ج2 - ف42
أَنَا هُوَ
ماريا فالتورتا
L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO
THE GOSPEL AS REVEALED TO ME
بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}
L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ
MARIA VALTORTA
الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.
الجزء الثاني / القسم الأول
42- (يسوع في إسخريوط. وفاة شاول الشيخ)
14 / 01 / 1945
لديَّ انطباع بأنّ القسم الأكثر انحداراً، أي العُقدة الأكثر ضِيقاً في جبال اليهوديّة هي بين الخليل ويافا. إنّما قد أكون مخطئة، وقد يكون عبارة عن واد يَنفَتِح بأكثر اتساعاً على آفاق أكثر رَحَابة، حيث تَبرُز جبال منفردة وليست سلسلة. قد يكون إسفيناً بين سلسلتين ، لستُ أدري. أراها لأوّل مرّة ولستُ أعرف عنها الكفاية. في حقول أكثر ضيقاً ولكن معتنى بها، محاصيل مختلفة مِن الحبوب: الشعير، وبشكل خاصّ الشيلم، وكذلك كروم رائعة على الأراضي الأكثر تَعرُّضاً للشمس. ثمّ صعوداً، غابات صنوبر، وتنوب (أشجار حرجية صنوبرية)، وعطور أخرى غاباتيّة. طريق... منعزلة وهي بمثابة مدخل إلى قرية صغيرة.
ويقول يهوذا الذي لم يعد يتمالك نفسه مِن شدّة التأثّر: «هي ذي ضاحية إسخريوط، أرجوكَ أن تأتي إلى بيتي الريفيّ. أُمّي تنتظركَ هناك. ومِن ثمّ سنذهب إلى إسخريوط.»
لقد فاتني القول بأنّ يسوع الآن مع يهوذا ويوحنّا وسمعان فقط، فالرُّعاة لم يعودوا معه. قد يكونون مَكَثوا في مراعي الخليل أو ربّما عادوا إلى بيت لحم.
«كما تريد يا يهوذا، إنّما كان بإمكاننا التوقّف هنا فنتعرّف إلى أُمّكَ.»
«آه! لا، إنّه بيت ريفيّ، لا تأتي إليه أُمّي إلا زَمَن الجَّني. في ما عدا ذلك فإنّها تبقى في إسخريوط. ثمّ ألا تريد أن تراكَ بلدتي؟ ألا تريد أن تَحمِل لها نوركَ؟»
«بالطبع أريد، يا يهوذا، ولكنّكَ بتَّ تعلم أنّني لا أبالي مطلقاً بوضاعة المكان الذي يستضيفني.»
«ولكنّكَ اليوم ضيفي... ويهوذا يعرف كيف يرحّب بضيوفه.»
يَسيرون بضعة أمتار أخرى بين بيوت صغيرة متناثرة في القرية، ويَهرَع رجال ونساء وقد ناداهم الأطفال. بالتأكيد إنّه فضول مُفتَعَل، فيهوذا قد دَقَّ حتماً الطَّبل الدَّاعي للتَّجَمهُر.
«هذا هو بيتي المتواضِع. اعذرني لتواضعه.»
ولكنّ البيت ليس خرابة. إنّه بناء مِن طابق واحد، ولكنّه رَحب ووضعه جيّد وسط حديقة كثيفة ناجحة. طريق صغيرة خاصّة نظيفة جدّاً تَصِل البيت بالشارع العام.
«أتسمح لي بأن أسبقكم يا معلّم؟»
«هيّا.»
ويمضي يهوذا.
يقول سمعان: «إنّ يهوذا قد كَلَّفَ نفسه الكثير، وقد كنتُ أشكُّ في ذلك. إنّما الآن فأنا متأكّد. يا معلّم، أنتَ تقول، وأنتَ مُحقّ تماماً: "الروح... الروح..." أمّا هو فلا يَسمَع هكذا. لن يفهمكَ أبداً... أو بالأحرى بشكل متأخّر.» يصحّح القول كي لا يُزعِج يسوع.
يتنهّد يسوع ويصمت.
يَخرُج يهوذا برفقة امرأة في الخمسين تقريباً. إنّها بالأحرى كبيرة القامة. ولكن ليس كابنها الذي أَخَذَ عنها العينين السوداوين والشعر المجعّد. إنّما عيناها لطيفتان، تميلان إلى الحزن، بينما عينا يهوذا مُتَغَطرِسَتان وماكِرَتان.
فتقول وهي تنحني مثل رعيّة حقيقيّة: «أحيّيكَ، مَلِك إسرائيل، اسمَح لخادمتكَ أن تستقبلكَ.»
«السلام لكِ يا امرأة. وليكن الله معكِ ومع ابنكِ.»
«آه! نعم، مع ابني!» إنّها تنهيدة أكثر منها إجابة.
