ج2 - ف56

أَنَا هُوَ

ماريا فالتورتا

L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO

THE GOSPEL AS REVEALED TO ME

بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}

L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ

MARIA VALTORTA

الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.

 

الجزء الثاني / القسم الأول

 

56- (دَرس يسوع لتلاميذه في بستان الزيتون)

 

29 / 01 / 1945

 

أرى يسوع مع بطرس وأندراوس ويوحنّا ويعقوب وفليبّس وتوما وبرتلماوس ويوضاس تدّاوس وسمعان ويهوذا الاسخريوطيّ ويوسف الرَّاعي يَخرُجون مِن بيته، ويَذهَبون إلى خارج الناصرة، إنّما إلى الجِّوار مباشرة تحت غيضة مِن شجر الزيتون.

 

يقول: «تعالوا حَولي. خلال أشهر الحضور والغياب هذه، قَيَّمتُكم ودَرَستُكم. عرفتُكم وعرفتُ العالم مِن خلال تجربة بشريّة. والآن قرّرتُ أن أُرسلكم إلى العالم. إنّما قبل ذلك عليَّ أن أثقّفكم لأجعلكم أهلاً لمجابهة العالم باللُّطف وحِدَّة البصيرة، بالهدوء والثَّبات، بالوعي والدِّراية برسالتكم. أودُّ أن أستغلّ زمن الحرّ الشديد هذا الذي يعيق الرحلات الطويلة في فلسطين لأثقّفكم وأجعل منكم تلاميذ. ومثل موسيقيّ، تَحَسَّستُ ما فيكم مِن نَشاز، وأتيتُ لأمنحكم نغمة التناغم السماويّ التي ينبغي لكم نقلها إلى العالم باسمي. إنّي احتفظ بهذا الابن (ويشير إلى يوسف) إذ أنتَدِبه لمهمّة نقل كلامي إلى رفاقه، ليكونوا نواة صلبة، فلا يبشّرون بي فقط بالإعلام عن وجودي، إنّما بالإعلان عن مميّزات مَذهَبي الأكثر جوهرية.

 

أَبدَأ بالقول لكم إنّه لا بدّ مِن أن تحبّوا بعضكم بعضاً وأن تتّحدوا معاً. أنتم مَن تَكونون؟ إنّكم رجال مِن كلّ الطبقات الاجتماعيّة وكلّ الأعمار وكلّ المناطق. وقد فَضَّلتُ اختيار أُناس خَام في علوم المذاهب والمعارف، لأنّني هكذا أستطيع الولوج إلى أعماقهم بمذهبي بشكل أسهل. وغير هذا فأنتم مُعَدّون لتبشير أناس يَجهَلون الإله الحقيقيّ جَهلاً مُطبِقاً، وأودُّ منكم عند تَذكرّكم جهلهم المبدئيّ بالله ألّا تحتقروهم، وأن تُعَلِّموهم برحمة، بتَذكّركم بأيّة رحمة عَلَّمتُهم.

 

أشعر باعتراض يُراوِد ذهنكم: "نحن لسنا وثنيّين، حتّى ولو لم نكن على درجة عالية مِن الثقافة والفكر". لا، لستم كذلك. ولكن ليس فقط أنتم، إنّما، حتّى الذين، مِن بينكم، يُمثّلون العلماء والأغنياء، فإنّكم جميعاً قد انحرفتم خلال ممارسة ديانة مُشَوَّهة لأسباب عديدة، لم يعد لها مِن خصائص الديانة سوى الاسم. الحقّ أقول لكم، إنّ كثيرين يتباهون بأنّهم أبناء الشريعة، ولكنّ ثمانية مِن كلّ عشرة منهم، ليسوا سوى عَبَدة أوثان خَلَطوا، في سَحَابات ألف ديانة بشريّة صغيرة، الديانة الحقيقيّة المقدّسة، الشريعة الأزليّة لإله ابراهيم وإسحاق ويعقوب. وكذلك عندما يَنظُر بعضكم إلى بعض، فأنتم أيضاً يا صيّادي السمك المتواضعين وغير المثقَّفين، وأنتم أيّها الباعة وأبناء الباعة، والضبّاط وأبناء الضبّاط، والأغنياء وأبناء الأغنياء، يمكنكم القول: "إنّنا جميعاً متشابهون. لدى جميعنا النقائص ذاتها، وجميعنا في حاجة إلى التعليم ذاته. إنّنا إخوة في عيوننا الشخصيّة أو الوطنيّة، وعلينا مع ذلك أن نصبح إخوة في معرفة الحقيقة، وفي الاجتهاد في وضعها مَوضِع العمل".

