ج10 - ف14
أَنَا هُوَ
ماريا فالتورتا
L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO
THE GOSPEL AS REVEALED TO ME
بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}
L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ
MARIA VALTORTA
الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.
الجزء العاشر
14- (يسوع يَظهَر للرُّسُل ومعهم توما)
09 / 08 / 1944
الرُّسُل متجمّعون في العلّية، حول المائدة حيث أُكِل الفصح، إنّما، بدافع احترام، فإنّ مكان الوسط، مكان يسوع، فقد تُرِك شاغِراً.
الرُّسُل، باعتبار أنّه لم يعد هناك مَن يجمعهم ويوزّعهم وفق مشيئته الخاصّة أو وفق مشيئة مبنيّة على المحبّة، فقد أخذوا مواضعهم بشكل مختلف. بطرس لا يزال في مكانه. ولكن مكان يوحنّا يجلس الآن يوضاس تدّاوس. ثمّ برتلماوس، أكبر الرُّسُل سنّاً. ثمّ يعقوب شقيق يوحنّا، عند زاوية المائدة تقريباً، إلى الجانب الأيمن بالنسبة إليَّ أنا الّتي أنظر. يوحنّا يجلس قرب يعقوب، إنّما عند الجانب الأضيق مِن المائدة. وبعد بطرس، من جهة أخرى، يجلس متّى وبعده توما، ثمّ فيلبّس، ثم أندراوس، ثمّ يعقوب شقيق يوضاس تدّاوس وسمعان الغيور على الجانب الآخر. على الجانب الأطول، قبالة بطرس، فالمكان فارغ نظراً لأنّ الرُّسُل يجلسون على مقاعد مُتقاربة أكثر ممّا كانت عليه وقت الفصح.
النوافذ مُوصَدة والأبواب مقفلة. المصباح، الـمضاء فقط بلسانين، ينشر نوراً ضعيفاً فقط على المائدة، أمّا باقي الغرفة الواسعة فيغرق في الظلام.
يوحنّا، الّذي توجد خلفه خزانة الصحون، تقع على عاتقه مهمّة إعطاء رفاقه ما يرغبون به مِن الطعام البسيط، الـمُكوّن مِن السمك الموضوع على المائدة، الخبز، العسل وأجبان طازجة. وفيما يستدير مجدّداً نحو المائدة، لإعطاء شقيقه الجُبن الّذي طلبه، يوحنّا يرى الربّ.
يسوع ظهر بأسلوب لافت جدّاً. الجدار خلف الجالسين حول الطاولة، الّذي كلّه قطعة واحدة باستثناء زاويته حيث الباب، أضاء في وسطه، على ارتفاع نحو متر مِن الأرض، بضوء ضعيف وفوسفوريّ، كما الّذي يصدر عن بعض المنقوشات الّتي لا تُضيء إلاّ في ظلمة الليل. النور، الّذي طوله حوالي المترين، له شكل بيضاويّ يشبه كوَّة [تجويفاً]. ومِن ذلك النور يبرز بوضوح مُتعاظِم يسوع، كما لو أنّه كان يتقدّم مِن وراء حُجُب ضباب مُنير.
لا أدري إذا كنتُ قد وفّقتُ في الشرح. يبدو أنّ جسده ينساب عبر سماكة الجدار، الّذي لا يُفتح، إنّما يبقى مُتماسِكاً، لكنّ الجسد يَعبُر على حدّ سواء. النور يُظهِر الانبثاق الأوّل لجسده، الإعلان عن دنوِّه. الجسد، في البدء مشكّل مِن خطوط نور خفيفة، كما أرى في السماء الآب والملائكة القدِّيسين: لامادّيّ. ثمّ يتجسّد أكثر فأكثر، متّخذاً هيئة جسم حقيقيّ، هيئة جسده الإلهيّ الممجَّد.
لقد استغرقتُ وقتاً طويلاً في الوصف، لكنّ الأمر حصل في بضع ثوان.
