ج4 - ف166
أَنَا هُوَ
ماريا فالتورتا
L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO
THE GOSPEL AS REVEALED TO ME
بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}
L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ
MARIA VALTORTA
الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.
الجزء الرابع / القسم الثاني
166- (في نائين، في منـزل دانيال الذي أُقيمَ مِن الموت)
12 / 10 / 1945
مدينة نائين في عيد. يسوع يَنـزل عليها ضيفاً لأوّل مرّة، منذ إقامة الشابّ دانيال مِن الموت.
يَسبقه ويَلحَق به عدد كبير مِن الناس، يجتاز يسوع المدينة وهو يباركها. وقد انضمَّ إلى سُكّان نائين آخرون، مِن مناطق أخرى، وافِدِين مِن كفرناحوم، حيث كانوا قد ذَهَبوا بَحثاً عنه، ومِن هناك أُرسِلوا إلى قانا، ومنها إلى نائين. لديَّ انطباع أنّ تلاميذه الآن كثيرون، فيسوع قد نَظَّمَ ما يُشبه شبكة الاستعلامات، بحيث يتمكّن قاصِدوه مِن إيجاده رغم تنقّلاته المتواصلة، رغم كونهم يُعَدّون بالآلاف يوميّاً، حسب ما يَسمَح به الفصل وقِصَر النهار. ومِن بين الذين يبحثون عنه، لا يخلو الأمر مِن وجود كَتَبَة وفرّيسيّين كثيري التهذيب ظاهريّاً…
استُقبل يسوع في بيت الشابّ الذي أُقيم مِن الموت. وهناك أيضاً يجتمع وُجَهاء البلدة. أُمّ دانيال، إذ تَرَى الكَتَبَة والفرّيسيّين: وقد كانوا سبعة كالرَّذائل السبع الرئيسيّة، تدعوهم بِخَجَل، وهي تعتذر لعدم تمكّنها مِن توفير مَسكَن يليق بهم أكثر.
«المعلّم موجود، المعلّم موجود أيّتها المرأة، وهذا يُضفي قيمة كبيرة حتّى على كهف، ولكنّ بيتكِ أفضل مِن الكهف، ونَدخُله ونحن نقول: "السلام لكِ ولبيتكِ".»
بالفعل، فإنّ المرأة، وهي بالتأكيد لا تَنعَم بالغِنى، قد جَثَت على الأربعة لتبجيل يسوع. إنّ ثروات نائين كلّها قد استُخدمت بالتأكيد في تزيين البيت والطاولة. وأصحاب البيت يُراقِبون بكلّ احترام، ومِن كلّ النقاط الممكنة، الجماعة التي تمرّ في الدهليز المؤدّي إلى غرفتين هَيَّأَت المرأة فيهما الطاولات. قد تكون النساء فَعَلن ذلك بقصد المحافظة على القُرب، مِن أجل الأواني والشراشف والمقاعد فقط، والعمل على الفرن: رؤية المعلّم عن قُرب والتنفّس حيث يتنفّس هو. والآن يتواجدن هنا وهناك، مُحمرّات، يكسوهن الطّحين والرّماد، أو تقطر أيديهنّ، حسب عملهنّ في المطبخ. ينظرن ويأخذن نصيبهنّ مِن النَّظر الإلهيّ، ونصيبهنّ مِن الصوت الإلهيّ، وينهَلن مِن البركة العذبة والوجه الوديع مِلء عيونهنّ وآذانهنّ، ويَعُدنَ أكثر احمراراً إلى الفرن أو الـمَعجَن أو المجلى: سعيدات.
سعيدة جدّاً كذلك هي التي تُقدِّم أواني التطهير للضيوف المتميّزين مع ربّة المنـزل. إنّها شابّة ذات عينين وشَعر كالليل، وسحنة بلون الورد. ويزداد لونها الورديّ، عندما تُخبِر ربّة البيت يسوع بأنّ الشابّة هي عروس ابنها، وبأنّ العرس وشيك. «لقد انتظرنا قدومكَ للاحتفال به، لكي يتقدّس البيت كلّه بكَ. إنّما الآن فباركها هي أيضاً كي تكون زوجة صالحة في هذا البيت.»
