ج4 - ف162

أَنَا هُوَ

ماريا فالتورتا

L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO

THE GOSPEL AS REVEALED TO ME

بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}

L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ

MARIA VALTORTA

الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.

 

الجزء الرابع / القسم الثاني

 

162- (الطّفلان اليَتيمان مريم ومتّيا)

 

08 / 10 / 1945

 

أعود لأرى بحيرة ميرون في يوم غائِم ماطِر... وَحْل وغيوم. صَمْت وضباب. يَغيب الأفق في السُّحُب. أشجار السنديان في حرمون تكسوها طبقات مِن الغيوم المنخفضة، ولكن مِن ذلك المكان -وهو عبارة عن هضبة مرتفعة قرب البحيرة الصغيرة الرماديّة المصفرّة بسبب طين آلاف الجداول، وبسبب سماء تشرين الثاني (نوفمبر) الغائمة- تُكتَشف تلك المرآة الصغيرة مِن المياه التي تغذيها مياه الأردن الأعلى، التي تصبّ بعدئذ لتغذّي بحيرة جنّسارت الأكبر.

 

يهبط الليل مكفهرّاً أكثر فأكثر، وماطراً، بينما يسير يسوع عَبْر الطريق التي تقطع الأردن بعد بحيرة ميرون، ليسلك درباً مؤدّياً بشكل مباشر إلى أحد البيوت…

 

(يقول يسوع: «هنا تُورِدين رؤيا اليتيمَين متّيا ومريم التي أُعطيت لكِ في 20 / 08 / 1944»)

 

----------

 

20 / 08 / 1944

 

رؤيا أُخرى ممتعة ليسوع والوَلَدين.

 

أرى يسوع يمرّ في درب ضيّق عَبْر حقول، يُفتَرَض أنّ البذور قد بُذرَت فيها منذ مدّة قصيرة، ذلك أنّ الأرض ما تزال طريّة ومحفورة كما بعد بِذار قريب. يتوقّف يسوع لِيُداعِب وَلَدين: صبيّاً لا يتجاوز السنوات الأربع، وطفلة عمرها بين الثامنة والتاسعة. يُفتَرض أنّهما مِن عائلة فقيرة جدّاً، ذلك أنّهما يرتديان ثوبين رثّين لا لون لهما، بل حتّى ممزَّقَين، والوجه حزين ويُعبِّر عن ألم.

 

لا يَسأَل يسوع عن أيّ شيء. يُمعِن النَّظر فيهما فقط بينما هو يلاطفهما. يُسرِع بعدئذ الخُطى صوب بيت في طرف الدرب الضيّق. بيت ريفيّ، ولكنّه لائق، له سلّم خارجيّ يَصعَد إلى الشرفة التي تغطّيها عريشة كَرْمة، وقد تعرّت الآن مِن العناقيد والأوراق. فقط بضعة وريقات مصفرّة ما تزال تتدلّى وتتحرّك بفعل الريح الرطبة ليوم خريفيّ مكفهرّ. على تصوينة البيت حَمْامات تَهدل، منتظرة الماء الذي تُنبِئ عنه السماء الرماديّة الغائمة.

 

يسوع، يتبعه أتباعه، يَدفَع الحاجز الريفيّ الذي في الجدار الحجري الصغير المحيط بالبيت، ويَدخُل إلى الدار، حيث يوجد بئر، وفي زاوية منها الفرن. أفترض أنّها غرفة المهملات تلك، ذات الجدران الأكثر قتامة بسبب الدخان المتصاعد منها الآن، والريح تدفعه إلى الأرض.

 

على وقع الخطوات، تأتي امرأة إلى عتبة الغرفة، وبعد أن ترى يسوع، تُحيّيه بفرح، وتَهرَع إلى البيت لِتُنبِئهم.

 

ها هو رجل كَهْل وبدين يُقبل إلى باب البيت، ويُسرِع باتّجاه يسوع. «يا له مِن شَرَف عظيم، يا معلّم، أن نراكَ!» ويُحيّيه.

