ج5 - ف11

أَنَا هُوَ

ماريا فالتورتا

L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO

THE GOSPEL AS REVEALED TO ME

بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}

L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ

MARIA VALTORTA

الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.

 

الجزء الخامس/ القسم الأول

 

11- (يَمضُون إلى أنتيجونيا)

 

07 / 11 / 1945

 

«لقد جاء ابني تولماي مِن أجل السوق. واليوم، في الساعة السادسة يعود إلى أنتيجونيا. النهار دافئ. هل تريدون الذهاب إلى هناك، كما كنتم ترغبون؟» يَسأَلهم فليبّس العجوز وهو يُقدّم لهم الحليب الساخن.

 

«سنمضي إلى هناك بكلّ تأكيد. متى قلتَ؟»

 

«في الساعة السادسة. يمكنكم العودة غداً، إذا شئتم، أو مساء ما قبل السبت، إذا كان هذا يلائمكم. حينذاك كلّ الخُدّام اليهود، أو كلّ الدَّاخِلين في الدّين، يأتون مِن أجل صلوات السبت.»

 

«هذا ما سوف نفعله. وهذا لا يمنع مِن أن يكون هذا المكان هو المختار لإقامتهم.»

 

«هذا سيسرّني دائماً، حتّى ولو خسرتهم. ذلك أنّ هذا المكان صحّيّ، ويمكنكم فِعل الكثير مِن الخير وسط الخُدّام الذين، بعضهم، ما يزالون ممّن تَرَكَهم المعلّم. والبعض هُم هنا بفضل المعلّمة التي افتدتهم مِن مُعلِّمين قُساة القلوب. كذلك، ليسوا جميعهم إسرائيليّين. ولكنّهم ليسوا كذلك وثنيّين. أتحدّث عن النساء. أمّا الرجال فجميعهم مَختونون. لا تأنفوا منهم... ولكنّهم ما يزالون بعيدين جدّاً عن الشريعة الإسرائيليّة. قِدّيسو الهيكل الكاملين يأنَفون منهم...»

 

«هيه! نعم! نعم! نعم!... حسناً! الآن يمكنهم إحراز تقدّم مِن تقبّلهم الحِكمة والصَّلاح مِن مُرسَليّ الربّ... هل تَرَيان كم مِن العمل عليكما إنجازه؟» يقول بطرس مُوجِّهاً الكلام للاثنين.

 

«سوف نُنجِزه. لن نُخيِّب أمل المعلّم» تَعِد سِنْتيخي. وتَخرُج لِتُعِدَّ ما تظنّه موائماً.

 

يوحنّا الذي مِن عين دور يَسأَل فليبّس: «هل تظنّني أستطيع في أنتيجونيا أن أصنع القليل مِن الخير للآخرين بالتعليم كمُدرِّس؟»

 

«حسناً جدّاً. فلقد مات بلوتي العجوز منذ ثلاثة أشهر، وما مِن مدرسة للأطفال غير العبرانيّين. أمّا اليهود فما مِن معلّم لهم، ذلك أنّ كلّ معلّمينا يَفُرّون مِن هذا المكان القريب مِن دافنيه. فيلزم أحد ما يكون... يكون... كما كان ثيوفيلوس... غير متزمِّت تجاه... تجاه...»

 

«نعم، خلاصة الكلام، تريد القول بغير فرّيسيّة» يَختم بطرس بسرعة.

 

«هو ذاك... نعم... لا أريد الانتقاد... ولكنّني أُفكِّر... اللّعنات لا تفيد في شيء. فالأجدى بالحريّ هي المساعدة... كما كانت تفعل المعلّمة التي، بابتسامتها، كانت تَجلب إلى الشريعة أكثر وأفضل مِن رابّي.»

