ج1 - ف11
أَنَا هُوَ
ماريا فالتورتا
L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO
THE GOSPEL AS REVEALED TO ME
بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}
L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ
MARIA VALTORTA
الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.
الجزء الأول
11- (يا فرحي، كيف تَعلَمين هذه الأمور المقدَّسة؟ مَن قالها لكِ؟)
29 / 08 / 1944
ما زلتُ أرى حنّة، منذ أمس مساء أراها هكذا، جالسة عند طرف عريشة مظلّلة، منهمكة في شغل خياطة. إنّها متّشحة بلون رماديّ. لباسها بسيط جدّاً وفضفاض، قد يكون هذا بسبب الحرارة الشديدة.
عند الطرف الآخر للعريشة، يُشاهَد حصّادون يحصدون الشعير. ولكنّه ليس في موسمه كالذي يُحصد للمرّة الأولى، ذلك أنّ العنب آخذ بالتلوّن بلون الذهب، وشجرة تفّاح كبيرة تكشف، مِن خلال أوراقها القاتمة، عن ثمّراتها الآخذة بالتلوّن ألواناً كاشفة كشمع أصفر وأحمر. ثمّ حقل القمح، هو الآخر لم يعد سوى قش يتموّج وسطه لهب الخشخاش المنثور بشكل خفيف، وتنتصب ثابتة وبلا حراك ترنجانات مخطّطة كنجمة، ولازورديّة كشمس الشرق.
مِن خلال ظلال العريشة تُقبِل مريم الصغيرة جدّاً، ولكنّها الآن مُفعَمة نشاطاً وثقة، مشيتها لا تعرف التردّد، وحذاؤها الأبيض لا يتعثّر وسط الحجارة. لقد بَدَأَت الآن تمشي مشية الحمام اللطيفة المتموّجة قليلاً. إنّها بيضاء بالكامل كزغلول حمام، تلبس ثوباً كتّانياً صغيراً يصل حتّى الكعب، فضفاضاً ومثبّتاً عند العنق بشريطة زرقاء سماويّة، وأكمامه صغيرة قصيرة تكشف عن زنديها الورديّين الربيلين (المربربين)، أمّا شعرها الحريريّ الكاشف بلون العسل، غير المجعّد كثيراً، إنّما المتماوج بشكل خفيف، وينتهي بعقدة، وأمّا عيناها فبلون السماء، وتبدو بوجهها اللطيف، الورديّ قليلاً والباسم وكأنّها ملاك صغير، حتّى النسمة المتغلغلة في الأكمام العريضة، والتي تنفخ ثوبها الكتّاني عند الأكتاف فهي تساهم في إضفاء هيئة الملاك الصغير عليها، بأجنحته نصف المفتوحة استعداداً للطيران. إنّها تحمل في يديها منثوراً وزهوراً أخرى ممّا يَنبت وسط القمح لا أعرف أسماءها. تمشي، وعندما تصبح قريبة مِن والدتها تركض مسافة قصيرة، تصرخ صرخة فرح، ومثل يمامة صغيرة توقّف طيرانها عند ركبتي والدتها التي تُباعِدهما قليلاً لاستقبالها. عندها، تضع أُمّها الشُّغل جانباً لكيلا تصاب بوخز إبرة، وتمدّ ذراعيها لتحتضنها.
انتهت الرؤيا هنا ليلة أمس. أمّا هذا الصباح فقد عادت لتتواصل على الشكل التالي:
«ماما! ماما!» وترتمي اليمامة الصغيرة البيضاء في عشّ حضن أُمّها، رِجلاها الصغيرتان على العشب القصير ووجهها الصغير على صدر أُمّها. لم يعد يُرى منها سوى ذهب شعرها المنير على عنقها الصغير، وتنحني حنّة لتُقبّلها بحبّ. ثمّ ترفع اليمامة الصغيرة رأسها لتقدّم الزهور لأُمّها، إنّها جميعها لوالدتها، ومع كلّ زهرة تروي قصّة تخيَّلَتها.
هذه الزهرة الكبيرة بلون اللازورد هي نجمة هبطت مِن السماء لتحمل لوالدتها قبلة الربّ. وها هي تضمّ هذه الزهرة السماويّة الصغيرة إلى قلبها بقوّة، وتجد فيها طعم الله.
