ج10 - ف31

أَنَا هُوَ

ماريا فالتورتا

L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO

THE GOSPEL AS REVEALED TO ME

بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}

L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ

MARIA VALTORTA

الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.

 

الجزء العاشر

 

31- (تباين درب غَمَالائيل ودرب شاول صوب القداسة)

 

07 / 08 / 1944

 

يقول يسوع:

 

«لقد أظهرتُ نفسي مرّات كثيرة، ولكثيرين، حتّى بظهورات غير مألوفة. لكنّ ظهوراتي لم تترك الأثر نفسه عند الجميع. يمكننا أن نرى كيف أن كلّ ظهور مِن ظهوراتي كان يقابله تقديس للّذين كانوا يمتلكون الإرادة الصالحة المطلوبة مِن البشر، ليحظوا بالسلام، الحياة، البرّ.

 

وهكذا عملت النعمة في الرُّعاة خلال الأعوام الثلاثين مِن حياتي الخفيّة، ومِن ثمّ أزهرت سنبلة مقدّسة حين حلّ الزمن الّذي انفصل فيه الأخيار عن الأشرار ليتبعوا ابن الله، الّذي كان يعبر عبر دروب العالم مُطلِقاً صيحة حبّه داعياً للاجتماع خراف القطيع الأبديّ، الّتي شُتِّتت وتاهت بسبب الشيطان. بحضورهم وسط الحشود الّتي كانت تتبعني، كانوا رُسلاً لي، لأنّهم، برواياتهم البسيطة والمقنعة، كانوا يُعلِنون عن المسيح قائلين. "إنّه هو، نحن تعرّفنا عليه. هدهدات الملائكة نزلت على صرخاته الوليديّة الأولى. وقد أخبرنا الملائكة أنّ ذوي الإرادة الصالحة سيحظون بالسلام. الإرادة الصالحة هي الرغبة بالخير والحقّ. لنتبعه! اتبعوه! سنحظى كلّنا بالسلام الّذي وعد به الربّ."

 

متواضعين، جاهلين، فقراء، رُسُلي الأوائل بين البشر اصطفّوا نسقاً مثل حرّاس على طول دروب مَلِك إسرائيل، مَلِك العالم. عيون وفيّة، أفواه عفيفة، قلوب مُحِبَّة، مَباخِر تنشر عطر فضائلها لتجعل هواء الأرض أقلّ فساداً حول ذاتي الإلهيّة، الّتي تَجَسَّدَت مِن أجلهم ومِن أجل كلّ البشر، وقد وجدتُهم أسفل الصليب، بعدما باركتهم بنظري على طول درب الجلجلة الدامي، بمفردهم، مع بعض الآخرين، الّذين لم يلعنوا وسط الجمع المنفلت، إنّما الّذين أحبّوني، آمنوا، أَمِلوا بعد، وألقوا عليّ نظرة رأفة، مفكّرين بتلك الليلة البعيدة ليوم ميلادي، وبكوا على البريء، الّذي نام رقاده الأوّل على خشب غير مريح، ونومه الأخير على خشب أكثر إيلاماً. وكلّ ذلك لأنّي بظهوري لهم، هم الّذين كانت لهم نفوس مستقيمة، قد قدّستُهم.

 

والأمر ذاته بالنسبة لحكماء الشرق الثلاثة، لسمعان وحنّة [الّتي لفانوئيل] في الهيكل، لأندراوس ويوحنّا في الأردن، لبطرس، ويعقوب ويوحنّا على جبل طابور، لمريم المجدليّة في فجر الفصح [القيامة]، للأحد عشر وقد غُفر لهم على جبل الزيتون، وحتّى قبل ذلك في بيت عنيا، غُفِر لهم ضلالهم... لا، يوحنّا، الطاهر، لم يحتج إلى أن يُغفَر له. كان الوفيّ، البطل، الـمُحِبّ على الدوام. إنّ الحبّ فائق الطهارة الّذي كان كامناً فيه، ونقاء روحه، وقلبه، وجسده، قد حفظوه مِن كلّ ضعف.

