأول
94- (تبشير قرب عِمّاوس السهل)
28 / 03 / 1946
قرب باب عِمّاوس بيت لفلاّحين. صامت هو إذ إنّ الجميع في الحقول، في العمل. لقد أصبح على البيدر أكوام مِن حُزَم الأيّام السابقة والتبن مجموع في متابن ريفيّة. شمس الظهيرة الحارقة تُطلِق رائحة حارّة مِن التبن والغمار. ما مِن أصوات سوى هديل الحَمَام وزقزقة عصافير الدوري الصاخبة دائماً والمتشاجرة. تذهب في مجموعات دون توقّف مِن السطح أو الأشجار المجاورة إلى أكوام الحزم والتبن، ومِن أوائل التي تتذوّق هذه المنتجات تنقر السنابل المنتصبة، تتعارك بضربات مِن أجنحتها، تصارع للحصول على أكبر قدر ممكن مِن الحبوب، لتستولي على قشّات التبن الأكثر نعومة، نَهِمة، مُشاكِسة، دون تورّع. السارقون الوحيدون في إسرائيل حيث، كما لاحظتُ، الاحترام الكبير لممتلكات الغير. فتُترك البيوت مفتوحة ولا تُحرَس البيادر أو الكروم! باستثناء لصوص المهنة القليلون جدّاً، قطّاع الطرق الحقيقيّون الذين يَنقَضّون على الناس في شُعَب الجبال الضيّقة، فلا وجود للّصوص الصغار أو مجرّد... مَن هم شَرِهون يمدّون اليد إلى الأشجار المثمرة أو إلى زغاليل الآخرين. كلٌّ في طريقه، حتّى أثناء عبور مِلكيّة القريب، فكأنّ لا عيون لهم ولا أيدي. صحيح أنّ الضيافة تُمارس على نطاق واسع، ولا حاجة للسرقة مِن أجل الأكل. وفقط تجاه يسوع، وبسبب حقد عظيم، تُهمَل العادة المتأصّلة لضيافة المسافر، فقط معه تَرفض البيوت استضافته وتقديم الطعام. أمّا للآخرين فتُمارَس عادة الرحمة وخاصّة في الطبقات الأكثر تواضعاً.
كذلك، مِن دون خوف، بعد أن قَرَعَ الرُّسُل باب البيت المغلق الخالي مِن السكان، جلسوا محتمين بهنغار وُضِعَت تحته الأدوات الزراعيّة وجِرار فارغة. كما لو أنّهم أصحاب البيت، اتَّخَذوا حُزَم التبن كمقاعد، آخذين بعض الدِّلاء لكي يستقوا الماء مِن البئر، أباريق للشرب، وليُبلّلوا كِسَر الخبز البائتة، وقِطَع الحَمَل الباردة التي يتناولونها بصمت لشدّة خَدَرهم ودهشهم مِن الشمس. وبالأريحيّة نفسها التي استعملوا بها حُزَم التبن والأباريق، فقد استلقوا على التبن المعطّر، فيما بعد ومباشرة تنطلق جوقة مِن الشخير بأصوات وإيقاعات مختلفة.
يسوع نفسه تَعِب، بل هو حزين أكثر منه تَعِب. وللحظة ينظر إلى النيام الاثني عشر. يصلّي، يفكّر... يفكّر متتبّعاً بشكل آلي عراك العصافير والحَمام، والطيران السهميّ للسنونو فوق البيدر المشمس. يبدو أنّ صيحات أسياد الجوّ السريعين الحادّة تعطي إجابات دقيقة للأسئلة المؤلمة التي يطرحها يسوع على نفسه. ثمّ يتمدّد هو نفسه على التبن، ولا تلبث عيناه الزرقاوان الحزينتان والوديعتان أن تَحتَجِبا تحت جفنيه. يثبت وجهه في نومه، وقد يكون ذلك لأنّه غارق في النوم والحزن يَعمُر قلبه، وجهه يحمل الكثير مِن تعبير الإنهاك والألم الذي سيتحمّله في الموت…
ثمّ يعود الفلاّحون أصحاب البيت: رجالاً ونساء وأولاداً. ومعهم التلاميذ الـمُشاهَدون سابقاً. يرون يسوع ومَن معه نائمين على التبن، وتَخفُت أصواتهم إلى همسات كي لا يوقظوهم. أُمّ تصفع ابنها الذي لا يريد أن يصمت، أو أقلّه تتظاهر بذلك. يمضي وَلَد، بخطوته التي تشبه خطوة فرخ اليمام، والإصبع على الفم، ليرى يسوع، "الأجمل" كما يقول، الذي ينام، مُسنِداً رأسه على ذراعه المنثنية التي اتّخذها وِسادة. والجميع، نازعين نعالهم، على رؤوس أصابعهم، يقلّدونه، أوّلهم متّياس ويوحنّا اللذان يتأثّران لرؤيته هكذا على التبن، ويقول متّياس: «كما في نومته الأولى، كذلك الآن معلّمنا، وأقلّ سروراً مِن ذاك الوقت... وهو يفتقد لأُمّه كذلك...»