يَنظُر إليها يسوع وتنحني العروس الشابّة، فيضع يديه على رأسها قائلاً: «فلتُزهر فيكِ فضائل سارة ورفقة وراحيل، وليُولَد منكِ أبناء حقيقيّون لله، لمجده ولفرح هذا البيت.»
الآن وقد تطهَّر يسوع والأعيان، فإنّهم يَدخُلون قاعة الوليمة مع ربّ البيت الشابّ، بينما الرُّسُل ورجال آخرون مِن نائين أقلّ أهميّة يَدخُلون القاعة المقابِلة. ويبدأ الطعام.
أَفهَم مِن الحوارات أنّ قبل بدء الرؤيا، كان يسوع قد كَرز وأجرى شفاءات في نائين. ولكنّ الفرّيسيّين قليلاً ما يتوقّفون عند هذا. وبالمقابل فإنّهم يُرهِقون سكّان نائين بالأسئلة للحصول على تفاصيل حول المرض الذي أدّى إلى موت دانيال، وكم ساعة مَرَّت على الوفاة قبل أن يُقيمه، إن كان قد حُنِّط بالكامل، ألخ، ألخ. لا يُبالي يسوع بكلّ هذه التحرّيات، ويتحدّث إلى الذي أُقيم مِن الموت، وهو يتمتّع بصحة جيّدة للغاية، ويأكل بشهيّة رائعة.
ولكنّ فرّيسيّاً ينادي يسوع ليَسأَله إذا ما كان على عِلم بمرض دانيال.
«كنتُ قادماً مِن عين دور صدفة، رغبة منّي في إرضاء يهوذا الاسخريوطيّ، كما كنتُ قد فعلتُ مع يوحنّا بن زَبْدي. بل لم أكن أَعلَم حتّى أنّ عليَّ المرور بنائين عندما كنتُ قد بدأتُ رحلة الحجّ الفصحيّ.» يُجيب يسوع.
«آه! ألم تكن قد تعمَّدتَ الذهاب إلى عين دور؟» يَسأَل أحد الكَتَبَة مندهشاً.
«لا. لم تكن لديّ أيّة نيّة للذهاب إلى هناك حينئذ.»
«ولماذا إذن ذهبت إليها آنذاك؟»
«لقد قُلتُها: لأنّ يهوذا بن سمعان أراد الذهاب.»
«ولماذا هذه الرغبة؟»
«ليرى مغارة الساحرة.»
«قد تكون حَدَّثتَه عنها...»
«مطلقاً! فلم يكن لديَّ مبرّر لذلك.»
«أقصد... قد تكون شرحتَ، مع ذلك الحدث، أشكالاً أُخرى مِن السحر، بُغية تلقين تلاميذكَ...»
«ماذا؟ لتلقين القداسة، لا حاجة إلى رحلات حجّ. غرفة منفردة أو صحراء قاحلة، قمّة جبل أو بيت منعزل يكفي لذلك، يكفي أن يتحلّى الذي يُعلِّم بالتقشّف والقداسة، وأن يتحلّى المتلقّي بإرادة تقديس الذات. هذا ما أُعلِّمه، ولا شيء آخر.»
«ولكن المعجزات التي يجترحونها هُم، التلاميذ، ماذا تكون إن لم تكن عجائب و...؟»
«وإرادة الله. ذاك فقط. وكلّما تقدَّموا في القداسة، كلَّما فَعَلوا ذلك أكثر. بالصلاة والتضحية والطاعة لله. وليس بشيء آخر.»
«هل أنتَ متأكّد؟» يَسأَل أحد الكَتَبَة وهو يُمسك ذقنه بيده ويَنظُر إلى يسوع. وصوته فيه تهكُّم خفيّ، بل حتّى رثاء.
