ج10 - ف3

أَنَا هُوَ

ماريا فالتورتا

L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO

THE GOSPEL AS REVEALED TO ME

بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}

L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ

MARIA VALTORTA

الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.

 

الجزء العاشر

 

3- (يسوع يَظهَر لأُمّه)

 

21 / 02 / 1944

 

مريم جاثية، وجهها إلى الأرض. تحسبها شيئاً فقيراً بائساً. كأنّها تلك الزهرة الميتة عَطَشاً الّتي سبق أن تحدّثت عنها.

 

النافذة المقفلة تُفتَح مِن مصراعيها الثقيلين بصفق عنيف، ومع أوّل شعاع شمس، يدخل يسوع.

 

مريم، الّتي انتفضت مِن جرّاء الضجيج والّتي ترفع رأسها لترى أيّة ريح فتحت المصراعين، ترى ‏ابنها المشعّ: وسيماً، أكثر وسامة بكثير ممّا كان عليه قبل أن يتألّم، مبتسماً، مفعماً بالحيويّة، أكثر إشراقاً ‏مِن الشمس، ‏مُرتدياً بياضاً يبدو نوراً منسوجاً، والّذي يتقدّم نحوها.

 

تستقيم على ركبتيها، وضامّةً يديها إلى صدرها بشكل صليب، تقول بشهيق هو مزيج مِن ضحك وبكاء: "ربّي، إلهي". وتلبث هكذا مأخوذة بتأمّله، بوجه مُبلَّل تماماً بالدموع، والّذي غدا صافياً، سلاميّاً بفعل الابتسام والنشوة.

 

لكنّه لا يريد أن يرى أُمّه جاثية، مثل خادمة، ويدعوها مادّاً إليها يديه ‏اللتين ينبثق مِن جرحيهما أشعّة تجعل جسده الممجّد منيراً أكثر: «أُمّي!»

 

لكنّها ليست الكلمة الحزينة للحوارات والوداعات السابقة للآلام، ولا النحيب الـمُمَزَّق للّقاء على الجلجلة والنـزاع. إنّها صرخة انتصار، فرح، تحرّر، عيد، حبّ، عرفان.

 

وينحني نحو أُمّه، الّتي لا تجرؤ على لمسه، ويضع يديه تحت مرفقيها المطويّين ويُنهِضها ويضمّها إلى قلبه ويعانقها.

 

آه! حينذاك تُدرِك مريم أنّها ليست رؤيا، وأنّه ابنها القائم حقّاً، أنّه يسوعها، الابن الّذي لا يزال يُحبّها كابن. وبصرخة، ترتمي على عنقه، تعانقه وتُقبّله، ضاحكة في بكائها. تُقبّله على جبهته حيث لم يعد هناك أيّة جروح، على رأسه الّذي لم يعد مشعّثاً ولا مكسوّاً دماً، على عينيه المتألّقتين، ‏على خدّيه المتعافيين، على فمه الّذي لم يعد مُنتفِخاً. ومِن ثمّ تُمسِك يديه وتُقبّل ظاهرهما وراحتهما، ‏تُقبّل الجرحين المشعّين، وعلى الفور تنحني إلى قدميه وتكشفهما مِن تحت ثوبه الساطع وتُقبّلهما. ثمّ تنهض، تنظر إليه، لا تتجرّأ.

 

أمّا هو فيبتسم ويُدرِك. يكشف الثوب عن صدره ويقول: «وهذا، يا أُمّاه، ألا تُقبّلي هذا الّذي أوجعكِ جدّاً، حيث أنتِ وحدكِ جديرة بتقبيله؟ قَبّلي قلبي يا أُمّاه. قُبلَتكِ ستنتزع منّي الذكرى الأخيرة لكلّ ما هو ألم، وتمنحني ذلك الفرح الّذي لا يزال ينقص فرحي كقائِم مِن الموت.» ويمسك بيديه وجه أُمّه، ويضع شفتيها على شفة جرح جنبه، حيث تتدفّق أمواج نور متوهّج جدّاً.

 

وجه مريم مُكلَّل بذلك النور إذ يغرق بكلّيته في أشعّته. تُقبّله، تُقبّله، فيما يسوع يلاطفها. لا تتعب مِن التقبيل. وكأنّها عطشان ألصق فمه بالنبع ويشرب منه الحياة الّتي كانت تُفلِت منه.