«نعم. ليس له سوى الاضطهاد القريب منه دائماً، أمّا نحن، فنحبّه على الدوام، نحبّه على الدوام كما في تلك الساعة...» يجيب يوحنّا.
«بل أكثر، يا متّياس، بل أكثر، حينذاك كنّا نحبّه فقط بإيماننا، ولأنّ حبّ الطفل لذيذ هو. أمّا الآن فإنّنا نحبّه عن معرفة...»
«كان ما يزال صغيراً عندما لحقه الكره، يا يوحنّا. تذكّر ما الذي حدث لِلنَّيل منه!...» ويتبدّل لون متّياس لهذه الذكرى.
«هذا صحيح... وليتبارك ذلك الألم! لقد فقدنا كلّ شيء، إلاّ هو. وهذا فقط هو المهمّ. فماذا كان سينفعنا الأهل أيضاً، والبيت، وخيراتنا القليلة، لو كان هو مات؟»
«صحيح، معكَ كلّ الحقّ يا متّياس. وماذا ينفعنا العالم كلّه عندما لا يعود هو في العالم؟»
«لا تقل لي هذا... حينذاك نُصبِح حقّاً مُهمَلين... اذهبوا أنتم، فنحن سنمكث بالقرب مِن المعلّم» يقول يوحنّا بعدئذٍ صارفاً الفلاّحين.
«نحن آسفون لعدم تفكيرنا في إعطائهم المفتاح. لكان بإمكانهم الدخول إلى البيت وأن يكونوا بوضع أفضل...» يقول رجل البيت الأكبر سنّاً.
«سنقول له ذلك... لكنّه سيكون سعيداً، لا لشيء إلاّ بسبب حبّكم، اذهبوا، اذهبوا...»
يذهب الفلاّحون إلى البيت، وبعد برهة يتصاعد الدخان الذي ينبئ عن أنّهم يهيّئون الطعام. ولكنّهم يفعلون ذلك بلطف، مُحتَجِزين الأولاد، بأقلّ ما يمكن مِن الضجّة، وبدون ضجّة يجلبون الطعام فيما بعد للتلاميذ ويهمسون: «ما هو لهم وضعناه جانباً، إلى حين يستيقظون»…
ثمّ يخيّم الصمت على البيت. قد يكون الحصّادون، الذين كانوا في عملهم منذ الفجر، قد استلقوا على الأسرّة في ذلك الوقت الذي يستحيل فيه البقاء في الحقول تحت الشمس الحارقة. ينام التلاميذ كذلك... حتى الحمام وعصافير الدوري تسكن. فقط السنونو تنطلق دون تعب، وطيرانها السريع يكتب كلمات لازورديّة في المدى وكلمات ظلّ على البيدر الأبيض…
الصغير الـمُشاهَد مُسبقاً، الرائع الجمال بالقميص القصير الذي اقتصر لباسه عليه في تلك الساعة شديدة الحرارة، يضع رأسه الصغير الأسمر في فتحة المطبخ، يُلقي نظرة، يتقدّم بحذر بقدميه المرهفتين اللتين تتألّمان على الأرض التي تُلهِبها الشمس. قميصه المعرّي الكتفين ينـزلق إلى أسفل كتفه الرَّبيل. يلحق بالتلاميذ، يحاول العبور فوقهم ليذهب مِن جديد فينظر إلى يسوع. ولكنّ ساقيه قصيرتان جدّاً لتجاوز أجساد البالغين مفتولة العضلات فيتعثّر ويسقط على متّياس الذي يستيقظ ويرى الوجه الصغير الحزين يكاد يبكي. يبتسم ويقول مُدرِكاً حركة الصبيّ: «تعال هنا، سأجعلكَ بيننا يسوع وأنا، ولكن ابق صامتاً وهادئاً. دعه ينام فإنّه تَعِب.» والصغير، إذ هو سعيد لذلك، يجلس ويمكث مُعجَباً أمام وجه يسوع الجميل. ينظر إليه، يدرسه ولديه رغبة قويّة بملاطفته، بلمس شعره الذهبيّ. ولكنّ متّياس يراقب مبتسماً ولا يسمح له بذلك. حينئذ يَسأَل الصبيّ بتؤدة: «هل ينام هكذا دائماً؟»
«دائماً هكذا.» يُجيب متّياس.
«أهو متعب؟ لماذا؟»
«لأنّه يسير كثيراً، ويتحدّث كثيراً.»
«لماذا يسير ويتحدّث؟»
«ليعلّم الأولاد أن يكونوا صالحين، أن يحبّوا الربّ ليذهبوا معه إلى السماء.»
«في الأعلى؟ كيف العمل؟ بعيدة جدّاً...»
«النَّفْس، هل تعلم ما هي النَّفْس؟»
«لا.»
«إنّها أجمل ما فيكَ، و...»
«أهي أجمل مِن العينين؟ فأُمّي تقول إنّ عينيّ هما نجمتان. والنجوم جميلة، أتعلم؟!»
