ج4 - ف123

أَنَا هُوَ

ماريا فالتورتا

L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO

THE GOSPEL AS REVEALED TO ME

بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}

L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ

MARIA VALTORTA

الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.

 

الجزء الرابع / القسم الأول

 

123- (بطرس يَكْرِز في مرج بن عامر: "الحب هو السلام")

 

22 / 08 / 1945

 

«ماذا تفعلون أيّها الأصدقاء قرب هذه النار؟» يَسأَل يسوع حين يرى تلاميذه حول نار متأجّجة تتألّق في عتمات الليل الأولى عند مفترق طرق في مرج بن عامر.

 

يَنتَفِض الرُّسُل لأنّهم لَم يَروه مُقبِلاً، ونَسوا النار ليحيّوا المعلّم. تَحسَب دَهراً قد مَرَّ عليهم دون رؤيته. ثمّ يَشرحون: «لقد سوّينا خلافاً بين أَخَوَين مِن يزرعيل، وقد كانا جدّ مسرورين حتّى إنّ كلّاً منهما أراد إعطاءنا حَمَلاً. وفكّرنا بشيّهما لإعطائهما لِعُمّال دوراس. لقد ذَبَحهَما ميخا الذي لجيوقانا وجهَّزَهما وسنضعهما الآن على النار. أُمّكَ مع مريم وسُوسَنّة ذهبن لإخطار الذين لدوراس أن يأتوا في نهاية السهرة، عندما يُقفِل القيّم على نفسه في بيته ليَشرَب. فالنساء أقلّ لفتاً للانتباه... أمّا نحن فقد عَمِلنا على مراقبتهنّ يَجتَزن الحقول كالمسافرات. ولكنّنا عَمِلنا القليل. كنّا قد قرّرنا الاجتماع الليلة، هنا، وأن نقول شيئاً أيضاً مِن أجل النَّفْس، ولكي يُحِسّوا بتحسّن في أجسادهم كذلك، كما فعلتَ أنتَ في المرّات الأخرى. إنّما الآن فأنتَ هنا، وسيكون الأمر أجمل.»

 

«مَن كان سيتكلّم؟»

 

«ولكن!... تقريباً كلّنـا... هكذا، دون كلفة. لا يمكننا أكثر، ذلك أنّ يوحنّا والغيور وأخاكَ لا يريدون الحديث، ولا حتّى يهوذا بن سمعان، وكذلك برتلماوس يُحاول ألّا يتكلّم... حتّى إنّنا تشاجرنا مِن أجل ذلك...» يقول بطرس.

 

«ولماذا لا يريد هؤلاء الخمسة أن يتحدّثوا؟»

 

«يوحنّا وسمعان، لأنّهما يقولان إنّه لا يَصحّ أن يكونا هُما على الدوام... أمّا أخوكَ فلأنّه يريدني أن أتكلّم أنا، قائلاً إنّني إذا لم أبدأ فأبداً... أمّا برتلماوس فلأنّه... لأنّه يخاف أن يتكلّم كثيراً كمعلّم وألّا يَعرف الإقناع. تَرى إنّها حجج وأعذار...»

 

«وأنتَ يا يهوذا بن سمعان، لماذا لا تريد الكلام؟»

 

«للأسباب ذاتها التي للآخرين! لها جميعها، لأنّها كلّها صحيحة...»

 

«أسباب كثيرة. وهناك سبب لم يذكره أحد. والآن أنا الذي أَحكُم وحُكمي قطعيّ. أنتَ، يا سمعان بن يونا سوف تتحدّث كما قال تدّاوس، وقد قالها بحكمة. وأنتَ، يا يهوذا بن سمعان سوف تتحدّث كذلك. وبذلك، أحد تلك الأسباب العديدة، وهو السبب الذي يَعلمه الله وأنتَ كذلك، لا يعود له وجود.»

 

«يا معلّم، ثِق أنّه لا يوجد سبب آخر...» يُحاول يهوذا أن يُجيب.

 

ولكنّ بطرس يقطع له الحديث قائلاً: «آه! سيّدي! أأنا أتكلّم بحضوركَ؟ لن أنجح! أخشى أن أجعلكَ تضحكَ...»