 

«مِن أجل هذا أَرسَلَني المعلّم إلى هنا! أنا بالضبط مَن عنده ما يلزم... آه! سوف أفعل حسب مشيئته، حتّى آخر نسمة مِن حياتي. الآن، أظنُّ، بل أعتقد حقّاً أنّ رسالتي ليست سوى رسالة تفضيل. سوف أقول ذلك لسِنْتيخي. سَتَرَون أنّنا سنبقى هنا... سأقول لها ذلك.» ويَخرُج بالهمّة التي كان يتمتّع بها سابقاً.

 

«أيّها الربّ العليّ، أشكركَ وأبارككَ! سوف يتألّم، ولكن ليس كالسابق... آه! يا له مِن عزاء!» يَهتف بطرس. ثمّ يَشعُر بواجب أن يَشرَح قليلاً لفليبّس، قدر استطاعته، سَبَب فَرَحه: «عليكَ أن تَعلَم أنّ يوحنّا كان مُستَهدَفاً مِن قِبَل... "قُساة" إسرائيل. ادعُهم "القُساة"...»

 

«آه! أفهم! إنّه مُلاحَق سياسيّ مِثل... مِثل...» ويَنظُر إلى الغيور.

 

«نعم مِثلي وأكثر، مِن أجل أمور أخرى أيضاً. إذ فضلاً عن اختلاف الطبقة الاجتماعية، هو يثيرهم بانتمائه إلى مَسيّا. بالنتيجة، وهذا ما سوف يُقال لمرّة واحدة فقط، هما الاثنان أمانة في عنقكَ، نَعهَد بهما لأمانتكَ، هو وهي... هل تُدرِك ذلك؟»

 

«أُدرِك، وسوف أعرف كيف آخذ ذلك بعين الاعتبار.»

 

«كيف ستدعوهما أمام الآخرين؟»

 

«مُعلِّمَين أوصى بهما لعازر بن ثيوفيلوس، هو مِن أجل الصبيان، وهي مِن أجل الفتيات. أرى أنّ لديها أنوال وتطريز... أشغال أنثويّة كثيرة تُصنَع هنا وتباع في أنطاكية بواسطة غرباء. ولكنّها أشغال ثقيلة وضخمة. أمس رأيتُ عَمَلاً لها ذَكَّرَني بمعلّمتي الطيّبة... سيكون الطلب عليها كثيراً...»

 

«ومرة أخرى فليتمجّد اسم الربّ.» يقول بطرس.

 

«نعم. هذا يُقلِّل مِن ألم رحيلنا الوشيك.»

 

«هل تريدون الرحيل الآن؟»

 

«علينا أن نفعل ذلك. لقد أَخَّرَتنا العاصفة. علينا أن نكون مع المعلّم في أيام سيبات (شباط-فبراير) الأولى. فهو الآن في انتظارنا، ذلك أنّنا قد تأخّرنا» يَشرَح تدّاوس.

 

يتفرّقون ليمضي كلّ واحد إلى عمله، فليبّس إلى حيث تناديه امرأة، والرُّسُل إلى الأعلى حيث أشعّة الشمس.

 

«يمكننا الرحيل غداة السبت. ما قولكم؟» يقول يعقوب بن حلفى.

 

«بالنسبة إليَّ!... تصوَّر!... أنهض كلّ يوم وهاجس كون يسوع وحيداً، دون ثياب ودون عناية، يؤرّقني، وأنام كلّ ليلة وقد أَخَذَ منّي هذا الهمّ كُلّ مَأخَذ. إنّما اليوم، فسوف نُقرِّر.»

 

«قُل. ولكن هل كان المعلّم يَعرِف كلّ ذلك؟ أتساءل منذ بضعة أيّام كيف كان يَعلَم أنّنا كنا سنلتقي الكريتيّ، كيف كان يتوقّع ماهية عمل يوحنّا وسِنْتيخي، كيف، كيف... أشياء كثيرة، الخلاصة.» يقول أندراوس.

