ج8 - ف38

أَنَا هُوَ

ماريا فالتورتا

L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO

THE GOSPEL AS REVEALED TO ME

بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}

L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ

MARIA VALTORTA

الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.

 

الجزء الثامن

 

38- (نبوءة الآلام الثالثة. ابنا زَبْدي وأُمّهما)

 

08 / 03 / 1947

 

الفجر بالكاد يُنير السماء ويجعل السير أصعب حين يغادر يسوع دوكو الّتي ما تزال نائمة. حتماً وقع الخطى لا يسمعه أحد، لأنّهم يسيرون بـحذر والناس لا يزالون نائمين في المنازل المقفلة. لا أحد يتكلّم قبل أن يصبحوا خارج المدينة، في الريف الّذي يستيقظ على مهل في النور الخافت والجديد بعد الندى.

 

حينئذ يقول الاسخريوطيّ: «مسير بلا جدوى، دون راحة. كان مِن الأفضل عدم المجيء إلى هنا.»

 

«لم يسيئوا معاملتنا أولئك القلّة الّذين وجدناهم! لقد أضاعوا ليلتهم في الإنصات إلينا وكي يمضوا لجلب المرضى مِن الأرياف. وذلك كان جديراً بمجيئنا. فأولئك الّذين، بسبب مرض أو لسبب آخر، لم يكن بإمكانهم أن يأملوا برؤية الربّ في أورشليم، قد رأوه هنا، وقد تعزّوا بالصحة أو بِـنِعَم أخرى. الآخرون، وذلك معلوم، قد ذهبوا بالفعل إلى المدينة… مِن عادتنا الذهاب إلى هناك، طالما ذلك مستطاع، قبل العيد ببضعة أيّام.» يقول يعقوب بن حلفى برويّة، لأنّه وديع على الدوام، تماماً بعكس يهوذا الاسخريوطيّ، الّذي هو، حتّى في أفضل أوقاته، دوماً عنيف ومتسلّط.

 

«بالضبط لأنّنا نحن أيضاً نذهب إلى أورشليم، فقد كان مجيئنا إلى هنا بلا جدوى. فقد كانوا سمعونا ورأونا هناك…»

 

«إنّما ليس النسوة ولا المرضى.» يردّ مقاطعاً إيّاه برتلماوس، الّذي أَقبَلَ لمساعدة يعقوب بن حلفى.

 

يهوذا يتظاهر بعدم السماع ويقول، كما لو كان يتابع الكلام: «أقلّه أظنّ أنّنا ذاهبون إلى أورشليم، على الرغم مِن أنّني لستُ واثقاً مِن ذلك الآن بعد الحديث إلى الراعي…»

 

«وإلى أين تريد أن نذهب إذا لم يكن إلى هناك؟» يَسأَل بطرس.

 

«مَن يدري! لا أعلم. فكلّ شيء نفعله منذ بضعة أشهر هو غير واقعيّ، كلّ شيء معاكس لما يمكن توقّعه، للحسّ السليم، للبرّ حتّى، بحيث…»

 

«هيه! لكنّني رأيتُكَ تشرب حليباً في دوكو، ومع ذلك تتكلّم كما لو كنتَ مخموراً! أين ترى الأمور المناقضة للبرّ؟» يَسأَل يعقوب بن زَبْدي بعينيين لا تبشّران بالخير. ويزيد: «كفى ملامات للبارّ! أفهمتَ بأنّ هذا يكفي؟ ليس لديكَ الحق، أنتَ، بتوجيه ملامات إليه. لا أحد لديه هذا الحق، لأنّه كامل هو، ونحن… لا أحد منّا كذلك، وأنتَ أقلّ مِن الجميع.»

 

«ولكن نعم! إن كنتَ مريضاً فعالج نفسكَ، لكن لا تؤرّقنا بجدالاتكَ. وإن كنتَ متقلّب المزاج، فهناك هو المعلّم. دعه يشفيكَ ولنكفّ عن الكلام!» يقول توما الّذي يفقد صبره.