 

«لا تريد أن تكون وحدكَ، ولا تريد أن تكون معي... ماذا تريد إذن؟»

 

«إنّكَ لَعَلى حقّ. ولكن... ماذا عليَّ أن أقول؟»

 

«انظر إلى أخيكَ، الـمُقبِل مع الحَمَلين. ساعده، وأثناء الطهي، فَكِّر في ذلك. فكلّ شيء يفيد في إيجاد المواضيع.»

 

«حتّى الحَمَل الذي على النار؟» يَسأَل بطرس متشكّكاً.

 

«نعم. أطِع.»

 

ويُطلِق بطرس زفرة تبعث على الشَّفقة، ولكنّه لا يعود يُجيب. يمضي لملاقاة أندراوس ويساعده في تسفيد الدابتين في عصاً مُروَّسة جُعِلَت كَسيخ شَكّ، وجَعَلَ يُراقِب الطهو وقد بدا على وجهه تركيز جَعَلَه يبدو كحاكم في لحظة النُّطق بالحكم.

 

«هيّا بنا لملاقاة النساء، يا يهوذا بن سمعان.» يأمُر يسوع وينطلق صوب حقول دوراس المقفِرة.

 

«التلميذ الصالح لا يَحتَقِر ما لا يَحتَقِره المعلّم، يا يهوذا.» يقولها بعد برهة ودون مقدّمات.

 

«يا معلّم، لا احتقار لديَّ. ولكنّني مِثل برتلماوس، أُحِسُّ أنّ لا أحد يفهمني، وأُفضِّل الصمت.»

 

«نثنائيل يفعل ذلك لخشيته مِن عدم إرضاء رغبتي، أي إنارة القلوب وتعزيتها. يُسيء التصرّف، هو كذلك، بافتقاره إلى الثقة بالربّ. ولكنّك أكثر إساءة بالتصرّف، ذلك أنّ دافعكَ في ذلك ليس الخوف مِن عدم التمكّن مِن فهمكَ، إنّما الاستخفاف بِجَعل فلّاحين، مساكين جاهلين في كلّ شيء ما عدا موضوع الفضيلة، يفهمونكَ. فَهُم، في هذا الموضوع، يتجاوزون الكثيرين منكم. لَم تَفهم شيئاً بعد، يا يهوذا. الإنجيل هو بالضبط البُشرى الحَسَنة المحمـولة إلى المساكين والمرضى والعبيد والحَزانى، وبعد ذلك تكون للآخرين، ولكنّها بالتحديد مِن أجل أن يَحصَل ذَوي البؤس على العَون والسلوى والمؤاساة الممنوحة منها.»

 

يخفض يهوذا رأسه ولا يجيب.

 

وتَنفذ مِن غابة صغيرة مريم ومريم التي لحلفى وسُوسَنّة.

 

«أُحيّيكِ يا أُمّي، السلام لكنّ أيّتها النساء!»

 

«وَلَدي! كنتُ قد ذهبتُ إلى أولئك الناس... المعذَّبين. ولكنّني حَصَلتُ على خبر سارّ لكيلا أتألّم فوق الحدّ. لقد تخلّى دوراس عن هذه الأراضي واشتراها جيوقانا. هي ليست الجنّة... ولكنّها لَم تَعُد الجحيم. هذا ما قاله اليوم القهرمان (القيّم على الأملاك) للفلّاحين. ومضى هو اليوم حاملاً على عرباته حتّى آخر حبّة قمح، تاركاً إيّاهم جميعاً دون مؤونة. وبما أنّ مُراقِب جيوقانا لا يملك سوى ما يكفي فلّاحيه، فقد اضطرَّ فلّاحو دوراس للبقاء دون أكل. في الحقيقة إنّ العناية الإلهيّة هي التي أَرسَلَت هذين الحَمَلين!»

 

«والعناية الإلهيّة كذلك هي التي جَعَلَتهم لا يعودون ينتمون إلى دوراس. لقد رأينا بيوتهم... إنّها زرائب خنازير...» تقول سُوسَنّة وقد صُدِمَت بذلك.

 

«إنّ أولئك المساكين لفي غاية السعادة!» تُعقِّب مريم التي لحلفى.

 

«أنا كذلك مسرور. سوف يكونون أفضل ممّا كانوا عليه قبلاً.» يُجيب يسوع الذي يعود إلى رُسُله.

 

يَلحَق به يوحنّا الذي مِن عين دور حاملاً جِرار ماء، يُساعده في ذلك هرمست. «إنّها مِن جيوقانا، هو الذي أعطانا إيّاها.» يَشرَح بعد التعبير عن إجلاله ليسوع.