«انهضي أيّتها الأُمّ. فأنا أيضاً لي أُمّ، ولا يمكنني أن أسمح بأن تُقَبِّلي قَدميّ. أُقَبِّلكِ باسم والدتي. إنّها أختكِ... في الحبّ، وفي المصير المؤلم لأُمّهات المتميِّزين.»
«ما الذي تريد قوله أيا مَسيّا؟» يسأل يهوذا وهو مُضطَرِب قليلاً.
إلّا أن يسوع لا يجيب. إنّه يُقَبِّل خدّي المرأة التي أَنهَضَها، ثمّ يتّجه إلى المنزل ممسكاً بيدها.
يَدخُلون إلى غرفة رطبة حيث ستائر بأخاديد لطيفة تُضفي عليها ظِلالاً. كلّ شيء جاهز: مشروبات مرطِّبة وفواكه. إلّا أنّ أُمّ يهوذا تنادي أوّلاً خادمة تحمل ماء ومناشف. وقد كانت ربّة البيت تبغي خلع حذائي يسوع وغسل قدميه المغبّرتين. ولكنّ يسوع يمانع: «لا، أيّتها الأُمّ. فالأُمّ مخلوقة مقدّسة جدّاً، خاصّة عندما تكون شريفة ونزيهة وبارّة مثلكِ. فلا يمكن أن أسمح بأن تأخذي وضعيّة العبد.»
تَنظُر الأُمّ إلى يهوذا... نظرة غريبة؛ ثمّ تبتعد. يغتسل يسوع. وعندما يهمّ بانتعال حذائه، تعود المرأة بزوج مِن النِّعال جديدين. «هاك أيا مسيحنا. أظنّني فعلتُ حسناً... كما كان يريد يهوذا... لقد قال لي: "أطول قليلاً مِن نَعلي وبالعرض ذاته".»
«ولكن لماذا يا يهوذا؟»
«ألا تبغي السماح لي بأن أُقدّم لكَ هديّة؟ ألستَ مَلِكي وإلهي؟»
«نعم يا يهوذا، ولكن ما كان ينبغي أن تُربِك أُمّكَ هكذا. فأنتَ تعرف كم أنا...»
«أعرف. أنتَ قدّيس. إنّما يجب أن تَظهَر بمظهر الـمِلِك القدّيس. هذا ما يَفرض ذاته في عالم تسعة أعشاره حمقى، يلزمهم مَظهَر لائق يفرض ذاته. أعرف ذلك.»
يَنتَعِل يسوع نعليه الجديدين مِن الجلد الأحمر بالسيور المثقوبة، ووجه النَّعل يَصِل حتّى الكاحل. إنهما أجمل كثيراً مِن نعليه البسيطين والشبيهين بنعليّ يهوذا، اللَّتين تَظهَر منهما فقط أطراف الأرجل.
«كذلك الثوب، يا مَليكي. كنتُ قد هيّأتُه ليهوذا ابني... ولكنّه هو يقدّمه لكَ. إنّه مِن الكتّان: منعش وجديد. أتسمح لأُمّ بأن تُلبِسكَ... كما لو كان الحال مع ابنها؟»
يَلتَفِت يسوع وينظر إلى يهوذا... إلّا أنّه لا يجيب. يحلّ رباط الثوب عند العنق، ويُسقِط رداءه الواسع مِن على كتفيه مُبقِياً على جلبابه الذي يرتديه تحته. وتُقدّم لـه المرأة الثوب الجديد الجميل. ومعه حزام هو عبارة عن شريط غالون موشّى، ينتهي بحبل في نهايته شرّابات أو طرر كبيرة. ويسوع، بكلّ تأكيد، يشعر بارتياح في ثيابه المنعشة والجديدة، ولكنّه لا يبدو سعيداً جدّاً. وفي هذه الأثناء يغتسل الآخرون.
«هلمّ يا معلّم. هي فواكه مِن كَرمي الـمُتواضِع، وهذا نبيذ عسل تصنعه أُمّي. أنتَ يا سمعان قد تُفَضِّل هذا النبيذ الأبيض. خُذ. إنّه مِن كَرمي. وأنتَ يا يوحنّا؟ مثل المعلّم؟» يَبتَهِج يهوذا بينما يَسكُب في كؤوس فضّية جميلة، مُظهِراً أنّه ميسور الحال.
تتكلّم الأُمّ قليلاً. إنّها تَنظُر... تَنظُر... وتَنظُر إلى ابنها يهوذا... وتَنظُر أكثر إلى يسوع... قبل أن يأكل يسوع، يُقدّم لها أجمل حبّة فاكهة (إنها حبّات مشمش كبيرة على ما يبدو، لي فهي ثمار صفراء وحمراء، إنّما ليست تفّاحاً) وعندما يقول لها: «دائماً الأُمّ أوّلاً.» تُغرَورق عيناه بدموع كاللآلئ.