 

بالفعل إنّ يسوع هو في الخلف مع يوضاس بن حلفى ويوحنّا، ويساعدون النسوة اللواتي إذ لم يعتدن على المشي في شبه العتمة، فإنّهن يجدن صعوبة في التقدّم عبر المسلك الوَعِر وكذلك الأكثر عتمةً مِن الحقول، حيث أنّه مهيّأ وسط بستان زيتون كثيف. إنّ يسوع لا يكفّ عن التحدّث مع النسوة، مع بقائه غريباً عن كلّ ما يحدث في الأمام، والّذي يَسمَعه مع ذلك مَن هم معه. بالفعل، إن كان الكلام يصل بصعوبة، فإنّ نبرته تدل على أنّه ليس كلاماً وَدوداً، إنّما يُشعِر بأنّ هناك شِجاراً. الرسولان، تدّاوس ويوحنّا، يتبادلان النظر… لكنّهما لا يتكلّمان. ينظران إلى يسوع ومريم. لكنّ مريم محتجبة بردائها إلى درجة لا يكاد معها يُرى وجهها، ويسوع يبدو أنّه لم يسمع. كانا يتحدّثان عن بنيامين ومستقبله، ويتحدّثان عن الأرملة سارة الّتي مِن أَفِيقَ، الّتي استقرت في كفرناحوم، والّتي هي الأُمّ المفعمة بالمحبّة ليس فقط لطفل جيسكالا، بل أيضاً لأطفال امرأة كفرناحوم الصغار، الّتي، بعد زواجها الثاني، لم تعد تحبّ أبناء الزواج الأوّل، والّتي ماتت بعدها: «موتاً بائساً للغاية بحيث أنّ يد الله قد شوهدت بحقّ في موتها.» كما تقول سالومة. مع ذلك، في نهاية الحديث، يتقدّم يسوع مع يوضاس تدّاوس وينضمّ للرُّسُل بعد قوله وهو يمضي: «ابق مع ذلك يا يوحنّا، إن أردتَ ذلك. سوف أجيبُ القَلِق وأُحِلّ السلام.»

 

لكنّ يوحنّا، الّذي خطى بضع خطوات مع النسوة، وبما أنّ المسلك أصبح أكثر انفراجاً وإنارةً، فإنّه يلحق راكضاً بيسوع بالضبط حين يقول: «كن مطمئنّاً يا يهوذا. لن نفعل، كما لم نفعل ذلك أبداً، أي شيء غير واقعيّ. وحتّى الآن نحن لا نفعل شيئاً مناقضاً لما كان ممكناً توقّعه. فهذا هو الزمن الّذي مِن الـمُتَوقَّع فيه أنّ كلّ إسرائيليّ حقيقيّ، لا يمنعه مرض أو أسباب خطيرة للغاية، يصعد إلى الهيكل. ونحن سوف نصعد إلى الهيكل.»

 

«إنّما ليس كلّنا. لقد سمعتُ بأنّ مارغزيام لن يكون هناك. هل هو مريض يا ترى؟ لأيّ سبب لا يأتي؟ أيبدو لكَ أنّه مِن الممكن استبداله بالسامريّ [بنيامين]؟» نبرة يهوذا لا تُحتَمل.

 

بطرس يهمهم: «أيا أيّتها الحكمة، قيّدي لساني أنا الإنسان!» ويزمّ شفتيه بقوّة كي لا يقول أكثر. إنّ لعينيه، الجاحظتين بعض الشيء، نظرة مؤثّرة، مِن فرط ما هو ظاهر فيهما الجهد الّذي يبذله الرجل لكبح حنقه وألمه لسماع يهوذا يتكلّم بهذه الطريقة.

 