 

يعود الجميع إلى حيث يُشوَى الحَمَلان وسط غيوم مِن الدخان الدَّسِم. يُتابِع بطرس فَتل سِيخ الشيّ، وفي تلك الأثناء يُراجِع أفكاره. مِن جهته، يوضاس تدّاوس، ممسكاً بأخيه مِن خَصره، يقطع المكان طولاً وعرضاً وهو يتكلّم دون توقف. أمّا الآخرون، فمنهم مَن يَجلب الحطب، ومنهم مَن يُهيّئ... الطـاولة، جالِبين صخوراً كبيرة لاسـتخدامها كمقاعد أو طاولات، لستُ أدري.

 

يَصِل فلّاحو دوراس، أنحف ممّا كانوا عليه، وبثياب بالية أكثر. ولكنّهم في سعادة كبيرة! إنّهم حوالي العشرين، وليس فيهم طفل ولا امرأة. فقط رجال مساكين…

 

«السلام لكم جميعاً، ولنبارك الربّ معاً لمنحه إيّاكم معلّماً أفضل. فلنباركه ونحن نصلّي مِن أجل هِداية مَن جَعَلَكم تتألّمون كثيراً. أليس كذلك؟ هل أنتَ سعيد أيّها الجدّ؟ أنا كذلك. سوف أتمكّن مِن المجيء غالباً مع الصبيّ. هل حدّثوكَ عنه؟ إنّكَ تبكي مِن الفرح، أليس كذلك؟ تعال، تعال دون خوف...» يقول مُخاطباً جدّ مارغزيام، الذي انحنى ليُقبِّل يديـه وهو يبكي ويُتمتم: «لا أطلب شيئاً بعد منه تعالى. لقد وَهَبَني أكثر ممّا كنتُ أطلُب. الآن أودُّ لو أموت خوفاً مِن العيش الطويل وعودتي إلى الآلام.»

 

الفلّاحون المرتبكون قليلاً لوجودهم مع المعلّم أسرَعوا في التَّجاسُر. وعلى وَرَقات عريضة مُدَّت على صخور جُلِبَت مُسبقاً، وُضِعَ الحَمَلان وقُسِّما إلى حصص وُضِعَت كلّ منها على فطيرة ملساء وعريضة لاستخدامها كصحن. وهاهُم قد سَكَنوا ببساطتهم وهم يأكلون بشهيّة، مُشبِعين جوعهم المتراكِم وهم يتحدّثون عن الأحداث الأخيرة.

 

يقول أحدهم: «لقد لَعَنتُ دائماً الجَّراد والخُلد والنمل. ولكن، مع ذلك ستبدو لي رُسُل الربّ، إذ بسببها خَرَجنا مِن الجحيم.» رغم أنّ مقارنة الجماعة الملائكيّة بالجَّراد والنمل قاسية، لم يضحك أحد، لأنّ الجميع يُحسّ بالمأساة المختبئة خلف تلك الكلّمات.

 

اللّهب يُنير جماعة الناس تلك، ولكنّ الوجوه لا تتّجه صوب النار، وقليل منهم مَن يَنظُر إلى ما هو موضوع أمامهم. كلّ العيون تُحدِّق في وجه يسوع، ولم تَحِد سوى للحظة، عندما عادت مريم التي لحلفى، التي تهتمّ بالحصص، لِتُضيف قطعة أخرى على فطائر الفلّاحين الجائعين، وتُنهي عملها بلفّ فَخذَين مشوييَّن قائلة لجدّ مارغزيام: «خُذ. سينال كلّ منكم لقمة أخرى غداً. وفي هذه الأثناء سوف يتدبّر مُراقِب جيوقانا الأمر.»

 

«ولكنّكم...»

 

«نحن، سيخفّ حِملنا. خُذ، خُذ أيّها الرجل.»

 

لم يتبقَّ مِن الحَمَلين سوى عظام مجرّدة واستمرار رائحة دهن ذائب ما زال يشتعل على الحطب الذي ينطفئ، وقد حلّ ضوء القمر محلّه للإنارة.

 

ينضمّ فلّاحو جيوقانا إلى الآخرين. حان موعد الحديث. وترتَفِع عينا يسوع باحِثَتَين عن يهوذا الاسخريوطيّ القابع قرب شجرة في الظلّ قليلاً. وبما أنّه يتظاهر بأنّه لم يَفهَم معنى تلك النَّظرة، يُنادي يسوع بصوت عال: «يا يهوذا!» ويُرغِمه على النهوض والحضور.