فيسأل يهوذا: «أُمّاه، هل الباقي جاهز؟»
«نعم يا بنيّ، أظنّني قد أتممتُ كلّ شيء بشكل جيّد، إلّا أنّني أمضيتُ عمري هنا ولا أعرف... لستُ أعرف عادات الملوك.»
«أيّة عادات يا امرأة؟ أيّ ملوك؟ ماذا فعلتَ يا يهوذا؟»
«أولستَ مَلِك إسرائيل الموعود؟ لقد آن الأوان كي يمجّدكَ العالم كما يجب، وكان ينبغي أن يحصل هذا للمرّة الأولى هنا، في بلدتي، وفي بيتي. أُجِلُّكَ بهذا اللقب. فحبّاً بي واحتراماً لاسمكَ كمَسيّا، كمسيح، كمَلِك، الذي أَطلَقَه عليكَ الأنبياء بأمر مِن يهوه، لا تخيّبني.»
«أيّتها المرأة، أيّها الأصدقاء، أرجوكم. أحتاج لأن أتحدّث إلى يهوذا، ينبغي لي إعطاؤه أوامر محدَّدَة.»
تَنسَحِب الأُمّ وكذلك التلميذان.
«ماذا فعلتَ يا يهوذا؟ هل ترى أنّكَ لم تفهمني حتّى الآن إلّا قليلاً جدّاً؟ لماذا تَهبط بي إلى درجة أن تجعل منّي أحد سلاطين الأرض، بل أحد الطَّامِحِين الباحثين عن هذه السُّلطة؟ أَوَلا تُدرِك أنّ هذا يَحطّ مِن قَدر رسالتي، بل حتّى يضع العوائق في طريقها؟ نعم هو عائق، وهذا لا جدال فيه. فإسرائيل خاضعة لروما، وأنتَ تعرف ماذا جرى عندما أراد أحدهم الوقوف في وجه روما، وقد بدا وكأنّه زعيم شعبيّ، وتَرَكَ مجالاً للبقاء ضمن دائرة الشكّ بأنّه يُنَظِّم لحرب تحرير. ولقد رأيتَ في تلك الأيّام بالتحديد، رأيتَ كيف كانت مطاردة طفل لقتله لأنّهم كانوا يَرَون فيه مَلِكاً مُستقبليّاً حسب العالم. وأنتَ! وأنتَ!
آه! يا يهوذا، ماذا تنتَظِر مِن سلطان لي بحسب الجسد؟ ماذا تَأمل؟ لقد مَنَحتُكَ الوقت لتفكّر وتقرّر، وقد كَلَّمتُكَ بوضوح تامّ منذ الوهلة الأولى. حتّى إنّني كنتُ قد استبعَدتُكَ لأنّني كنتُ أعرف... لأنّني أعرف، نعم لأنّني أعرف وأقرأ وأرى ما في داخلكَ. لماذا تريد أن تتبعني إن لم تكن ترغب في أن تكون مثلما أشاء؟ اذهب يا يهوذا! لا تُزعِج نفسكَ ولا تتبعني... اذهب. فهذا أفضل لكَ. فلستَ أنتَ العامل المناسب لهذا العمل... إنّه أَرفَع منكَ كثيراً. ففيكَ الكبرياء والطَّمَع بفروعه الثلاثة وروح السيطرة... حتّى إنّه على أُمّكَ أن تخشاكَ... وكذلك النَّزعَة إلى الكذب... لا. فعلى مَن يريد أن يتبعني ألّا يكون هكذا. يا يهوذا: أنا لا أكرهكَ. لا ألعنكَ. بل أقول لكَ فقط، مع ألم عدم القُدرة على تغيير إنسان أُحِبّه، أقول لكَ فقط، اسلُك دربكَ، كَوِّن لنفسكَ مرتبة في العالم، إذا كان هذا ما ترمي إليه. إنّما لا تبقَ معي.