 

ويردّ يسوع بسلامه المعهود: «السلام لكَ» ويُضيف: «الليل يهبط والمطر وشيك. أطلب منكَ مأوى وزاداً لي ولتلاميذي.»

 

«تفضّل بالدخول، يا معلّم، بيتي لكَ. ستَخبز الخادمة. وإنّه لَمِن دواعي سروري أن أُقدّم لكَ الخبز مع جُبن مِن نِعاجي وفاكهة مِن أرضي. ادخل، ادخل، إنّ الرياح رطبة وباردة...» ويُسارِع إلى فتح الباب وهو ينحني لدى مرور يسوع. ولكنّه، بعد ذلك، يُغيِّر لهجته بشكل فجائيّ وهو ينتَصِب في وجه أحد ما يراه، ويقول غاضباً: «وأنتِ أيضاً هنا؟ هيّا. ما مِن شيء لكِ هنا. هل فهمتِ؟ فلا مكان هنا للمتشرِّدين...» ويُتمتم: «وكذلك للسارِقين مثلكِ.»

 

صوت صغير نائح يُجيب: «الرحمة، يا سيّد. رغيف على الأقل لأخي الصغير. إنّنا جائعان...»

 

يسوع، الذي كان قد دَخَلَ إلى المطبخ الواسع، حيث تتراقص نار عظيمة تقوم مقام المصباح، يأتي إلى العَتَبَة. لقد تَغيَّر مظهره، يبدو صارماً وحزيناً، ويَسأَل، ليس المضيف، إنّما بشكل عام، حتّى يبدو وكأنّه يَسأَل الباحة الصامتة، والتينة العارية، والبئر المظلم: «مَن الجائع؟»

 

«أنا يا سيّد. أخي وأنا. رغيف فقط ونمضي.»

 

أَصبَحَ يسوع الآن خارجاً. في جو تزداد ظلمته بسبب الغسق الذي يتقدّم والمطر الوشيك. «تقدَّمي.» يقول لها.

 

«أنا خائفة يا سيّدي!»

 

«أقول لكِ تعالي، ولا تخافي منّي.»

 

مِن خلف زاوية البيت، تأتي الطفلة. يتشبّث أخوها الصغير بثوبها البالي. يأتيان، وقد أَخَذَ منهما الخوف كلّ مأخذ. نَظرَة خجولة ليسوع، ونَظرَة خوف لسيّد البيت الذي يُحمِلق بهما ويقول: «إنّهما متشرِّدان، يا معلّم. ولِصّان. منذ لحظة فقط ضَبَطتُها تَنبش قرب المعصَرة. فقد كانت بالتأكيد تودّ الدخول بقصد السرقة. مَن يَدري مِن أين يأتيان؟ فهما ليسا مِن البلدة.»

 

يبدو يسوع وكأنّه يَسمَعه. يُحدِّق بالطفلة ذات الوجه الشاحب والشعر الأشعث، والضفيرتين اللتين تتدلّيان على أذنيها، وقد رُبِطَتا عند طرفيهما بِمِزقتين. ولكن وجه يسوع لم يَعُد صارماً لدى نَظَره إلى المسكينة الصغيرة. إنّه حزين، ولكنّه يبتسم ليشجّعها. «هل صحيح أنّكِ كنتِ عازمة على السرقة؟ قولي الحقيقة.»

 

«لا، يا سيّدي. بل كنتُ قد طلبتُ قطعة خبز، لأنّني كنتُ جائعة. ولم يعطني أحد. ورأيتُ كِسرة مُغمّسة بالزيت ملقاة على الأرض هناك، قُرب المعصَرة، وذهبتُ لآخذها. إنّني جائعة، يا سيّدي. بالأمس أُعطيتُ رغيفاً واحداً، فاحتفظتُ به لمتّيا... لماذا لم يَضَعونا في القبر مع أُمّنا؟» وتبكي الفتاة حزينة، ويحذو أخوها حذوها.

 

«لا تبكي.» يواسيها يسوع وهو يجذبها إليه. «أجيبيني: مِن أين أنتِ؟»

 

«مِن سهل ابن عامر.»

