ج2 - ف91

أَنَا هُوَ

ماريا فالتورتا

L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO

THE GOSPEL AS REVEALED TO ME

بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}

L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ

MARIA VALTORTA

الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.

 

الجزء الثاني / القسم الثاني

 

91- (المرأة المحجّبة في منطقة المياه الحلوة)

 

05 / 03 / 1945

 

الطقس، هذا النهار، رديء للغاية، حتّى إنّ أحداً لم يأتِ. وابِلٌ مِن المطر ينهَمِر، بحيث أصبَحَت الدار بِركة، تسبح فيها أوراق جافّة، لستُ أدري مِن أين حَمَلَتها الرياح التي تصفر وتهزّ الأبواب والنوافذ. المطبخ مظلم أكثر مِن أيّ وقت، إذ، لمنع دخول المطر ينبغي أن يُوارَب الباب بأقل قدر ممكن، والدخان يثير الدموع والسعال، لأنّ الهواء يعيده إلى الداخل.

 

«سليمان كان على حقّ.» يتكلّم بطرس بطريقة الحِكَم. «ثلاثة تطرد الإنسان مِن بيته: امرأة مُشاكِسة... وهذه تركتُها في كفرناحوم مع ذويها، والـمَوقِد الـمُدخِّن والسقف الذي يدلف منه المطر. وهذان الأخيران متوفّران لدينا... غداً سأجد حلّاً لهذا الـمَوقِد، أمّا الآن فسأصعد إلى السطح، وأنتَ وأنتَ وأنتَ (يعقوب ويوحنّا وأندراوس) تعالوا معي. سوف نصنع مرتَفَعاً وسَطحاً ذا ذُروة، بواسطة بعض الألواح.»

 

«وأين ستجد الألواح؟» يَسأَل توما.

 

إنّها على العنبر. ولو أَمطَرَت هناك فلن تكون نهاية العالم. إنّما هنا... أيؤلمكَ ألا تعود أطباقكَ تُزَيَّن بدموع بَرّاقة؟»

 

«تصوَّر! لو تمكَّنتَ مِن النجاح في ذلك! انظر كم أنا مُلَطّخ. تُمطِر على رأسي، عندما أكون قرب النار.»

 

«إنّكَ تبدو مثل وحش خُرافيّ مِن مصر.» يقول يوحنّا وهو يَضحك.

 

بالفعل، لدى توما فواصل سوداء غريبة على وجهه الممتلئ والوديع. وهو أوّل مَن يضحك، إنّه مبتهج دائماً، ويضحك يسوع أيضاً، ذلك أنّه في اللّحظة ذاتها التي كان يتكلّم أثناءها، سَقَطَت عليه قطرة جديدة مُحَمَّلة بالهباب، وجَعَلَت أرنبة أنفه سوداء.

 

«أنتَ الخبير بالطقس، ما قولكَ؟ هل سيدوم هكذا طويلاً؟» والسؤال يُوجَّهه إلى بطرس، الاسخريوطيّ الذي تَغَيَّر منذ بضعة أيّام.

 

«الآن يمكنني أن أقول لكَ. سأَعمَل مُنَجِّماً.» يقول بطرس الذي يذهب إلى الباب الذي يفتحه قليلاً، ويُخرِج رأسه ويده، ثمّ يُعلِن: «هواء الظهيرة ضعيف، حرارة وضباب... هوم! يوجد القليل مِن...» ويَصمت بطرس، ثمّ يُعاوِد الدخول ببطء، تاركاً الباب مفتوحاً قليلاً ويَتَرقَّب.

 

«ماذا هناك؟» يَسأَل ثلاثة أو أربعة.

 

ولكنّ بطرس يُشير بيده طالباً التزام الصمت. يَنظُر، ثمّ يُهمهِم: «إنّها تلك المرأة، لقد شَرِبَت مِن ماء البئر وأَخَذَت حزمة حطب باقية في الدار. إنّها مبلّلة. حتماً هي لا تشعر بالدفء... تَمضي... سوف أتبعها. أريد أن أرى...» يَخرُج دون صوت.

 

«ولكن أين يمكن أن تقيم، حتّى تظل قريبة دائماً مِن هنا؟» يَسأَل توما.

 

«وتظلّ هنا في مثل هذا الطقس!» يقول متّى.

 

«إنّها حتماً تذهب إلى البلدة، لأنّها كانت تشتري الخبز أوّل أمس.» يقول برتلماوس.

 

«إنّها تتمتّع بِـجَلَد عظيم كي تبقى هكذا مُحجّبة!» يقول يعقوب بن حلفى.

 

«أو لديها دافِع جادّ.» يُشير توما.