طريقي!... مملكتي!... أيّة آلام ستكون! هل تَعلَم أين سأكون مَلِكاً؟ متى سَيُعلَن مُلكي؟ سيكون ذلك عندما أُرفَع على عود ذليل، عندما سيكون دمي برفيراً لي، والتاج إكليل شوك مضفوراً، والإعلان يافطة مُخزِية، أمّا الأبواق والصنوج والأراغن والقيثارات التي تُحيّي الذي يُعلَن عنه مَلِكاً فستكون الشتائم مِن قِبَل شعب كامل: مِن شعبي. وهل تعلم بفعل مَن سيكون كلّ هذا؟ سوف يكون بفعل واحد لم يكن قد فَهِمَني، ولا يُدرِك شيئاً. قلبه برونزي فارغ، حيث الكبرياء والميل إلى الشهوة والبُخل ستكون قد نَفَثَت سُمّها مِن حيث تكون قد خُلِقَت ثعابين مُتشابِكة لِتُشَكِّل لي وثاقاً و... له لعنة. والآخرون لا يعرفون مصيري بهذا الوضوح. وأرجوكَ: لا تَقُل شيئاً. وليبق هذا بيني وبينكَ. فضلاً عن ذلك... فهي مَذَمَّة... وسوف تَصمُت كي لا يقال: "قد أصابني ذَمّ". هل فهمتَ يا يهوذا؟»
أمّا يهوذا فَمِن كثرة احمراره مال لونه إلى البنفسجي. وهو يقف إلى جانب يسوع، إنّه مُضطَرِب، خافض الرأس... ثمّ يركع ويبكي ورأسه مُلقى في أحضان يسوع. «إنّني أحبّكَ يا معلّم فلا تُقصِني. نعم، إنّني مُتَكَبِّر، بَل أنا أبله، إنّما لا تصرفني. لا يا معلّم، إنّها المرّة الأخيرة التي أُسيء فيها فهمكَ. كلّ الحقّ معكَ، فأنا لم أُفكّر. ولكن حتّى في هذا الخطأ الحبّ موجود. كنتُ أبغي أن أُحيطكَ بكثير مِن الإجلال... وأَعمَل على أن يجلّكَ الآخرون أيضاً... لأنّني أحبّكَ. فأنتَ قد قلتَ ذلك منذ ثلاثة أيام: "عندما تُخطِئون بدون مكر، بجهل، فهذا ليس بخطيئة، إنّما هو حُكم غير كامل، حُكم أطفال، وأنا هنا لأجعلكم تَبلغون". ها أنذا يا معلّم عند ركبتيكَ... وقد قلتَ لي إنّكَ تكون لي بمثابة الأب... عند ركبتيكَ كما لو أنّكَ أبي فعلاً، وأَطلب منكَ العفو. أَطلب منكَ أن تجعل مِنّي "بالغاً"، قدّيساً بالغاً... لا تصرفني يا يسوع، يا يسوع، يا يسوع... لا، فليس كلّ شيء فيَّ سيّئ. أنتَ ترى أنّني تركتُ كلّ شيء وأتيتُ. فأنتَ بالنسبة لي أسمى مِن الكرامات والامتيازات التي كنتُ أحصَل عليها في خدمة الآخرين. أنتَ، نعم، أنتَ حُبّ الفقير، البائس يهوذا الذي يرغَب في ألّا يُقَدِّم لكَ سوى الفرح، بينما هو على العكس يُسبّب لكَ الألم...»
«هذا يكفي يا يهوذا، مرّة أخرى أسامحكَ...» يبدو يسوع تَعِباً... «أسامحكَ على أمل... على أمل أن تفهمني في المستقبل.»
«نعم يا معلّم، نعم. ومع ذلك فالآن، الآن لا تَسحَقني تحت ثقل أكذوبة تجعل منّي هدفاً للسخرية. فإسخريوط كلّها تَعلَم أنّني كنتُ قادماً مع سَليل داود، مَلِك إسرائيل، وقد تهيَّأَت لاستقبالكَ في هذه البلدة التي هي بلدتي... كنتُ أظنُّ نفسي أَفعَل حسناً... بأن أجعلكَ ترى كيف تتصرّف لتُعرِب لكَ عن الخشية والطاعة، وأن أجعل يوحنّا وسمعان يَرَيان ذلك ومِن خلالهما الآخرين الذين يحبّونكَ، إنّما يعاملونكَ معاملة الندّ للندّ... حتّى والدتي ستكون ذليلة لكونها أُمّ ابن كاذِب وأحمق. مِن أجلها يا سيّدي... وأقسم لكَ أنّني...»
«لا تَقطَع لي عهوداً، إنّما أَقسِم لنفسكَ إذا ما استطعتَ ذلك بأن لا تعود تُخطئ في هذا المجال. أمّا بالنسبة لأُمّكَ والسكّان، فلن أكون مُهينَاً لهم بذهابي دون توقُّف. انهَض.»
«ما الذي تنوي قوله للآخرين؟»
«الحقيقة...»
«آه! لا.»
«الحقيقة: أنّني أَصدَرتُ إليكَ أوامر لهذا اليوم. فهناك دائماً طريقة لقول الحقيقة دون جرح المحبّة. هيّا. نادِ أُمّكَ والآخرين.»
يبدو يسوع بمظهر صارِم. ولا يعود للابتسام إلّا حينما يعود يهوذا مع أُمّه والتلميذَين. تُمعِن الأُمّ النَّظر في وجه يسوع، إلّا أنّها تلحظ فيه الرّفق، فتطمئنّ. لديَّ انطباع بأنّها نَفْس متألّمة.