«أنا أعطيتُهم هذه الأسلحة وهذا الـمَذهَب. وعددهم كثير، وإذا ما تدنَّى أحدهم، فيما بعد، إلى التصرّف بشكل غير لائق، بسبب الكبرياء أو لسبب آخر، فلا يكون قد تقبَّل النُّصح منّي. يمكنني الصلاة لمحاولة افتداء الخاطئ. قد أفرُض على نفسي كفّارات قاسية لنيل عَون خاصّ مِن الله، بأنوار حكمته، كي يَرَى الخطأ. قد أرتمي على قدميه أرجوه، بكلّ حبّي له كأخ، وكمعلّم، وكصديق كي يبتعد عن الخطيئة. ولا أظنّني أُقلّل مِن شأني بفعلي هذا، ذلك أنّ ثمن نَفْس جدير بأن يتحمّل المرء اتضاعاً كهذا، للحصول على تلك النَّفْس. إنّما لا يمكنني أن أفعل أكثر. وإذا ما استمرّت الخطيئة رغم كلّ ذلك، فإنّ عينيّ قلبي ستفيضان دمعاً ودماً لوجود مَن أَقدَمَ على خيانتي وعدم فهمي كمعلّم وصديق.» يا للنعومة والحزن في صوت وهيئة يسوع!
يتبادل الفرّيسيّون والكَتَبَة النَّظَرات فيما بينهم. لُعبة نَظَرات، ولكنّهم لا يضيفون شيئاً حول هذا الموضوع. بل على العكس، فإنّهم يَسأَلون الشاب دانيال عن ماهيّة الموت، وعمّا اختَبَره في عودته إلى الحياة، وعمّا شاهَدَه في المسافة الفاصلة بين الحياة والموت.
«جُلّ ما أعرفه هو أنّني كنتُ أُعاني مِن مرض مميت، وقد عانيتُ مِن ألم النـِّزاع. آه! يا له مِن أمر مريع! لا تجعلوني أُفكِّر فيه!... ومع ذلك سوف يأتي يوم ينبغي لي فيه أن أتألمّ الألم ذاته مِن جديد! آه! يا معلّم!...» ويَنظُر إليه مذعوراً، وشاحباً لفكرة وجوب الموت مِن جديد.
يواسيه يسوع بلطف قائلاً: «الموت بحدّ ذاته تَكفير. وأنتَ، بموتكَ مرّتين، سوف تتطهَّر تماماً مِن كلّ العيوب، وستنعم مباشرة بالسماء. فلتجعلكَ هذه الفكرة تَعيش عيشة قداسة، كي لا ترتكب سوى خطايا لا إراديّة وعَرَضيّة.»
ولكنّ الفرّيسيّين يعودون إلى الهجوم: «إنّما ماذا اختبرتَ لدى عودتكَ إلى الحياة؟»
«لاشيء. وجدتُ نفسي حيّاً وسليماً كما لو كنتُ استيقظتُ مِن نوم طويل وثقيل.»
«ولكن هل كنتَ تذكُر أنّكَ كنتَ قد مُتَّ؟»
«كنتُ أتذكّر أنّني كنتُ مريضاً جدّاً حتّى النـِّزاع. هذا كلّ شيء.»
«وماذا تتذكّر مِن العالَم الآخر؟»
«لا شيء. لا شيء. ثقب أسود، فسحة خاوية في حياتي... لا شيء.»
«إذاً ففي نظركَ ليس هناك يمبس ولا مَطهر ولا جهنّم؟»
«مَن قال بعدم وجودها؟ بالطبع هي موجودة. إنّما أنا لا أتذكّرها.»
«ولكن، هل أنتَ متأكّد مِن أنّكَ مُتَّ؟»
يَقفِز سكان نائين جميعهم: «هل كان قد مات؟ وماذا تريدون أكثر؟ عندما وضعناه في النَّعش، كانت روائح تفسُّخه قد بَدَأَت تنتَشِر. ثمّ! مع كلّ ذلك الحُنوط وتلك الأكفان، فحتّى لو كان عملاقاً لكان مات.»
«أمّا أنتَ، فلا تتذكّر أنّكَ كنتَ مائتاً؟»
«قُلتُ لكم لا.» يَفقد الشاب صَبره ويُضيف: «ولكن ما الذي تريدون إثباته مِن هذا الحديث الطويل؟ أنّ كلّ البلدة كانت تتظاهر بأنّني كنتُ ميتاً، بما فيهم أُمّي، بما فيهم زوجتي التي كانت تلزم السرير وتكاد تموت مِن الحزن، بما فيهم أنا المقيَّد والمحنَّط، بينما القصّة كلّها غير حقيقيّة؟ ما قولكم؟ أَكُلّ أبناء نائين كانوا أولاداً أو بُلَهاء، وكانوا يودُّون المزاح؟ أُمّي غاب لونها لبضع ساعات. زوجتي احتاجت إلى علاج لأنّ الحزن والفرح كادا أن يُصيباها بالجنون. وأنتم تَشُكّون؟ ولماذا كان علينا أن نفعل ذلك؟»
«لماذا؟ حقّاً، لماذا كان علينا أن نفعل ذلك؟» يقول أهل نائين.
