ج3 - ف54

أَنَا هُوَ

ماريا فالتورتا

L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO

THE GOSPEL AS REVEALED TO ME

بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}

L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ

MARIA VALTORTA

الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.

 

الجزء الثالث / القسم الثاني

 

54- (مِن عَين غنيم إلى شكيم [نابلس] في خلال يومين)

 

18 / 06 / 1945

 

عَبْرَ الطرقات التي يَسلكها الحجّاج يُتابِع يسوع طريقه إلى أورشليم. أثناء الليل بَلَّلَت زَخّة مِن المطر الطرقات قليلاً، ولكنّها بالمقابل أزالت الغبار وَجَلَت الجوّ. تبدو الحقول وكأنّها بستان مُعتَنَى به جيّداً.

 

يَحثّون الخُطى جميعاً لأنّ التوقّف قد أراحهم، ولم يَعُد الصبيّ يتعب مِن المسير بحذائه الجديد. بل على العكس، وبأكثر اطمئناناً على الدوام، يُكلِّم هذا وذاك، وهو يُسِرُّ إلى يوحنّا بأنّ أباه كان اسمه يوحنّا وأُمّه مريم. ولأجل ذلك هو يحبّ يوحنّا. «ولكن أيضاً» يضيف «أُحِبُّ الجميع كثيراً، وسأصلّي في الهيكل كثيراً كثيراً لأجلكم أنتم ولأجل السيّد يسوع.»

 

إنّها لَمُؤثِّرة رؤية هؤلاء الرجال، والغالبيّة منهم دون أولاد، يتمتّعون بعاطفة أبويّة، وهُم مُفعَمون رعاية لتلميذ يسوع الأصغر سنّاً. حتّى الرجل الذي مِن عين دور يَستَخدِم العبارة الأكثر رقّة عندما يُرغِم الصغير على شرب بيضة، أو عندما يتسلّق الغابات التي تضفي اللون الأخضر على منحدرات الروابي والجبال الشاهقة المشطورة بِوِهاد تمرّ في قاعها الطريق الرئيسيّة، ويَقطف التوت أو الشمرة البرّيّة ويَحملها إلى الصبيّ ليُخفّف عنه العَطَش، دون اللجوء إلى الماء. كما يَجعَله يَسلو عن طول الطريق بِجَعلِه يُلاحظ تفاصيل الـمَشاهِد والـمَناظِر التي تقع تحت البَصَر.

 

مُربّي سينتيوم القديم الذي حَطَّمَه الشرّ الإنسانيّ، عاد إلى الحياة مِن أجل هذا الصبيّ الذي هو شَقاء كما كان هو نفسه شَقاء، وابتسامة منه حلوة تُزيل تجعُّدات التعاسة والمرارة. لقد أَصبَحَ يَعْبيص أقلّ بؤساً بحذائه الجديد ووجهه الصغير الأقلّ حزناً. فَيَدا أيّ رسول، لستُ أدري، قد اعتَنَتَا بإزالة كلّ آثار الحياة المتوحّشة التي عاشها أشهراً طويلة، وذلك بتسريحة لِشَعره الذي كان، حتّى ذلك الحين مُشعّثاً ومغطّى بالغبار، فأَصبَحَ الآن حريريّاً ونظيفاً. وحتّى الرجل الذي مِن عين دور الذي ما زال يرتَبِك حينما يَسمَعهُم ينادونه يوحنّا، ولكنّه بعدئذ يهزّ رأسه، مع ابتسامة إشفاق على ذاكرته الضعيفة، فيتبدّل مِن يوم إلى يوم. ويوماً إثر يوم يَفقد وجهُه تعبيراته القاسية، ويَكتَسِب قَسَمات جادّة لا تبعَث على الخوف. ومِن الطبيعيّ أن يدور هذان الشقاءان اللذان أعادهما صلاح يسوع إلى الحياة حول المعلّم بحبّهما. أَحِبّاء هُم الرفاق، أمّا يسوع... فحينما يَنظُر إليهما أو يتوجّه إليهما بالكلام، بشكل خاصّ، فإن عِبارات وَجهَيهِما تتنفّس السعادة تماماً.