يبتسم التلميذ ويجيب: «إنّها أجمل مِن نجمتيّ عينيكَ، ذلك أنّ النَّفْس الصالحة أجمل مِن الشمس.»
«آه! وأين هي؟ وأين أنا أمتلكها؟»
«هنا في قلبكَ الصغير. وهي تَرى وتَسمع كلّ شيء، ولا تموت على الإطلاق. وعندما لا يفعل أحد الناس الشرّ أبداً، ويموت في البرّ، تطير نفسه إلى الأعلى، مع الربّ.»
«معه؟» ويشير الصبيّ إلى يسوع.
«معه.»
«ولكن هل هو له نَفْس؟»
«له النَّفْس والألوهة، ذلك أنّ هذا الرجل الذي تنظر إليه هو الله.»
«كيف تعرف ذلك؟ مَن قال لكَ؟»
«الملائكة.»
الصبيّ الذي كان جالساً تماماً على متّياس، لم يتمكّن مِن تلقّي هذا الخبر بهدوء وينهض بسرعة قائلاً: «هل رأيتَ الملائكة؟» وينظر إلى متّياس محملقاً. لقد كان الخبر مدهشاً لدرجة أنّه نسي يسوع للحظة، وهكذا لا يرى أنّه فَتَحَ عينيه، إذ أيقَظَته صيحة الصبيّ، ثمّ يغلقهما ثانية مبتسماً، ويدير رأسه.
«اصمت! أرأيتَ؟ أنتَ توقِظه... سأعيدكَ.»
«سأبقى هادئاً. ولكن كيف هم الملائكة؟ متى رأيتَهم؟ وصوت الصغير أصبَحَ همساً، ويروي متّياس بصبر ليلة الميلاد للصبيّ الذي عاد ليجلس على صدره، منتشياً. وبصبر يُجيب على كلّ أسئلته: «لماذا وُلِد في اصطبل؟ ألم يكن له بيت؟ أكان فقيراً لدرجة عدم إيجاد بيت؟ والآن أليس له بيت؟ أليس له أُمّ؟ أين أُمّه؟ لماذا تتركه وحيداً، وهي التي أَصبَحَت تعلم أنّهم يريدون قتله؟ ألا تحبّه؟...» وابل مِن الأسئلة ووابل مِن الأجوبة. والأخير -الذي أجاب متّياس عليه: «هذه الأُمّ القدّيسة تحبّ ابنها الإلهيّ كثيراً، ولكنّها تضحّي بألمها بأن تدعه يمضي كي يخلّص الناس. ومواساتها تكمن في التفكير بأنّه ما يزال هناك مِن الناس مَن هم صالحون قادرون على حبّه...»- وهذا ما اقتضى هذه الإجابة: «وهي ألا تعلم أنّ هناك أولاد صالحون يحبّونه؟ أين هي؟ قل لي كي أذهب إليها لأقول لها: "لا تبكي. فأنا أمنح ابنكِ الحبّ." ما قولكَ في ذلك؟ ألن تكون مسرورة؟»
«للغاية، أيّها الصبيّ.» يقول متّياس معانقاً إيّاه.
«وهو هل سيكون مسروراً؟»
«كثيراً، كثيراً. ستقول له ذلك عندما يستيقظ.»
«آه! نعم!... ولكن متى سيستيقظ؟» الصبيّ قَلِق.
لا يعود يسوع ينتظر. يلتفت، وقد فتح عينيه، وبابتسامة مشرقة يقول: «ها قد قلتَها لي، ذلك أنّني سمعتُ كلّ شيء. تعال هنا، أيّها الصبيّ.»
آه! لا ينتظر الصبيّ تكرار الكلمة. ينقلب على يسوع، يداعبه، يقبّله، يلمس جبهته بإصبعه وكذلك حاجبيه، وأهدابه الذهبيّة، وهو ينظر إلى نَفْسه في عينيه الزرقاوين، مداعباً لحيته وشعره الحريريّ، وقائلاً لدى كلّ اكتشاف: «كم أنتَ جميل! جميل! جميل!»
يبتسم يسوع وكذلك متّياس. وثمّ في أثناء استيقاظ الآخرين، لأنّ الصبيّ لم يعد يحترز الآن، يبتسم الرُّسُل والتلاميذ لرؤية هذا الاختبار اليقظ، الذي يكرّره الرجل الصغير، وهو نصف عار، رَبيل، وهو يستمتع بتلمّس جسد يسوع ليراه مِن الرأس حتّى القدمين، وينتهي بالقول له: «دُر!» ويشرح بعدئذ: «لأرى الأجنحة.» والذي يَسأَل خائباً: «لماذا ليست لكَ؟»
«أنا لستُ ملاكاً، يا بنيّ.»
«ولكنّكَ الله! وكيف تكون الله إذا لم تكن ممتلئاً أجنحة؟ كيف ستعمل للذهاب إلى السماء؟»
«أنا الله. وبالضبط لأنّني الله، لستُ في حاجة إلى أجنحة. أَفعَل ما أشاء وأستطيع فِعل كلّ شيء.»