 

«لا تتنحَّ. أرجوك التبشير بدلاً عنّي. إنّني متعب جدّاً، ولو لم أكن قد وصلتُ هذا المساء، لكان عليكم أنتم أن تتحدّثوا!»

 

«يا معلّم... لستُ أدري ما أقول... اطرح عليَّ أسئلة على الأقلّ.»

 

«ليس لي أن أفعل ذلك، بل لكم: ماذا ترغبون أن تسمعوا، أو هل لديكم استفسارات معيّنة؟» إنّه يَسأَل الفلّاحين بعدئذ.

 

يَنظُر الرجال بعضهم إلى بعض... إنّهم مرتبكون... أخيراً يَسأَل أحد الفلّاحين: «لقد عَرفنا قدرة الربّ وصلاحه، ولكنّنا لا نعرف سوى القليل القليل عن عقيدته. قد نتمكّن مِن معرفة المزيد، الآن وقد أصبحنا مع جيوقانا. إنّما لدينا رغبة جامحة في معرفة الأمور التي لا بدّ منها، والتي يجب القيام بها للحصول على الملكوت الذي يَعِد به مَسيّا. ومع هذا اللاشيء الذي يمكننا فِعله، وباعتبار أنَّنا غير قادرين عملياً على فِعل أيّ شيء، هل سنتمكّن مِن الحصول عليه؟»

 

يُجيب يهوذا: «مِن المؤكّد أنّكم في ظروف لا تُحسَدون عليها. فكلّ ما فيكم وما يحيط بكم يتحالف لإبعادكم عن الملكوت. الحرّيّة التي تَفتَقِدون إليها للمجيء إلى المعلّم عندما يبدو لكم ذلك حسناً، كونكم خُدّاماً لِمُعلّم، إن لم يكن ضَبعاً مثل دوراس، ومهما يكن، فهو مثل كلب الحراسة، يبقي خدّامه في الأسر، الآلام والوضع المتدنّي الذي أنتم فيه، كلّ ذلك ظروف غير مؤاتية لاختياركم للملكوت. ذلك أنّه سيكون مِن الصعب ألّا تَستاءوا وألّا تَشعروا بالحقد والتأزّم والانتقام ممّن يعاملكم بقسوة. وأقلّ ما يلزم هو حبّ الله وحبّ القريب. وبدون ذلك لا خلاص. عليكم السهر على إبقاء قلوبكم في خضوع واستسلام لإرادة الله التي تَظهَر مِن خلال مصيركم، وعليكم تحمّل معلّمكم بكلّ صبر، حتّى بدون إفساح المجال لحرّيّة تفكيركم بالإدانة، التي بكلّ تأكيد لن تكون متسامحة بخصوص معلّمكم، ولا شَكورَة لـ... لـ... النتيجة، ينبغي عليكم ألّا تَثوروا، لأنّ هذه الثورة تَقتُل الحبّ. ومَن ليس لديه الحبّ لا ينال الخلاص، لأنّه مخالف للوصيّة الأولى. وإنّني لَعَلى يقين أنّ بإمكانكم الخلاص، لأنّني أرى فيكم الإرادة الحسنة مقرونة بوداعة النَّفْس التي تمنح الأمل بإمكانيّة إقصاء الحقد وروح الانتقام عنكم. أمّا الباقي فتتكفّل به رحمة الله الواسعة التي تَغفر لكم ما ينقصكم لكمالكم.»

 

صَمْت. يُبقي يسـوع رأسه كثير الانحناء، مما يُعيق رؤية تعبير وجهه. إنّما يمكن رؤية الوجوه الأخرى، وهي ليست بالحقيقة وجوهاً سعيدة. فالفلّاحون أكثر إذلالاً مِن السابق، والرُّسُل والنساء مَشدوهون، بل أكاد أقول إنّهم مَذعُورون.

 

«إنّنا نعمل جاهدين كيلا تَظهَر مِنّا أيّة فكرة غير الصبر والمسامحة.» يُجيب العجوز بتواضع.