 

«في الحقيقة، أظُنُّ أن للكريتيّ فترات محدّدة يُقيم فيها في كولوسّي. وقد يكون لعازر قالها ليسوع، وهو بالنتيجة قَرَّر الرحيل دون انتظار الفصح...» يَشرح الغيور.

 

«نعم! هذا صحيح! وبالنسبة للفصح ماذا سيفعل يوحنّا؟» يَسأَل يعقوب بن حلفى.

 

«ولكن، مثل كل الإسرائيليين...» يقول متّى.

 

«لا، فهذا يكون كَمَن يُلقِي بنفسه في فم الذئب.»

 

«ولكن لا! مَن ذا الذي يصطاده وسط هذا الجمع؟»

 

«الإسخر... آه! ماذا قلتُ؟ لا تُفكِّروا في ذلك! إنّها مزحة...» ويَحمرّ بطرس حزيناً لأنّه تكلَّمَ.

 

ويَضَع له يوضاس بن حلفى يده على كتفه مبتسماً ابتسامته الجادّة، ويقول: «هيّا! كلّنا نفكّر الفكرة ذاتها... إنّما ألّا نقول ذلك لأيّ كان، ولنبارك الأزليّ الذي حَوَّل روح يوحنّا عن هذه الفكرة.»

 

الجميع، وهم شاردو الذهن، يصمتون. أمّا بالنسبة إليهم، هُم الإسرائيليّون الحقيقيّون، هي مشكلة، معرفة كيف سيتمكّن التلميذ مِن الاحتفال بعيد الفصح في أورشليم، وهو الـمُبعَد... ويُعاودون الحديث في ذلك.

 

«أظنُّ أنّ يسوع سيتدبّر الأمر. قد يكون يوحنّا على عِلم بذلك. وليس أمامنا سوى سؤاله.» يقول متّى.

 

«لا تفعل ذلك. لا تضع رغبات وأشواك حيث بالكاد بدأ السلام يُولَد مِن جديد.» يقول الرسول يوحنّا مُتوسِّلاً.

 

«نعم. يَجدر بنا أن نَسأَل المعلّم نفسه.» يؤيّد يعقوب بن حلفى الكلام.

 

«متى سنراه؟ ماذا تقولون؟» يَسأل أندراوس.

 

«آه! إذا ما رحلنا غداة السبت، فسنكون في بتولمايس [عَكّا] بالتأكيد في نهاية الشهر...» يقول يعقوب بن زَبْدي.

 

«هذا إذا ما وجدنا سفينة...» يُعلِّق يوضاس تدّاوس.

 

ويُضيف أخوه: «وإذا لم تهبّ العاصفة.»

 

«أمّا السفينة، فهناك على الدوام سفن مسافرة إلى فلسطين، وعن طريق الدفع، يمكننا جعلها تتوقّف في بتولمايس [عَكّا]، حتّى ولو كانت سفينة متوجّهة إلى يافا. هل ما زلتَ تملك النقود، يا سمعان؟» يَسأَل الغيور بطرس.

 

«نعم، مع أنّ هذا اللصّ الكريتيّ قد سَلَخَني حقّاً، رغم كلّ مظاهر اللُّطف التي أبداها تجاه لعازر. ولكن عليَّ الدفع مقابل حراسة القارب، ومِن أجل أنطوان... والدراهم التي هي حصّة يوحنّا وسِنْتيخي فلا أمسّها، إنّها مقدّسة. حتّى ولو اضطررنا للصيام فلا أمسّها.»

 

«حسناً تفعل. فهذا الرجل مريض جدّاً. يظنّ نفسه قادراً على العمل كمُدرِّس. أظنّه سيكون عاجزاً فقط، وسريعاً جدّاً...» يُخمِّن الغيور.

 

«نعم، هذا ما أظنّه كذلك. وسِنْتيخي، إضافة إلى أعمالها، عليها صُنع المراهم» يقول يعقوب بن زَبْدي.