يسوع مكسوٌّ بياضاً، كما حين قام وظهر لأُمّه. فهو شديد الوسامة، وَدود ومبتسم. يقف وذراعاه في محاذاة جسده، ولكن بعيدتان قليلاً عنه، واليدان باتّجاه الأرض، والراحتان مُوَجَّهتان نحو الرُّسُل. جُرحا يديه يبدوان نجمتي ماس يخرج منهما شعاعان حيويّان جدّاً. لا أرى قدميه، الـمُغطّاتين بثوبه، ولا صدره،. لكنّ نسيج ثوبه، غير الأرضيّ، يرشح نوراً مِن حيث يستر الجروح الإلهيّة. في البدء يبدو يسوع بأنّه مجرّد جسد ذي بياض قَمَريّ، ثمّ لاحقاً، وعندما يتجسّد ظاهراً خارج هالة النور، تَظهَر الألوان الطبيعيّة لشعره، عينيه، جلده. خلاصة القول، إنّه يسوع، يسوع-الإنسان-الله، إنَّما يبدو أكثر مهابة الآن وقد قام.
يوحنّا يراه حين يصبح هكذا. ما مِن أحد آخر انتبه للظهور. يوحنّا يَثِب على قدميه، مُسقِطاً على المائدة طبق الأجبان الصغيرة الـمستديرة، ومُسنِداً يديه إلى حافة المائدة، ينحني قليلاً وجانبيّاً نحوها، كما لو كان تحت تأثير مغناطيس يجذبه نحوها، ويُطلِق «آه!» بنبرة خافتة إنّما حادّة.
الآخرون، الّذين رفعوا رؤوسهم عن أطباقهم لدى سقوط طبق الأجبان المدوّي وقفزة يوحنّا الـمُفاجِئة، ونظروا إليه بدهشة وهم يشاهدون حالة النشوة البادية عليه، يتبعون نظره. يُديرون رؤوسهم أو يدورون حول أنفسهم، وفقاً لمكان وجود كلّ منهم بالنسبة للـمعلّم، ويرون يسوع. ينهضون كلّهم، متأثّرين بشدّة ومغتبطين، ويهرعون إليه، ويسوع بدوره يتقدّم نحوهم بابتسامة هي الأكثر سطوعاً، وهو الآن يمشي على الأرض كسائر البشر الفانين.
يسوع، الّذي لم يكن في البدء مُركِّزاً نظره إلاّ على يوحنّا، وأظنّ بأنّ هذا الأخير استدار، وقد جذبته تلك النظرة الّتي كانت تُلاطِفه، ينظر إليهم كلّهم ويقول: «السلام لكم.»
كلّهم الآن حوله، بعضهم راكع عند قدميه، وبينهم بطرس ويوحنّا -وحتّى إنّ يوحنّا يُقبِّل هدباً مِن ثوبه ويضعه على وجهه كما لو أنّه يرغب بملاطفة- والبعض أبعد قليلاً إلى الوراء، واقفين، إنّما منحنين تماماً في وضعيّة إجلال.
بطرس، كي يصل بشكل أسرع، يقفز قفزة حقيقيّة مِن فوق مقعده، متسلّقاً إيّاه، مِن دون انتظار أن يخرج منه متّى أوّلاً ويُفسِح له المجال. يجب تذكّر أنّ كلّ مقعد كان يستخدم مِن قِبَل شخصين معاً.
الوحيد الّذي يلبث بعيداً بعض الشيء، مرتبكاً، هو توما. لقد ركع قرب المائدة، لكنّه لم يجرؤ على التقدّم، ويبدو حتّى أنّه يسعى للاختباء خلف زاوية المائدة.
يسوع، إذ يمدّ يديه ليقبّلوهما -الرُّسُل يسعون إليهما بشغف محبّ ومقدّس- يجول بنظره على الرؤوس الـمنحنية كأنّه كان يبحث عن الحادي عشر. لكنّه رآه منذ اللحظة الأولى، ويتصرّف كذلك لمنح توما بعض الوقت كي يستجمع نفسه ويأتي. وحيث يرى أنّ الشكّاك لا يجرؤ على القيام بذلك، خَجَلاً مِن تشكيكه، يناديه: «توما. تعال إلى هنا.»
توما يرفع رأسه، مرتبكاً، يكاد يبكي، لكنّه لا يجرؤ على المجيء. يخفض رأسه مجدّداً. يسوع يخطو بضع خطوات باتّجاهه ويعاود القول: «تعال إلى هنا، يا توما.»
صوت يسوع أكثر حسماً مِن المرّة الأولى. توما ينهض متردّداً ومرتبكاً، ويمضي باتّجاه يسوع.