يسوع لا يقول شيئاً. يَلعَب بالشرشف كما لو كان غائباً. لا يعرف الفرّيسيّون ماذا يقولون... ولكنّ يسوع يفتح فاه فجأة، عندما يبدو الحديث والحوار أنّهما انتهيا، ويقول: «هاكم لماذا. هُم (ويُشير إلى الفرّيسيّين والكَتَبَة) يريدون أن يُبيِّنوا أنّ القيامة ليست سوى لعبة محبوكة بشكل جيّد مِن أجل زيادة شهرتي لدى الجّموع. أنا صاحب الفكرة وأنتم شركائي في خيانة الله والقريب. لا. فإنّني أَدَع الخداع للمُعيبين. فأنا لستُ في حاجة إلى المكائد والشعوذات، والألعاب والتواطؤ، لأكون على ما أنا عليه. لماذا تريدون إنكار قُدرة الله على إعادة النَّفْس إلى الجسد؟ إذا كان هو مانِحها لدى تَشَكُّل الجسد، ولدى خلقه النُّفوس في كلّ مرّة، أفلا يمكنه إعادتها عندما تكون عودة النَّفس إلى الجسد بموجب صلاة مسيحه سبباً في عودة الجموع الكثيرة إلى جادّة الحقّ؟ هل يمكنكم إنكار قُدرة الله على اجتراح المعجزات؟ لماذا تريدون إنكارها عليه؟»
«هل أنتَ الله؟»
«أنا هو الكائن. معجزاتي ومذهبي تنبئ بمَن أكون.»
«لماذا إذاً هو لا يتذكّر، بينما الأرواح الـمُستَحضَرَة تعرف أن تتحدّث عن الماورائيّات؟»
«لأنّ هذه النَّفْس تقول الحقيقة، وقد تطهَّرَت بكفّارة الميتة الأولى، بينما مَن يتحدّث على شِفاه مُستَحضِري الأرواح لا يقول الحقيقة.»
«ولكنّ صموئيل...»
«ولكنّ صموئيل جاء بأمر مِن الله، وليس بأمر السَّاحِرة، ليقوم على الذي كان خائناً للشريعة المقرّرة مِن الربّ التي لا يجوز الاستهزاء بها في وصاياه.»
«ولماذا يَفعَل ذلك تلاميذكَ إذن؟» صوت فرّيسيّ متكبِّر، وقد ارتَفَع بِحدّة، يرفع وتيرة النقاش، ويلفت انتباه الرُّسُل الذين في الغرفة المقابلة، والتي يفصلها عن هذه ممرّ بعرض متر، بدون أبواب ولا ستائر ثقيلة تعزلها. ولدى سماعهم بأنّهم قد أَصبَحوا موضع اتّهام، يَنهَضون ويُقبِلون، بدون جَلَبة، إلى الممرّ حيث يُنصِتون.
«بأيّ شيء يفعلون ذلك؟ أَوضِح، وإذا كانت شكواكَ صحيحة فسوف أنبّههم ألّا يفعلوا ما يخالف الشريعة.»
«بماذا، أنا أَعرِف، ومعي كثيرون. إنّما أنتَ الذي تُقيم الموتى، وتَدَّعي أنّكَ أَعظَم مِن نبيّ، فاكتَشِف ذلك بنفسكَ. فبالتأكيد لن نقولها لكَ. ذلك أنّ لكَ عينَين لِتَرَيا كذلك أشياء كثيرة تُفعَل عندما يتوجّب عدم القيام بها، وأُخرى لا تُفعَل بينما يتوجّب فِعلها، وكُلّها يَرتَكِبها تلاميذكَ. وأنتَ لا تُبالي بها.»