 

«إنّما ذاك المرهم، أليس كذلك؟ يا للروعة! لقد أخبَرَتني سِنْتيخي عن عَزمها على إعادة تصنيعه واستخدامه لِتَلِج بواسطته إلى داخل العائلات هنا.» يقول يوحنّا.

 

«فكرة جيّدة! مريض نُعالِجه فيشفى، هو على الدوام تلميذ نَكسَبه، وأهله معه.» يقول متّى.

 

«آه! هذا لا!» يَصرُخ بطرس.

 

«كيف ذلك؟ هل تريد القول إنّ المعجزة لا تستميل الناس إلى الربّ؟» يَسأَله أندراوس ومعه اثنان أو ثلاثة آخرين.

 

«آه! يا صغاري! يبدو لي أنّكم تَهبطون مِن السماء! ولكن ألا تَرَون كيف يتصرّفون مع يسوع؟ هل إيلي الذي مِن كفرناحوم قد اهتدى؟ ودوراس؟ ويوسى الذي مِن قورازين؟ ومَلكيّا الذي مِن بيت صيدا؟ و-اعذروني، يا مَن أنتم مِن الناصرة- وكلّ الناصرة مِن أجل المعجزات الخمس أو الستّ أو العشر، حتّى تلك الأخيرة، معجزة ابن أخيكَ؟» يَسأَل بطرس.

 

لا أحد يُعلّق لأنّها الحقيقة المرّة.

 

لم نَجِد الجنديّ الرومانيّ بعد. لقد جَعَلَه يسوع يُدرِك...» يقول يوحنّا بعد برهة.

 

«سنقول ذلك لِمَن يبقى. وحتّى إنّه يبقى هدفاً إضافيّاً في حياتهم.» يُجيب الغيور.

 

يعود فليبّس: «ابني جاهز. لقد أنهى بسرعة. إنّه مع أُمّه التي تهيّئ الهدايا لأحفادها.»

 

«إنَّ كنّتكَ صالحة، أليس كذلك؟»

 

«صالحة للغاية. لقد واستني لفقداني يوسفي. إنّها بمثابة الابنة لي. كانت خادمة لأوكيريا التي هَذَّبَتها. ألا تأتون لتناول الطعام قبل الرحيل، الآخرون يَفعَلون ذلك الآن»…

 

ويَمضون مُسرعين إلى أنتيجونيا، تسبقهم عربة تولماي، حفيد فليبّس... لقد بَلَغوا بسرعة المدينة الصغيرة التي اختفت في خصوبة حدائقها، وسلاسل الجبال التي تحيط بها وتحميها مِن الرياح، وهي بعيدة إلى الحدّ الذي لا يجعلها مثار الشُّبهة، إنّما قريبة إلى الحدّ الذي يحميها ويَسكُب عليها أريج خشب الأشجار الراتنجيّة أو العطريّة، وقد غَلَّفَتها الشمس، فأضحت بهجة للنَّظَر والقلب، لمجرّد اجتيازها.

 

بساتين لعازر جنوب المدينة، يسبقها مَسلَك مزروع بالأشجار العارية حاليّاً، وتتوالى فيه البيوت التي تسبق البساتين. بيوت صغيرة ومنخفضة، إنّما جيّدة، على عتباتها تَظهَر وجوه أولاد ونساء تنظر بفضول وتحيّي مبتسمة. اختلاف الوجوه يُنبِئ عن اختلاف الأنسال.