 

إنّ غَمَالائيل، ومعه هِلّيل، لم يكونا ببساطة الرُّعاة، ولا بقداسة سمعان، ولا بحكمة الحكماء الثلاثة. فقد نمت فيه، وفي معلّمه وقريبه، متعرّشات فرّيسيّة لخنق النور والنموّ الحرّ لشجرة الإيمان. لكن في ذاتهما الفرّيسيّة كان نقاء النيّة. كانا يعتقدان بأنّهما في البرّ، وكانا يرغبان في أن يكونا كذلك. كانا يرغبان في ذلك فطريّاً، لأنّهما كانا بارّين ونبيهين، لأنّ روحهما كان يصيح مستاء: "هذا الخبز ممزوج برماد كثير، أعطونا خبز الحقيقة الحقّ."

 

إلاّ أنّ غَمَالائيل لم تكن له القدرة الكافية ليتحلّى بالشجاعة لتحطيم تلك المتعرّشات الفرّيسيّة. بشريّته كانت لا تزال تستعبده بشدّة، ومعها، اعتبارات المكانة البشريّة، الخطر الشخصيّ، الرفاه العائليّ. وبسبب كلّ تلك الأمور، لم يُحسِن غَمَالائيل فهم "الله الّذي كان يعبر وسط شعبه"، ولا استخدام "ذلك الذكاء وتلك الحريّة" اللذين أعطاهما الله لكلّ إنسان مِن أجل استخدامهما لخيره. وحدها العلامة المنتظرة على مدى سنين كثيرة، العلامة الّتي حطّمته وعذّبته بوخز ضمير لم يكن ليكفّ، كانت تستنهض فيه معرفة المسيح وتغيير فكره القديم، بحيث، بعد أن كان رابّي الخطأ يصبح، بعد صراع طويل بين أناه العتيقة وأناه الحاليّة، تلميذاً للحقّ الإلهيّ، حيث إنّ الكَتَبَة، الفرّيسيّين والأحبار كانوا قد أفسدوا جوهر الشريعة وروحها، بخنق الحقيقة البسيطة والساطعة الآتية مِن الله تحت كومة مِن الأحكام البشريّة، الّتي كانت على الأغلب خاطئة، إنّما الّتي كانت دوماً ذات فائدة بالنسبة لهم.

 

على كلّ حال، هو لم يكن الوحيد الّذي كان متردّداً في اتّخاذ القرار ومفتقراً للقوّة في التصرّف. يوسف الذي مِن الرّامة كان كذلك أيضاً، وأكثر منه نيقوديموس، اللذان لم يدوسا فوراً على العادات والمتعرّشات العبرانيّة، ولم يعتنقا العقيدة الجديدة علانيّة، رغم أنّهما اعتادا أن يقصدا المسيح "سرّاً" خوفاً مِن اليهود، أو أن يلتقيا به وكأنّها صدفة، وعلى الأكثر في منزليهما الريفيّين، أو في منزل لعازر في بيت عنيا، لأنّهما كانا يعلمان أنّه أكثر أمناً وأكثر إخافة لأعداء المسيح الّذين كانوا مدركين جيّداً مدى حماية روما لابن ثيوفيلوس [لعازر]. إلاّ أنّهما كانا بالتأكيد أكثر تقدّماً في الخير والشجاعة، مِن غَمَالائيل، إلى درجة أنّهما تحلّيا بالجرأة لأن يتصرّفا برأفة ‏يوم الجمعة المقدّسة.

 

أقلّ تقدّماً كان الرابّي غَمَالائيل. إنّما لاحظوا، أنتم أيّها القرّاء، قوّة استقامة نيّته. فبفضلها، عدله، البشريّ للغاية، قد اصطبغ بصبغة فوق بشريّة. أمّا ذاك الّذي لشاول، فعلى العكس، لقد تلطّخ بلطخة شيطانيّة، في الوقت الّذي وضعه انفلات الشرّ هو ومعلّمه غَمَالائيل على مفترق طرق الاختيار بين الخير والشَرّ، بين العدل والظلم.