«إذاً اصنع لي عينين كعينيكَ. إنّهما جميلتان.»
«لا. فعيناك أنا مَن مَنَحَكَ إيّاهما، ويعجبانني هكذا. اطلب بالأحرى أن أمنحك نَفْس بارّ لتحبّني أكثر فأكثر.»
«هي كذلك أنتَ مَن مَنَحَني إيّاها وبالتالي فستعجبكَ كما هي.» يقول الصبيّ بمنطقه الطفولي.
«نعم. هي تعجبني الآن لأنّها بريئة. ولكن بينما تحافظ عيناك على لونهما الزيتونيّ اليانع، فقد تتبدّل نفسكَ البيضاء إلى السّواد، إذا ما أَصبَحتَ شرّيراً.»
«شرّيراً، لا. أحبّكَ كثيراً وأريد أن أفعل كما كان يقول الملائكة يوم وُلِدتَ: "السلام لله في السماء، والمجد للناس ذوي الإرادة الصالحة."» يقول الصغير وهو يخطئ، ممّا يؤدّي إلى انفجار ضحك صاخب لدى البالغين، ممّا يؤلمه ويجعله يصمت.
ولكنّ يسوع يواسيه مُقوِّماً: «الله هو سلام على الدوام، يا بني. هو السلام. إلاّ أنّ الملائكة كانوا يمجّدونه لمولد المخلّص، وكانوا يعطون الناس القاعدة الأولى للحصول على السلام المتأتّي مِن مولدي: "امتلاك الإرادة الصالحة." تلك التي تريدها.
«نعم. إذن امنحني إيّاها. ضعها في المكان الذي يقول هذا الرجل إنّ نَفْسي فيه.» وبالسبّابتين، يطرق عدّة مرات على صدره الصغير.
«نعم، يا صديقي الصغير. ما اسمكَ؟»
«ميخائيل!»
«اسم رئيس الملائكة الـمُقتَدِر. إذن، الإرادة الصالحة لكَ، يا ميخائيل. ولتكن مُجاهِراً بالله الحقيقيّ، قائلاً للمُضطَهِدين كما شفيعكَ الملائكيّ: "مَن مثل الله؟" ولتكن مباركاً الآن وعلى الدوام.» ويضع عليه يديه.
ولكنّ الصغير غير مقتنع. يقول: «لا. قَبِّل هنا، على النَّفْس. وستدخل بركتك إلى الداخل وتبقى مُحتَجَزة.» ويكشف عن صدره الصغير لكي يُقبّله يسوع فلا يُبقي عائقاً يقف حائلاً بين جسده الصغير والشفتين الإلهيّتين.
يبتسم الموجودون وفي الوقت ذاته هم متأثرون. هناك داعٍ لذلك! إيمان البريء الرائع، الذي ذهب إلى يسوع غريزيّاً حسب قول البعض، وأنا أقول مدفوعاً مِن الروح، هو بالحقيقة مؤثّر ويشير إليه يسوع قائلاً: «آه! لو كان للجميع قلب الأطفال!...»
وفي هذه الأثناء مرّت الساعات. عاد النشاط للبيت: أصوات نساء، أولاد، ورجال تُسمَع. وأُمّ تنادي: «ميخائيل! ميخائيل! أين أنتَ؟» وتُرى مذعورة تَنظُر إلى البئر العميقة وفي قلبها فكرة رهيبة.
«لا تخافي يا امرأة، ابنكِ معي.»
«آه! كنتُ خائفة... إنّه يحبّ الماء كثيراً...»
«بالفعل لقد أتى إلى الماء الحيّ النازل مِن السماء ليهب الناس الحياة.»
«لقد أَزعَجَكَ... لقد أفلت منّي على مهل بحيث لم أنتبه له...» تقول المرأة معتذرة.
«آه! لا! لم يزعجني. لقد واساني! فالأطفال لا يسبّبون أبداً الألم ليسوع.»
يدنو الرجال والنساء الأخريات. وربّ الأسرة يقول: «ادخل لاستعادة نشاطكَ. وسامحنا لعدم جعلنا إياك ربّ البيت منذ اللحظة التي رأيناكَ فيها...»
«لا شيء لديَّ أسامح عليه. أنا في وضع جيّد هنا. احترامكَ أعتزّ به. لدينا الطعام وبئركَ بارد، والتبن طريّ ناعم. وهذا جلّ ما ينبغي لابن الإنسان. فأنا لستُ حاكم مقاطعة سوريّة.»