 

ما أن يَعبُر تولماي بوّابة مدخل الأملاك حتّى يُحدِث أمام كلّ بيت صوتاً خاصّاً بالسوط. يُفتَرَض أن يكون إشارة. وبعد أن يَنظُر أهل كلّ بيت، يُعاوِدون الدخول إلى منازلهم، لِيَخرُجوا بعدئذ ويُغلقون الأبواب ويَسلُكون المسار خلف العربتين اللتين تتوقّفان بعد ذلك وسط مَفرق طُرُق تتشعّب في كلّ اتّجاه، مثل شعاعات إطار، عَبْر حقول لا حصر لها، والمتفرّقة على شكل مَساكِب، بعضها عارية والبعض الآخر ما تزال خضراء، تزيّنها أشجار الغار، والأكاسيا، أو بنباتات مِن النوع ذاته، وأشجار أُخرى إذا جُرِحَت يَخرُج منها حليب معطّر أو راتنجات. وينتشر في الجوّ عَبَق مِن مزيج بلسميّ، راتنجيّ، وعطريّ. وتَجِد في كلّ مكان خلايا نحل وبِرَك سقاية تَشرَب منها حَمَامات بيضاء. في بعض الأمكنة، أراض عارية وقد عَمل المعول فيها حديثاً، تنكشها دجاجات بيضاء، كذلك تحرسها فتيات صغيرات.

 

يُصفِّق تولماي سوطه مرّات عدّة، إلى أن يجتمع سكّان هذه المملكة الصغيرة حول القادمين، حينئذ يبدأ حديثه القصير: «هو ذا. فليبّس، رئيسنا، وجدّي لأبي، يُرسِل قدّيسي إسرائيل هؤلاء ويعهد بهم إليكم، وقد أتوا إلى هنا بحسب مشيئة معلّمنا. وليكن الله معه ومع بيته على الدوام. كُنّا نتذمّر كثيراً لأنّنا كنّا نفتقد إلى صوت الرابّيين القِدّيسين. وها إنّ صلاح الربّ ومعلّمنا البعيد، ولكن الذي يحبّنا كثيراً -وليعوض الله عليه الخير الذي يمنحه لخدامه- يُوفّران لنا ما كنّا نحلم به. في إسرائيل قام الذي كان قد وُعِد به للأمم. كان قد قيل لنا ذلك أثناء الأعياد في الهيكل وفي بيت لعازر. إنّما الآن فقد أتانا حقّاً زمن النعمة، لأنّ مَلِك إسرائيل فَكَّر بأصغر خُدّامه وأَرسَلَ لنا رُسُله ليحملوا لنا كلامه. هُم تلاميذه، واثنان منهم سَيُقيمون فيما بيننا، هنا في أنطاكية، حتّى يُعلِّمانا الحكمة، حتّى يُعلِّمانا عِلم السماء وعِلم الأرض. يوحنّا المعلّم وتلميذ المسيح، سيُعلِّم أولادنا تلك الحكمة والحكمة الأخرى. سِنْتيخي، التلميذة ومعلّمة الخياطة، سوف تُعلِّم عِلم حُبّ الله وفنّ الأشغال النسويّة لبناتنا. استقبِلوهم كبركات مِن السماء، وأحبّوهم كما يحبّهم لعازر بن ثيوفيلوس وأوكيريا -المجد والسلام لنفسيهما- وكما تحبّهم ابنتا ثيوفيلوس: مرثا ومريم، معلّمتانا المحبّوبتان وتلميذتا يسوع الناصريّ، رابّي إسرائيل والموعود به، الـمَلِك.»

 

الجمهور الصغير مِن الرجال، ذوي الجلابيب القصيرة والأيدي الملوّثة بالتراب، الذين يَحملون عدد البَستَنَة (فِلاحة البساتين)، والنساء، والأولاد مِن مُختَلَف الأعمار، الجميع يَستَمِعون بدهشة، ثمّ يتهامسون، وأخيراً ينحنون انحناءة كبيرة.