 

يَجتَازون الوادي الصغير، ثمّ رابية خضراء غاية في الجمال، يمكن رؤية مرج ابن عامر مِن قمّتها. وهذا المنظر يجعل الصبيّ يقول: «ماذا يستطيع الجدّ أن يفعل؟» ويَختم بتنهّد حزين جدّاً. تَلمَع دمعة في عينيه البنّيّتين: «آه! إنّه أقلّ سعادة منّي كثيراً... وهو الصالح والطيّب جدّاً!» فتُضفي شكوى الصبيّ وِشاحاً مِن الحزن على الجميع. ثمّ ها هُم يَهبطون عَبْرَ واد غنيّ بالحقول وبساتين الزيتون. ونسمة هواء تُمطِر ثلج زهيرات الكرمة وشجر الزيتون الباكوريّة. أمّا مرج ابن عامر فقد غاب عن الأنظار.

 

يتوقّفون لتناول الطعام، يُعاوِدون بعد ذلك السير باتّجاه أورشليم. ولكن المطر قد هَطَلَ بغزارة، أو إنّ المكان قد اجتاحَتهُ المياه الجوفيّة، إذ تبدو الـمُروج وكأنّها مستنقع، لشدّة لمعان المياه وسط الأعشاب الكثيفة، وهي ترقى إلى حدّ ملامسة الطريق المرتفعة عنها قليلاً، ولكنّها ليست أقلّ وَحلاً. يَرفَع الكِبار ثيابهم لكيلا تَعلَق فيها طبقة مِن الوحل. يَحمل يوضاس تدّاوس الصبيّ على كتفيه ليريحه ويجعله يجتاز بشكل أسرع المنطقة المغمورة بالمياه، والتي قد تكون مُلوَّثة. يُوشِك النهار على الزّوال عندما، بعد محاذاة بعض الروابي الجديدة واجتياز وادٍ آخر صخريّ وجافّ تماماً، يَلِجون بلدة مبنيّة على أرض صخريّة. وهُم يَشقّون طريقاً لأنفسهم عَبْرَ جموع الحجّاج، يبحثون عن مأوى في أحد النُّزُل الريفيّة جدّاً: وهي عبارة عن خيمة سميكة مع طبقة مِن الجَفيف لا أكثر.

 

قناديل صغيرة مُضاءة هنا وهناك تُنير عشاء عائلات الحجّاج، عائلات فقيرة مثل العائلة الرسوليّة، إذ إنّ غالبيّة الأغنياء قد نَصَبوا لهم خياماً خارج البلدة، مُتحاشِين بازدراء كلّ احتكاك بأهل المنطقة والحجّاج الفقراء.

 

يَهبط اللّيل والصمت... أوّل النائمين هو الصبيّ. يستريح مِن شدّة تعبه على صدر بطرس الذي يضعه بعدئذ على القَشّ ويغطّيه بعناية.

 

يَجمَع يسوع الكِبار للصلاة، ثمّ يتمدّد الجميع على الـمِهاد ليستريحوا مِن طُول الطريق.

 

في اليوم التالي: تُوشِك المجموعة الرسوليّة، الرَّاحِلة منذ الصباح، على دخول شكيم [نابلس]، بعد اجتيازها السامرة. مَظهَر المدينة جميل، فهي محاطة بأسوار، مُتَوَّجة بأبنية جميلة ومَهيبة، تتزاحم حولها، وبترتيب، بيوت رائعة. لديَّ انطباع بأنّ المدينة مثل طبريّا، وقد أُعيد بناؤها منذ وقت قريب، ومِن قِبَل الرومان، بموجب مخطّط جُلِبَ مِن روما. فَبَعدَ الأسوار، المدينة محاطة بأراض خصيبة للغاية ومزروعة بشكل جيّد. الطريق المؤدّية إلى شكيم [نابلس] مِن السامرة، تمتدّ هبوطاً بـِمُنبَسَطات متتالية، مع نوع من الجدران الاستناديّة لتلك الـمُنبَسَطات. تُذكِّرني بتلال فيسولي. هناك مَنظَر رائع على جبال خضراء إلى الجنوب وعلى سهل جميل للغاية يمتدّ إلى الغرب.