وجود يسوع يجعل كلّ الألسن في سكون. هو وحده الّذي يتكلّم، قائلاً بهدوء إلهيّ بحقّ: «تقدّموا قليلاً إلى الأمام، كي لا تسمع النسوة. لديَّ ما أقوله لكم منذ بضعة أيّام. لقد وعدتُكم بذلك في أرياف طرسة. لكنّني كنتُ أريد أن تكونوا كلّكم كي تسمعوه، أنتم كلّكم، لا النسوة. فلندعهنّ في سلامهنّ المتواضع… وفي ما سأقوله لكم سيكون أيضاً السبب الّذي لأجله مارغزيام لن يكون معنا، ولا أُمّكَ يا يهوذا الاسخريوطيّ، ولا ابنتاكَ يا فيلبّس، ولا تلميذات بيت لحم الجليل مع الصَّبيّة، فهناك أمور ليس بمقدور الجميع أن يحتملوها. وأنا، المعلّم، أَعلَم ما هو خير لتلاميذي، وأيّ قَدْر يمكنهم احتماله أو عدم احتماله. ولا حتّى أنتم لكم قوّة احتمال الاختبار. ونعمة ستكون بالنسبة لكم تجنيبكم إيّاه. إنّما سوف يكون عليكم أن تكونوا استمراريّتي، وعليكم معرفة كم أنتم ضعفاء كي تكونوا بعد ذلك رحماء مع الضعفاء. لذلك لا يمكن تجنيبكم هذا الاختبار الـمَهول، الّذي سيعطيكم مقياس ما أنتم عليه، ما بقيتم عليه بعد مضيّ ثلاث سنوات على وجودكم معي، وما غدوتم عليه بعد السنوات الثلاث مِن وجودكم معي. إنّكم اثنا عشر. لقد أتيتم إليَّ في نفس الوقت تقريباً. ليس القليل مِن الأيّام الّتي تمتد مِن لقائي مع يعقوب، يوحنّا وأندراوس، إلى اليوم الّذي قُبِلتَ فيه بيننا أنتَ أيضاً يا يهوذا الاسخريوطيّ، ولا إلى اليوم الّذي أنتَ يا يعقوب أخي، وأنتَ يا متّى، قد أتيتما فيه معي، هو ما يمكنه تبرير الاختلاف الكبير في التأهيل فيما بينكم. لقد كنتم كلّكم، حتّى أنتَ العَلاّمة برتلماوس، كذلك أنتما يا أخويّ، ناقصين جدّاً، ناقصين تماماً بالنسبة لما هو التأهيل في عقيدتي. لا بل إنّ تثقّفكم، وهو أفضل مِن تثقّف آخرين مِن بينكم بما يتعلّق بعقيدة إسرائيل العتيق، قد كان عائقاً في تنشئتكم فيَّ. ومع ذلك، فلا أحد منكم قد أحرز الكثير مِن التقدم الواجب بلوغه لإيصالكم جميعاً إلى نقطة واحدة. إنّ واحداً منكم قد بلغه، آخرون هم قريبون منه، آخرون أبعد بعد، آخرون إلى الخلف كثيراً، آخرون… نعم، ينبغي أن أقول هذا أيضاً، بدلاً مِن أن يمضوا قُدُماً قد تقهقروا. لا تنظروا إلى بعضكم البعض! لا تبحثوا عمّن هو الأوّل فيكم ومَن هو الأخير. إنّ مَن، ربّما، يعتقد نفسه الأوّل، أو يُعتَقَد أنّه الأوّل، عليه أن يتفحّص نفسه. وإنّ مَن يعتقد نفسه الأخير لن يتأخّر في التألّق في تنشئته كما نجمة سماوية. كذلك، مرّة أخرى، أقول لكم: لا تحكموا. الوقائع سوف تحكم ببراهينها. للآن لا يمكنكم أن تفهموا. إنّما قريباً، سوف تتذكّرون كلامي وسوف تفهمونه.»

 

«متى؟ لقد وعدتَنا بأن تقول لنا، بأن تُفسّر لنا حتّى لماذا التطهّر الفصحيّ سيكون مختلفاً هذا العام، ولا تقوله لنا أبداً.» يشتكي أندراوس.

 

