ج2 - ف30
أَنَا هُوَ
ماريا فالتورتا
L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO
THE GOSPEL AS REVEALED TO ME
بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}
L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ
MARIA VALTORTA
الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.
الجزء الثاني / القسم الأول
30- (يسوع يَجتَرح معجزة النّصل المكسورة عند باب السمك)
31 / 12 / 1944
أرى يسوع يسير وحيداً في طريق ظليلة، وكأنّه في واد صغير رطب مرويّ جيّداً. أقول وادٍ صغير لأنّه محصور بين مُرتَفَعين أرضيّين ويمرّ في وسطه مجرى مائيّ صغير.
المكان قَفر في ساعات الصباح. فالنهار يوشك أن يَبزُغ، يوم جميل ساكن مِن أوائل أيّام الصيف. وما عدا تغريد العصافير على الأشجار -إنّها بالتحديد أشجار زيتون وخاصّة على الهضبة اليساريّة، بينما الأخرى أكثر عرياً، إنّما فيها شجيرات صغيرة: بطم وأكاسيا شوكية وأغاف... الخ- ما عدا هذا التغريد والهديل الحزين لليمامات البريّة التي تبني أعشاشها في فجوات رابية أكثر جَدبَاً، لا يُسمَع شيء. والسيل الصغير ذاته حيث يبدو أنّ المياه القليلة في وسط مجراه لا تُحدِث أيّ صوت، يسير عاكساً في مياهه خُضرَة المحيط مُضفياً عليه لون زمرّد غامق.
يجتاز يسـوع جسـراً بدائيّاً صغيراً: جذعاً قليل التسوية مرميّاً على السيل دون حاجز (درابزين)، دون أيّة وسيلة للحماية، ويُكمِل مسيره على الشاطئ الآخر.
الآن تَظهَر أبواب وجدران، باعة خُضار وأطعمة يتزاحمون على الأبواب التي ما تزال مُغلَقَة للدخول إلى المدينة. الحمير تَنهَق وتتشاجر وأصحابها بالذات لا يمزحون. شتائم وحتّى ضربات تنهال ليس فقط على ظهور الحمير، إنّما كذلك على رؤوس الرجال.
يَبلغ رَجُلان حدّ القتال الخَشِن بالأيدي بسبب حمار أحدهما الذي تطاوَلَ فأكل مِن سلّة الآخر المليئة خَسّاً! قد لا يكون ذلك سوى حجّة لتأجيج نار شِجار قديم. وبالفعل فقد أُخرِجَت مِن تحت الثياب سكينان قصيرتان وعريضتان مثل الكف: يبدو أنّهما خنجران قصيران ولكنّهما قد شُحِذا بشكل جيّد. إنّهما يَلمَعان تحت الشمس. صرخات نساء وجَلَبَة رجال، إنّما لا أحد يتدخّل لإبعاد الرَّجُلَين اللَّذَين يستعدّان لقتال ضار.
يسوع الذي كان يتقدّم متأمّلاً، يرفع رأسه، يرى المشهد، ويَهرَع بِخُطى حثيثة فيما بين الاثنين، ويأمرهما: «توقّفا باسم الله!»
«لا، بل أريد أن أُنهي أمر هذا الكلب الملعون!»
«وأنا كذلك! أَتُمسك بأهدابنا؟ سوف أجعل منكَ أهداباً مع أحشائكَ.» ويدور الاثنان حول يسوع وهما يَدفَعانه ويَشتُمانه لكي لا يعود فيُبعِدهما، مُحاوِلَين الوصول إلى بعضهما دون التمكن مِن ذلك لأنّ يسوع، وبحركات مِن معطفه، يتحاشى الضربات ويَحجُب عنهما الرؤية. وحتّى مِعطَفه قد أضحى ممزقاً، والجمهور يهتف: «تخلّص أيّها الناصري وانسَحِب مِن هناك.» ولكنّه لا يتحرّك، بل يُحاوِل تهدئتهما، مُسَلِّماً الروح لله. عَبَثَاً! فالغضب يُثير جنون الـمُتَقاتِلَين.
يسوع على وشك اجتراح معجزة. يأمرهما للمرّة الأخيرة: «أطلُب منكما التوقّف.»
«لا! ابتعد! اذهب في طريقكَ أيّها الناصريّ الكلب!»
حينئذ يمدّ يسوع يديه بمظهره ذي القُدرة الخارقة. إنّه لا يتفوّه ببنت شفة، لكنّ النَّصلَين يَقَعان على الأرض إرباً محطَّمة مثل شفرات زجاجية اصطَدَمَت بقوة على صخرة صمّاء.