«ألا نودُّ الذهاب إلى إسخريوط؟ لقد أخذتُ قسطاً مِن الراحة وأشكركِ أيّتها الأُمّ على ما فَعَلتِه مِن صلاح وبرّ. فلتكافئكِ السماء، ولِتَهِب زوجكِ الذي تَبكين، الراحة والسعادة مِن أجل المحبّة التي تكنّينها لي.»
تُحـاوِل الأُمّ تقبيـل يـده، إلّا أن يســوع يضـع يـده على رأسـها مُلاطِفـاً ولا يَدَعهـا تفعـل.
«العَرَبة جاهزة، أيّها المعلّم، هيا.»
في الخارج، تَصِل بالفعل عربة تجرّها ثيران. إنّها عربة جميلة، عمليّة، وقد وُضِعَت عليها وسادات مغطّاة بأغطية حمراء بمثابة السّور.
«اصعد يا معلّم.»
«الأُمّ أوّلاً.»
تَصعَد الأُمّ ثمّ يسوع والآخرون.
«هنا يا معلّم.» (لَم يَعُد يهوذا يناديه بالـمَلِك.)
يَجلِس يسوع في القسم الأماميّ، وإلى جانبه يهوذا، وفي الخلف المرأة والتلميذان. يهمز السائق الثيران ويحثّها بينما هو يسير إلى جانبها.
المسافة قصيرة. أربعمائة متر أو أكثر قليلاً، ثمّ ها هي تلوح طلائع بيوت إسخريوط، التي تبدو لي بلدة صغيرة عاديّة جدّاً. على الطريق المشمسة، وَلَد صغير يُراقِب، ثمّ يَنطَلِق مثل الصاروخ. وحينما وَصَلَت العربة إلى مشارف البيوت، كان الوُجَهاء والشعب قد تَجَمهَروا لاستقباله، مع سدائل وخُضرَة، وكذلك تُوجَد سدائل وخُضرَة على طول الطرقات بين بيت وآخر. هتافات فرح، وانحناءات كبيرة تَصِل حتّى الأرض. مع هذا لم يستطع يسوع التملّص، ومِن على عرشه المترنِّح يُحيّي ويُبارِك.
تُتابِع العَرَبَة، ثمّ تَدور وراء ساحة في شارع آخر. تقف أمام بيت بوّابته مفتوحة على مصراعيها، وعلى عتبته تقف امرأتان أو ثلاثة. يتوقّف الجميع وينزلون.
«لكَ بيتي يا معلّم.»
«السلام له، يا يهوذا، السلام والقداسة.»
يَدخُلون. وبعد الردهة توجد قاعة رَحبَة بمقاعد منخفضة وموبيليا مُطَعَّمة. ومع يسوع والذين معه يَدخُل وُجهاء البلدة. انحناءات وفضول وجوّ احتفال مَهيب.
أحدهم، كبير السنّ وَقور، يُلقي خطاباً: «حَدَث عظيم أن تحظى بكَ إسخريوط، يا سيّدي، حَدَث عظيم! يوم سعيد! حَدَث أن تَفوز بكَ، وحَدَث كون أحد أبنائها صديقاً لكَ ومُعاوِناً. مُبارَك الذي تَعَرَّف عليكَ قبل أيّ آخر! مُبارَك أنتَ مائة مرّة لظهوركَ: أنتَ الـمُنتَظَر منذ أجيال وأجيال. تكلّم يا سيّدي ويا مَليكي. قلوبنا تنتَظِر كلامكَ، كما أرض جافّة بفعل صيف حارق تنتَظِر أولى قطرات المطر المنعشة في أيلول (سبتمبر).»
«شكراً لكَ، أيَّاً كنتَ، شكراً. والشكر لهؤلاء الناس الذين حَنوا قلوبهم تجاه كَلِمَة الآب، نحو الآب الذي أنا كَلِمَته، لكي تَعلَموا أنّه ليس لابن الإنسان الذي يحدّثكم، إنّما للربّ تعالى، الشكر والإكرام، مِن أجل زمن السلام هذا، حيث استعادَت أُبوَّته المحطَّمة وضعها الصحيح مع أبناء البشر. التسبيح للربّ الحقيقيّ، لإله إبراهيم الذي رَحَمَ شعبه وأَحَبَّه ومَنَحَه الـمُخَلِّص المولود. فليس ليسوع خادم الإرادة الأزليّة، إنّما لإرادة الحبّ هذه المجد والتسبيح.»
«تتكلّم كلاماً مقدّسـاً... أنا رئيس المَجْمع. اليوم ليس يوم سبت، إنّما هَلُمَّ إلى بيتي لشـرح الشـريعـة، أنتَ يا مَن مَسـْحَة الحكمـة عليكَ افضـل مِن الزيت الذي يُكرِّس الملوك.»