«ها هو الّذي لا يؤمن إن لم يَرَ!» يهتف يسوع، إنّما في صوته ابتسامة مغفرة. توما يُدرِك ذلك، يجرؤ على النظر إلى يسوع ويرى أنّه يبتسم حقّاً. حينذاك يتشجّع ويمضي أسرع.
«تعال إلى هنا، بجانبي. أنظر، وإن لم يكفكَ النظر، فضع إصبعكَ في جروح معلّمكَ.» يسوع بسط يديه وفتح ثوبه عند الصدر كاشفاً عن جرح جنبه الكبير.
لم يعد النور ينبثق مِن الجروح الآن. ما عاد ينبثق منذ أن خرج مِن هالة النور القمريّ وشرع يسير مثل إنسان فانٍ، والجروح تظهر على حقيقتها الدمويّة: ثقبان غير منتظمين، حيث الأيسر منهما يخترق الكفّ عند قاعدته ويمتدّ حتّى الإبهام، والآخر يخترق الرسغ، وجرح طويل يشكّل في أعلاه انحناءً بشكل قوس خفيف، عند جنبه.
توما يرتعد، ينظر ولا يجرؤ على اللمس. يحرّك شفتيه لكنّه لا يتمكّن مِن الكلام بوضوح.
«أعطني يدكَ يا توما.» يقول يسوع بعذوبة شديدة. ويأخذ بيده اليمنى يد الرسول اليمنى، ويُمسِك السبّابة ويقودها إلى ثقب يده اليسرى، ويدخلها عميقاً، ليُشعِره بأنّ راحة يده مثقوبة، ومِن ثمّ ينقلها مِن يده إلى جنبه. لا بل الآن يمسك بأصابع توما الأربعة عند قاعدتها، عند المشط، ويضع تلك الأصابع الضخمة الأربعة في شق جنبه، جاعلاً إيّاها تدخل، غير مُكتفٍ بوضعها على حافّة الجرح، ويبقيها هناك مُثبِّتاً نظره على توما.
نظرة صارمة ومع ذلك وديعة، فيما يتابع: «...ضع إصبعكَ هنا، ضع أصابعكَ وكذلك يدكَ، إن شئتَ، في جنبي، ولا تكن غير مؤمن بل مؤمناً.» يقول ذلك فيما كان يفعل ما قُلتُه سابقاً.
توما -يبدو أنّ اقترابه مِن القلب الإلهيّ الّذي كاد يلمسه، قد أمدّه بالشجاعة- يتمكّن أخيراً مِن التكلّم ونطق الكلمات، ويقول، وهو يجثو على ركبتيه وذراعاه مرفوعتان مع دموع توبة غزيرة: «ربّي وإلهي!» لا يتمكّن مِن قول شيء آخر.
يسوع يغفر له. يضع يده اليمنى على رأسه ويجيب: «توما، توما! الآن تؤمِن لأنّكَ رأيتَ... إنّما طوبى للّذين سيؤمنون بي دون أن يروا! أيّة مكافأة عليَّ منحهم إيّاها، إن كان عليَّ أن أكافئكم، أنتم الّذين أُسعِف إيمانكم بقوّة الرؤيا؟»
ثمّ يمرّر يسوع ذراعه على كتف يوحنّا، ممسكاً بطرس مِن يده، ويدنو مِن المائدة. يجلس في مكانه. الآن هم جالسون كما كانوا في مساء الفصح. إلاّ أنّ يسوع يريد أن يُجلِس توما بعد يوحنّا.
«كُلوا يا أصدقائي.» يقول يسوع.
إنّما ما عاد أحد يشعر بالجوع. الفرح يُشبِعهم، فرح التأمُّل.
عندها يجمع يسوع قطع الأجبان المتناثرة فوق المائدة، يعاود وضعها في الطبق، يُقطّعها، يوزّعها، ويعطي القطعة الأولى بالضبط لتوما، واضعاً إيّاها في قطعة خبز، وممرّراً إيّاها مِن وراء يوحنّا؛ يسكب النبيذ مِن القارورة في الكأس ويمرّرها لأصدقائه: هذه المرّة بطرس مَن يُخدَم أوّلاً. ثمّ يقدّم بعض قطع مِن العسل، يكسرها ويعطي أوّل قطعة ليوحنّا، مع ابتسامة أعذب مِن العسل الذهبي السائل. ولتشجيعهم، يأكل هو أيضاً بعضاً مِن ذلك العسل. لا يذوق إلاّ العسل.