يَنظُر الاثنان إلى القبضتين القصيرتين الباقيتين بين يديهما. وقد امتَصَّت الدهشة الغضب. وتَصرُخ الجُّموع كذلك مندهشة.
ويسألهما يسوع بحزم: «والآن أين قوّتكما؟»
حتّى جنود الحراسة على الباب الذين هَرَعوا عند الصرخات الأخيرة ينظرون بدهشة. وينحني أحدهم ليلملم قِطَع النَّصلين ويُجَرِّبهما على ظفره غير قادر على التصديق أنّها مِن الفولاذ.
ويُكرّر يسوع: «والآن؟ أين قوّتكما؟ علام تَبنون حقّكما؟ على قِطَع المعدن هذه التي لم تَعُد الآن سوى حطام على التراب؟ على قِطَع المعدن هذه التي لم تكن لها مِن قوّة سوى قوّة خطيئة الغضب ضدّ أَخ، وهي تجرّدكم بهذه الخطيئة مِن كلّ بركة مِن الله، وبالنتيجة مِن كلّ قوّة؟ آه! الويل للذين يَرتَكِزون على وسائل بشريّة بُغية الغَلَبَة، ويَجهَلون أنّها ليست السَطوة بل إنّما القداسة هي التي تجعلهم مُنتَصِرين على هذه الأرض وفيما وراءها! إنّ الله مع الأبرار والصِّدِّيقين.
اسمَعوا جميعكم يا أبناء إسرائيل وأنتم كذلك يا جنود روما. كَلِمَة الله يتحدّث إلى كلّ الناس، ولن يكون ابن الإنسان الذي يَحجبها عن الوثنيّين.
إنَّ وصيّة الربّ الثانية هي وصيّة حبّ القريب. فالله صالح ويريد أن يسود الرّفق والعطف بين أبنائه. ومَن ليس لديه رِفق وعطف تجاه قريبه فلن يستطيع اعتبار نفسه ابناً لله، كما لا يمكنه أن يحظى بالله معه. الإنسان ليس حيواناً بلا فِكر، يُهاجِم كما لو كان له حقّ في غنيمة. بل إنّما للإنسان فِكر ونَفْس. بالفِكر ينبغي له أن يُحسِن التصرّف كإنسان. وبالنَّفْس ينبغي له أن يُحسِن التصرّف كقدّيس. ومَن لا يتصرّف هكذا يجعل نفسه في مرتبة أدنى مِن الحيوان، إنّه ينحدر حتّى يُعانِق الشياطين، إذ يسلّمهم نفسه بخطيئة الغضب.
أَحِبّوا. ولستُ أقول لكم غير ذلك. أحِبّوا قريبكم كما يريد إله إسرائيل. لا يكن لكم دم قايين. ولماذا تكونون كذلك؟ أَمِن أجل حفنة مِن الدراهم تتحوّلون إلى قَتَلة؟ وآخرون مِن أجل قطعة أرض أو مِن أجل مكان أفضل أو مِن أجل امرأة. ما تكون كلّ تلك الأشياء؟ أأبديّة هي؟ لا. فهي لا تدوم إلّا أقلّ مِن الحياة التي ليست سوى لحظة مِن الأبديّة. وماذا تفقدون في طَلَبِها؟ السلام الأبديّ الموعود به للأبرار، وحيث سيقودكم المسيح معاً إلى ملكوته. هَلِمّوا إلى طريق الحقّ. اتبَعوا صوت الله. أحِبّوا بعضكم بعضاً. كونوا نزيهين. كونوا عفيفين. كونوا متواضعين وأبراراً. امضوا وتأمّلوا.»
«مَن تكون يا مَن تتفوّه بمثل هذا الكلام ويا مَن إرادته تُحَطِّم السيوف؟ واحد فقط يفعل هذه الأشياء: المسيح. حتّى يوحنّا المعمدان ليس يَفوقه. فهل يمكن أن تكون المسيح؟» يتساءل ثلاثة أو أربعة مِن الموجودين هناك.
«أنا هو.»
«أنتَ؟ هل أنتَ الذي يشفي المرضى ويكرز بالله في الجليل؟»
«أنا هو.»
«لديّ أُمّ عجوز تموت. أنقِذها!»
«وأنا، أترى؟ في طريقي لفقدان كامل قوّتي بالآلام. لديّ أطفال ما زالوا صغاراً جدّاً. اشفِني!»
«أنتَ، عُد إلى بيتكَ، وأُمّكَ هي التي سَتُعدّ لكَ العشاء الليلة. وأنتَ ابرَأ. فلقد شِئتُ!»
يهتف الجمهور ثمّ يتساءلون:«اسمكَ! اسمكَ!»
«يسوع الناصريّ.»
«يسوع! يسوع! أوشعنا! أوشعنا!»