«سوف آتي.»
«ربما سيدي تَعِب...»
«لا يا يهوذا، لا تَعَب أبداً في الحديث عن الله، ولا رغبة لي على الإطلاق في خيبة آمال القلوب.»
فيلحّ رئيس المَجْمع: «هَلُمَّ إذاً، فكلّ إسخريوط هنا في الخارج بانتظاركَ.»
«هيّا بنا.»
ويَخرُجون. يسوع بين يهوذا والرئيس، ثمّ مِن حولهم الوُجَهاء والجُّموع. يمرّ يسوع ويُبارِك.
المَجْمع يطلّ على الساحة. يَدخُلون. يتوجّه يسوع إلى المكان المعدّ للتعليم. يبدأ الكلام، بمظهره الأبيض الكامل بثوبه الرائع، ووجهه الملهَم، وذراعيه الممدودتين، وبحركته المعتادة.
«يا أهل إسخريوط: كَلِمَة الله يتكلّم. أَنصِتوا. فالذي يحدّثكم ليس سوى كَلِمَة الله. سلطانه يأتي مِن الآب ويعود إلى الآب عندما يُنهي كِرازته لإسرائيل. فلتُفتح القلوب للحقيقة كما النُّفوس، لكيلا تستكين في الخطأ حيث تُولَد البَلبَلة.
قال إشَعياء: "الغنائم التي بيد مسلحة، وكلّ ثوب ملطّخ بالدماء يصير وقوداً للنار. لأنّه قد وُلِدَ لنا وَلَد وأُعطِيَ لنا ابن، فصارت الرئاسة على كتفه ودُعي اسمه عجيباً، مشيراً، إلهاً جبّاراً، أبا الأبد، رئيس السلام". هوذا اسمي. فلندع للقياصرة والحُّكام غنائمهم. أمّا بالنسبة لي، فسأسرق، إنّما ليست سرقة تستحقّ النار، بل على العكس، سوف أنتَزِع مِن نار الشيطان غنائم وغنائم لأقودها إلى مملكة السلام التي أنا أميرها، وإلى الدهور الآتية: الأبديّة التي أنا أبوها.
"الله"، يتحدّث أيضاً داود عن الأصل الذي أتيتُ منه، كما سَبَقَ وقيل عنه مِن قِبَل الذين ابتَهَجوا بالرؤيا بسبب قداستهم الـمَرضيّة لدى الله والمختارة للكلام عن الله، فالله إذاً: "اختَارَ واحداً فقط... الابن... لأنّ المهمّة كبيرة، فالأمر لا يتعلّق بتهيئة بيت لإنسان، إنّما بيت لله". وهكذا: فالله، مَلِك الملوك، قد اختار واحداً فقط، ابنه، ليبني بيته في القلوب. وقد هيّأ المواد. آه! كَم مِن ذَهَب المحبّة! والفضّة والنحاس والحديد والخشب النادر والحجارة الكريمة! كلّ هذا مخزون في كَلِمَته وهو يَستَخدِم هذه المواد ليبني فيكم مَسكَن الله. إنّما إن لم يُساعِد الإنسان الرب، فَعَبَثاً يبني الربّ بيته. فينبغي الردّ على الذهب بالذهب، وعلى الفضّة بالفضّة، وعلى النحاس بالنحاس، وعلى الحديد بالحديد. وهذا يعني أنّه ينبغي الردّ على الحبّ بحبّ، بعفاف لخدمة الطهارة، وثبات على الوفاء وقُوّة للمحافظة على الصلاح. وثمّ جَلب الحجارة اليوم، وغداً الخشب؛ اليوم التضحية، وغداً العمل؛ والبناء، بناء هيكل الربّ فيكم على الدوام.
المعلّم، مَسيّا، مَلِك إسرائيل الأزليّ، مَلِك شعب الله الأزليّ يدعوكم. ولكنّه يريد أن تكونوا أطهاراً لهذا العمل. فالكبرياء إلى الهاوية: والتسابيح لله. الأفكار البشريّة إلى الهاوية: والملكوت لله. قولوا معي بتواضع: "كلّ شيء لكَ أيها الآب. كلّ ما هو خير هو لكَ. عِلِّمنا أن نعرفكَ، أن نخدمكَ بحقّ". قولوا: "مَن أنا؟" واعلَموا أنّكم لن تُصبِحوا شيئاً إلّا عندما تُصبِحون الـمَساكِن الـمُطَهَّرة حيث يستطيع الله النزول للمكوث والاستراحة.