 

أيّها الإخوة، أودُّ لو يكون هذا هو الاسم الذي يُطلِقه الواحد على الآخر، وأن تعتبروا أنفسكم كذلك. أنتم كعائلة واحدة. ومتى تكون العائلة مُوَفَّقة ومحطّ إعجاب العالم بها؟ عندما يسودها الاتّحاد والوئام. وإذا ما أصبَحَ ابن عدوّاً لآخَر، وإذا ما أساء أخ لآخَر، فهل يمكن أن يدوم التوفيق في هذه العائلة؟ لا. وعبثاً يَجدّ ربّ العائلة في العمل، في تذليل الصعوبات، وفي التصدّي للعالم. وتذهب جهوده أدراج الرياح، فالموارد تتبعثر، والصعوبات تتعاظم، والعالم يَهزأ مِن هذه الحالة التي تُفَتِّت مشاعر الـمَودّة والخير -التي باتّحادها يكون لها سلطان ضدّ العالم- في رُكام مِن الـمَنافِع الصغيرة الحقيرة والمتضاربة، التي يستغلّها أعداء العائلة ليُفاقِموا الخراب باستمرار.

 

لا يكن هذا أبداً فيما بينكم. كونوا متّحدين. أحبّوا بعضكم بعضاً. أحبّوا بعضكم بعضاً لتكونوا عَوناً بعضكم لبعض. أحبّوا بعضكم بعضاً لِتُعَلِّموا الحبّ. لاحِظوا أن حتّى ما يحيط بنا يُعلّمنا هذه القوّة العظمى. انظروا إلى هذه القبيلة مِن النَّمل التي تتراكض بأجمعها صوب مكان واحد. فلنتبعها، وسوف نكتشف سبب تسابُقها الذي لا يمكن أن يكون عَبَثاً، صوب نقطة محدّدة... ها هي ذي: لقد اكتَشَفَت إحدى أخواتها الصغيرات، بأعضائها الصغيرة غير المرئية بالنسبة لنا، كنزاً عظيماً تحت هذه الورقة العريضة مِن الفجل البرّيّ. قطعة مِن لُبّ الخبز، قد تكون وَقَعَت مِن بين يديّ فلّاح كان قد أتى للعناية بالزيتون، أو مِن يد مسافر توقّفَ في الظلّ ليتناول طعامه، أو بالأحرى مِن يد طفل مَرِح كان يركض على العشب الـمُزهِر. فكيف تستطيع وحدها جرّ هذا الكنز، الذي يَكبُرها بألف ضعف، إلى جُحرها؟ وها هي ذي تنادي أختاً لها وتقول لها: "انظري واجري بسرعة وقولي للأخوات إنّه يوجد هنا طعام لكل القبيلة ولعدّة أيام. اركضي قبل أن يرى عصفور هذا الكنز وينادي رفاقه ويلتهمونه". وتَهرَع النملة الصغيرة لاهثة مِن تَضَرُّس (وُعورة) الأرض، عبر الحصى والأعشاب، حتّى قرية النمل لتقول: "هيّا بنا، فواحدة مِنّا تناديكم. لقد اكتَشَفَت شيئاً للجميع. ولكنّها لا تستطيع جرّها إلى هنا بمفردها. هيّا بنا". وكلّها، حتّى اللواتي تشعر بالتعب مِن جهد مَبذول طوال النهار، وهي تأخذ قسطاً مِن الراحة في سراديب قرية النمل، تركض، بل حتّى التي كانت تُرَتِّب المؤونة في غرف التخزين. واحدة، عشر، مائة، ألف... انظروا... تلتقطها ببراثنها وترفعها جاعلة مِن أجسامها عَرَبَة، وتَجرّها مُسنِدَة أرجلها الصغيرة على الأرض. هذه تقع... وتلك تُشَلّ، لأن طرف قطعة الخبز، عندما ارتَدَّت، حَصَرَها بينها وبين حصاة. وهذه أيضاً، صغيرة جدّاً، صغيرة مِن القبيلة، تقف مُنهَكة... ولكنّها، مع ذلك، بعد أن تَستَردّ أنفاسها، تُعاوِد. آه! كم هي متّحدة! انظروا: قطعة الخبز الآن أصبَحَت مُطَوَّقة وتتقدّم، تتقدّم ببطء، ولكنّها تتقدّم. فلنتبعها... قليلاً بعد أيّتها الأخوات الصغيرات، قليلاً بعد، وثمّ سيحظى تعبكنّ بمكافأة. لم تعد تستطيع، ولكنّها لا تتخلّى عنها. تأخذ قسطاً مِن الراحة، وتُعاوِد الكَرَّة. ها هي تَصِل إلى القرية. والآن؟ الآن إلى العمل لتفتيت الكتلة الكبيرة. انظروا أيّ عمل! البعض منها تَقطَع والبعض الآخر تَنقُل... وها هو العمل وقد انتهى. الآن كلّ شيء في الأمان. وبسعادة، تغيب عبر الشقوق في أعماق السراديب. إنّها نملات ليس إلّا. ومع ذلك هي قويّة لأنّها متَّحِدة. تأمّلوا في ذلك. أليس لديكم ما تسألوني عنه؟»