يَبتَهِج الجميع ولم يَعُد أحد يبالي بالحمير تفعل ما تشاء. تتراكض أُمّهات مِن داخل المدينة ممّا يشير إلى أنّ خَبَر المعجزة قد انتَشَر. يرفعن أطفالهن. يباركهم يسوع ويبتسم. يحاول شقّ طريق لنفسه بين الجمهور، دائرة الأشخاص الذين يهلّلون له لِيَدخل المدينة ويَذهَب حيث يشاء. ولكنّ الجُّموع لا يريدون أن يَعلَموا شيئاً بل يهتفون: «امكُث معنا! في اليهوديّة! في اليهوديّة! فنحن كذلك أبناء إبراهيم!»
يُقبِل يهوذا باتّجاهه: «يا معلّم! يا معلّم لقد سَبَقتَني. ولكن ما الذي يجري؟»
«لقد اجتَرَحَ الرابّي معجزة! ليس في الجليل بل هنا، إنّنا نريده أن يمكث معنا.»
«هل ترى ذلك يا معلّم؟ كلّ إسرائيل تحبّكَ ومِن العدل أن تُقيم هنا أيضاً. فلماذا تمضي؟»
«أنا لا أتنصّل يا يهوذا. لقد أتيتُ وحدي مُتعمّداً لكي لا تَصطَدِم خشونة التلاميذ الجليليّين بحساسيّة اليهود. أريد جَمعَ كلّ نعاج إسرائيل تحت صولجان الله.»
«لأجل هذا قلتُ لكَ: "اقبَلني". فأنا يهوديّ وأعرف كيف أتفاهم مع مُواطِنيَّ. هل ستمكث إذاً في أورشليم؟»
«بضعة أيّام. في انتظار تلميذ، هو أيضاً يهوديّ. وسـأمضي بعدئذ عبر اليهوديّة...»
«آه! سآتي معكَ. سأرافقكَ. ستأتي إلى بلدتي. سآخذكَ إلى بيتي. هل ستأتي يا معلّم؟»
«سآتي... وأنتَ، بما أنّك يهودي وتعيش قريباً مِن أصحاب السُّلطة. أفلا تَعرف شيئاً عن أخبار المعمدان؟»
«أعرف أنّه ما يزال في السجن، ولكنّهم يريدون إطلاق سراحه. ذلك أنّ الشعب يهدّد بالثورة إذا لم يَعُد نبيّه. هل تعرف ذلك؟»
«أعرف.»
«هل تحبّه؟ ما رأيكَ فيه؟»
«رأيي أنّه لا يوجد مَن هو أعظم منه ويشبه إيليا.»
«وهل تعتبره حقيقة السابق؟»
«نعم إنّه هو. إنّ نجمة الصُّبح هي التي تُبَشِّر بالشمس. فطوبى للذين قد تهيّأوا لقدوم الشمس عن طريق كرازته.»
«إنّ يوحنّا صارم جدّاً.»
«ليس تجاه الآخرين أكثر منه تجاه نفسه.»
«إنّما مِن الصعب اتِّبــاعه في توبته. بينما أنتَ أكثر طيبة ومِن السـهل أن نحبّكَ.»
«ومع ذلك...»
«ومع ذلك، يا معلّم؟»
«ومع ذلك فكما أبغَضوه لصرامته سيبُغضونني لطيبتي، لأنّ هذه وتلك تُبَشِّر بالله، والأشرار يُبغِضون الله. ولكن كما قد قيل كذلك سيكون: كما هو يسبقني بالكرازة، كذلك سيسبقني بالموت. ومع ذلك فالويل لقَتَلَة التوبة والصلاح.»
«لماذا يا معلّم هذه الهواجس الحزينة؟ الجمهور يحبّكَ وأنتَ ترى ذلك...»
«لأنّ الأمر أكيد. الجمهور مُتواضِع، نعم، فهو يحبّني. ولكنّ الجمهور ليس كلّه مُتواضِعاً. ولا هو يتألّف مِن مُتواضِعِين فقط. وهاجسي ليس حزيناً. إنّها رؤيا المستقبل الساكن والانخراط في إرادة الله الآب الذي أرسَلَني لهذا. ولأجل هذا قد أتيتُ. ها نحن في الهيـكل. أنا ماضٍ إلى بيت مدراش [Beth Midrash] (مكان مخصص للتعليم المقدس) لِأُعَلِّم الجُّموع. ابق أنتَ إذا شئتَ.»
«سأبقى إلى جانبكَ. فليس لي سوى هدف واحد: خدمتكَ وجعلكَ تنتصر.»
يَدخُلان إلى الهيكل.
وينتهي كلّ شيء.