«عن هذا أردتُ أن أُحدّثكم. فإن هذا الكلام كما ذاك هما أمر واحد، كون جذره في أمر واحد. هو ذا، نحن صاعدون إلى أورشليم لأجل الفصح. وهناك سوف تتمّ كلّ الأمور الّتي قالها الأنبياء فيما يخصّ ابن الإنسان. الحقّ أنّ، كما رأى ذلك الأنبياء، كما قيل في الأمر المعطى لعبرانيّي مصر، كما أُمِر موسى في الصحراء، فإنّ حَمَل الله سوف يُضحّى به، ودمه سوف يَغسل أُطُر القلوب، وملاك الله سيمرّ دون أن يضرب أولئك الّذين سوف يحملون، بمحبّة، دم الحَمَل المضحّى به، الّذي هو على وشك أن يُرفَع مثل حيّة المعدن الثمين على خشبة العرض، كي يكون علامة للمجروحين مِن الحيّة الجهنّمية، كي يكون خلاصاً لِمَن سينظرون إليه بمحبّة. إنّ ابن الإنسان، معلّمكم يسوع، سوف يُسَلَّم لأيدي أمراء الكَهَنَة، الكَتَبَة والشيوخ، الّذين سيحكمون عليه بالموت، ويسلّمونه للوثنيّين كي يتعرّض للمهانة. وسوف يُصفَع، يُضرَب، يُبصَق عليه، يُـجَرّ عبر الطرقات كأنّه خِرقة نَجِسة، ومِن ثمّ إنّ الوثنيين، بعد أن يجلدوه ويُكلّلوه بالشوك، سوف يحكمون عليه بالموت على الصليب المخصّص لفاعلي الشرّ، وفقاً لإرادة الشعب العبرانيّ المحتشد في أورشليم، الّذي سيطالب بموته بديلاً عن لصّ، وهو سوف يُعدَم هكذا. لكن، كما قيل في علامات النبوءات، فإنّه سيقوم بعد ثلاثة أيّام. هذا هو الاختبار الّذي ينتظركم، والّذي سيُظهِر مدى تأهيلكم. الحقّ أقول لكم، أنتم كلّكم الّذين تظنّون بأنّكم كاملين كفايةً كي تحتقروا مَن هم ليسوا مِن إسرائيل، وحتّى كي تحتقروا كُثُراً مِن شعبنا ذاته، الحقّ أقول لكم بأنّكم، أنتم الجزء المختار مِن قطيعي، وما أن يتمّ القبض على الراعي، سوف يستولي عليكم الخوف وسوف تتفرّقون هاربين، كما لو أنّ الذئاب، الّتي ستنهشني مِن كلّ الأنحاء، كانت تستدير ضدّكم. إنّما، أقول لكم: لا تخافوا. إنّ شعرة مِن رؤوسكم لن تُمسّ. فأنا سأكون كافياً لإشباع الذئاب الضارية…»

 

الرُّسُل، كلّما استطرد يسوع بالكلام، يبدون مثل أناس تحت وابل مِن الحجارة. إنّهم حتّى ينحنون أكثر فأكثر، كلّما واصل يسوع الكلام. وحينما هو يختم: «وما أقوله لكم أصبح وشيك الحدوث، ليس كما في المرّات السابقة، حيث كان هناك وقت قبل أن تحين الساعة. الآن قد حانت الساعة. إنّني سوف أُسَلَّم لأعدائي ويُضحّى بي لأجل خلاص الجميع. وقبل أن يفقد برعم الزهرة هذا بتلاته، بعدما يُزهِر، أكون قد مُتُّ.» البعض يخفون وجوههم بأيديهم، والبعض يتأوّهون كما لو أنّهم قد جُرِحوا. الاسخريوطيّ شاحب، شاحب تماماً…

 

أوّل مَن يتمالك نفسه هو توما، الّذي يُعلِن: «هذا لن يحدث لكَ، لأنّنا سندافع عنكَ أو نموت معكَ، وهكذا نُظهِر أنّنا لحقنا بكَ في كمالكَ، وكنّا كاملين في محبّتكَ.»

 

يسوع ينظر إليه دون أن يتكلّم.

 

برتلماوس، بعد تفكير طويل، يقول: «لقد قلتَ بأنّكَ سوف تُسَلَّم… إنّما مَن، مَن يمكنه أن يسلّمكَ إلى أيدي أعدائكَ؟ إنّ ذلك لم يُقَل في النبوءات. لا. لم يُقَل. سيكون أمراً مهولاً للغاية أنّ أحد أصدقائكَ، أحد تلاميذكَ، أحد أتباعكَ، حتّى آخِر الجميع، يسلّمكَ إلى مَن يكرهونكَ. لا! إنّ مَن سمعكَ بمحبّة، ولو لمرّة واحدة فقط، لا يمكنه أن يرتكب هذه الجريمة. إنّهم بشر، وليسوا وحوشاً، ولا شياطين… لا يا ربّي. ولا حتّى الّذين يكرهونكَ سوف يستطيعون ذلك… إنّهم يخافون الشعب، والشعب سيكون كلّه ملتفّاً حولكَ!»

 

يسوع ينظر أيضاً إلى نثنائيل ولا يتكلّم.