 

«وأتيتِ إلى هنا؟»

 

«نعم، يا سيّدي.»

 

«هل مضى زمن طويل على وفاة والدتكِ؟ وهل ما يزال أبوكِ على قيد الحياة؟»

 

«لقد مات أبي نتيجة ضربة شمس أثناء الحصاد، وأُمّي الشهر الماضي... ماتت هي والطفل الذي كان يُولَد...» وتجهش بالبكاء.

 

«أليس لكِ أهل؟»

 

«أتينا مِن البعيد البعيد! كُنّا فقراء... ثمّ عَمِل أبي أجيراً. والآن مات هو، وماتت أُمّي معه.»

 

«من كان معلّمه؟»

 

«الفرّيسيّ إسماعيل.»

 

«الفرّيسيّ إسماعيل!... (يستحيل وصف الطريقة التي كرَّرَ فيها يسوع ذاك الاسم). هل مضيتِ بمحض إرادتكِ أم إنّه هو الذي صَرَفكِ؟»

 

«لقد صَرَفني يا سيّدي. قال: "إلى الطريق أيّتها الكلاب الجائعة".»

 

«وأنتَ، يا يعقوب، لماذا لم تُعطِ الطفلين رغيف خبز؟ رغيفاً وقليلاً مِن الحليب وحفنة مِن القش لإراحة جسديهما مِن التعب؟...»

 

«ولكن... يا معلّم... يكاد الخبز لا يكفيني... ولديَّ القليل فقط مِن الحليب… وأن أضعهم في البيت... إنّهم كما الحيوانات الشاردة. فإذا ما أريناهم الوجه الحسن، فلا يعودون يَمضون أبداً...»

 

«وهل تنقصكَ الأمكنة والطعام لهذيَن البائِسَين؟ هل يمكنكَ أن تقول ذلك حقّاً، يا يعقوب؟ وَوَفرة الغِلال والخَمر وكمّيّات الزيت والفواكه الكثيرة والمتعدّدة، ألم ترفع مِن شأن ممتلكاتكَ هذا العام بسبب ما أنتجتَه؟ هل ما زلتَ تتذكّر؟ في السنة الماضية خَرَّب البَرَد خيراتكَ، وقد استولى عليكَ الغمّ والهمّ مِن أجل معيشتكَ... أتيتُ أنا وطلبتُ منكَ رغيفاً... وكنتَ قد سَمِعتَني أتحدّث يوماً، وبقيتَ وفيّاً لي... ورغم معاناتكَ فتحتَ لي قلبكَ وبيتكَ، ومَنَحتَني القُوت والمأوى. وحين خرجتُ صباح اليوم التالي، ماذا قلتُ لكَ؟ "يا يعقوب، لقد أدركتَ الحقيقة. كُن رحيماً على الدوام، وسوف تنال رحمة. مِن أجل الخبز الذي قدَّمتَه لابن الإنسان، سوف تفيض حقولكَ بالقمح كما رِمال البحر عدداً، وسوف تنوء أشجار الزيتون بأحمَالها، وتنحني أشجار التفّاح لكثرة ثمارها". وقد نلتَ كلّ هذا، وأنتَ أغنى رجل في المنطقة هذا العام. وترفض منح رغيف للطفلين!...»

 

«ولكن، أنتَ كنتَ الرابّي...»

 

«وبالضبط لأنّني كنتُ كذلك، كان بإمكاني أن أجعل مِن الحجارة خبزاً. أمّا هُما فلا. والآن أقول لكَ: سوف ترى معجزة أخرى، وسوف تكون لكَ معاناة، معاناة كبرى... إنّما حينذاك قُل، وأنتَ تقرع صدركَ: "إنّي أستحق ذلك".» ويتوجّه يسوع إلى الطفلين: «لا تبكيا. اذهبا إلى تلك الشجرة واقطُفا.»

 

«ولكنّها عارية، يا سيّدي.» تُعلِّق الفتاة.

 

«اذهبي.»