 

الآن يسوع يتكلّم:

 

«كلّ شيء انتهى يا أُمّي. الآن لم يعد ينبغي لكِ البكاء على ابنكِ. الاختبار تمّ. الفداء حصل. أُمّاه، شكراً على حَبَلكِ بي، تربيتي، مُساعدتي في الحياة والموت.

 

لقد شعرتُ بصلواتكِ تبلغ إليّ. وقد كانت قوّتي في ألمي، رفيقة رحلتي على الأرض وما وراء الأرض. رافقتني على الصليب وإلى اليمبوس. كانت كالبخور الّذي يسبق الحَبْر الّذي يمضي داعياً خدّامه ليقودهم إلى الهيكل الّذي لا يفنى: إلى سمائي. أتت معي الى الفردوس، كانت مثل صوتٍ ملائكيّ يتقدّم موكب الـمُفتَدين الّذي يقوده الفادي، كي تتهيّأ الملائكة لتحيّة المنتصر العائد إلى مملكته. لقد سُمِعَتْ وشُوهِدت مِن الآب والروح، اللذيَن ابتسما لها كما لو كانت الزهرة الأجمل والنشيد الأَرَقّ المولودَين في الفردوس. لقد تَعَرَّف إليها ‏الآباء والقدّيسون الجدد، أوائل سكّان أورشليمي أنا، وأنا أحمل إليكِ شكرهم يا أُمّاه، مع قُبلَة الوالدين وبركتهما وبركة يوسف، زوج نفسكِ.

 

السماء بأسرها تُنشِد هوشعناها لكِ يا أُمّي، أُمّي القدّيسة! هوشعنا أبديّة، ليست كاذبة كتلك الّتي مُنِحت لي منذ بضعة أيام.

 

سوف أمضي الآن إلى الآب بثوبي البشريّ. الفردوس يجب أن يرى المنتصر بثوبه الإنسانيّ الّذي انتصر به على خطيئة الإنسان. إنّما بعدها سأعود ثانيةً. عليّ أن أُثبّت في الإيمان الّذين لا يؤمنون بعد والّذين هم بحاجة إلى الإيمان كي يقودوا الآخرين إلى الإيمان، عليّ أن أُقوّي الضعفاء الّذين يحتاجون إلى الكثير مِن القوّة لمقاومة العالم.

 

ثمّ سأصعد إلى السماء، لكنّني لن أترككِ وحيدة، يا أُمّاه. أترين هذا الوشاح؟ في إعيائي، أَطلَقتُ قُدرة عجائبيّة مِن أجلكِ، مِن أجل أن أمنحكِ تلك التعزية. ومِن أجلكِ سأجترح معجزة أخرى. سوف تملكينني في الإفخارستيا [القربان المقدّس]، حقيقيّاً كما كنتُ حين كنتِ تحملينني. لن تكوني أبداً وحيدة. لقد كنتِ كذلك في هذه الأيّام الأخيرة.

 

إن اختباركِ ذاك الألم كان ضروريّاً أيضاً مِن أجل فدائي. والكثير مِن الألم سوف يضاف باستمرار في سبيل الفداء، لأنّ خطايا كثيرة ستُخلَق باستمرار. سوف أدعو خدّامي كلّهم إلى هذه المشاركة الخلاصيّة. وأنتِ وحدكِ ستتحمّلين أكثر مِن كلّ القدّيسين مجتمعين. لذلك أيضاً كان يجب هذا الهجر الطويل. الآن انتهى.

 

لم أعد بعد مُنفصِلاً عن الآب. وأنتِ لن تعودي منفصلةً عن الابن. وبامتلاككِ الابن، فستمتلكين ثالوثنا. وكسماء حيّة، سوف تحملين الثالوث إلى البشر على الأرض، وتُقدّسين الكنيسة، أنتِ، مَلِكة الكهنوت، وأُمّ المسيحيّين. ثمّ سآتي لأصطحبكِ. ولن أكون أنا بعد فيكِ، بل أنتِ فيّ، في ملكوتي، لجعل الفردوس أكثر بهاءً.

 

الآن أمضي يا أُمّاه. أذهب لأجعل مريم الأُخرى سعيدة. ثمّ سأصعد إلى الآب. ومِن هناك سآتي إلى الّذين لا يؤمنون.

 

أُمّاه، قُبلتكِ للبركة، وليرافقكِ سلامي، وداعاً.»

 

ويختفي يسوع بين أشعّة الشمس الّتي تتدفّق كالأمواج مِن سماء الصباح الباكر الصافية.