 

بطرس والغيور لا يتوقّفان عن الكلام فيما بينهما. يعقوب بن زَبْدي يوجّه انتقاداً لأخيه الّذي يراه هادئاً، ويوحنّا يجيبه: «لأنّني أعلم ذلك منذ ثلاثة أشهر.» ودمعتان تسيلان على وجهه.

 

ابنا حلفى يتحدّثان مع متّى، الّذي يهزّ رأسه مُثبَطاً.

 

أنداورس يتوجّه إلى الاسخريوطيّ: «أنتَ الّذي لكَ أصدقاء كُثُر في الهيكل…»

 

«يوحنّا يعرف حنّان شخصيّاً.» يردّ يهوذا، ويختم: «إنّما ما الّذي يمكن فِعله هناك؟ ما الّذي تريد أن يفعله كلام إنسان إذا ما كان الأمر مُقَدَّراً هكذا؟»

 

«أتعتقد ذلك حقاً؟» يَسأَل كلّ مِن توما وأندراوس معاً.

 

«لا. أنا لا أعتقد شيئاً. إنّها تحذيرات لا طائل منها. برتلماوس يُحسِن القول. إنّ كلّ الشعب سوف يكون ملتفّاً حول يسوع. إنّ ذلك يمكن تبيّنه ممّن نلقاهم. وسيكون انتصاراً. سوف ترون بأنّه سيكون كذلك.» يقول يهوذا الاسخريوطيّ.

 

«فإذن لماذا هو…» يقول أندراوس مشيراً إلى يسوع الّذي توقّف لانتظار النسوة.

 

«لماذا يقول ذلك؟» لأنّه متأثّر… ولأنّه يريد أن يختبرنا. إنّما لن يحدث شيء. على كلّ حال أنا سأذهب…»

 

«آه! نعم. اذهب لتبيّن الأمر!» يتوسّل أندراوس.

 

يصمتون لأنّ يسوع يتبعهم مجدّداً، وهو بين أُمّه ومريم الّتي لحلفى.

 