 

يبدأ تولماي بالتعريف بهم: «سمعان بن يونا، رئيس مُرسليّ السيّد؛ سمعان الكنعانيّ، صديق معلّمنا؛ يعقوب ويوضاس أخوا السيّد؛ يعقوب ويوحنّا، أندراوس ومتّى.» ثمّ للرُّسُل والتلاميذ: «حنّة، زوجتي، مِن سبط يهوذا، كما أمّي، لأنّنا أنقياء، قادمون مع أوكيريا من اليهودية. يوسف، الوَلَد المكرَّس للربّ، وثيوكيريا، التي يُذكِّر اسمها بالمعلّمين المستقيمين، الابنة الحكيمة وصديقة الله، كإسرائيليّة حقيقيّة؛ نيقولاوس ودوسيتة. نيقولاوس مكرَّس للنّذر، دوسيتة، الثالث، (تنهيدة كبيرة تُرافِق التعريف) تَزوَّج منذ بضعة سنوات مِن هرميون. تعالي هنا، أيّتها المرأة...»

 

تتقدّم فتاة سمراء وهي تحمل طفلاً صغيراً على ذراعيها.

 

«ها هي: إنّها ابنة صابئ ويونانيّة. وقد تعرَّفَ عليها ابني في الإسكندروسين الفينيقية عندما كان هناك بقصد التجارة وقد أَعجَبَتهُ... ولم يُعارِض ذلك لعازر، إنّما على النقيض، قال: "هذا أفضل مِن الفجور". وهذا ليس شرّاً. بينما أنا كنتُ أُفضِّل دماً إسرائيليّاً...»

 

تَخفض هرميون المسكينة رأسها وكأنّها مُذنِبة. دوسيتة يرتَعِد ويتألّم. حنّة، الأُمّ والحَماة، تَنظُر حزينة…

 

يوحنّا، رغم كونه الأصغر بين الجميع، يَشعُر بضرورة انتشال النُّفوس المنكَسِرة، ويقول: «في ملكوت الربّ، لم يعد هناك يونانيّ ولا إسرائيليّ، ولا رومانيّ ولا فينيقيّ، بل إنّما فقط أبناء الله. وعندما تتعرّف على كلمة الله مِن فم القادمين إلى هنا، فهي سترفع قلبكَ صوب أنوار جديدة، حينئذ لا تعود "الأجنبيّة" بل تلميذة سيّدنا يسوع، مِثلكَ ومِثل الجميع.»

 

تَرفَع هرميون رأسها بتواضُع وعرفان وتبتسم ليوحنّا. وترتسم على وجهي دوسيتة وحنّة علامة العِرفان ذاتها.

 

ويُجيب تولماي بصرامة: «ولتكن تلك مشيئة الله، لأنّني لا أجد ما ألوم به كنّتي سوى الأصل. والذي بين ذراعيها هو حلفى، آخر المواليد، وقد اتَّخَذَ اسم جدّه الصابئ، أبيها. الصغيرة ذات العينين اللّتين بلون زرقة السماء، سوداء الشعر، هي ميرتيكا التي سُمّيت على اسم أُمّ هرميون، وهذا هو البِكر، لعازر، حسب رغبة المعلّم، والآخر هو هَرْماس.»

 

«المفروض أن يُسمّى الخامس تولماي والسادسة حنّة، لتقول للربّ وللعالم أنّ قلبكَ قد انفتح على مفهوم جديد» يقول يوحنّا.

 

ينحني تولماي دون أن ينبس ببنت شفة. ثمّ يُتابِع التعريف: «هذان أخوان مِن إسرائيل: ميريام وسيلفيان مِن سبط نفتالي. وهؤلاء هُم إلبونيد دانيتا وسمعان وهو يهوديّ. ثمّ ها هُم الصابئون (الذين يَعتَنِقون ديناً آخر)، وقد كانوا في السابق رومانيّين أو أبناء لرومانيين، الذين بفضل محبّة أوكيريا الملموسة قد انتُشلوا مِن العبوديّة والوثنيّة: لوشيوس، مارسيل، وصولون بن إلاتي.»

 

«إنّه اسم يونانيّ» تُعلِّق سِنْتيخي.