 

تذهب الفتاة وتعود وقد مَلَأَت ثوبها، الذي رَفَعَت طرفه، بالتفّاح الأحمر الجميل.

 

«كُلا، وتعاليا معي.» وللرُّسُل: «هيّا بنا، وخُذا هَذَين الصغيرين إلى يُوَنّا امرأة خُوزي. فهي تُجيد تذكُّر المعروف الذي نالَته، وهي رحيمة، حُبّاً بالذي كان رحيماً معها. هيّا بنا.»

 

والرجل، وقد ذُهِلَ وقُهِر، يُحاوِل الحصول على العفو: «أَقبَلَ الليل، يا معلّم. قد يهطل المطر وأنتَ على الطريق. عُد إلى بيتي. ها هي الخادمة تهمّ بإنضاج الخبز... وسأعطيكَ كذلك لأجلهما.»

 

«عَبَثاً تفعل. فما سوف تُعطيه، لن يكون بِفِعل الحبّ، بل خوفاً مِن العقاب الموعود.»

 

«أليسَت هذه إذن (ويشير إلى التفّاحات المقطوفة مِن على الشجرة التي كانت عارية، والتي يأكلها الجائِعان بِنَهَم) أليست هذه إذن هي المعجزة؟»

 

«لا.» يسوع صارم للغاية.

 

«آه! يا سيّد، يا سيّد، ارحمني! فهمتُ! تريد معاقبتي بمحاصيلي! الرحمة يا ربّ!»

 

«ليس كلّ مَن يقول لي يا رب يحصل عليَّ، إذ ليس بالكلام يتمّ إظهار الحبّ والاحترام، بل بالأفعال. سوف تنال الرحمة التي كانت لديكَ.»

 

«أحبّكَ يا ربّ.»

 

«ليس صحيحاً. فَمَن يحبّ قريبه يحبّني، هذا هو تعليمي. وأنتَ لا تحبّ إلّا ذاتكَ. عندما تحبّ كما عَلَّمتُ أنا، عندئذ يعود السيّد. أمّا الآن فإنّني أمضي. فإقامتي هي حيث يُمارَس الخير، حيث تتمّ مواساة المحزونين، حيث تُمسَح دمعة اليتامى. وكما تَبسط الدجاجة جناحيها على صغارها دون مقاومة، كذلك أبسط أنا سلطاني على المتألّمين والمعَذَّبين. تعاليا، أيّها الولدان. فقريباً سيكون لكما بيت وقُوت. وداعاً يا يعقوب.»

 

عَدَم سرور الطفلة المتعبة مِن المسير، يجعل أندراوس يحملها، فيأخذها بين ذراعيه، ويَلفّها بمعطفه. ويحمل يسوع الطفل، ويمضون، عَبْر الدرب الضيّق الذي أَصبَحَ مظلماً، مع حِملهم المثير للشفقة، وقد توقّف البكاء.

 

يقول بطرس: «يا معلّم! إنّه لَمِن حُسن حظّهما أنّكَ أتيتَ. أمّا بالنسبة إلى يعقوب!... فما الذي تنوي فعله، يا معلّم؟»

 

«العدل. هو لن يعرف الجوع، لأنّ أهراءه مليئة، وتكفيه لفترة طويلة، بل القَحط، حيث لن تَطرح البذور حبوباً، وأشجار الزيتون والتفّاح لن تحمل سوى الأوراق. وهذان البريئان نالا، ليس منّي، بل مِن الآب، القُوت والمأوى. لأنّ أبي هو كذلك أب لليتامى، وهو الذي يَرزق عصافير الغابة عُشّاً وما تقتات به. وبإمكانهما القول، ومعهما كلّ البؤساء الذين يعرفون أن يظلّوا "أبناء له أبرياء ومُحِبّين"، إنّ الله قد وَضَعَ في أيديهم الصغيرة القُوت، وبعنايته الأبويّة يقودهم إلى سقف مُضيف.»

 

وتنتهي الرؤيا، ويبقى لي منها سلام عظيم.