 

«ولكن هل تكون حتماً كما كان ذاك اليهوديّ يتحدّث عنها أمس؟» يَسأَل يوحنّا. «إنّهم أكثر الـمُزيّفين على الدوام!»

 

يبقى يسوع صامتاً كما لو أنَّه مصاب بالصَّمَم. يَنظُر الجميع إليه، إنّهم على يقين بأنّه يَعلَم. إنّما هو، فيُعمِل السكّين في قطعة خشب لَيّن، لتتحوّل بين يديه رويداً رويداً إلى شوكة تَصلُح لإخراج الخضار مِن الماء المغليّ. وعندما ينتهي منها يعطيها لتوما الذي تَفَرَّغ تماماً لأعمال الطهي.

 

«حقّاً إنّكَ بارع يا معلّم. ولكن... هل تقول لنا مَن تكون تلك؟»

 

«إنّها نَفْس. فبالنسبة إليَّ، جميعكم نُفوس، ولا شيء آخر. رجال ونساء، عَجَزَة وأطفال: نُفوس، نُفوس، نُفوس. الرُّضَّع هُم نُفوس طاهِرة، والأطفال نُفوس سماويّة، والشباب نُفوس ورديّة، أمّا الأبرار فنُفوس مِن ذَهَب، والخَطَأة نُفوس مِن قَطران، إنّما مجرّد نُفوس، ولا شيء آخر غير النُّفوس. وأنا أبتسم للنُّفوس الطاهرة، لأنّه يبدو لي أنّني أبتسم لملائكة. أستريح بين الأزهار، الـمُراهِقين الصالحين؛ أَجِد سروري في نُفوس الأبرار الثمينة؛ وأتألّم وأعاني كي أَجعَل مِن نفوس الخَطَأَة نُفوساً ثمينة ومُشعّة. أمّا الوجوه؟... الأجساد؟... فهي لا تعني لي شيئاً. فَمِن خلال نُفوسكم أعرفكم وأتعرّف عليكم.»

 

«وهي، أيّة نَفْس تكون؟» يَسأَل توما.

 

«هي نَفْس أقلّ فُضولاً مِن نُفوس أصدقائي، فهي لا تَتقصّى، ولا تَطرح أسئلة، وتمضي وتأتي دون أن تتكلّم أو تَنظُر.»

 

«كنتُ أظُنُّها امرأة مِن ذَوات السّيرة السيّئة، أو مِن المصابات بالبرص، ولكنّني تراجَعتُ عن رأيي، إذ... يا معلّم، إذا ما قلتُ لكَ شيئاً، أفلا تلومني وتُدينني؟» يَطرَح الاسخريوطيّ السؤال وهو ذاهب ليجلس على الأرض مُلاصِقاً لركبتيّ يسوع، مُتبدّلاً كلّيّاً، مُتواضِعاً وصالحاً. فهو بالحقيقة أروع بهذه الهيئة البسيطة مما كان عليه يهوذا الـمُتباهي الـمُتكبِّر.

 

«لن أدينكَ. تكلّم.»

 

«أنا أعرف أين تُقيم. لقد تَبِعتُها ذات مساء... متظاهراً بأنّني خَرَجتُ طَلَباً للماء، إذ إنّني لاحَظتُ أنّها تأتي إلى البئر عندما يهبط الظلام... وذات صباح وَجَدتُ على الأرض دبوس شعر فضّياً... على حافّة البئر تماماً... وأَدرَكتُ أنّها هي مَن أضاعته. بالنتيجة، هي تُقيم في كوخ خشبيّ في الغابة. قد يكون المزارعون هُم مَن يستخدمون ذلك الكوخ الصغير. وهو مع ذلك نصف متعفّن. غَطَّته هي بأغصان بمثابة سقف. وقد يكون مِن أجل ذلك قد أَخَذَت حُزمة الحَطَب. إنّه جِحر. لستُ أدري كيف تستطيع الإقامة فيه. وهو لا يَصلُح سوى لكلب ضخم أو حمار صغير. ولقد كان القمر يضيء تلك الأمسية، ورأيتُ بوضوح. فالكوخ نصف مُختفٍ في العُلّيق، ولكنّه خاوٍ مِن الداخل ودون باب. كلّ هذا أزال عنّي غَشاوة الضَّلال، وأَدرَكتُ أنّها لم تكن امرأة سيّئة السّيرة.»

 

«ما كان ينبغي أن تفعل ذلك، إنّما كُن صريحاً، ألم تفعل شيئاً آخر؟»

 

«لا يا معلّم. كنتُ أودُّ رؤيتها، لأنّني رأيتُها في أريحا، وأنا أراقبها، ويبدو لي أنّني أتعرّف إلى مشيتها عندما تذهب إلى مكان ما لقضاء احتياجاتها. ويُفتَرَض أن تكون شخصيّتها كذلك ناعمة... وجميلة. نعم، يمكن تخمين ذلك رغم كلّ تلك الثياب... ولكنّني لم أجرؤ على النَّظَر إليها عندما كانت تنام على الأرض. قد تكون نَزَعَت الحجاب آنذاك. إلّا أنّني احتَرَمتُها...»