ويسوع، يتبعه خاصّته، يدخل إلى المطبخ الفسيح لتناول الطعام، بينما على البيدر يتدبّر الرجال الأمر لإفساح المجال لكلّ الآتين مِن كلّ مكان للاستماع إلى المعلّم، وآخرون يُسرِعون في تحضير الشراب، الطعام وسلخ حَمَل لمنح المبشِّرين مؤونة سفر، والنساء تجلب السمن والبيض. والسمن يتسبّب باحتجاجات بطرس المحقّ في القول بعدم إمكانية حمل أغذية تسيل بسهولة في مثل هذه الحرارة في الحقائب. ولكن ليس عبثاً وجود الجّرار. يملأن إحداها بالسمن ويغلقنها وينـزلنها في البئر لتبريدها لأكثر ما يمكن. يُعرِب يسوع عن شكره ويودّ لو يحدّ مِن هذه العطايا. ولكن نعم! إنّه عناء ضائع. هِبات أخرى تأتي مِن كلّ صوب، والكلّ يعتذر على عطائه القليل…
يُتمتم بطرس: «مِن الواضح أنّ الرّعاة كانوا هنا. إنّها أرض أُصلِحت... أرض جيّدة.»
لقد امتلأ البيدر بالناس، برباطة جأش، رغم أنّ الرطوبة لم تحلّ بعد، وآخر شعاع مِن الشمس ما يزال يُلامِس البيدر.
يبدأ يسوع الحديث: «ليكن السلام معكم! لستُ هنا، حيث أرى أنّ مذهب معلّم اسرائيل أَصبَحَ معروفاً بعناية التلاميذ الصالحين، لأكرّر ما قد عرفتموه. أَترُك للتلاميذ الصالحين مجد وعناية تثقيفكم ومتابعة فِعل ذلك حتّى يصلوا بكم إلى اليقين التامّ بأنّي الموعود به مِن الله، وأنّ كلمتي هي مِن الله.»
«ومعجزاتكَ هي مِن الله، أيّها المبارك!» يهتف صوت امرأة مِن وسط الجمع، ويلتفت كثيرون لينظروا في ذلك الاتّجاه. ترفع المرأة في الهواء صبيّاً ضاحكاً بوجهه النَّضِر وتهتف: «يا معلّم هذا هو يوحنّا الصغير الذي شفيتَه في منطقة "المياه الحلوة". الصبيّ مكسور الحوض الذي لم يكن أيّ طبيب ليستطع شفاءه، والذي حملتُه لكَ بإيمان وشفيتَه، بإجلاسه على صدركَ.»
«أذكر ذلك أيّتها المرأة. فإيمانكِ استحقّ المعجزة.»
«لقد تعاظَمَ، يا معلّم. أهلي جميعهم يؤمنون بكَ. اذهب، يا بنيّ، واشكر المخلّص. دعوه يذهب إليه...» ترجو المرأة. وتتباعد الجموع لتتيح المرور للصبيّ الذي يذهب مسرعاً إلى يسوع مادّاً له ذراعيه ليتمكّن مِن معانقته. هذا ما حصل وسط الهوشعنا وتعليقات أبناء المدينة أو المحيط، ذلك أنّ أبناء الريف يعلمون بالحدث ولم يُفاجأوا.
يُعاوِد يسوع الحديث ممسكاً الصبيّ بيده.
«وها هي أُمّ مُعتَرفة بالجميل تؤكّد طبيعتي، كما تأكّدت قدرة الإيمان بقلب الله الذي لا يُخيّب أبداً طلبات أبنائه الواثقة والمستقيمة.
أدعوكم إلى تذكّر يهوذا المكابيّ، عندما حَضَرَ إلى هذا السهل ليدرس مخيّم جورجياس الرائع، القويّ بجنوده الخمسة آلاف والفرسان الألف المدرَّبين على القتال، محتاطين جيّداً بالدروع والسلاح وأبراج حرب. كان يهوذا ينظر مع جنوده الثلاثة آلاف، دون تروس ولا سيوف، وكان يشعر بالخوف ينفذ إلى قلب جنوده. حينئذ تكلّم، قويّاً بحقّه الذي كان الله يؤيّده لأنّه لم يكن يقصد ظلماً، بل إنّما الدفاع عن وطن مُجتاج ومُنتَهَك. وقال: "لا يُخِفْكم عددُهم، لا تخافوا مِن هجومهم. تذكّروا كيف أُنقِذ آباؤنا في البحر الأحمر، عندما كان فرعون يلاحقهم بجيشه العظيم. وبإذكاء الإيمان بقدرة الله الذي هو مع الأبرار على الدوام، أَعلَمَ خاصّته السبيل للحصول على العَون. قال: "فلنرفع الصوت صوب السماء، والربّ سيرحمنا، وبتذكُّر العهد المبرم مع آبائنا، سيُدمَّر اليوم هذا الجيش أمامنا، وستعرف كلّ الأمم بوجود مخلّص يحرّر إسرائيل."