 

تَميل الطريق إلى الهبوط، ولكنّها تَصعَد بين الفينة والأخرى لاجتياز روابي أُخرى، تطلّ قِممها على بلدة السامرة، بمحاصيلها البديعة مِن الزيتون والقمح والكروم، تَسهَر عليها مِن قِمم الروابي غابات مِن السنديان ودوحات تعمل على حمايتها مِن الرياح التي، أثناء قدومها مِن الممرّات، تميل إلى تشكيل الزَّوابِع التي تؤذي المحاصيل. هذه المنطقة تذكّرني بقمم أبنين (Apennin) هنا، حيث تتأمّل العين في الوقت ذاته محاصيل الحبوب المسطّحة في المستنقع الساحليّ والروابي البَهيجة، والجبال الصلبة المرتفعة عالياً إلى الداخل. لستُ أدري كيف هي السامرة اليوم. حينذاك كانت غاية في الجمال.

 

الآن، وبين جَبَلين شاهِقَين، بين الأكثر ارتفاعاً في المنطقة تُرى شكيم [نابلس]، باتّجاه الطول، وسط وادٍ خصيب مَرويّ جيّداً. هناك التقى يسوع وأتباعه بقافلة قصر الوالي المتوجِّهَة إلى أورشليم مِن أجل الأعياد. عبيد مُشاة وعبيد على عربات لحراسة نقل الأغراض... يا إلهي أيّ عتاد كانوا يستطيعون نقله معهم في ذاك الوقت!!! ومع العبيد عربات حقيقيّة تنقل القليل مِن كلّ شيء، وحتّى مِحفّات رائعة ومَركَبات فاخِرة للسفر. إنّها عربات كبيرة ذات أربع عجلات، مغطّاة جيّداً تحتمي داخلها النساء. ثمّ عربات أخرى وعبيد…

 

يُكشَف غطاء، تَرفَعه يد امرأة مُزيَّنة بالجواهر، ويَظهَر جانباً وجه بلوتينا الرَّصين الذي يُحيّي دونما كلام، بل بابتسامة. وكذلك تفعل فاليريا التي تَحمِل في حضنها صغيرتها وهي تُزقزِق وتَبتَسِم. عربة السفر الأخرى، وهي أكثر فخامة، تمرّ دون أن يُكشَف لها غطاء. ولكنّها بعد أن تَعبُر، ينحني مِن الخلف، مِن بين الستائر المربوطة، وجه ليديا الورديّ الذي يُحيّي بانحناءة. وتبتَعِد القافلة…

 

«يُسافِرون بارتياح، هُم!» يقول بطرس التَّعِب الذي يتصبّب عَرَقاً. «ولكن، بِعَون الله، سنكون في أورشليم بعد غد مساء.»

 

«لا يا سمعان، يجب الانحراف عن الدرب، بالمضيّ إلى الأردن.»

 

«ولكن لماذا يا سيّدي؟»

 

«بسبب هذا الصبيّ. إنّه حزين جدّاً، ويزداد حزنه لدى رؤيته مُجدَّداً الجبل الذي تهدّم.»