«هلاّ تفضّلتم بالإشارة إلى واحدة.»
«لماذا يتعدّى تلاميذكَ أحكام الآباء؟ فقد لاحظناهم اليوم. اليوم بالذات، لم يَمضِ بعد على ذلك ساعة واحدة! فلقد دَخَلوا إلى قاعتهم ليأكلوا، ولم يكونوا قد طَهَّروا أيديهم قبلاً!» ولو كان الفرّيسيّون قالوا: «وقد ذَبَحوا السكان قبلاً.» لما كانوا قالوها بأكثر هَولاً.
«لاحظتموهم، نعم. وهناك أمور كثيرة تستحقّ المشاهدة وهي جميلة وصالحة. أمور تدعو إلى تسبيح الله لأنّه وَهَبَنا الحياة لنتمكّن مِن رؤيتها، ولأنّه خَلَقَ أو سَمَحَ بتلك الأشياء. ومع ذلك فأنتم لا تنظرون إليها، ومعكم كثيرون. ولكنّكم تضيعون وقتكم والسلام في ملاحقة ما هو غير صالح.
إنّكم تُشبِهون الثعالب، أو بالأحرى الضِّباع التي تتبع أَثَر رائحة نَتِنَة، مُهمِلة موجات مُعطَّرة يحملها النسيم مِن حدائق يملأها أريج عطور. فالضِّباع لا تحبّ الزنابق والورود والياسمين والكافور والقرنفل. بالنسبة إليها، هذه الروائح غير مرغوب بها. أمّا نتانة جيفة متفسّخة، في قاع مجرى سيل، أو في أخدود، مدفونة في العليق حيث أَودَعَها مُجرِم، أو رمتها العاصفة على شاطئ خاوٍ، منتفخة ومُزرَورقة ومتشقّقة بشكل رهيب، آه! يا له مِن عطر مُمتِع للضّباع! وهي تتنشّق نسيم المساء، الذي يُكثِّف ويحمل معه كلّ الروائح التي تكون الشمس قد بَخَّرتها بعد تسخينها، لتشمّ تلك الرائحة المبهَمة التي تَشدّها، وبعد اكتشافها وتَبيُّن اتّجاهها، تراها تجري وخطمها في الهواء، وقد كَشَّرَت عن أنيابها، وهَزَّت فكّيها بشكل يُشبِه الضحكة الهستيريّة، للمضيّ إلى حيث الجيفة المتفسّخة. وإن تكن جيفة إنسان، أو مِن ذوات الأربع، أو ثُعبان قَتَلَه فلّاح، أو فأر قتلته مدبّرة منـزل، آه! فهذا ما يُرضي، ما يَروق، وما يَطيب! وفي تلك النتانة الـمُنفِّرة تَغرُس أنيابها وتتلذّذ وتتلمّظ…
أُناس يتقدّسون يوماً إثر يوم؟ هذا أمر لا يهمّ! أمّا إذا ما تصرَّفَ أحدهم فقط بشكل سيّئ، أو أَهمَل أمراً ليس مِن وصايا الله، بل عادة بشريّة -سَمّوها حتّى تقليداً، حُكماً، كما تشاؤون، يَبقى الأمر بشريّاً- حينئذ يحصل الانزعاج ويتمّ تسجيلها. وتجرون خلف مجرّد رِيبة... بل وتُهلّلوا، في حال كانت الريبة حقيقة.
إنّما أجيبوا، أجيبوا ، يا مَن أتيتم ليس بدافع الحبّ ولا الإيمان ولا النـزاهة، بل إنّما بِنيّة شرّيرة، أجيبوا: لماذا تتعدّون وصيّة الله في إحدى تقاليكم؟ لا تريدون أن تقولوا لي بأنَّ التقليد أهمّ مِن الوصيّة؟ فرغم أنّ الله قال: "أَكرِم أباكَ وأمكَ، ومَن يَلعَن أباه أو أُمّه يستوجب الموت"! فأنتم، على العكس مِن ذلك تقولون: "مَن قال لأبيه وأُمّه: ’ما عليَّ أن أقدّم لك سوف أُقدِّمه كقُربان‘ فهو غير مُلزَم بعد على استخدامه مِن أجل أبيه وأُمّه". فإذاً أنتم بتقليدكم قد ألغيتم وصية الله.
