ج2 - ف51

أَنَا هُوَ

ماريا فالتورتا

L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO

THE GOSPEL AS REVEALED TO ME

بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}

L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ

MARIA VALTORTA

الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.

 

الجزء الثاني / القسم الأول

 

51- (يسوع يتحدّث إلى الجنديّ اسكندر عند باب السمك)

 

24 / 01 / 1945

 

فَجر آخر. وأيضاً مَواكب حمير تتزاحم عند باب السمك الذي ما يزال مُغلَقاً. ويسوع مع سمعان ويوحنّا، يتعرّف عليهم بعض الباعة ويتجمهرون حولهم. يركض صوبه أيضاً أحد جنود الحراسة، حينما يراه ساعة فتح الباب، ويحيّيه: «سلاماً أيّها الجليليّ. قُل لهؤلاء الهائجين أن يكونوا أقلّ صخباً. يتشكّون منّا، ولكنّهم لا يفعلون غير لعننا وعدم إطاعتنا. يقولون إنّ هذا بالنسبة لهم هو أحد الشعائر الدينيّة. فأيّ دين هو دينهم هذا القائم على العصيان؟»

 

«تَفَهَّمهُم أيّها الجندي. إنّهم كَمَن في بيتهم نزيل غير مرغوب فيه، وهو أقوى منهم. وللثأر، فليس لديهم إلا الردّ باللسان.»

 

«نعم، إنّما يجب علينا القيام بواجبنا، وبالتالي علينا أن نُعاقِب. وهكذا نُصبِح نُزَلاء غير مرغوب فيهم على الدوام.»

 

«أَصَبتَ. عليكَ أن تؤدّي واجبكَ، إنّما قُم به دائماً بحسّ إنسانيّ. فكّر دائماً: "لو كنتُ أنا في مكانهم، ماذا كنتُ أفعل؟ وسوف ترى أنّكَ ستختَبِر آنذاك كثيراً مِن الرحمة تجاه الذين هم تحت سلطتكَ.»

 

«يُمتِعني سماع حديثكَ. فهو يخلو مِن السخرية، ولا تَعالي مِن قِبَلِكَ. بينما الفلسطينيّون الآخرون يبصقون علينا مِن الخلف، يشتموننا، ويُظهِرون لنا احتقارهم... اللهمّ إن لم يَسلَخونا بضمير مرتاح مِن أجل امرأة أو بعض السلع. وفي هذه الحالة ذَهَب روما غير مُحتَقَر.»

 

«الإنسان هو الإنسان على الدوام، أيّها الجنديّ.»

 

«نعم، وهو أكثر خِداعاً مِن النَّسناس. ومع ذلك فَمِن غير المستَحسَن المكوث وسط أناس كالثعابين يتربّصون بكَ... نحن أيضاً لنا بيوت وأُمّهات وزوجات وأولاد، نحرص على أن نحيا وسطهم.»

 

«إذا ما حَرص كلّ واحد على أن يتذكّر هذا، لما بقي حقد. قلتَ: "أيّ دِين يدينون به؟" أجيبكَ: إنّه دِين مقدّس، الوصيّة الأولى فيه هي الحبّ، حبّ الله وحبّ القريب. دِين يُعَلِّم الطاعة للشرائع والقوانين، حتّى ولو كانت لِبلاد عدوّة.

 