 

«ولكنّنا لن نراه، أو بالحريّ سوف نراه مِن الجهة الأخرى... و... أُفكِّر بأن نُبقيه غافلاً. أنا ويوحنّا... يَسهو مباشرة فرخ اليمام هذا الذي مِن غير عُشّ. الذهاب باتّجاه الأردن! ما هذا؟ مِن هُنا أفضَل. إنّها طريق مباشرة، هي أقصر وأكثر أماناً. لا، لا. هذا، هذا. أتَرَى؟ الرومانيّات يَسلُكنَه. مِن هنا أَسلَم. ثمّ... متى نصل لو أَطَلنا الطريق أكثر؟ فَكِّر كَم ستكون أُمّكَ قَلِقَة بعد اعتقال يوحنّا الوحشيّ!...» يُحدِّثه بطرس بحماس، ويسوع يوافِق.

 

«سوف نستريح باكراً وكما يجب، وغداً، عند الفجر، نرحل لنكون بعد غد مساء في جَثْسَيْماني. وفي غداة الجمعة سنمضي إلى الأُمّ في بيت عنيا، حيث نُودِع كُتُب يوحنّا الذي أُنهِكَ كثيراً، ونلاقي إسحاق الذي سنُسلّمه هذا الأخ المسكين...»

 

«والصبيّ؟ أتُسلِّمه حالاً؟»

 

يبتسم يسوع: «لا، سنُسلِّمه إلى الأُمّ لتُهيِّئه لعيده. ثمّ نحتفظ به مِن أجل الفصح. إنّما بعد ذلك، فعلينا أن نتركه... لا تتعلّق به كثيراً! أو بالحريّ: أَحِبّه كما لو كان ابنكَ، إنّما بروح فائق الطبيعة. تَرى: إنّه ضعيف ويَتعَب بسهولة. أنا أيضاً كنتُ أودُّ لو أُثقِّفه وأجعله ينمو بالحكمة، متغذّياً بي. إلّا أنّني عصيّ على التَّعَب، أنا، أمَّا يَعْبيص فهو طريّ العود جدّاً وضعيف جدّاً على تحمّل أتعابنا. سنمضي عَبْرَ اليهوديّة، ثمّ نعود ثانية إلى أورشليم مِن أجل العنصرة، ثمّ نمضي... نمضي مُعلِنين البشرى الحسنة... ونعود لنجده صيفاً في موطِننا. ها نحن على أبواب شكيم [نابلس]، فاسبِقنا أنتَ وأخوكَ ويهوذا بن سمعان لِتَجِدوا لنا مأوى. سأذهب إلى ساحة السوق وأنتظركَ هناك.»

 

يَفتَرِقون، بينما يركض بطرس للبحث عن مأوى، ويسير الآخرون بصعوبة في شوارع مكتظّة بالناس يَصرخون ويُشوِّرون، وبالحمير والعربات، والكلّ متوجّهون شطر أورشليم، مِن أجل الفصح القريب. والأصوات والنداءات والشتائم تَختَلِط بنهيق الحمير؛ وذلك يشكّل صَخَباً هائلاً يترجَّع تحت الممرّات التي تفصل البيوت، الصَّخَب الذي يُذكِّر بالصوت الذي تُحدِثه بعض الأصداف عندما توضَع مُلاصِقَة للأُذن. يترجَّع الصدى حيث تتجمّع الظلال. والناس، مثل الماء تحت الضغط، يَندَفِعون عَبْرَ الشوارع، بحثاً عن سقف، عن ساحة، عن مرج يَقضُون فيها الليل.

 

ويسوع الذي يُمسِك الصبيّ بيده، مُسنِداً ظهره إلى شجرة، يَنتَظِر بطرس في الساحة التي تغصّ بالباعة في مثل هذا الظَّرف.

 

«لا أحد يُلاحِظنا أو يتعرّف علينا!» بقول الاسخريوطيّ.

 

«وكيف تتعرّف على حبّة رمل في شاطئ؟  ألا ترى أيّ جَمع هذا؟» يجيب توما.

 

يَعود بطرس: «خارج المدينة، هناك عَنبَر فيه كَلَأ جاف. لَم أَجِد غيره.»

 

«لن نبحث عن شيء آخر. يكاد يكون رائعاً لابن الإنسان.»