الجميع، على هذه الأرض، مسافرون وغرباء. اعرفوا أن تتّحدوا وتسيروا باتّجاه الملكوت الموعود. الطريق: هي الوصايا المعمول بها، ليس خوفاً مِن العقاب، إنّما حُبّاً بكَ أيّها الآب القدوس. تابوت العهد: قلب كامل فيه يوجد مَنّ الحِكمة المغذّي، وفيه يُزهِر غصن الإرادة الطاهرة. ولكي يكون البيت نيّراً، هلمّوا إلى نور العالم. وأنا مَن يحمله إليكم. أنا أحمل إليكم النور. ولا شيء آخر. أنا لا أملك ثروات ولا أَعِد بمناصب أرضيّة، ولكنّني أملك كلّ ثروات أبي الفائقة الطبيعة. والذين سيتّبعون الله في الحبّ والمحبّة، أَعِدهم بمراتب السماء الأزليّة.
السلام معكم.»
والناس الذين أَنصَتوا بانتباه يتهامسون قليلاً مضطَرِبين. يتحدّث يسوع إلى رئيس المَجْمع. ينضمّ إلى الجماعة أناس آخرون قد يكونون مِن الوُجَهاء.
«يا معلّم... ألستَ مَلِك إسرائيل؟ لقد قيل لنا...»
«أنا هو.»
«ولكنّكَ قلتَ...»
«إنّني لا أملك ولا أَعِد بثروات العالم. لا يمكنني البوح بغير الحقيقة. هو هكذا. أنا أعرف أفكاركم. إنّما الغَلَط يأتي مِن تأويل خاطئ ومِن الاحترام العظيم الذي لديكم تجاه العليّ. لقد قيل لكم: "يأتي مَسيّا". وأنتم اعتَقَدتم، مثل الكثيرين في إسرائيل، أنّ "مَسيّا ومَلِك" هما شيء واحد. اسموا بنفوسكم عالياً. انظروا إلى سماء الصيف الجميلة. أيبدو لكم أنّها تنتهي هنا، أنّ حدودها هي حيث يبدو الجوّ قبّة زرقاء؟ لا، فأبعد مِن ذلك توجد طبقات أخرى أكثر نقاء، آفاق أكثر صفاء، حتّى أفق الجنّة الذي لا يتصوّره عقل، حيث يقود مَسيّا الموتى الأبرار في الربّ. إنّه الخلاف ذاته بين الـمَلِك المَسيّاني الذي يتصوّره الناس، والـمَلِك الحقيقيّ: الإلهيّ.»
«ولكن، هل نستطيع ، نحن المساكين، أن نرتقي بأعيننا إلى هذه المستويات المرَتِفعة؟»
«تكفي الرغبة في ذلك، وإذا ما رغبتم، فها أنا ذا أساعدكم.»
«ماذا ينبغي لنا أن ندعوكَ إذا لم تكن مَلِكاً؟»
«يا معلّم، يا يسوع، كما تشاؤون. فأنا المعلّم، وأنا يسوع، الـمُخَلِّص.»
ويقول رجل عجوز: «اسمع يا سيّدي. منذ زمن، زمن بعيد، زمن المنشور، وَصَلَنا إلى هنا نبأ ولادة الـمُخَلِّص في بيت لحم... وأنا، قد ذهبتُ مع آخرين... ورأيتُ طفلاً صغيراً، كما كلّ الأطفال. ولكنّني عبدتُه بمشاعر الإيمان. بعد ذلك عَلِمتُ بوجود آخر، قدّيس، تحت اسم يوحنّا. فَمَن هو مَسيّا الحقيقي؟»
«الذي عبدتَه. أمّا الآخر فهو سابقه. قدّيس عظيم في عينيّ العليّ. ولكنّه ليس مَسيّا.»
«إذاً، أكنتَ أنتَ؟»
«كنتُ أنا. وما الذي رأيتَه حول المولود الذي كنتُه آنذاك؟»
«فقراً ونظافة، شرفاً وطهارة... عامِلاً حلو الشمائل ورصيناً، كان اسمه يوسف، عامِلاً إنّما مِن سلالة داود، وأُمّاً فتيّة، شابة، شقراء ولطيفة، وكان اسمها مريم. أمام ظُرفِها تَشحَب أجمل الورود، وتبدو قبيحة زنابق الحدائق الـمَلَكيّة. وطفلاً عيناه كبيرتان وسماويّتان، وشعره ذهبيّ شاحب... لم أرَ غير ذلك... وما زلتُ أسمع صوت الأُمّ تقول لي: " باسم وليدي أقول لكَ: فليكن الربّ معكَ حتّى اللقاء الأبديّ، ولتكن نعمته معكَ على طريقكَ". لقد أصبَحتُ في الرابعة والثمانين... وقد بَلَغتُ نهاية الطريق. لم أكن آمُل لقاء نعمة الربّ بعد ذلك. إنّما على العكس، ها قد وَجَدتُكَ... والآن لم تعد لديَّ أيّة رغبة برؤية نور آخر لا يكون نوركَ أنتَ... نعم، أراكَ بثوب الرحمة هذا الذي هو الجَّسَـد الذي اتَّخَذتَـه. أراكَ! فاسـمَعوا صوت الذي، بينما يموت، يَرى نور الله!»