أمّا هذه الأخرى، ذات اللون اللازورديّ الأفتح كما لون عيني أبيها، فهي تحمل وريقات كُتِبَ عليها أنّ الربّ يحبّ أباها كثيراً بسبب صلاحه.
وهذه الصغيرة، الصغيرة جدّاً، فقد وَجَدَتها وحيدة، واسمها أذن الفأر (نبات ذات أزهار كثيرة وصغيرة) وقد صنعَها الربّ ليقول لمريم إنّه يحبّها كثيراً.
أمّا هذه الزهرات الحمراوات، فهل تعرف أُمّي ما هي؟ إنّها قِطَع مِن ثوب الملك داود مغمّسة بدم أعداء إسرائيل ومتناثرة على أرض المعركة والانتصار. لقد خُلِقَت مِن نِتَف الثوب الملوكي ذاته الممزَّق أثناء المعركة البطوليّة مِن أجل الربّ.
ولكنّ هذه الزهرة البيضاء اللطيفة، يبدو أنّها صُنِعَت مِن سبع قطع حريريّة تنظر إلى السماء ممتلئة عطوراً، وقد نبتَت هنا قرب النبع -كان والدها هو الذي قطفها لها مِن بين الأشواك- وهذه قد صُنِعَت مِن ثوب الـمَلِك سليمان الذي لَبِسَه في الشهر ذاته الذي وُلِدَت فيه ابنة أخيه منذ سنوات كثيرة -آه! كم مِن السنوات! كم مِن السنوات!- سنوات كثيرة مضت، وقد سار آنئذ بروعة بياض ثوبه أمام جموع إسرائيل المحتشدة أمام تابوت العهد والخيمة، مغتبطاً للسحابة التي عادت لتحفّ بمجده وقد أنشَدَ ترتيلة وصلاة فرحه: «أريد أن أكون على الدوام مثل هذه الزهرة ومثل الـمَلِك الحكيم، أريد أن أُنشِد حياتي كلّها ترتيلة وصلاة قرب خيمة تابوت العهد.» هكذا تُنهي مريم كلّامها بفمها الصغير.
«يا فرحي! كيف عرفتِ هذه الأمور المقدّسة؟ مَن قالها لكِ؟ أبوكِ؟»
«لا. لستُ أعرف مَن يكون. يبدو لي أنّي أعرفها منذ أمد بعيد جدّاً. ولكن قد يكون أحدهم يرويها لي وأنا لا أراه. قد يكون ملاكاً مُكَلَّفاً مِن قِبَل الله بأن يُكلِّم الناس الطيّبين. أُمّاه، هل تروين لي المزيد؟»
«آه! يا ابنتي! أيّة قصة تريدين معرفتها بعد؟»
تأخذ مريم تفكّر بجديّة وعمق. ولَكَمْ تمنّيتُ أن تُرسَم آنئذ لتخليد ذلك المشهد. كانت ظلال أفكارها تنعكس على تقاسيم وجهها الطفوليّ. ابتسامات وتنهّدات، وأشعّة شمس وظلال سُحُب، كلّها تجلّت أثناء تفكيرها بتاريخ إسرائيل. ثمّ تختار: «أودُّ أيضاً أن أعرف ما قاله جبرائيل لدانيال فجاء خلاله الوعد بالمسيح.»
وأَخَذَت تستمع بإمعان، عيناها مغمضتان، تُردّد ببطء الكلّمات التي تقولها والدتها وكأنّها تردّدها لـتحفظها جـيّداً. وعندما أنهَت حنّة كلامهـا سَـأَلَتها: «كم مِن الوقت يلـزم بعـد للحصـول على عمّـانوئيل؟»
«حوالي ثلاثين عاماً تقريباً، يا حبيبتي.»
«يا له مِن زمن بعد! وسأكون في الهيكل... قولي لي: إذا كنتُ أصلي كثيراً، كثيراً، كثيراً، نهاراً وليلاً، وليلاً ونهاراً، لهذا الهدف، مع كوني أرغب ألاّ أكون، مدة حياتي كلّها، إلاّ مِن الله، فهل يمنّ عليّ الأزليّ بنعمة أن أعطي مَسيّا لشعبه بشكل مسبق؟»
«لا أدري، يا محبوبتي. النبيّ قال: "سبعون عاماً" وأظنّ أنّ النبوءة لا تكذب، ولكنّ الربّ كلّي الصلاح.» ثمّ تُشـاهِد رمش صغيرتها الذهبي تلمـع فيه دمعـة كالـدُرّة، فتُبـادِر مسرعة بالقول: «أعتقد أنّكِ إذا كنتِ تصلّين كثيراً، كثيراً، كثيراً فسيستجيب الربّ لصلاتكِ.»