يوحنّا، بحركته الـمعتادة، يسند رأسه إلى كتف يسوع، ويسوع يضمّه إلى قلبه ويتكلّم وهو يضمّه هكذا.
«ينبغي ألاّ تضطربوا يا أصدقائي، حين أظهر لكم. إنّني دوماً معلّمكم، الّذي تقاسم معكم الطعام والنوم، والّذي اختاركم لأنّه أحبَّكم. والآن أيضاً أحبّكم.» يسوع يشدّد على الكلمات الأخيرة تلك.
«أنتم.» يُتابع: «كنتم معي في المحن... سوف تكونون معي أيضاً في المجد. لا تُنَكِّسوا رؤوسكم. مساء الأحد، حين جئتُ إليكم للمرّة الأولى بعد قيامتي، بثثتُ فيكم الروح القدس... وليحلّ الروح أيضاً عليكَ أنتَ الّذي لم تكن حاضراً... ألا تعلمون أنّ بثّ الروح هو بمثابة معموديّة مِن نار، لأنّ الروح محبّة، والمحبّة تُلغي الآثام؟ بذلك غفرتُ لكم خطيئة هروبكم فيما كنتُ أُنازِع.»
وأثناء قوله ذلك يقبّل يسوع رأس يوحنّا الّذي لم يهرب، ويوحنّا يبكي فرحاً.
«لقد منحتُكم سلطان مغفرة الخطايا. لكن لا أحد يستطيع أن يُعطي ما لا يملك. لذلك ينبغي عليكم أن تكونوا متأكّدين بأنّني أملك هذا السلطان بشكل مُطلَق، وأستخدمه لأجلكم أنتم، الّذين يجب أن تكونوا أطهاراً لأقصى الحدود لتُطهّروا الّذين سيأتون إليكم، مُدَنَّسين بالخطيئة. كيف يستطيع أحد أن يدين ويُطهّر، إذا كان مستحقّاً للإدانة، وإذا كان شخصيّاً دَنِساً؟ كيف يستطيع أحد أن يدين آخَر إذا كانت لديه خشبة في عينيه وأثقال جهنّمية في قلبه؟ كيف يستطيع أن يقول: "أحلّكَ باسم الله"، إذا، بسبب خطاياه، لم يكن الله معه؟
أصدقائي، راعوا كرامتكم الكهنوتيّة. قبلاً كنتُ بين البشر لأدين وأغفر. الآن أمضي إلى الآب. أعود إلى ملكوتي. حقّ الإدانة لم يُنتَزَع منّي. لا بل إنّه بأكمله بين يديّ، لأنّ الآب عهد به إليَّ. إنّما هي إدانة رهيبة، لأنّها ستُطبَّق حين لن يعود ممكناً للإنسان أن ينال المغفرة بعد أعوامٍ مِن التكفير على الأرض. كلّ مخلوق سيأتي إليَّ بروحه حين سيترك جسده جثّة عديمة الجدوى، بسبب الموت المادّيّ. وسوف أدينه للمرّة الأولى. ثمّ ستعود البشريّة ثانية مرتدية ثوبها الجسديّ، الـمُستعاد بأمر سماويّ، لتفترق إلى قسمين: الحِملان مع الراعي، الكِباش الـمتوحّشة [البرّية] مع مُعذِّبِها. إنّما كم مِن البشر سيكونون هناك مع راعيهم إن لم يكن هناك مَن يغفر لهم باسمي بعد غسل المعموديّة؟ لهذا أنشأتُ الكَهَنَة. لأُخلّص الّذين خلصوا بدمي. دمي يُخلّص، لكنّ البشر يستمرّون بالسقوط في الموت. يعاودون السقوط في الموت. فينبغي أن يُغسَلوا باستمرار [بدمي] من قبل مَن مُنِح السلطة على فِعل ذلك، سبعين وسبعين مرّة سبع مرّات، لئلاّ يكونوا فريسة للموت. أنتم وخلفاؤكم سوف تفعلون ذلك. لأجل ذلك، أحلّكم مِن كلّ خطاياكم. لأنّكم بحاجة إلى أن تروا، والخطيئة تعمي لأنّها تُجرِّد الروح مِن النور الّذي هو الله. لأنّكم بحاجة إلى أن تفهموا والخطيئة تُبلِّد لأنّها تُجرِّد الروح مِن الذكاء الّذي هو الله. لأنّ على عاتقكم تقع رسالة التطهير، والخطيئة تُدنِّس لأنّها تُجرِّد الروح مِن الطهارة الّتي هي الله.