لمريم ابتسامة شاحبة لأنّ سلفتها تريها بذوراً، مأخوذة لا أعرف مِن أين، وتقول لها بأنّها تريد أن تزرعها في الناصرة بعد الفصح، تماماً قرب المغارة الصغيرة العزيزة جدّاً على مريم: «عندما كنتِ صغيرة أتذكّركِ دوماً تحملين هذه الزهور بين يديكِ الصغيرتين. كنتُ أدعوها زهور مجيئكِ. بالفعل، حين ولدتِ كانت حديقتكِ مليئة منها، وفي تلك الأمسية، عندما هرعت الناصرة بأسرها لترى ابنة يواكيم، لم تكن باقات تلك النجوم الصغيرة سوى ماسات بفعل الماء الّذي نزل مِن السماء، وبفعل آخِر شعاع شمس كان ينيرها وقت المغيب، ولأنّكِ كنتِ تُدعين "نجمة" فالجميع كانوا يقولون، وهم ينظرون إلى كلّ هذا الكَمّ مِن النجمات الصغيرة البرّاقة: "إنّ الزهور قد تزيّنت كي تحتفل بزهرة يواكيم، والنجوم قد غادرت السماء كي تأتي إلى النجمة"، والجميع كانوا يبتسمون، سعيدين بالفأل الحسن، وبفرحة أبيكِ. ويوسف، أخو زوجي، قال: "نجوم وقطرات، إنّها حقاً مريم!" مَن كان ليقول له آنذاك بأنكِ سوف تصبحين نجمته؟ وعندما عاد مِن أورشليم وقد تمّ اختياره زوجاً لكِ! كلّ الناصرة كانت تريد أن تحتفل به، لأنّه عظيم كان الشرف الّذي أتاه مِن السماء، والّذي جاءه مِن خطوبته لكِ، يا ابنة يواكيم وحنّة، والجميع كانوا يريدون دعوته إلى مأدبة. لكنّه، بإرادته اللطيفة إنّما الحازمة، قد رفض كلّ احتفال، مسبّباً الدهشة للجميع، فَمَن هو ذاك الرجل، الـمُقدّر له زواج مُشَرِّف، وبقرار كهذا مِن العليّ، لا يحتفل بسعادة نفسه وجسده ودمه؟ لكنّه كان يقول: "لاختيار عظيم يتوجّب إعداد عظيم"، وكان يحافظ كذلك على التعفّف في الكلام والطعام، وفوق ذلك كان يحافظ على العفاف بمعناه الحقيقيّ على الدوام، فقد أمضى ذلك الوقت بالعمل والصلاة، لأنّني أظنّ بأنّ كل ضربة مطرقة، كلّ أثر إزميل، قد استحالت صلاة، إذا كان ممكناً الصلاة بالعمل. كان وجهه كَمَن أخذته النشوة. أنا كنتُ أذهب كي أُرتّب المنزل، أُبَيّض الشراشف وكلّ شيء تركته أُمّكِ وغدا أصفراً بمرور الزمن، وكنتُ أنظر إليه بينما كان يعمل في الحديقة والمنزل كي يعيدهما جميلين كما لو أنّهما لم يُهملا أبداً، وكنتُ أتحدّث إليه أيضاً… إنّما كان وكأنّه مستغرق. كان يبتسم. إنّما ليس لي ولا لآخرين، إنّما لفِكره الّذي لم يكن، لا، فِكر كلّ رجل قد اقترب عرسه. تلك الابتسامة الّتي لفرح ماكر وشهوانيّ… فهو… كان يبدو مبتسماً لملائكة الله غير المرئيّين، كما لو أنّه كان يُحدّثهم ويطلب منهم النصح… آه! وأنا واثقة مِن أنّهم كانوا يرشدونه إلى كيفيّة معاملتكِ! لأنّه لاحقاً، اندهاش آخر للناصرة بأسرها، وسخط من قِبَل عزيزي حلفى، قد قام بتأجيل العرس قدر المستطاع، ولم يُفهَم كيف قرّر ذلك فجأة قبل الموعد المحدّد. وكذلك عندما عُلِم بأنّكِ أُمّ، كم ذُهلت الناصرة لفرحه العارم!... إنّما حتّى عزيزي يعقوب هو إلى حدّ ما هكذا. وهو يغدو هكذا أكثر فأكثر. فالآن وأنا أراقبه جيّداً -لا أعلم لماذا، لكن مذ أتينا إلى أفرايم وهو يبدو لي متبدّلاً تماماً- فإنّني أراه هكذا… بالضبط مثل يوسف. انظري إليه الآن أيضاً يا مريم، الآن وهو يعاود الالتفات إلى الوراء لينظر إلينا. أليس له مظهر الـمُستَغرِق، المعتاد جدّاً في يوسف، عريسكِ؟ إنّه يبتسم تلك الابتسامة الّتي لا يمكن القول إن كانت حزينة أم بعيدة. إنّه ينظر وله تلك النظرة الممتدّة، الّتي تتخطّانا، الّتي غالباً ما كانت ليوسف. أتذكرين كيف كان حلفى يستفزّه؟ كان يقول: "يا أخي، ألا تزال ترى الأهرامات؟". وهو كان يهزّ رأسه دون أن يتكلّم، صَبوراً وكاتماً أفكاره. قليل الكلام على الدوام. إنّما بعد عودتكِ مِن حبرون! فهو لم يعد حتّى يأتي وحده إلى النبع كما كان يفعل سابقاً وكما يفعل الجميع. فإمّا معكِ أو في عمله. وما عدا السبت في المعبد، أو عندما كان يقصد مكاناً آخر لقضاء بعض الأعمال، فلم يعد يُرى يوسف ذاهباً هنا وهناك خلال تلك الأشهر. ثمّ رحلتم… وكم كان مُقلِقاً عدم معرفة شيء عنكم بعد المذبحة! حلفى قد مضى حتّى بيت لحم… "لقد رحلوا" قد قالوا. لكن كيف يمكن التصديق، إذا ما كانوا يكرهونكم حتّى الموت في مدينة كانت لا تزال حمراء مِن الدم البريء والانقاض تدخّن، وحيث كانوا يتّهمونكم بأنّ ذاك الدم قد سال بسببكم؟ ومضى إلى حبرون ومِن ثمّ إلى المعبد، حيث كان دَور زكريّا في الخدمة. إنّ أليصابات لم تقدّم له سوى دموع، وزكريّا كلام تعزية. إنّ الواحدة والآخر، القَلِقان على يوحنّا، وخوفاً مِن وحشيّة جديدة، كانا قد أخفياه وكانا يرتعدان لأجله. لم يكونا يعلمان شيئاً عنكم، وزكريا قال لحلفى: "إن ماتوا، فإنّ دمهم عليَّ، لأنّني أنا مَن أقنعهم بالبقاء في بيت لحم". عزيزتي مريم! عزيزي يسوع الّذي رأيناه جميلاً جدّاً في الفصح الّذي تلا ميلاده! ولا نعلم عنكما شيئاً لوقت طويل! لكن لماذا لم يكن هناك أيّ خبر؟.…»