يا أيّها المراؤون! عنكم أنتم بالذات قال إشَعياء في نبوءته: "هذا الشعب يُكرّمني بشفاهه، ولكنّ قلبه بعيد عنّي، ذلك أنّه عَبَثاً يُكرّمني وهو يُعلِّم مَذاهِب ووصايا بشريّة".
فأنتم إذ تتعدّون وصايا الله، تتقيّدون بتقاليد البشر، بغسيل الجِّرار والكؤوس والأطباق والأيدي وما شابه، بينما أنتم تُبرِّرون الجحود وبُخل ابن، بأن تُهيّئوا له ذريعة تقدمة القربان كيلا يُقدِّم رغيف خُبز لِمَن أَنجَبَه، وهو مُحتاج للعَون، ومِن الواجب إكرامه لأنّه أب. تستنكرون مِن امرئ أنّه لم يَغسِل يديه، وأنتم تُزوِّرون وتَنقُضون كلمة الله لتطيعوا كلاماً أنتم صانعِوه ورافِعوه إلى درجة الأحكام. وبذلك تُعلِنون ذواتكم أكثر استقامة وبِرّاً مِن الله، وتَدَّعون لأنفسكم الحقّ كَمُشرِّعين، بينما الله هو الـمُشَرّع الوحيد في شعبه. أنتم...» ويتابع، ولكنّ المجموعة المعادية يَخرُجون تحت وابل مِن الاتّهامات، دافِعين الرُّسُل ومَن كانوا في البيت، ضيوفاً كانوا أو مساعِدين لربّة البيت، والذين كانوا قد تَجمَّعوا في الممرّ، وقد شَدَّهم انفجار صوت يسوع.
يسوع الذي كان قد وَقَفَ، يَجلس مشيراً للّذين في الممرّ جميعهم بالدخول إلى حيث هو، ويقول لهم: «أَنصِتوا إليَّ جميعكم واسمَعوا هذه الحقيقة. ما مِن شيء خارج عن الإنسان، وإن دَخَلَ إلى جوفه، يمكنه أن يُنجّسه، بل إنّما ما يَصدُر عن الإنسان هو الذي يُنجّسه.
مَن له أُذُنان للسّماع فليَسمع، وليُعمِل ذكاءه لِيَفهَم، وإرادته ليتصرّف. والآن هيّا بنا. وأنتم يا أهل نائين، ثابِروا في الخير، وليكن سلامي معكم.»
يَنهَض، يُصافِح بشكل خاصّ صاحب البيت وصاحبته، ويبتعد في الممرّ. ولكنّه يرى النساء الصديقات، اللواتي إذ تجمّعن في ركن، يَنظُرنَ إليه مُغتَبِطات، فيتوجّه مباشرة إليهنّ قائلاً لهنّ: «السلام لكنّ أيضاً. فلتكافئكنّ السماء لاستقبالكنّ إيّاي بحبّ جَعَلَني لا أتحسّر على المائدة الوالديّة. لقد شعرتُ بحبكنّ الوالديّ في كلّ كِسرة خبز، في كلّ مَرَق أو شِواء، في لذّة العسل وفي الخمر المنعش والمعطَّر. أَحبِبنَني هكذا على الدوام يا نساء نائين الطيّبات. وفي مرّة أخرى، لا تتحمّلن عناءً كثيراً مِن أجلي. يكفيني رغيف وقَبضة زيتون مُبَهَّرة، مصحوبة بابتسامتكنّ الوالديّة، ونظرتكنّ النـزيهة والصالحة. كُنَّ سعيدات في بيوتكنّ، فالمضطَهَد يَعتَرِف بصنيعكنّ وهو يمضي، وقد خَفَّفَ عنه حبّكنّ.»
النساء سعيدات، ومع ذلك تنهمر دموعهن، جميعهن جاثيات، وهو، لدى مروره، يُمرِّر يده على شعرهن الأبيض أو الأسود، واحدة فواحدة كما ليباركهن. ثمّ يَخرُج لِيُعاود السير…
تُخيِّم ظلال المساء الأولى، خافية شحوب يسوع، وقد أَحزَنَتهُ أمور كثيرة.