عظيمة هي رسالتكم في الإدانة والمغفرة باسمي! عندما ستُقدِّسون لأجلكم الخبز والخمر لتجعلوا منهما جسدي ودمي، ستقومون بأمر عظيم، عظيم وسامٍ على نحو فائق للطبيعة. ولإتمام ذلك باستحقاق يجب أن تكونوا طاهرين، بما أنّكم ستلمسون الطاهر، وسوف تتغذّون بجسد إله. عليكم أن تكونوا طاهرين في قلوبكم، عقولكم، أعضائكم وألسنتكم، لأنّ عليكم أن تُحبّوا الإفخارستيا بقلوبكم، ويجب ألاّ تمتزج هذه المحبّة السماويّة مع أيّة محبّة دنيويّة فتصبح تدنيساً للقدسيّات. عليكم أن تكونوا أطهاراً في عقولكم، لأنّ عليكم أن تؤمنوا وتفهموا سرّ المحبّة هذا، فنجاسة الفِكر تقتل الإيمان والفكر. يبقى علم العالَم، إنّما ستموت فيكم حكمة الله. عليكم أن تكونوا أطهاراً في أعضائكم، لأنّ "الكلمة" سيحلّ في أحشائكم كما حلّ في أحشاء مريم بفضل المحبّة.
لديكم المثال الحيّ لما يجب أن تكون عليه الأحشاء الّتي تستضيف الكلمة الـمتجسّد. الـمَثَل هو المرأة، البريئة مِن الخطيئة الأصليّة والخطيئة الشخصيّة، الّتي حَمَلَتني. لاحظوا كم هي طاهرة قمّة حرمون الّتي لا تزال مكسوّةً بحجاب ثلج الشتاء. إنّها تبدو مِن بستان الزيتون ككومة مِن الزنابق الّتي عُرّيت مِن أوراق تويجاتها، أو كزبد البحر الّذي يرتفع كما تقدمة مقابل بياض الغيوم الآخر، الّذي تحمله رياح نيسان [أبريل] عبر حقول السماء الزرقاء. لاحظوا زنبقة بدأت للتوّ تفتح فم تويجاتها لابتسامة عَطِرة. ومع ذلك فإنّ كلتا الطهارتين أقلّ سطوعاً مِن طهارة الأحشاء الّتي حملتني. إنّ الغبار الّذي تحمله الرياح والذي يسقط على ثلوج الجبال وعلى حرير الزهرة، العين البشريّة لا تلمحه مِن فرط ما هو خفيف، إلاّ أنّه هناك، ويُفسِد البياض. وأكثر بعد: انظروا إلى اللؤلؤة الأنقى الّتي انتُشِلت مِن البحر، مِن المحارة الّتي وُلِدت فيها، لتزيين صولجان مَلِك. إنّها مِثاليّة في تلوّنها القزحيّ المكثّف، جاهلة كلّ اتّصال جسديّ دَنِس، وقد تكوّنت كما هي في تجويف المحارة الصدفيّ، منعزلة في سائل الأعماق البحريّة اللازورديّ. ومع ذلك فهي أدنى طهارةً مِن الأحشاء الّتي حَمَلَتني. ففي وسطها حبّة رمل صغيرة: جُسيم بغاية الصغر، إنّما تظلّ مِن الأرض. أمّا في مَن هي لؤلؤة البحر فلا توجد حبّة خطيئة، ولا حتّى مَيل إلى الخطيئة. فهي لؤلؤة وُلِدَت في محيط الثالوث لتمنح الأقنوم الثاني للأرض. إنّها متماسكة حول منشئها، الّذي هو ليس بِذار شهوة أرضيّة، بل شرارة محبّة أبديّة. شرارة، إذ وجدت فيها توافقاً، وَلَدَت زوابع الشهاب الإلهيّ، الّذي ينادي الآن ويجذب إليه أبناء الله: أنا، المسيح ، نجمة الصبح. أعطيكم هذه الطهارة غير الـمُنتَهَكة كمثال.