 

يَسأله يهوذا الاسخريوطيّ: «أودُّ أن أسألكَ: ألن نعود إلى اليهوديّة؟»

 

«ومَن قال ذلك؟»

 

«أنتَ يا معلّم. لقد قلتَ إنّكَ تُهيّئ يوسف ليُثقّف الآخرين في اليهوديّة! هل أصابكَ فيها كثير مِن الأذى لكي لا تعود إليها؟»

 

«ماذا فَعَلوا لكَ في اليهوديّة؟» يَسأَل توما بفضول، وكذلك بطرس بحدّة في الوقت ذاته: «آه! إذن كنتُ محقّاً بقولي إنّكَ أتيتَ مِن هناك مُتعَباً. ماذا فَعَلَ لكَ "الإسرائيليّون الذين لا غشّ فيهم"؟»

 

«لا شيء أيّها الأصدقاء. لاشيء أكثر مِن الذي سوف ألاقيه هنا. حتّى ولو دُرتُ الكرة الأرضيّة، ففي كلّ مكان سوف يكون لي أصدقاء وأعداء. إنّما، يا يهوذا، كنتُ قد رجوتُكَ بأن تصمت...»

 

«هذا صحيح، ولكن... لا يمكنني الصمت عندما أرى أنّكَ تُفَضِّل الجليل على موطني. فهكذا تكون غير عادل. ذلك أنّكَ لم تلقَ هناك سوى الإكرام...»

 

