ج5 - ف42

أَنَا هُوَ

ماريا فالتورتا

L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO

THE GOSPEL AS REVEALED TO ME

بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}

L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ

MARIA VALTORTA

الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.

 

الجزء الخامس/ القسم الثاني

 

42- (التّكثير الثاني للخبز)

 

28 / 05 / 1944

 

يقول يسوع:

 

«ماريّا، قولي: "ها أنا ذا"، كما النجوم التي تتحدّث عنها النبوءة، وهلمّي واسمعيني وأنتِ مُفعَمة فَرَحاً.

 

إنّها عشيّة العنصرة. لم تنـزل الحكمة مرّة واحدة مع نارها. إنّها تهبط على الدوام لتمنحكم أنوارها. يكفي أن تحبّوها وتبحثوا عنها ككنـز ثمين جدّاً. لقد بادَ العالم لأنّه سَخِر مِن الحكمة ورفضها سالكاً خارج طُرُقها. لقد تراكَمَ عِلم كثير في ذِهن الإنسان، ولكنّه ما يزال أكثر جهلاً ممّا كان عليه في حالته البدائيّة. حينذاك كان يبحث عن درب الربّ، وكانت نفسه تهفو لِتَقبُّل الكلام. الآن هو يبحث عن كلّ شيء، ماعدا الذي كان لزاماً عليه البحث عنه، وهو يملأ كيانه بكلّ الكلام الأكثر تفاهة وخطراً، إلاّ ما هو حياته.

 

"الربّ" يقول باروك "لم يختر العمالقة ليُطلعهم على كلام الحكمة". لا. الربّ لا يختار العمالقة. لا يختارهم. لا يختارهم. علمانيّين كنتم أم مُكرَّسين، يا مَن أنتم مُعجَبون بأنفسكم كثيراً لامتلائكم بالكبرياء، ولكنّكم في نظري أنتم أقلّ مِن صَراصير مُصرصرة. الربّ لا يَنظُر إلى شهاداتكم ومسؤوليّاتكم، ولا الثياب التي ترتدون والاسم الذي تحملون. كلّ ذلك لا يعدو كونه بَهارِج على ما يَنظُر إليه الله لقياس القيمة: الروح. وإذا لم يكن روحكم مضطرماً بالمحبّة، سخيّاً بالتضحية، متواضعاً، عفيفاً، فلا، لا يختاركم الربّ كمفضَّلين لديه، أُمناء على غِنى حكمته.

 

لستم أنتم مَن يستطيعون القول لي: "أريد أن أكون الذي يَعرِف". بل أنا مَن يمكنه القول: "أريد أنّ هذا يعرف". يمكن أن أتحلّى تجاهكم بالرحمة، ويكون هذا أيضاً، لأنّكم تعساء، مصابون بأنواع الجّذام الأكثر بشاعة. أمّا أن أختاركم كمفضَّلين لديَّ، فلا، أنتم لا تستحقّون ذلك.

 

اعرفوا كيف تكسبون هذا الاستحقاق بحياة استقامة في كلّ شيء. إذا حافظتم على الإيمان بموجباتكم الأكثر ثِقلاً، وبقي التقصير في الأمور الأقلّ ظهوراً إنّما الأكثر عمقاً، فلا تعودون مستقيمين. لا تكونون كذلك. وهذه الضغينة التي لديكم لا تعدو كونها دافعاً بشريّاً، في لبوس النخوة الخدّاعة. النيّة ليست مستقيمة ولا قيمة لها.

 

وأنتِ، تعالي حاوِري معلّمكِ. تعالي لأنتزعكِ مِن قبر الألم، ولا أُثقِل عليكِ برؤيا عَظَمَة مروِّعة رأيتِها سابقاً. مِن قيامة الموتى احتفظي فقط بالجانب الروحيّ الـمُطبَّق على المهابة الراهنة. إنّه روح الله المبثوث فيكِ هو الذي يمنحكِ الحياة. فأحبّيه، ابتهلي إليه، وكوني أمينة له. وستكون لكِ الحياة والسلام. الأُولى ما بعد الأرض، الثانية منذ هذه الأرض.»

 

***

 

أرى موضعاً هو بالتأكيد ليس سهلاً. ولا هو جَبَل كذلك. هناك جِبال في الشرق، ولكنّها بعيدة قليلاً. ثمّ هناك وادٍ ومرتفعات أخفَض ومنبسطة؛ هضاب مُعشَوشِبة. يبدو أنّها أولى مرتفعات مجموعة تلال. الأرض جرداء هي، بالحريّ، وبغير شجر. ونادراً ما يُرى عشب قصير، متناثر على أرض حَصويّة. ونادراً ما يُرى هنا وهناك طاقات مِن الأدغال الشوكيّة. مِن جهة الغرب، يتّسع الأفق ليُصبح رحباً ومُنيراً. لا أرى مِن الطبيعة أيّ شيء آخر. ما يزال النهار، ولكنّني أقول إنّ المساء وشيك، ذلك أنّ الغرب أحمر بسبب الغسق، بينما الجبال، جهة الشرق، أَصبَحَت بنفسجيّة بفعل نور الغسق. بداية غسق يجعل الصدوع العميقة أكثر قتامة، والأجزاء الأكثر ارتفاعاً بنفسجيّة تقريباً.