هاكم: إنّي أُعيِّن لكم عنصرين رئيسيّين ليكون الله مع المرء، ليساعدنا في المساعي المستقيمة. الأوّل، للحصول على العهد، أن تكون للمرء نفس آبائنا البارّة. تذكّروا القداسة، سرعة طاعة الأحبار للربّ، إن يكن الأمر ذا أهميّة ضئيلة أو عظيمة. تذكّروا بأيّة أمانة ظلّوا أوفياء للربّ. نحن نتذمّر كثيراً في اسرائيل مِن أنّ الربّ لم يعد معنا، عطوفاً كما كان في السابق. ولكن هل ما تزال في إسرائيل نَفْس الآباء؟ مَن قَطَعَ وما زال يقطع العهد مع الآب؟
الأمر الثاني الرئيسيّ ليكون الله مع المرء: التواضع. يهوذا المكابيّ كان اسرائيليّاً عظيماً وجنديّاً عظيماً، ولكنّه لم يقل: "اليوم سوف أُدمِّر هذا الجيش وستعرف الأمم أنّني مخلّص اسرائيل." لا. قال: "والربّ سيدمِّر هذا الجيش أمامنا، نحن العاجزين عن فِعل ذلك، بسبب ضعفنا." ذلك أنّ الله أب ويعتني بأولاده، وليمنع عنهم الموت، يُرسِل كتائبه القادرة لتحارب أعداء أبنائه بأسلحة فائقة البشريّة. وعندما يكون الله معنا، مَن يستطيع التغلّب علينا؟ لا تكفّوا عن قول هذا لذواتكم الآن وفي المستقبل أكثر، عندما يُراد الانتصار عليكم، ليس مِن أجل أمر ذي أهميّة نسبيّة كمعركة وطنيّة، إنّما مِن أجل أمر ذي أهميّة أعظم في الزمن وفي نتائجه، كما هو الأمر مِن أجل نَفْسكم. لا تَدَعوا الخوف أو الكبرياء يسيطران عليكم. الاثنان مؤذيان. سيكون الله معكم لو اضطُهِدتم مِن أجل اسمي ويمنحكم القوّة في الاضطهادات. سيكون الله معكم إذا كنتم متواضعين، إذا كنتم عارفين أنّكم، بذاتكم، غير قادرين على شيء، ولكنّكم قادرون على كلّ شيء إذا اتّحدتم بالآب.
لم يَجعَل يهوذا لنفسه قيمة متباهياً بصفة مخلّص إسرائيل. ولكنّه أضفى هذه الصفة على الله الأزليّ. بالفعل عَبَثاً يتحرّك الناس إذا لم يكن وجود لله في جهودهم. على العكس، فإنّ مَن يعتمد على الربّ منصور هو دونما اضطراب. فهو يَعلَم متى يكون عدلاً المكافأة بانتصارات ومتى يكون عدلاً العقاب بانكسارات. غبيّ للغاية هو الإنسان الذي يريد محاكمة الله، نُصحه أو انتقاده. هل تتصوّرون نملة لدى مراقبتها عمل نحّات تقول: "أنتَ لا تعرف أن تفعل، أنا أفعل أفضل وأسرع منكَ"؟ فالإنسان يشبهها تماماً عندما يريد تلقين الله الدَّرس. ولوجهه المثير للسخرية، يضيف الوجه النّاكر للجميل والمغرور، الناسي لحقيقة مَن يكون: مخلوقاً، ومَن هو الله: الخالق. إذن، إذا خَلَقَ الله كائناً بأَحسَنَ خَلْق، لدرجة ظَنَّ معها نفسه أهلاً لتقديم النصيحة لله نفسه، فما يكون كمال مُبدِع كلّ خليقة؟ مجرّد هذه الفكرة ينبغي أن تكون كافية للحطّ مِن الكبرياء، لتدمير هذا النبات السيّئ والشيطانيّ، هذا الطفيليّ الذي، بولوجه إلى روح، يجتاحه، يخنقه، يقتل كلّ شجرة صالحة، كلّ فضيلة تجعل الإنسان عظيماً على الأرض، عظيماً بحقّ، ليس بالغِنى ولا بالأكاليل، بل إنّما بالاستقامة والحكمة فائقة الطبيعة، ومغبوطاً في السماء إلى الأبد.
ولننظر إلى نصيحة أخرى يسديها إلينا يهوذا المكابيّ العظيم وأحداث ذلك اليوم في هذا السهل:
إذ تورّط في الحرب، فجنود يهوذا الذين كان الله معهم، انتصروا وهَزَموا الأعداء، بملاحقتهم حتّى يزرون وعازوت وأدومية ويمنية، يقول التاريخ، وبقتل جزء منهم بحدّ السيف، وبإبقائهم في الساحة أكثر مِن ثلاثة آلاف جثّة. ولكنّ يهوذا قال لجنوده الذين كان النصر قد أسكرهم: "لا تمكثوا هنا لسلب الغنائم، إذ إنّ الحرب لم تنتهِ، وجورجياس، مع جيشه، هو في الجبل قريباً منّا. ما زال علينا الآن محاربة أعدائنا والانتصار عليهم بالكامل، وفيما بعد، تَسلبون الغنائم بطمأنينة." وهكذا تصرّفوا وحصلوا على نصر أكيد وغنيمة وافرة، والتحرّر، وبعودتهم كانوا يرنّمون البركات لله، ذلك أنّه "صالح ورحمته إلى الأبد."