 

ويقول فلّاح آخر وهو يتنهّد: «حتماً سيكون مِن الصعب علينا التوصّل إلى كمال الحبّ. بالنسبة لنا يُعَدّ كثيراً كوننا لَم نُصبِح قَتَلَة الذين يعذّبوننا! فالروح يتألّم ويتألّم ويتألّم، وحتّى وإن لم يَحقد، فلقد أَصبَحَ مِن الصعب عليه أن يحبّ، مثل أولئك الأطفال الهزيلين الذين يَصعب عليهم أن يَنموا ويَكبروا...»

 

«ولكن لا أيّها الرجل. فأنا على خلافكَ أظنُّ أنّكم، أنتم بالذات، لأنّكم تألّمتم كثيراً دون التوصّل إلى القتل والانتقام، فإنّ روحكم أقوى وأقدَر مِن روحنـا فيما يخصّ الحبّ. وإنّكم تُحِبّون دون أن تُلاحِظوا ذلك.» يقول بطرس لمؤاساتهم. يُلاحِظ بطرس أنّه أخذ المبادرة بالكلام، فيتوقّف ليقول: «آه! يا معلّم!... ولكن... لقد قُلتَ لي إنّ عليَّ أن أتكلّم... وحتّى أن أُعزِّز ما أقول بِمَثَل الحَمَل الذي كنتُ أشويه. لقد استمرّيتُ في النَّظَر إليه بحثاً عن كلّمات تَصلُح لإخوتنا في وضعهم. ولكن حتماً، بما أنّني غبيّ، لم أجِد ما يُناسِب، ولسـتُ أدري كيف، وَجدتني أشطح بعيداً بأفكار لستُ أدري إذا ما كانت متهوّرة، فهي حتماً منّي، أو إذا ما كانت مقدّسة، فتكون حتماً آتية مِن السماء. أقولُها كما أتتني، وأنتَ، يا معلّم، سوف تُعطيني تفسيراً لها، أو إنك ستعارضني وتَرفُض، وأنتم جميعاً سوف تُشارِكون.

 

إذاً، فقد كنتُ قبل كلّ شيء أنظُر إلى اللّهب، وأتتني هذه الفكرة: "هاكُم: ممّ صُنِعَ اللّهب؟ مِن الحطب. ولكن الحطب لا يشتعل بذاته. وإذا لم يكن جافّاً تماماً، فإنّه لا يشتعل أبداً، لأنّ الماء يُثقِله ويمنع الصوفان (شيء يَخرُج مِن قلب الشجرة، رخو يابس تقدح فيه النار) مِن إشعاله. الحطب عندما يموت يَفسد ويتحوّل إلى غبار بفعل الديدان، ولكنّه لا يشتعل بذاته. إنَّما حين يرتّب المرء الحطب بشـكل ملائم، ويدني الصوفان والولاعة، ويُحدِث الشرارة، ويُسهِّل الإشعال بنفخه على العيدان النحيلـة ليؤجّج النار، ذلك أنّ البداية تكون دائماً بالعيدان الأكثر نعومة، وتَحدُث الشُّعلة وتُصبِح جميلة ومفيدة وتَجتاح كلّ شيء حتّى الأغصان الضخمة". وكنتُ أقول لنفسي: "الحطب هو نحن. ولا نَضطَرِم بذواتنا. ومع ذلك يجب توخّي الحذر لئلّا نتبلّل كثيراً بمياه اللحم والدم الثقيلة جدّاً لنسمح للصوفان بإضرامنا. وعلينا الرغبة بأن نَضطَرِم، لأنّنا إن بقينا خامِلين، فقد تُدمِّرنا تقلّبـات الجوّ والديدان، أي الإنسـانيّة والشيطان. بينما لو استسلمنا لنار الحبّ، فإنّها تَبـدَأ بإحراق العيدان النَّحيلة وإفنائها -وبالنسبة إليَّ فإن تلك العيدان هي النقائص- ثمّ تنمو وتطال الأغصان الأكثر ضخامة، أي الميول الأقوى. ونحن، الحطب، الأمور المادّيّة، القاسية، الكثيفة، الفظّة كذلك، سـوف نصبح ذلك الشيء الجميل غير المادّيّ والرشيق الذي هو اللّهب، وكلّ ذلك لأنّنا استسـلمنا للحبّ الذي هو الولّاعة والصوفـان اللَّذين يجعلان مِن كياننا البائس كأناس خاطئين ملاك الزمن الآتي، مواطن ملكوت السموات".