إنّما حين تغمسون بعد ذلك أيديكم في بحر دمي، كما يفعل قاطِفي العنب في الدنّ، وتغرفون منه ما يُطهِّر الأردية الـمُلَوَّثة للبؤساء الّذين خطئوا، فعدا عن كونكم طاهرين، كونوا كاملين، لئلاّ تتلطّخوا بخطيئة أعظم، وحتّى بخطايا كثيرة، بإراقة أو بلمس دم الله بطريقة مُدنِّسة بالافتقار للمحبّة والعدل، رافضين منحه أو مانحين إيّاه بمعايير قاسية ليست مِن المسيح، الّذي كان طيّباً مع الأشرار لجذبهم إلى قلبه، وأكثر طِيباً بثلاثة أضعاف مع الضعفاء لتشجيعهم على الرجاء، مستخدمين هذه القسوة بشكل غير مستحقّ ثلاثة أضعاف، معارضين مشيئتي، عقيدتي والعدل. وكيف يمكن لأحدهم أن يكون صارماً مع الحِملان عندما يكون راعياً مثالياً؟
أيا مختاريّ، يا أصدقائي الّذين سأرسلهم عبر دروب العالم ليتابعوا العمل الّذي بدأتُ، والّذي سيتابَع حتّى نهاية الأزمنة، تذكّروا كلامي. أقوله لكم لتقولوه للّذين سوف تُكرِّسونهم للرسالة الّتي كَرَّستُكم لها.
إنّني أرى... إنّني أنظر عبر العصور... الأزمنة والحشود اللامتناهية مِن البشر الّذين سيوجدون، كلّهم أمامي... وأرى... المجازر والحروب، السلام الزائف والمذابح المهولة، الكراهية والسرقات، الشهوانيّة والكبرياء. بين فينة وأخرى واحة مُخضَرَّة: فترة عودة إلى الصّليب. ومثل مِسَلَّة تشير إلى ماء نقيّ وسط رمال الصحراء القاحلة، سوف يُرفَع صليبي بمحبّة، بعد أن يكون سمّ الشرّ قد جعل البشر مسعورين، وحول صليبي سوف تُزهِر أشجار نخيل مزروعة عند ضفاف المياه الشافية لفترة مِن السلام والخير في العالم. إنّ الأرواح، مثل أيائل وغزلان، مثل سنونوات وحمائِم، سوف تهرع إلى ذلك الملاذ الـمريح، الـمُنعِش، الـمغذّي، لتبرأ مِن آلامها وترجو مجدّداً. وسوف يضمّ أغصانه معاً مثل قُبَّةٍ ليحميها مِن العواصف وموجات الحرّ الشديد، وليُبعِد عنها الأفاعي والحيوانات المتوحّشة بالعلامة الّتي تجعل الشرّ يفرّ. وسيكون الأمر هكذا طالما البشر يريدون ذلك.
إنّني أرى... حشوداً من الرجال... نساءً، شيوخاً، أولاداً، مُحارِبين، طُلاَّباً، عُلماء، فلاّحين... كلّهم يأتون ويعبرون مع حِمل آمالهم وآلامهم. وأرى منهم كثيرين يترنّحون، لأنّ ألمهم عظيم، وآمالهم انزلقت أوّلاً مِن حملهم، مِن حملهم الثقيل للغاية، وتفتّتت على الأرض... وأرى كثيرين يَسقطون عند حافّة الدرب لأنّهم يُدفَعون مِن قِبَل أشخاص آخرين، أقوى أو أوفر حظاً لخفّة حِملهم. وأرى كثيرين، إذ يشعرون بأنّهم مُهمَلون مِن قِبَل أولئك الّذين يَعبرون، وحتّى مُداسون، إذ يشعرون باقتراب نهايتهم، ينتهون إلى الكراهية واللعنات.
يا للأبناء المساكين! وسط كلّ هؤلاء، الّذين ضربتهم الحياة، الّذين يعبرون أو يسقطون، محبّتي قد نَشَرَتْ، عن عمد: السامريّين المفعمين رحمة، الأطبّاء الطيّبين، الأنوار في العتمة، الأصوات في السكون، ليجد الضعفاء الّذين يسقطون مساعدة، يعاودون رؤية النور، يسمعون مجدّداً الصوت الّذي يقول: "أُرجُ. أنتَ لستَ وحيداً. الله فوقكَ. يسوع معكَ". لقد وَضَعتُ، قاصداً، هذه المحبّات الفاعلة، لئلاّ يموت أبنائي المساكين في أرواحهم فاقدين المسكن الأبويّ، ويستمرّون بالإيمان بي أنا-المحبّة، واجدين انعكاسي في رُسُلي.