 

«لأنّه كان مِن الأفضل الصمت. فهناك حيث كنّا، كان الكثيرون ممّن يحملون اسمي مريم ويوسف، وكان مِن الأفضل أن نكون كأيّ زوجين.» تجيب مريم بهدوء، وتقول وهي تتنهّد: «وكانت، بأحزانها، أياماً سعيدةً بعد. إنّ الشرّ كان لا يزال بعيداً! وإذا ما كانت هناك نواقص كثيرة لاحتياجاتنا البشريّة، فإنّ روحنا كان يشبع بفرح الفوز بكَ أيا بنيّ!»

 

«إنّكِ الآن أيضاً تحظين بابنكِ يا مريم. ينقص يوسف، هذا صحيح! إنّما يسوع هنا، وبمحبّته الكاملة كراشد.» تلاحظ مريم الّتي لحلفى.

 

مريم ترفع رأسها كي تنظر إلى يسوعها. نظرتها تكشف عن تمزّقها رغم أنّ ابتسامة خفيفة ترتسم على شفتيها. لكنّها لا تضيف كلمة.

 

إنّ الرُّسُل قد توقّفوا لينتظروهم، واجتمعوا كلّهم، حتّى يعقوب ويوحنّا اللذان كانا وراء الجميع مع أُمّهما. وفيما يستريحون مِن السير، والبعض يتناولون القليل مِن الخبز، فإنّ أُمّ يعقوب ويوحنّا تقترب مِن يسوع وتسجد أمامه هو الّذي لم يجلس حتّى، لاستعجاله استئناف السير.

 

يسوع يَسأَلها، لأنّ مِن الواضح أنّها ترغب في طلب أمر ما منه: «ما الّذي تريدينه يا امرأة، أَفصِحي.»

 

«امنحني نعمة، قبل أن ترحل كما تقول.»

 

«وما هي؟»

 

«نعمة أن تأمر بأن يجلس ابنيّ هذين، اللذين تركا كلّ شيء لأجلكَ، الواحد إلى يمينكَ والآخر إلى يساركَ حين ستجلس، بمجدكَ، في مملكتكَ.»

 

ينظر يسوع إلى المرأة ومِن ثمّ ينظر إلى الرسولين، ويقول لهما: «أنتما اللذان أوحيتما بهذه الفكرة لأُمّكما، مُفسّرَين على نحو سيّئ جدّاً وعودي للبارحة. إنّ المائة ضعف لقاء ما تركتموه لن تنالوها في مملكة أرضيّة. أأنتما أيضاً تغدوان جَشِعَين ومُتبلّدَي العقل؟ إنّما ليس أنتما. إنّه الغسق الـمُسمَّم بالظلمات الّتي تتقدّم، وهواء أورشليم الملوّث الّذي يقترب، ويفسدكما ويعميكما… أنا أقول لكما بأنّكما لا تعلمان ما تطلبان! أَمِن الممكن أن تستطيعا شرب الكأس الّتي سأشربها أنا؟»

 

«نستطيع ذلك يا ربّ.»

 

«كيف يمكنكما قول ذلك إذا لم تدركا بعد ما ستكون عليه مرارة كأسي؟ إنّها لن تكون فقط المرارة الّتي وصفتُها لكما بالأمس، إنّها مرارتي الّتي لرجل الأوجاع كلّها. ستكون هناك عذابات، حتّى لو كنتُ وصفتُها لكما، فلن تكونا في وضع يسمح لكما بفهمها… ومع ذلك، نعم، بما أنّكما -مع كونكما ما تزالان مثل طفلين لا يعرفان ما يطلبان- بما أنّكما روحان بارّان وتحبّانني، فسوف تشربان حتماً "مِن كأسي". لكنّ الجلوس عن يميني أو عن يساري فلا يعود إليَّ أنا أمر منحكما إيّاه. إنّه أمر يُمنَح لأولئك الّذين أعدّه أبي لأجلهم.»