 

تلك كانت فكرتي الأولى.»

 

رَفَعَ يسوع رأسه قليلاً وبَقيَ يَسمَع وعيناه مُغمَضتان، وقد ارتَسَمَت ابتسامة خفيفة على شفتيه. الآخرون يَنظُرون إلى بطرس مذهولين كذلك، ولكنّهم لم يعودوا خائفين. ويُتابِع هو بسكون.

 

«فكرة أخرى أتتني بينما كُنتُ أنظُر إلى الحيوانين اللذين كانا يُشوَيان. لا تقولوا بأنّ أفكاري صبيانيّة. لقد قال لي المعلّم أن أبحث عنها في ما كنتُ أرى... وأَطَعتُ.

 

كنتُ أنظر إذاً إلى الحيوانين وأقول لنفسي: "إنّهما حيوانان بريئان ووديعان. وكتابنا ملئ بالتلميحات اللطيفة للحَمَل، للتذكير بمَسـيّا الموعود والـمُخلِّص المتمثِّل بالحَمـَل الموسويّ، وبالوقت ذاته للتعبير عن أنّ الله سوف يرأف بنا. هذا ما يقوله الأنبياء. يأتي لِيَجمع نعاجه، لِيُعالج المجروحين، ولِيَحمِل مَن كان منهم قد كُسِر له عضو. يا له مِن صلاح!" كنتُ أقول لنفسي: "كَم يجب ألّا نخاف مِن إله يَعِدنا بهذا القَدَر مِن الرحمة، نحن البؤساء!" ولكن كنتُ أقول لنفسي أيضاً، "يجب أن نكون وُدَعاء، على الأقلّ وُدَعاء، بما أنّنا لسنا أبرياء. وُدَعاء وراغِبين في أن نكون مُستَهلَكين بالحبّ، إذ حتّى الحَمَل الأكثر وداعة والأكثر طُهراً، ماذا يحلّ به حين يُقتَل إذا لم تُنضِجه النار؟ سيكون مجرّد جِيفَة نَتِنَة، بينما إذا ما لَفَحَته النار يُصبِح غذاءً سليماً ومباركاً".

 

وكنتُ قد انتهيتُ إلى النتيجة التالية: "بالنتيجة، فإنّ الخير كلّه يحصل نتيجة الحبّ. فهو يُخلِّصنا مِن أثقال البشريّة، يَجعَلنا لامِعين ومفيدين، يَجعَلنا صالحين لإخوتنا ومَرْضيّين لله. يَسمو بمزايانا الطبيعيّة الصالحة، حاملاٍ إيّاها إلى الدرجة التي تتّخذ معها اسم فضائل فائقة الطبيعة. ومَن كان صاحب فضيلة كان قدّيساً، والقدّيس يَنال السـماء. إذ إنّ الذي يَفتَح دروب الكمال، ليس العِلم ولا الخوف، بل هو الحبّ. فهو يبقينا بعيدين عن الشـرّ بالرغبة بعدم إحزان الربّ، أكثر كثيراً مِن الخَوف مِن العِقاب. وهو يمنحنا الرحمة والمحبّة تجاه إخوتنا، لأنّهم مِن الله يأتون. فالحبّ إذن هو خلاص وتقديس الإنسان".

 

هذا ما كنتُ أُفكّر فيه وأنا أنظُر إلى شِوائي وأطيع يسوعي. وسامحوني إذا لم يكن لديَّ سِوى هذه الأفكار. ولكنّها قد صَنَعَت خيراً لي. أُقدِّمها لكم على أمل أن تصنع الخير لكم كذلك.»

 

يَفتَح يسوع عينيه. إنّه متألِّق. يمدّ ذراعه ويضع يده على كتف بطرس: «في الحقيقة، لقد وَجَدتَ الكلّمات التي كان يجب إيجادها. الطـاعة والحُبّ جَعَلاكَ تَجِدهـا. التواضُع والرغبة في مؤاساة الإخوة تجعل مِن المؤاساة نجوماً كثيرة في ليل سمائهم. ليبارككَ الله. يا سمعان بن يونا!»

 

«فليبارككَ الله أنتَ يا معلّمي! وأنتَ ألن تتكلّم؟»

 

«غداً سيبدأون العمل لصالح معلّمهم الجديد. سوف أُبارِك دخولهم بكلامي. الآن اذهبوا بسلام، وليكن الله معكم.»