يتجمهر الناس حول العجوز الـمُلهَم الذي انضمّ إلى مجموعة يسوع، والذي، دون الاتّكاء على عكازه، يَرفَع ذراعيه المرتجفين، وكذلك رأسه الأبيض بكامله، ولحيته الطويلة، المتفرّعة إلى قسمين، رأس شيخ وَقور حقيقيّ، أو رأس نبيّ.
«أراه، ذاك المختار، الأسمى، الكامل، النازل إلينا بقوّة حبّه، الصاعد مِن جديد إلى يمين الآب المتّحد معه. إنّما ذاك هو! ليس صوتاً وجوهراً غير ماديّ، مثلما رأى موسى العليّ، وكما يقول سفر التكوين: إنّ أول زوج عَرِفاه عندما كان يكلّمهما في نسيم الليل. بل هو جسد حقيقيّ، أراه صاعداً نحو الأزليّ، هو جسد مُشِعّ! جَسَد ممجَّد! آه! يا لِسَنَى الجسد الإلهيّ! آه! يا لبهاء الإنسان-الله! إنّه لَمَلِك! نعم، إنّه مَلِك. ليس مَلِك إسرائيل وحسب، إنّما العالم أجمع. وأمامه تنحني جميع الممالك الأرضيّة، وتتلاشى كلّ الصولجانات وكلّ التيجان في ألق صولجانه ونَفَائِسه. تاج، هو يحمل على جبهته تاجاً. صولجان، إنّه يحمل في يده صولجاناً. وعلى صدره وِسام، تتلألأ فيه جواهر وياقوت وتتألّق بشكل لم يُرَ لـه مثيل. ألسنه لهيب تخرج منه كما مِن أتون عظيم. في قبضته ياقوتتان وحلقتا ياقوت في قدميه المقدّستين. نور، نور الياقوت! انظروا أيّها الشعوب إلى الـمَلِك الأزليّ! أراكَ! أراكَ! أَصعَد معكَ... آه! يا ربّ! يا فادينا!... يتنامى النُّور في عينيّ نفسي... الـمَلِك مزيّن بدمه! التاج أشواك مُدمّاة، الصولجان صليب... هوذا الإنسان! هاهو! إنّه أنتَ!... ربّي، بحقّ افتدائكَ ارحم خادمكَ. يا يسوع، لرحمتكَ أُسَلِّم روحي.»
العجوز الـمُنتَصِب حتّى ذلك الحين، وقد عاد شابّاً بفعل نار النُّبوة، انهَارَ فجأة وكاد يَسقُط لو لم يأخذه يسوع إلى صدره.
«شاول!»
«مات شاول!»
«النجدة!»
«أَسرِعوا!»
«هدوءاً وسلاماً حول البارّ الذي يموت.» يقول يسوع ذلك بينما يجثو بهدوء ليتمكّن مِن حَمل العجوز، الذي أصبَحَ أكثر وزناً، بشكل اسهل.
يسود الصمت.
ثمّ يُمدّده يسوع على الأرض. يَنهَض مِن جديد. «السلام لروحه. لقد مات وهو يرى النور. وبعد زمن الانتظار الذي أصبَحَ قصيراً، سوف يَرَى وجه الله ويكون سعيداً. فالموت، أي الانفصال عن مقوّمات الحياة، ليس للذين سيموتون في الربّ.»
وبعد بُرهة، يبتعد الناس وهم يتحدّثون عن الحَدَث. ويبقى الوُجَهاء ويسوع وأَتباعه ورئيس المَجْمع.
«هل تنبَّأَ يا سيّدي؟»
«لقد رَأَت عيناه الحقيقة. فلننطلق.»
يَخرُجون.
«يا معلّم، لقد مات شاول محاطاً بروح الله. ونحن الذين لمسناه، هل نحن طاهرون أم غير طاهرين؟»
«غير طاهرين.»
«وأنتَ؟»
«أنا كالآخرين. لا أُغيّر الشريعة. فالشريعة هي الشريعة، وعلى أيّ إسرائيليّ أن يُحافِظ عليها. نحن غير طاهرين. وسوف نَتَطَهَّر بين اليوم الثالث والسابع. حتّى ذلك الحين، نحن غير طاهرين. يهوذا، لن أعود إلى بيت أُمّكَ. لن أحمل النَّجاسَة إلى بيتها. أَعلِمها بأيّة طريقة. السلام لهذه البلدة. لننطلق.»
لم أعد أرى شيئاً.