«يهوذا! يهوذا... آه! يا يهوذا. أنتَ تَظلم بهذا الاتّهام. وتدين نفسكَ بنفسكَ عندما تستسلم للغضب والحَسَد. كنتُ قد بَذَلتُ جهدي كي لا أجعل أحداً يَعلَم بِغير الخير الذي حظيتُ به في يهوديّتكَ، ودونما حاجة إلى الكذب، كنتُ أستطيع ذلك، وبكلّ سرور. إذ بالنسبة إلى كَلِمَة الله لا توجد حدود ولا مناطق ولا معاكسات ولا عداوات ولا اختلافات. أحبّكم جميعاً أيّها الناس. جميعكم... وكيف يمكنكَ القول إنّني أُفَضِّل الجليل بينما شِئتُ أن أجتَرِح أولى معجزاتي، وأن يكون ظهوري الأوّل على أرض الهيكل المقدّسة، وفي المدينة المقدّسة، العزيزة على قلب كلّ إسرائيليّ؟ كيف يمكنكَ القول إنّني منحاز في الوقت الذي، مِن الأحد عشر الذين هُم أنتم، أو بالأحرى العشرة، لأنّ مسألة ابن عمي ليست مسألة صداقة، بل قرابة عائليّة، أربعة هُم يهود؟ وإذا أضفتَ الرُّعاة، وكلّهم يهود، تَرَى كم عدد أصدقائي الذي مِن اليهوديّة. كيف يمكنكَ القول إنّني لا أحبّكم إذا كنتُ، أنا الذي أَعلَم، قد رَتَّبتُ رحلتي بحيث أعطي خلالها اسمي لطفل مِن إسرائيل، وأتلقّى على صدري الأنفاس الأخيرة لإسرائيليّ بارّ؟ كيف يمكنكَ القول إنّني لا أحبّكم، أنتم اليهود، إذا كنتُ، لكي أَعلَم شيئاً عن مكان ولادتي ومكان تهيئتي للرسالة، اختَرتُ اثنين مِن اليهود مقابل واحد مِن الجليل؟ أنتَ تتّهمني بالظُّلم. ولكن افحص ضميركَ يا يهوذا وانظر إذا لم تكن أنتَ الظَّالم.»

 

يتحدّث يسوع بِعَظَمَة ولُطف. ولكن حتّى ولو لم يزد على ما قاله، فإنّ اللهجات الثلاث التي قال فيها "يهوذا" في بداية حديثه كانت كافية لتلقين درس عظيم. يهوذا الأولى كانت قد قيلَت مِن قِبَل الإله العظيم الذي يُذكِّر بالاحترام، والثانية مِن قِبَل المعلّم الذي يُلقِّن درساً أبويّاً، أمّا الثالثة، فكانت رجاء صديق أحزَنَه سلوك صديقه. فيخفض يهوذا رأسه ذَليلاً، وفي غَضَب إذ قد أَصبَح فظّاً بتجلّي مشاعره الدنيا.

 

بطرس لا يستطيع أن يَصمت: «على الأقلّ اطلب الصّفح أيّها الولد. لو أنّني كنتُ مكان يسوع، لما كنتُ وضعتُكَ عند حدّكَ بالكلام! ليس سوى قلّة العدل أو الظُّلم! إنّها قلّة احترام يا سيّدي الوسيم. أهكذا عَلَّمَكَ الذين في الهيكل؟ أم قد تكون غير قابل للتربية؟ لأنّه لو كانوا، هم...»

 

«يكفي يا بطرس. لقد قلتُ أنا ما كان يجب أن يُقال. وغداً سوف أُحدّثكم في هذا الموضوع. أمّا الآن فأُعيد على مَسامِع الجميع ما كنتُ قد قُلتُه لأولئك في اليهوديّة. لا تقولوا لأُمّي إنّ اليهود قد أساؤوا معاملة ابنها، فقد كانت حزينة جدّاً لإدراكها بأنّني قد واجهتُ بعض الصعوبات. احتَرِموا أُمّي. إنّها تعيش في الظلّ والصمت. عملها الوحيد هو ممارسة الفضيلة والدعاء لي ولكم وللجميع. فليبق وَميض اضطرابات العالم والنزاعات العنيفة بعيداً عن ملاذها المغلق بالحشمة والطَّهارة. لا تُدخِلوا حتّى صدى الحقد إلى حيث كلّ شيء حبّ. احتَرِموها. إنّها شُجاعة أكثر مِن يهوديت، وسوف تَرَون ذلك. إنّما لا تُرغِموها قبل الأوان على تَجَرُّع الكَدَر المتمثّل بمشاعر المغضوب عليهم مِن العالم. الذين لا يعرفون، حتّى بطريقة بدائيّة، ما هو الله وما هي شريعة الله. أولئك الذين كنتُ أُحدّثكم عنهم منذ البداية: عَبَدَة الأوثان الذين يَعتَبِرون أنفسهم حُكَماء الله، والذين، لهذا السبب، يَجمَعون عِبادة الأصنام إلى الكبرياء. هيّا بنا.»

 

ويعود يسوع ليَسلك طريق الناصرة.