اسمعوا إذن يا إخوتي في إسرائيل. لا شيء يَحدُث مِن دون أن يَسمَح به الله، حتّى ولو كان سيطرة شعب غريب: أقصى التعاسة بالنسبة لِأُمَّة. إنّما، دائماً تقريباً، لو يَسأَل هذا الشعب نفسه بصراحة، لأمكنه القول إنّه هو الذي أراد ذلك، بنمط حياته الـمُناقِضَة لله. تَذَكَّروا الأنبياء. كَم مرّة تكلّموا عن ذلك! كم مرّة أَظهَروا، مِن خلال الأحداث السابقة والحاضرة والمستقبليّة، أنّ الاجتياح هو العقاب، هو عصا التأديب على أكتاف الابن العاق. كم مرّة عَلَّموا ولَقَّنوا طريقة تحاشي تَلَقّيها مستقبلاً: بالعودة إلى الربّ! فلا التمرّد ولا العصيان ولا الحرب تشفي الجراح وتمسح الدموع وتكسر القيود. بل حياة المستقيمين. وآنذاك يَتَدَخَّل الله. وماذا يمكن للأسلحة والجحافل المسلّحة أن تفعل في مواجهة سطوع الكتائب الملائكيّة عندما تُناضِل في صفّ الصالحين؟ هل أُصِبنا بضربة؟ يمكننا استحقاق ألّا يصيبنا أكثر منها مِن خلال طريقة حياتنا، نحن أبناء الله. لا تُثَبِّتوا سلاسلكم باستمرار بالخطايا المتكرّرة. لا تَدَعوا الوثنيّين يظنّون أنّكم بلا دِين، أو بالأحرى أكثر وثنيّة منهم، بسبب نمط حياتكم. إنّكم الشعب الذي أعطاه الله الشريعة بذاته. انتبهوا لها. اجعلوا مُعلِّميكم ينحنون أمام قيودكم وهم يقولون: "لقد أُخضِعوا لنا، ولكنّهم أعظم منّا، عَظَمَة لم تتأثّر بعُدد أو بمال، ولا بأسلحة أو سُلطة، إنّما هي عَظَمَة متأتيّة مِن ارتباطهم بالله. فيهم تسطع أُبوّة إله كامل، قدّوس وذي سلطان. وهنا تَكمُن دلائل ألوهة حقيقيّة. إنّها تَسطَع مِن خلال أبنائها". فيتأمّلون بهذا الموضوع ويَصِلون إلى حقيقة الإله الحقّ، بتخلّيهم عن الخطأ. الجميع، حتّى الأكثر فقراً، حتّى الأكثر جَهلاً في شعب الله، يمكنه أن يكون معلّماً للإنسان الوثنيّ، معلّماً بطريقة حياته، وكارزاً بالله لدى الوثنيّين بأفعال وممارسات حياتيّة مقدسة.

 

امضوا مَصحوبين بالسلام.»

 

يَنظُر إلى سمعان ويقول: «لقد تأخّر يهوذا وكذلك الرُّعاة.»

 

والجنديّ الذي استَمَعَ إلى الحوار بانتباه يسأل: «أتنتظر أحداً أيّها الجليليّ؟»

 

«أصدقاء.»

 

«هَلُمَّ إلى الظلّ في المدخل. فالشمس حادّة منذ الساعات الأولى. أتذهب إلى المدينة؟»

 

«لا، بل أعود إلى الجليل.»

 

«سيراً على الأقدام؟»

 

«إنّي فقير: على الأقدام.»

 

«ألديكَ زوجة؟»

 

«لديّ أُمّ.»

 

«وأنا كذلك. تعال... إذا لم تكن تَحتَقِرنا مثل الآخرين.»

 

«لا شيء يجعلني أشمئزّ غير الخطيئة.»

 

يَنظُر إليه الجنديّ مُعجَبَاً وغارقاً في التفكير. «معكَ أنتَ لا داعي لِتَدَخُّلنا. فلن يرتَفِع السيف في وجهكَ. إنّكَ رجل صالح. إنّما الآخرون!...»

 

يسوع في شبه ظلّ المدخل، يستدير يوحنّا صوب المدينة. يَجلس سمعان على حجر يستخدم كمقعد.

 

«ما اسمكَ؟»

 

«يسوع.»

 

«آه! أنتَ مَن تصنع المعجزات حتّى على المرضى؟! كنتُ أظنّكَ ساحراً ليس إلّا... فقد كان لدينا سَحَرَة، نحن أيضاً! وكان أحدهم ساحراً جيّداً، وكان هناك آنذاك عدد منهم... ولكنّ سَحَرتَنا لا يعرفون شفاء المرضى، فكيف تفعل ذلك أنتَ؟»

 

يبتسم يسوع ويصمت.

 

«أتستَخدِم صِيَغاً سحريّة؟ ألديكَ مَراهِم مِن نخاع مَيِّت، أو ثعابين مجفّفة ومحوّلة إلى مسحوق، أو أحجار سحريّة مأخوذة مِن كهف التنّين؟»

 

«لا شيء مِن كلّ هذا. ليس لديَّ سوى سُلطاني وقُدرتي.»