الإنسان كذلك، أيّ إنسان، هو كالحقول المحيطة بمدينة اليهود المقدّسة. هو محاط بالأعداء الداخليّين والخارجيّين، وجميعهم قساة، ولدى جميعهم الأمل بشنّ الحرب على المدينة المقدّسة التي لكلّ إنسان: روحه، بشنّها على حين غرّة لمفاجأتها بألف حيلة وتدميرها. الأهواء، التي يزرعها الشيطان ويثيرها، ولا يسهر عليها الإنسان بكلّ إرادته لكبحها، هي خطيرة إن لم يستطع السيطرة عليها، إنّما الغير مؤذية إذا كانت مُراقَبَة مثل لصّ مُكَبَّل، ومعها العالم يتآمر بواسطة كلّ إغواءات الجسد، المال، والكبرياء، التي تشبه جيوش جورجياس الرهيبة، المدرّعة، المجهّزة بأبراج الحرب، بالأقواس، برماة ممتازين، بفرسان سريعين، الجاهزين دائماً لبدء الهجوم بأوامر مِن الشرّ.
ولكن ما الذي يستطيعه الشرّ إذا كان الله مع الإنسان الذي يريد أن يكون مستقيماً؟ سيتألّم الإنسان، سيبقى مجروحاً، ولكنّه سيُنقِذ حريّته وحياته، وسينتصر بعد المعركة الـمُلائِمة. ولكن هذه لا تحصل مرّة واحدة، ولكنّها تُعاوِد دائماً، طالما هي الحياة، أو طالما الإنسان لا يتخلّى بشكل كاف عن بشريّته ولا يُصبح روحاً أكثر منه جسداً، وروحاً يذوب في الله بحيث لا تستطيع السّهام واللّسعات ونيران الحرب جرحه بعمق، وتسقط بعد ضربه سطحيّاً كما تفعل نقطة الماء الساقطة على يشب صلب وساطع.
لا تتوقّفوا لجمع الغنائم، لا تُشتّتوا انتباهكم طالما لا تكونون على عتبة الحياة، لا حياة الأرض هذه، إنّما حياة السماوات الحقيقيّة. حينئذ، كمنتصرين، اجمعوا غنائمكم وادخلوا، تقدّموا متباهين أمام مَلِك الملوك وقولوا: "لقد انتصرتُ. ها هي غنائمي. حَصَلتُ عليها بعون منكَ وإرادتي الصالحة، أبارككَ، يا ربّ، لأنّكَ صالح ورحمتكَ إلى الأبد."
هذا مِن أجل الحياة عموماً، لكلّ الناس. أمّا أنتم، أنتم الذين تؤمنون بي، هناك معركة أخرى تترصّدكم. معارك كثيرة. المعركة ضدّ الشكّ، ضدّ الكلام الذي سيُقال لكم، ضدّ الاضطهادات.
أنا، سأُرفَع في المكان الذي مِن أجله أتيتُ مِن السماء. هذا المكان سيخيفكم، سيبدو لكم تكذيباً لكلامي. لا. انظروا إلى الحَدَث بعين الروح وسترون أنّ ما سيحدث سيكون التأكيد على حقيقتي: ليس مَلِكاً مسكيناً لمملكة حقيرة، بل الـمَلِك الذي تنبّأ عنه الأنبياء، وعند أقدام عرشه الفريد، الخالد، وكما تمضي الأنهار كلّها إلى المحيط، ستأتي كلّ أمم الأرض قائلة: "نعبدكَ، يا مَلِك الملوك والديّان الأبديّ، لأنّكَ بتضحيتك المقدَّسة افتديتَ العالم."
قاوِموا الشكّ. أنا، لا أكذب. أنا مَن تكلّم عنه الأنبياء. ومِثل أُمّ يوحنّا منذ لحظة، تذكّروا ماذا فَعَلتُ مِن أجلكم، وقولوا: "هي ذي أعمال الله. لقد تَرَكَها لنا تذكاراً، تثبيتاً، عوناً لنؤمن، ولنؤمن في هذه الساعة بالضبط." قاوموا وستنتصرون على الشكّ الذي يخنق تنفُّس النَّفْس. قاوموا الكلام الذي سيقال لكم. تذكّروا الأنبياء وأعمالي، وأجيبوا على الكلام العدائيّ بأقوال الأنبياء وبالمعجزات التي رأيتموني أجترحها. لا تخافوا ولا تجحدوا الجميل خوفاً، بإخفاء المعجزات التي اجترحتُها مِن أجلكم. قاوموا الاضطهادات، ولكن لا تقاوموا باضطهاد مَن يضطهدونكم، بل بإعطاء شهادة بطوليّة للذين سيريدون، بتهديدات بالموت، حَملكم على إنكاري. قاوموا الأعداء باستمرار. جميعهم. قاوموا ضدّ بشريّتكم، ضدّ مخاوفكم، ضدّ التواطؤات المخزية، التحالفات الـمَصلحية، الضغوط، التهديدات، العذابات، والموت.