 

يُحَدِّق فيه يسوع ويُنعِم النَّظَر، ثمّ يقول: «لقد عانيتَ ولكنّكَ قُلتَ الحقيقة. وأنا أقول لكَ إنّني مسرور منكَ. وفي المرّة القادمة سيكون الأمر أقلّ صعوبة لتكون صالحاً. بالنتيجة، المهمّ أن تقوم بالخطوة الأولى. مرحى لكَ يا يهوذا!» ويُلاطِفه.

 

يعود بطرس: «ولكن يا معلّم! هذه المرأة مجنونة! هل تعرف أين هي؟ تكاد تكون على ضفّة النهر في كوخ خشبيّ تحت دَغل. قد يكون استَخدَمَه يوماً صيّاد سمك أو حَطّاب... مَن يدري؟ لم أكن لأتصوّر أبداً أنّه، في هذا المكان الرطب، في هُوّة كهذه، وسط كَوم مِن العُلّيق، كانت توجد امرأة مسكينة. ولقد قُلتُ لها: "قولي بصراحة، هل أنتِ مصابة بالبرص؟" وقد أجابَتني بتنهّد: "لا". قُلتُ: "أَقسِمي". فقالت: "أُقسِم". "انتبهي، لو كنتِ كذلك ولا تريدين الإفصاح، فإن أتيتِ أمام البيت وعَلِمتُ أنّكِ نَجِسة، فسوف أجعلكِ تُرجَمين. إنّما لو كنتِ مُلاحَقَة، لو كنتِ سارِقة أو قاتِلة، وتُقيمين هنا خوفاً منّا فلا تخشي أيّ سوء. أمّا الآن فاخرُجي مِن هنا. ألا ترين أنّكِ في الماء؟ هل أنتِ جائعة؟ هل تشعرين بالبرد؟ إنّكِ ترتجفين. أنا، كما تَرَين، كبير السنّ، ولستُ في صَدَد مغازلتكِ. إنّني عجوز وشريف. أَنصِتي إليَّ إذن واسمعي كلامي". هذا ما قُلتُه لها، ولكنّها لم تشأ أن تأتي. سنجدها ميتة، فهي حقّاً في الماء.»

 

يسوع غارِق في التفكير. يَنظُر إلى الوجوه الاثني عشر الذين ينظرون إليه بدورهم. ثمّ يقول: «ما هو قولكم فيما يجب علينا فِعله؟»

 

«ولكن يا معلّم، قَرّر أنتَ!»

 

«لا. أريدكم أن تُبدوا رأيكم أنتم، فالمسألة تخصّ أيضاً اعتباركم وتقديركم، وأنا ينبغي لي ألّا أُمارِس أيّ ضغط على حقّكم في حمايتها.»

 

«باسم الرحمة، أقول إنّه لا يمكننا تركها هناك.» يقول سمعان.

 

وبرتلماوس: «أقول بأن نجعلها تُقيم اليوم في الغرفة الكبرى. ألا يُقيم الزّائرون فيها؟ وهي أيضاً يمكنها ذلك.»

 

«في النهاية هي خَليقة مثل كلّ الآخرين.» يُعَلِّق أندراوس.

 

«ثمّ، اليوم لن يأتي أحد، وبالنتيجة...» يُبدي متّى ملاحظته.

 

«أَقترَحِ إيواءها اليوم، والتحدّث بشأنها غداً إلى الوكيل. إنّه رجل طيّب.» يقول يوضاس تدّاوس.

 

«إنّكَ مُحِقّ! ولديه إسطبلات كثيرة خالية. وفي حالة كهذه، يكون الإسطبل بَلاطاً مَلَكيّاً، إذا ما قُورِن بذلك القارب الصغير المتهدّم!» يهتف بطرس.

 

«اذهب وقُل لها ذلك إذن.» يقول توما مُشَجّعاً إيّاه.

 

«لم يتكلّم الشباب بعد.» يُبدي يسوع ملاحظته.

 

«بالنسبة إليَّ، كلّ ما تقوله حَسَن.» يقول ابن عمّه يعقوب.

 

أمّا يعقوب الآخر مع أخيه فيقولان: «نحن موافقان.»

 

«أُفكّر فقط في الحالة التعيسة التي سنؤول إليها إذا ما تَرامى الخبر إلى بعض الفرّيسيّين.» يقول فليبّس.