 

«إذاً فأنتَ قدّيس حقيقيّ. نحن لدينا العرّافون وكاهِنات الآلهة... والبعض منهم يَفعَلون خوارق... ويقال إنّهم الأقدس. ولكن هل تظنّ ذلك؟ إنّهم أسوأ مِن الآخرين.»

 

«إذاً فلماذا تجلّونهم؟»

 

«لأنّه... لأنّه دِين روما. وإذا لم يَحتَرِم المرء دِين بلده، فكيف يَحتَرِم قيصر والوطن؟ وثمّ، ثمّ أشياء كثيرة؟»

 

يَنظُر يسوع إلى الجنديّ بإمعان. «في الحقيقة، إنّكَ قد تقدَّمتَ في طريق الصلاح. استمرّ أيّها الجنديّ، وستتوصّل إلى معرفة ما تبغي نفسكَ أن تملكه في ذاتها، دون معرفة تسمية هذا الشيء.»

 

«النَّفْس؟ ماذا تعني؟»

 

«عندما ستموت، أين تذهب؟»

 

«لَعَمري، إنّني لا أعلَم. فإذا ما مُتُّ بطلاً، فعلى محرقة الأبطال... وإذا كنتُ عجوزاً فقيراً، فقد أتعفّن في كوخي أو على قارعة طريق ما.»

 

«هذا بالنسبة للجسد، أمّا النَّفْس، فأين تذهب؟»

 

«لسـتُ أدري مـا إذا كان جميع النـاس لديهم نَفـْس، أم فقط أولـئك الذين يخصّهم جوبيتير في حقول أليشـع بعد حياة خارقـة، أقلّـه لا يأخذهم إلى الأولمب كمـا فَعَلَ بـ رومولوس.»

 

«كلّ الناس لديهم نَفْس، وهذا ما يميّز الإنسان عن الحيوان. هل تريد أن تكون شبيهاً بحصان؟ بطائر؟ بسمكة؟ جسداً لا يعود بعد الموت سوى عَفَن ونتانة؟»

 

«آه! لا. أنا إنسان وأُفَضِّل أن أكون كذلك.»

 

«إذاً فالذي يجعلكَ إنساناً هو النَّفْس. بدونها لا تعدو كونكَ أكثر مِن حيوان له مَلَكَة الكلام.»

 

«وأين هي؟ وكيف تكون؟»

 

«هي ليست ماديّة، ولكنّها موجودة. هي داخلكَ، وهي آتية مِن لَدن الذي خَلَقَ العالم، وهي تعود إليه بعد موت الجسد.»

 

«ومِن إله إسرائيل، حسب معتقدكم؟»

 

«مِن الإله الواحد، الأوحد، الأزليّ، الربّ الأسمى وخالِق الكون.»

 

«حتّى جنديّ مسكين مثلي لديه نَفْس تعود إلى الله؟»

 

«نعم، حتّى جنديّ بسيط، وسوف تَجِد نَفْسه الله صديقاً، إذا كانت صالحة على الدوام، وسوف يجازيها الله إذا كانت شرّيرة.»

 

ويقول يوحنّا: «يا معلّم، ها هو يهوذا مع الرُّعاة، ونساء. إذا ما كنتُ أرى بوضوح، فتلك هي فتاة الأمس.»

 

«أنا ماضٍ، أيّها الجنديّ، كُن صالحاً.»

 

«ألن أراك ثانية؟ أريد معرفة المزيد...»

 

«سوف أمكُث في الجليل حتّى أيلول (سبتمبر). إن استَطَعتَ تعال. تَجِدني في كفرناحوم أو في الناصرة. الجميع يُعلِمكَ عنّي. في كفرناحوم، اسأل عن سمعان بطرس، وفي الناصرة، عن مريم التي ليوسف. إنّها أُمّي. تعال وسوف أُحدّثكَ عن الله الحقيقيّ.»

 

«سمعان بطرس... مريم التي ليوسف... سوف آتي إن استطعتُ. وإن عُدتَ أنتَ فتذكّر اسكندر. أنا مِن حامية أورشليم.»

 

يَصِل يهوذا والرُّعاة إلى تحت الرواق.