الموت!
أنا لستُ زعيم شعب يقول لشعبه: "تألّموا مِن أجلي، بينما أنا أستمتع." لا. أتألّم أوّلاً لأكون لكم المثال. لستُ قائد جيوش يقول لجيوشه: "حاربِوا لتُدافعوا عنّي، موتوا لأوُهَب الحياة." لا. أحارب أوّلاً. سأموت أوّلاً لأُعلّمكم الموت. هكذا، كما فعلتُ على الدوام ما كنتُ أقول بفعله، فبكرازتي بالفقر بقيتُ فقيراً، وبالعفاف عفيفاً، وبالقناعة قنوعاً، وبالاستقامة مستقيماً، وبالغفران غفرتُ وسأغفر. وكما فعلتُ كلّ هذا، سأفعل الأمر الأخير. سأعلّمكم كيفيّة الفداء. سأعلّمكم ذلك ليس بالكلام، بل بالأفعال. سأعلّمكم الطاعة، بخضوعي لأقسى أنواع الطاعة: طاعة موتي…
سأعلّمكم المسامحة، بغفراني في العذابات الأخيرة، كما غفرتُ على قشّ مَهدي للبشريّة التي كانت قد انتَزَعَتني مِن السماء. سأغفر كما غفرتُ على الدوام. للجميع. في ما يخصّني، للجميع. لأعدائي الصغار، لأولئك السلبيّين، اللامبالين، المتقلّبين، وللأعداء الكبار الذين لا يسبّبون لي الألم فقط بلامبالاتهم بسلطاني وبرغبتي في خلاصهم، بل إنّما الذين سَبَّبوا وسيسبّبون لي الألم بكونهم قاتِلي الله. سأغفر. وبما أنّني لن أستطيع حلّ قاتلي الله غير التائبين مِن خطيئتهم، سأصلّي أيضاً، بالآلام الأخيرة، إلى الله مِن أجلهم... لكي يَغفر لهم... لأنّهم سكارى بشراب شيطانيّ... سأغفر... وأنتم، اغفروا باسمي. وأحبّوا، كما أحبّ أنا، كما أحبّكم وسأحبّكم، إلى الأبد.
وداعاً. يهبط المساء. فلنصلِّ معاً ثمّ فليعد كلّ واحد إلى بيته مع كلام الربّ في القلب، وليتحوّل إلى سنابل ممتلئة حبوباً لجوعكم المستقبليّ، عندما سترغبون في الاستماع أيضاً وأيضاً للصديق، المعلّم، مخلّصكم، وفقط بإطلاق روحكم في السماوات سيمكنكم إيجاد الذي أَحَبَّكم أكثر مِن نفسه.
أبانا الذي في السماوات...» ويسوع، ذراعاه مفتوحتان، صليب أبيض كبير ومرتفع على الجدار الداكن للواجهة الشماليّة، يصلّي الأبانا على مهل.
ثمّ يُبارك البركة الموسويّة. يعانق الأطفال، يباركهم أيضاً. يستأذن في الانصراف ويمضي باتّجاه الشمال محاذياً عِمّاوس دون دخولها.
الصبغات البنفسجيّة للغسق تمتصّ ببطء رؤية المعلّم العذبة التي تمضي، تمضي باطّراد إلى مصيره. في الدار شبه المظلمة، صمت ألم ساكن... شكل مِن أشكال الانتظار.
ثمّ بكاء ميخائيل الصغير، دموع حَمَل صغير يجد نفسه وحيداً، تَقطَع النشوة، وتُغرَورَق عيون كثيرة بالدموع، وشفاه كثيرة تُردّد كلمات الصغير البريئة: «لماذا ذهبتَ؟ ارجع! ارجع!... اجعله يا ربّ يرجع!» وعندما يغيب يسوع بحقّ عن الأنظار، التحقّق المؤسف مِن الحدث الذي تمّ: «لم يعد يسوع هنا!» عبثاً تحاول أُمّ ميخائيل الذي يبكي مواساته، وكأنّه فَقَدَ أكثر مِن أُمّه، وكأنّه لم يعد له نَظَر سوى للحدّ الذي غاب فيه يسوع عن الأنظار، ويمدّ ذراعيه منادياً: «يسوع! يسوع!»... ينتظر يسوع إلى أن يبتعد قليلاً، ثمّ يقول: «نمضي إلى يافا. لقد عَمِل التلاميذ فيها كثيراً، وتُنتَظَر هناك كلمة الربّ.»
ليس هناك كثير حماسة لإطالة الطريق، ولكنّ سمعان الغيور يُنبّه إلى أنّ الذهاب مِن يافا إلى أملاك نيقوديموس ويوسف يكون أسرع وعبر طرقات جميلة. يوحنّا مسرور للذهاب إلى البحر. والآخرون، منقادين بهذه الاعتبارات، ينتهون بالذهاب عن طيب خاطر عبر الطريق المؤدّية إلى البحر.