 

إنّ الرُّسُل الآخرين، فيما يسوع كان لا يزال يواصل الكلام، ينتقدون بشدّة طلب ابنيّ زَبْدي وأُمّهما. بطرس يقول ليوحنّا: «أنتَ كذلك! ما عدتُ أتعرّف فيكَ على ما كنتَ عليه!»

 

والاسخريوطيّ، بابتسامته الشيطانيّة: «حقّاً إنّ الأوّلين هم الأخيرون! زمن اكتشافات مفاجئة…» ويضحك ضحكة صفراويّة.

 

«هل تبعنا معلّمنا لأجل الأمجاد يا ترى؟» يقول فيلبّس بلهجة لائمة.

 

توما، على العكس، يلتفت إلى سالومة، ليبرّر الاثنين، قائلاً: «لماذا تذلّين ولديكِ؟ كان عليكِ أنتِ أن تفكّري، إن لم يفعلا هما، وتمنعي هذا.»

 

«هذا صحيح. فأُمّنا ما كانت لتفعل ذلك.» يقول تدّاوس.

 

برتلماوس لا يتكلّم، لكنّ وجهه يُعلِن بوضوح عن الشجب.

 

سمعان الغيور، لتهدئة السخط، يقول: «يمكننا كلّنا أن نخطئ…»

 

متّى، أنداوس ويعقوب بن حلفى لا يتكلّمون، إنّما مِن الواضح أنّهم يتألّمون مِن الحدث الّذي يلطّخ الكمال الجميل ليوحنّا.

 

يسوع يقوم بإشارة لفرض الصمت ويقول: «وماذا؟ أَمِن خطأ ستتأتّى أخطاء كثيرة؟ أنتم، الّذين تلومون ساخطين، ألا تدركون بأنّكم تخطئون أيضاً؟ دعوا أخويكما وشأنهما. لَومي يكفي. إنّ ذلّهما واضح، وتوبتهما متواضعة وصادقة. يجب أن تتحابّوا فيما بينكم، أن تعضدوا بعضكم البعض. إذ لا أحد منكم كامل بعد حقّاً. ينبغي عليكم ألّا تقتدوا بالعالم وأُناسه. ففي العالم، وأنتم تعرفون ذلك، إنّ رؤساء الأمم يسودونهم، وعظماءهم يمارسون عليهم السلطة باسم الرؤساء. إنّما بينكم ينبغي ألاّ يكون الأمر هكذا. يجب ألّا تطمحوا للسيادة على الناس، ولا على رفاقكم. بل بالأحرى، مَن أراد منكم أن يغدو أعظم فليجعل مِن نفسه خادمكم، ومَن أراد أن يكون الأوّل فليجعل مِن نفسه خادماً للجميع. كما فعل معلّمكم. هل جئتُ يا ترى كي أَضطَهِد وأُهيمن؟ كي أكون مخدوماً؟ لا، في الحقيقة لا. لقد أتيتُ كي أَخدم. وكما أنّ ابن الإنسان لم يأتِ كي يُخدَم، إنّما كي يَخدم ويبذل حياته لافتداء كثيرين، فهكذا ينبغي أن تفعلوا إذا ما أردتم أن تكونوا كما أنا وحيث أكون. امضوا الآن. وكونوا في سلام فيما بينكم كما أنا معكم.»

 

يقول لي يسوع:

 

«عَلِّمي جيّداً النقطة: "...ستشربان حتماً مِن كأسي". في الترجمات يُقرأ: "كأسي". لقد قلتُ: "مِن كأسي" لا "كأسي". فما مِن إنسان يمكنه أن يشرب كأسي. أنا وحدي، الفادي، كان عليّ شرب كأسي بالكامل. لتلاميذي، لمن يقتدون بي ويحبّونني، مسموح بالتأكيد أن يشربوا مِن هذه الكأس الّتي شربتُها، القطرة، الرشفة، أو الرشفات الّتي يمنحهم إيثار الله أن يشربوها. إنّما ما مِن أحد أبداً سوف يشرب الكأس بالكامل كما شربتُها. وبالتالي فمن الصواب القول: "مِن كأسي" وليس "كأسي".»