تعود الابتسامة لتضيء الوجه الصغير الذي ارتَفَعَ بتؤدة صوب والدتها، وإشراقة الشمس التي مرّت بين غصنين رطبين جَعَلَت الدموع المتوقّفة تلمع كما قطرات الندى العالقة على القصبات الدقيقة.
«إذاً فسأصلّي وسأجعل نفسي عذراء دائمة لأجل هذا.»
«ولكن، هل تعرفين ماذا يعني هذا؟»
«أجل. هذا يعني ألّا أعرف حبّ رَجُل، بل حبّ الله فقط. يعني ألاّ أفكّر إلاّ بالربّ. هذا يعني البقاء طفلة بالجسد وملاكاً بالقلب. هذا يعني ألاّ أرى بعيني غير الله، وألاّ أسمع بأذني سواه، وألاّ أنطق بفمي بغير تسـبحته، وألّا تكون يداي إلاّ لتقديم ذاتي لـه كقربان، وألاّ تكون رجـلاي إلاّ لاتّباعه بسـرعة، وألاّ تكون لي حياة أو يكون لي قلب إلاّ لتقديمهما له.»
«بورِكْتِ! ولكن لن يكون لكِ أطفال، وأنتِ التي تحبّين الصغار كثيراً، الحِملان وزغاليل الحمام... هل تعرفين ذلك؟ إنّ الطفل بالنسبة للمرأة كالحَمَل الصغير الأبيض ذي الصوف المجعّد، أو كزغلول الحمام ذي الريش الحريريّ والمنقار المرجانيّ، إنّه محبوب، مُشبَع بالقُبلات على الدوام، وهو الذي تطربين لسماعه يناديكِ: "ماما".»
«لا يهمّ. سأكون مِن الله. وفي الهيكل سأجهد في الصلاة. وقد أشاهِد يوماً عمّانوئيل. فالعذراء التي يفترض أن تكون أُمّه كما قال النبيّ العظيم، يجب أن تكون قد وُلِدَت وأن تكون الآن في الهيكل... سأصبح رفيقتها... بل خادمتها. آه! نعم، لو أنّني أستطيع التعرّف عليها، بواسطة النور الإلهيّ، أريد أن أخدم هذه المغبوطة! فتحمل لي ابنها فيما بعد، تأخذني إلى ابنها وأخدمه هو أيضاً. تصوّري يا أمّي!... أن أخدم المَسيّا!...» إنّ حماس مريم يفوق الوصف، فهي متحمّسة لهذه الفكرة التي تسمو بها فتجعلها تتلاشى. بيديها المتصالبتين على صدرها ورأسها المنحني قليلاً إلى الأمام تبدو متأجّجة كلّياً وكأنّها إعادة طفوليّة لعذراء البشارة التي رأيتُها (في فلورنسا). ثمّ تتابع: «ولكن هل سيسمَح لي ملك إسرائيل، مسيح الله، أن أخدمه؟»
«بدون شكّ. ألم يقل سليمان الـمَلِك: "ستكون هناك ستون ملكة وثمّانون عروسة أخرى، وعدد لا يُحصى مِن الشابّات"؟ أرأيتِ، سيكون في قصر الـمَلِك عدد لا يحصى مِن العذارى يخدمن الربّ.»
«آه! أرأيتِ إذاً أنّه يجب أن أكون عذراء؟ يجب أن أكونها. إذا كان هو الذي أراد أن تكون أُمّه عذراء، فهذا يعني أنّه يحبّ البتوليّة أكثر مِن أيّ أمر آخر. أريد أن يحبّني، أنا خادمته، مِن أجل البتوليّة التي تجعلني شبيهة قليلاً بأُمّه المحبوبة جدّاً... نعم، هذا ما أبتغيه... كنتُ أريد أن أكون خاطئة، خاطئة كبيرة جدّاً، لو لم أكن أخاف مِن ارتكاب الخطيئة تجاه الربّ... قولي لي يا أُمّي، هل يمكنني أن أكون خاطئة مِن أجل حبّ الله؟»
«ولكن ما الذي تقولينه، يا كنزي؟ لستُ أفهم.»