 

«آه! حتّى ولو كنّا ذَهَبنا إلى الغيوم.» يقول يهوذا الاسخريوطيّ.«أتظنّهم لن يتّهمونا؟ فهم لا يَتَّهِمون الله لأنّه بعيد فقط. إنّما لو تمكّنوا مِن أن يَحظوا به قريباً مثل إبراهيم ويعقوب وموسى، لكانوا لَفَّقوا له ألف تُهمة... مَن هو المعصوم عن الخطأ بالنسبة لهم؟»

 

«إذن اذهبوا وقولوا لها أن تأتي وتُقيم في مكان إقامة الزّوار. اذهب أنتَ يا بطرس مع سمعان وبرتلماوس. إنّكم كِبار السنّ ولن تخشاكم المرأة كثيراً. وقولوا لها إنّنا سوف نُقدّم لها طعاماً ساخناً وثوباً جافاً، هو الثوب الذي تركه إسحاق. انظروا كيف أنّ كلّ شيء يَنفع، حتّى ثوب امرأة أُعطِيَ لرجل...»

 

يَضحَك الشباب، إذ يُفتَرَض أنّها كانت هناك بعض الممازحات الطريفة بشأن الثوب موضوع الحديث.

 

يَمضي الثلاثة الكِبار، ويعودون بعد وقت قليل.

 

«لم تكن تريد... ولكنّها في النهاية أتت. لقد أَقسَمنا لها أنّنا لن نزعجها مُطلَقاً. الآن، أنا أحمل لها القشّ والثوب.أعطني خضاراً ورغيف خبز. فهي حتّى لم تَذُق طَعم الزّاد اليوم. بالفِعل... مَن يتجوّل مع هذا الطوفان؟» ويمضي بطرس الطيّب مع كنوزه.

 

«والآن؟» يقول يسوع «هذا أمر للجميع: لا يذهبنّ أحد إلى حيث تُقيم لأيّ سبب كان. وغداً سوف نتدبّر الأمر. تَعَوّدوا على فِعل الخير مِن أجل الخير، دون فُضول، ودون رغبة بتسلية ولا أيّ سبب آخر. هل تَرَون؟ كنتم تتذمّرون مِن أنّنا لم نَقُم اليوم بأيّ عمل مفيد. ها إنّنا قد أَحبَبنا القريب، وماذا يمكننا أن نفعل أعظم مِن هذا؟ فإذا كانت بَائِسة، وهذا أكيد، أفلا تمنحها مساعدتنا تعزية وحرارة وحماية أكثر عُمقاً مِن هذا القليل مِن الطعام وهذا الثوب وهذا السقف الآمِن، هذه الأشياء التي وَفَّرناها لها؟ وإذا كانت مُذنِبة أو خاطِئة أو إنسانة تبحث عن الله، أفلا تكون محبّتنا بمثابة التعليم الأروع، والعِبارة الأكثر قُدرة، والإشارة الأكثر وضوحاً لتضعها على طريق الله؟»

 

يَدخُل بطرس بِتُؤدة ويستمع إلى معلّمه.

 

«انظروا يا أصدقائي، في إسرائيل معلّمون عديدون، وهم يتحدّثون ويتحدّثون... وتبقى النُّفوس على حالها. لماذا؟ لأنّ النُّفوس تَستَمِع إلى كلام المعلّمين، ولكنّها لا ترى الأفعال. فالواحد إذن يُدَمِّر الآخر. وتبقى النفوس حيث هي، إذا لم تتراجع على الأقلّ. ولكن، حينما يَفعَل المعلّم ما يقوله، ويتصرّف بقداسة في كلّ أعماله، فحتّى ولو لم يَقُم بأعمال ماديّة مثل منح الخبز والثوب والمأوى لجسد القريب المتألّم، فإنّه يتوصّل إلى جعل النُّفوس تتقدّم وتَصِل إلى الله، ذلك أنّ تصرّفاته الشخصيّة هي التي تقول للإخوة: "يوجد إله، والله هنا". آه! المحبة! أقول إن مَن يحبّ يُخَلِّص نفسه ويُخَلِّص الآخرين.»

 

«حسناً تقول يا معلّم. لقد قالت لي تلك المرأة: "فليكن مباركاً الـمُخَلِّص ومَن أرسَلَهُ وأنتم جميعاً معه". كانت تريد تقبيل قَدَميَّ أنا الإنسان المسكين، وكانت تبكي خلف حجابها السّميك... ولكن!... فلنأمل الآن ألا يَصِل عصفور دوري مِن أورشليم... وإلا فَمَن يُفلِت منهم؟»

 

«ضميرنا يُخَلِّصنا مِن دينونة الآب. وهذا يكفي.» يقول يسوع. ويَجلس إلى الطاولة بعد أن يُبارِك ويُقدّم الطعام.

 

وينتهي كلّ شيء.