 

إنّ شجرة الخير والشرّ تنتصب أمام كلّ إنسان، لتُقدّم له، في المظهر الأشدّ جاذبيّة وإغراءً، ثمارها السيّئة، فيما تُصدِر الحيّة الـمُجرِّبة فحيحها بين الأوراق، بصوت تغريد عندليب خادع. ويعود للإنسان، المخلوق الموهوب عقلاً ونَفْساً منحها له الله، أن يُحسِن التمييز وابتغاء الثمرة الجيّدة مِن بين الثمار الكثيرة الّتي ليست كذلك والّتي تجرح وتميت الروح. ويجب أن يقطف الثمرة الجيدة، حتّى لو كانت شائكة وصعبة المنال، وحتّى لو كان طعمها مرّاً ومظهرها قبيحاً. إنّ تحوّلها، الّذي تصبح بفعله أكثر سلاسة ونعومة، أعذب مذاقاً، أجمل منظراً، يحدث فقط حين نعرف، عبر عدالة الروح وبالعقل، أن نختار الثمرة الصالحة، وأن نتغذّى بعصيرها المرّ إنّما المقدّس.

 

شاول قد مدّ يديه الشرهتين إلى ثمرة الشرّ، الكراهية، الظلم، الجريمة، وسوف يمدّهما إلى أن يُصعَق بالنور، يُصرَع، يصبح كفيفاً مِن البصر البشريّ، لكي يكتسب البصيرة الفائقة للبشر ويصبح، ليس فقط عادلاً، بل ورسولاً ومُعَرِّفاً بذاك الّذي كان يكرهه في السابق ويضطّهده في خُدّامه.

 

غَمَالائيل، إذ حطّم المتعرّشات الصلبة لبشريّته وعبرانيّته، كي يجعل البِذار القديمة للنور والعدل تنبت وتتفتّح، ليس فقط بطريقة بشريّة، بل بشكل فائق للبشريّة أيضاً، بحيث أنّ غِطاسي الرابع، أو ظهوري، الّتي هي ربّما الكلمة الأوضح أو الأكثر تعبيراً بالنسبة لكم، قد زرع في قلبه، قلبه ذي النوايا المستقيمة، بِذاراً كان قد حافظ عليها ودافع عنها بشغف صادق وعطش نبيل لرؤيتها تنبت وتتفتّح، يمدّ يديه إلى ثمرة الخير. إنّ إرادته ودمي قد حطّما القشرة القاسية لتلك البِذار القديمة الّتي حفظها في قلبه لعشرات الأعوام، في ذلك القلب المتحجّر الّذي انشقّ في الوقت نفسه مع حجاب الهيكل وأرض أورشليم، والّذي صرخ لي توقه السامي، أنا الّذي ما عدتُ أستطيع سماعه بعد بأذنيّ، إنّما كنتُ أسمعه جيّداً بروحي الإلهيّ، حين كان ساجداً على الأرض عند أسفل الصليب. وتحت اللهيب الشمسيّ للكلمات الرسوليّة وكلمات أفضل التلاميذ، وانهمار دم استفانوس، الشهيد الأوّل، فقد تجذّرت تلك البِذار، وأصبحت شجرة، ومِن ثمّ أزهرت وأثمرت. النبات الجديد لمسيحيّته، الّتي نمت حيث أطاحت مأساة الجمعة المقدّسة بكلّ النباتات والأعشاب القديمة، اقتلعتها ودمّرتها.

 

نبتة مسيحيّته الجديدة، وقداسته الجديدة، قد وُلِدت ونهضت أمام عينيّ. وقد غَفَرتُ له، ولو أنّه كان مذنباً لعدم فهمي في وقت أبكر، بسبب عدله الّذي رفض أن يشارك في إدانتي ولا في إدانة استفانوس، توقه لأن يصبح وفيّاً لي، وابناً للحقّ، للنور، وقد بورك أيضاً مِن الآب والروح الـمُقدِّس، والتوق أصبح واقعاً، دونما الحاجة إلى أن يُصعَق بقوّة وبعنف، كما كان ذلك ضروريّاً بالنسبة لشاول على طريق دمشق، بسبب التجبّر الّذي لم يكن بإمكان أيّة وسيلة أخرى أن تُخضِعه وتقوده إلى البرّ، إلى المحبّة، إلى النور، إلى الحقّ، إلى حياة السماوات الأبديّة والممجَّدة.