إنّما، يا للألم الّذي جعل جرح قلبي ينـزف كما حين فُتِح على الجلجلة! إنّما ماذا ترى عيناي الإلهيّتان؟ ألا يوجد ربّما كَهَنَة بين الحشود اللانهائيّة الّتي تَعبُر؟ ألذلك ينـزف قلبي؟ هل الإكليريكيّات فارغة؟ أما عادت دعوتي الـمقدّسة، إذن، تلقى صدىً في القلوب؟ أما عاد قلب الإنسان قادراً على سماعها؟ لا. عبر العصور، ستكون إكليريكيّات، وفيها لاويّون. منهم سوف يخرج كَهَنَة، ذلك أنّ في زمن المراهقة سوف يكون ندائي قد تردّد بصوت سماويّ في قلوب كثيرة، فتتبعه. إنّما أصوات أخرى، أصوات أخرى، أصوات أخرى ستأتي لاحقاً مع الشباب والنضج، ويكون صوتي قد هيمن على تلك القلوب. صوتي الّذي يتكلّم عبر الأزمنة مع رُسُله، ليكونوا كما أنتم عليه الآن: الرُّسُل في مدرسة المسيح. لقد بقي الثوب، لكنّ الكاهن مات. هذا سوف يحدث لكثيرين عبر العصور. سيكونون ظلالاً عديمة الجدوى وقاتمة، لن يكونوا رافعة تَرفَع، حبلاً يشدّ، نبعاً يروي، حبّة تُشبِع، قلباً كالوِسادة، نوراً في الظلمات، صوتاً يردّد ما يقوله له المعلّم. لكنّهم سيكونون بالنسبة للبشريّة البائِسة حِملَ عثار، ثِقل موت، طفيليّات، نتانة... هول! مرة أخرى ودائماً سوف يكون لي أعظم أمثال يهوذا في المستقبل بين كَهَنَتي!
أيّها الأصدقاء، أنا في المجد ومع ذلك أبكي. إنّني أُشفِق على تلك الحشود الّتي لا تُحصى، قطعان بلا رعاة أو مع رعاة نادرين. شفقة لامتناهية! والحال هذه، أُقسِم بألوهيّتي: سوف أعطيها الخبز، الماء، النور، الصوت الّذي لا يريد أولئك الّذين اختيروا لهذا العمل أن يعطوه. سوف أكرّر عبر الأزمنة معجزة الأرغفة والأسماك. مع بعض الأسماك الصغيرة، ومع بعض كِسَر خبز: نفوس متواضعة وعلمانيّة، سوف أُطعِم عدداً كبيراً، وسوف يشبعون، وسيبقى لمن سيأتون لاحقاً، لأنّني "أُشفِق على هذا الشعب" ولا أريده أن يهلك.
طوبى للذين سوف يستحقون أن يكونوا كذلك. ليسوا مُبارَكين لأنّهم كذلك، بل لأنّهم سيكونون قد استحقوا ذلك بمحبّتهم وتضحياتهم! ومباركين بالتمام سيكونون أولئك الكَهَنَة الّذين سيُحسِنون البقاء رُسُلاً: خبزاً، ماءً، نوراً، صوتاً، راحة ودواءً لأبنائي المساكين. سوف يلمعون في السماء بنور خاص. أُقسِم لكم بذلك، أنا الّذي هو الحقّ.
لننهض، يا أصدقاء، وتعالوا معي لأُعلِّمكم ثانية أن تُصَلّوا. المناجاة هي ما يغذّي قوى الرسول، لأنّها تذيبه في الله."
وهنا يسوع ينهض ويمضي نحو الدرج الصغير.
إنّما حين يغدو في الأسفل، يستدير وينظر إليّ [ماريا فالتورتا]. آه! أيّها الأب [الكاهن ميغليوريني]! إنّه ينظر إليّ! إنّه يفكّر بي! إنّه يفتّش عن "صوته" الصغير، وفرح وجوده مع أصدقائه لا يجعله ينساني! إنّه ينظر إليّ، مِن فوق رؤوس التلاميذ، ويبتسم لي. يرفع يده ليباركني ويقول: «ليكن السلام معكِ.»
وتنتهي الرؤيا.