 

«السلام لكم جميعاً.» يقولها يسوع، وقد كان يريد إضافة شيء ما، ولكنّ صبيّة نحيلة إنّما مبتسمة، تشقّ طريقها عبر الجميع وترتمي عند قدميه: «بركتكَ عَلَيَّ أيّها المعلّم والـمُخَلِّص. وقُبلَة أُخرى لكَ!» وتُقَبِّل يديه.

 

«امضي وكوني سعيدة وصالحة. فتاة صالحة، ثمّ زوجة صالحة، فأُمّاً صالحة. عَلِّمي صغاركِ في المستقبل اسمي ومَذهَبي. السلام لكِ ولأُمّكِ. السلام والبركة لكلّ الذين هُم أصدقاء الله. وأيضاً السلام لكَ يا اسكندر.»

 

يبتعد يسوع.

 

ويَشرَح يهوذا: «لقد تأخّرنا، إنّما هؤلاء النساء هُنَّ اللواتي أَخَّرنَنَا. لقد كُنَّ في جَثْسَيْماني وكُنَّ يردن رؤيتكَ. ونحن كنّا قد ذهبنا إلى هناك، كلّ بمفرده وبشكل مستقلّ، لنرافقكَ الدرب. ولكنّكَ كنتَ قد رَحَلتَ. ولم نرَ مكانكَ غيرهنّ. كنا نريد تركهنّ... ولكنّهنّ أصرّين أكثر مِن إصرار الذباب. كُنَّ يردن معرفة أشياء كثيرة... هل شَفَيتَ الصغيرة؟»

 

«نعم.»

 

«وتحدّثتَ إلى الرومانيّ؟»

 

«نعم، إنّ له قلباً نزيهاً وهو يبحث عن الحقيقة.»

 

يَشهَق يهوذا.

 

ويسأله يسوع: «لماذا تَشهَق يا يهوذا؟»

 

«أشهَق لأنّ... لأنّني كنتُ أودُّ لو يكون الذين مِنّا هُم مَن يُفَتِّشون عن الحقيقة. بينما هُم على عكس ذلك، فإمّا يهربون مِنّها وإمّا يحتقرونها وإمّا يبقون غير مبالين. لقد ثَبَطَت عزيمتي، فما عدتُ أريد أن أطأ هذا المكان، ولم أعد أبغي عمل شيء غير الاستماع إليكَ. إذ إنّني، كتلميذ، لم أنجح بشيء.»

 

«أوَتعتقد أنّني أنجح كثيراً؟ لا تيأس يا يهوذا، إنّها صراعات الرسالة. والفَشَل فيها أكثر مِن النَّصر. ولكنّ الفشل هنا هو دائماً نصر هناك في الأعالي. الآب يرى إرادتكَ الحَسَنَة حتّى وإن لم تتوصّل إلى شيء، وبركته لكَ لن تنقص.»

 

فَيُقَبِّل يهوذا يده: «آه! كم أنتَ طيّب وصالح! إنّما هل أُصبِح أنا صالحاً يوماً؟»

 

«نعم، إذا أردتَ أنتَ ذلك.»

 

«أظنّني كنتُ كذلك في هذه الأيّام... لقد عانيتُ لأكون كذلك... ذلك أنّ رغبات كثيرة كانت تتنازعني... ولكنّني كنتُ كذلك بتفكيري الدائم بكَ.»

 

«استمرّ إذاً، تسرّني كثيراً. وأنتم ماذا تحملون لي مِن الأخبار؟» السؤال موجّه للرُّعاة.

 

«إيلي يُقرئكَ السلام وقد أرسَلَ لكَ بعض الأطعمة وهو يسألكَ ألا تنساه.»

 

«آه! إنّني أَحمِل أصدقائي في قلبي! فلنذهب إلى تلك البلدة وسط الاخضرار. ثمّ عند المساء سوف نعاود المسير. إنّني سعيد لكوني معكم، لذهابي لملاقاة أُمّي، ولحديثي عن الحقيقة إلى رجل نزيه. نعم، أنا سعيد. لو تَعلَمون ماذا يعني لي إتمام رسالتي، وأن أجد القلوب تتقبَّل، فهذا يعني أنّها تأتي إلى الآب، آه! كما كنتم تتبعونني دائماً بالروح...»

 

ولم أعد أرى شيئاً.