«أريد القول: أن أرتكب الخطيئة بغية الحصول على محبّة الله الذي يصبح مُخَلِّصاً. الضالّ يخلص. أليس كذلك؟ أريد أن أخلص بواسطة المخلّص لأحظى بنظرة حبّه. مِن أجل هذا أريد ارتكاب الخطيئة. ولكن دونما الوقوع في الخطايا التي تثير اشمئزازه. فكيف سيستطيع تخليصي إذا لم أضلّ؟»
ذُهِلَت حنّة ولم تعد تعرف ما تقول.
يُقبِل يواكيم لنجدتها ماشياً على العشب، فيقترب دون صوت خلف صفّ مِن شتلات الكُروم ويقول لها: «لقد أحبّكِ مسبقاً لأنّه يعرف أنّكِ تحبّينه ولا تريدين محبّة أحد غيره. لهذا أنتِ الآن مُخلَّصة. وتستطيعين أن تكوني عذراء، كما تريدين.»
«أصحيح هذا يا أبي؟» والتصقَت مريم بركبتيه ونَظَرَت إليه بعينيها اللتين كنجمتين مشعّتين تشبهان لدرجة كبيرة عيني أبيها. وهي الآن تطير فرحاً لهذا الأمل الذي أحياه فيها.
«في الحقيقة، يا حبّي الصغير. انظري، لقد جلبتُ لكِ فرخ عصفور الدوري هذا الذي حاوَلَ الطيران لأوّل مرّة قرب النبع. كان بإمكاني أن أتركه يذهب. ولكن جناحيه الضعيفين، وساقيه النحيلتين جدّاً لم تكن قادرة على حَمله مِن جديد، ولا أن تجعله يتمالك نفسه على الحجارة الزَّلِقة عند فوهة الجبّ. كان سيقع في الماء. لم أنتظر وقوع هذه البليّة، فحملتُه، وها أنذا أعطيكِ إيّاه لتفعلي به ما تشائين. هو بالفعل قد أُنقِذ قبل أن يتعرّض للخطر. وهذا بالذات هو ما فَعَلَه الله معكِ. والآن قولي لي يا مريم: هل أكون قد أحببتُ فـرخ الـدوري عـندما أنقذتُـه قبل أن يقـع، أم بالأحرى كنتُ سأحبّه أكثر لو سحبتُه مِن الخطر بعد الوقوع فيه؟»
«لقد أحببتَه الآن بشكل أفضل، وذلك بعدم السماح بأن يَهلَك في المياه الباردة.»
«إذاً! فالله قد أحبّكِ أكثر إذ خلّصكِ قبل ارتكاب الخطيئة.»
«سأحبّه إذاً بكلّ قواي. يا فرخ الدوري الصغير الجميل سأكون مثلكَ. الربّ قد أحبّنا بشكل متشابه عندما وهبَنا الخلاص هديّة... سأعتني بكَ الآن ثمّ أترككَ تذهب. وسترتّل أنتَ في الغابة، وأنا في الهيكل التسبيح لله. وسنقول: "أَرسِل، أَرسِل الذي وَعَدتَ به للذين ينتظرونه". آه! يا أبي، متى ستأخذني إلى الهيكل؟»
«قريباً يا لؤلؤتي، ولكن ألن يؤلمكِ ترك أبيكِ؟»
«كثيراً! ولكنّكَ ستأتي لزيارتي... ثمّ إذا لم يُسبِّب هذا الألم، فأيّ تضحية تكون؟»
«هل ستذكريننا؟»
«دائما. بعد الصلاة مِن أجـل عمّـانوئيل، سأصلّي مِن أجلكم. ليمنحكم الله الفرح والعمر المديد... إلى اليوم الذي سيصبح فيه هو المخلّص. ومِن ثمّ أطلب إليه أن يأخذكم ويقودكم إلى أورشليم السماء.»
وتتلاشى الرؤيا على صورة يواكيم يضمّ مريم بقوة بين ذراعيه.