 

«مِن تسالونيكي. عَبد خادم لروما» -ويبدو جليّاً الاحتقار، حينما يقول: "خادِم لروما"- أَخَذَته أوكيريا وأخذت معه أباه المحتضر، في ساعة قلاقل، وإن يكن الأب قد مات وثنيّاً، فإنّ صولون صابئ... تقدّمي يا بريسكيلّا مع أولادكِ...»

 

امرأة طويلة وممشوقة، ذات أنف معقوف، تتقدّم وهي تدفع فتاة صغيرة وصبيّاً، وطفلتان تتعلقان بثوبها.

 

«هي ذي امرأة صولون، وقد أُعتِقَت مِن رومانيّة هي الآن ميتة، وماريوس وكورنيليا، ومريم ومارتيل توأمتان. بريسكيلّا خبيرة في الخُلاصات. أميكليا، تعالي مع الأولاد، إنّها ابنة صابِئَين، وابناها كاسيوس وثيودوروس صابِئَان. تقلا، لا تختبئي. إنّها زوجة مارسيل. هي مُبتلاة بالعقم. وهي كذلك ابنة صابئ. هؤلاء هم المستوطنون. الآن إلى البساتين. هيّا بنا.»

 

يأخذهم عَبْر الحقل الواسع، يتبعهم البستانيّون الذين يَشرَحون المحاصيل والأعمال، بينما البنات الصغيرات يَعُدن إلى دجاجاتهنّ التي اغتنمت غياب الحارسات وانتَشَرَت.

 

يَشرَح تولماي: «نجلبهم إلى هنا لتخليص الأرض مما يضرّ التربة قبل البذار السنويّ.»

 

يبتسم يوحنّا الذي مِن عين دور للدجاجات التي تقوقئ ويقول: «يبدو لي أنّها الدجاجات التي كانت لي يوماً...» وينحني ليرمي لها فُتات مِن قطعة خبز كانت في حقيبته فتتحلّق حوله، ويَضحَك، لأنّ واحدة منها تأتي لتنقر فُتات الخُبز مِن يده بوقاحة.

 

«يا للسعادة!» يهتف بطرس وهو يَنكز متّى بمرفقه ليجعله يرى يوحنّا الذي يُداعِب الدجاجات، وسِنْتيخي التي تتحدّث إلى صولون وهرميون.

 

ثمّ يَعودون إلى بيت تولماي الذي يَشرَح: «هو ذا المكان. ولكن لو أردتم فَعلِّموا هنا، بإمكاننا تهيئة مكان لكم. تمكثون هنا أو...»

 

«نعم، يا سِنْتيخي! هنا! هو أجمل! وأنطاكية تُرهِقني بالذكريات...» يقول يوحنّا بتمهّل لرفيقته.

 

«ولكن نعم... كما تريد، شريطة أن تكون على ما يرام. بالنسبة لي الأمر سيّان. فأنا لا أنظر بعد إلى الوراء... فقط إلى الأمام، إلى الأمام... هيّا بنا يا يوحنّا! هنا، سنكون على ما يرام. أطفال وزهور، طيور حمام ودجاج لنا نحن المخلوقات المسكينة. ولنفسنا فَرَح خدمة الربّ. ما قولكم؟» تتوجّه بالسؤال إلى الرُّسُل.

 

«نحن نُفكِّر مثلكِ، يا امرأة.»

 

«إذن اتّفقنا.»

 

«حسناً جدّاً، سوف نَرحَل مسرورين...»

 

«آه! لا ترحلوا! لن أراكم بعد! لماذا بهذه السرعة؟ لماذا؟...» ويعود يوحنّا لِيَغرَق في حُزنه.

 

«ولكنّنا لن نرحل الآن! سنمكث هنا حتّى... حتّى تُصبِح...» لا يعرف بطرس أن يقول ماذا سيُصبِح يوحنّا، ولكي لا يُظهِر دموعه التي اغرورقت بها عيناه، يُعانِق يوحنّا الذي يبكي، ويُحاول مواساته هكذا.