 

يقف يسوع على صخرة ضخمة، ويتحدّث إلى جمع غفير مُنتَشِر على الهضبة. يحيط به التلاميذ. وهو ما يزال مُرتَفِعاً أكثر على القاعدة الريفيّة، مُشرِفاً على جمع مِن جميع الأعمار والظروف يحيط به.

 

المفروض أنّه قد انتهى مِن اجتراح المعجزات، ذلك أنّني أَسمَعه يقول: «ليس لي، بل لِمَن أَرسَلَني عليكم تقديم التسبيح والعرفان. والتسبيح ليس هو الذي يَخرُج كالنَفَس مِن شِفاه غافلة. ولكنّه الذي يصعد مِن القلب، وهو إحساس قلبكم الحقيقيّ. فهذا ما يُرضي الله. والذين بَرِئوا فليحبّوا الربّ حبّ وفاء، وليحبّه كذلك ذَوو الذين بَرِئوا. ولا تسيئوا استخدام الصحّة التي استعدتموها. ولِتَهابوا مِن أمراض القلب أكثر مِن أمراض الجسد. ولا تكن لكم إرادة الخطيئة، ذلك أنّ كلّ خطيئة هي علّة. ومنها ما يسبّب الموت. إذن، فالآن جميعكم، يا مَن تَسعدون الآن، لا تدمّروا بالخطيئة بَرَكة الله. فرحكم يذوي لأنّ الأفعال القبيحة تنـزع السلام، وحيث لا سلام، لا فرح. ولكن كونوا قدّيسين، كونوا كاملين كما يريد أبوكم السماويّ. وهو يريد ذلك لأنّه يحبّكم، هو يريد أن يمنح الملكوت. إنّما ملكوته المقدّس لا يدخله إلاّ الذين جعلهم وفاؤهم للشريعة كاملين. سلام الله معكم.»

 

يَصمت يسوع. يُصالب ذراعيه على صدره، ويُراقِب الجمع المحيط به وهو على هذه الحال. ثمّ يتلفّت حوله. يرفع بَصَرَه صوب السماء الصافية التي تزداد عتمتها كلّما تضاءَلَ النور. يُفكِّر. ينـزل عن صخرته. يتحدّث إلى التلاميذ: «إنّني أُشفق على هؤلاء الناس. فهم يتبعونني منذ ثلاثة أيّام. لم تَعُد لديهم مؤونة. ونحن بعيدون عن أيّة قرية. أخشى على  الأضعف منهم أن يُعانوا كثيراً، إذا ما صَرَفتُهم أنا دون أن أطعمهم.»

 

«وكيف العمل يا معلّم؟ وأنتَ تقول: نحن بعيدون عن كلّ ضيعة. في هذا الموضع القفر، أين نجد الخبز؟ ومَن يعطينا مِن المال ما يكفي لابتياعه لكلّ هؤلاء الناس؟»

 

«أليس معكم شيء؟»

 

«لدينا بعض السمك وبعض قطع الخبز بقايا زادنا. ولكن هذا لا يكفي أحداً. وإذا ما أعطيتَه للأقرب إليكَ، سيُسبِّب صَخَباً. تَحرمنا منه ولا تفيد أحداً.» هو بطرس الذي يتكلّم.

 

«هاتوا إليَّ ما في حوزتكم.»

 

يَأتونه بِسَلّة صغيرة فيها سبع قطع مِن الخبز. هي ليست حتّى أرغفة كاملة. يبدو أنّها قطع كبيرة مُقتَطَعة مِن أرغفة كبيرة. بعد ذلك السمكات الصغيرة، حفنة مِن الدويبات المشويّة.

 

«أَجلِسوا الجمع مجموعات مِن خَمسين، وليحافظوا على الهدوء والصمت، إذا أرادوا أن يأكلوا.»

 

التلاميذ، وقد صَعَدَ البعض على صخور، والبعض الآخر يتجوّل بين الناس، يَجِدون صعوبة في فرض النظام الذي طَلَبَه يسوع. وبالإصرار ينجحون. طفل هنا يبكي لأنّه جائع ونعسان، وطفل هناك لأنّ أُمّه أو أحداً مِن أهله قد صَفَعَه كي يجعله يطيع.

 

يأخذ يسوع الخبز، ليس الكلّ بالطبع، بل يأخذ قطعتين، واحدة في كلّ يد، يُقدِّمهما، ثم يَضَعهُما مِن يده ويُبارِك. يأخذ الأسماك الصغيرة. وكانت قليلة لدرجة أنّه أخذها كلّها في راحة يديه الطويلتين. يقدّمها ثمّ يضعها ويباركها أيضاً.

 

«والآن خُذوا، دُوروا على الجمع وأعطوا كلاًّ كفايته

 

يطيع التلاميذ.

 

يسوع، واقف، قَوام أبيض يهيمن على كلّ هذا الشعب الجالس في مجموعات كبيرة تغطّي الهضبة كلّها، يُراقِب ويبتسم.

 

ويذهب التلاميذ كلّ مرة إلى مسافة أبعد. ويُعطون ويُعطون أيضاً. وما تزال السلّة مليئة طعاماً. يأكل الناس، بينما يهبط المساء، ويسود صمت وسلام عظيمان.