ج8 - ف26
أَنَا هُوَ
ماريا فالتورتا
L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO
THE GOSPEL AS REVEALED TO ME
بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}
L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ
MARIA VALTORTA
الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.
الجزء الثامن
26- (يسوع، صموئيل، يهوذا ويوحنّا)
10 / 02 / 1947
ما يزال يسوع، وحيداً ومستغرقاً، يمضي على مهل في الحرج الكثيف الواقع غرب أفرايم. مِن السيل يتصاعد صوت خرير ماء، ومِن الأشجار تأتي أصوات تغاريد طيور. نور الشمس الربيعيّ والحيويّ ينشر عذوبته تحت تشابك الأغصان. وساكن هو المسير على البساط العشبيّ الوافر. إنّ أشعّة الشمس تُشكّل سجّادة متحرّكة مِن أقراص أو مِن خيوط ذهبيّة على خُضرة العشب، وبعض الأزهار الّتي لا تزال نديّة، وقد أصابها كلّياً قرص نور فيما كلّ شيء حولها هو ظلّ، تتألّق كما لو كانت بتلاتها حجارة ثمينة.
يصعد يسوع صوب حافّة ناتئة تبرز كشرفة فوق الفراغ. شرفة تنتصب عليها شجرة بلّوط ضخمة، ومنها تتدلّى أغصان ليّنة لتوت برّيّ أو ورود برّيّة، لبلاب وياسمين برّيّ، الّتي، إذا لم تجد مكاناً ومتّكأً في الموضع حيث نبتت، الضيّق للغاية بالنسبة لحيويّتها المفرطة، فقد تدلّت مِن الفراغ مثل شعر مفكوك ومنفوش، وتتمدّد على أمل التمسّك بشيء ما.
ها هو يسوع عند مستوى الحافّة. إنّه يتوجّه نحو حرفها الأكثر بروزاً، مُزيحاً تشابك الدغل. سرب طيور يفرّ برفرفة مصحوبة بصياح خوف. يتوقّف يسوع مراقباً الرجل الّذي سبقه إلى فوق. إنّه منبطح على العشب، تقريباً عند حرف الحافّة، مرفقاه مستندان إلى الأرض، ووجهه مستند إلى يديه، ينظر في المدى، صوب أورشليم. إنّه صموئيل، التلميذ السابق ليوناثان بن عوزيل، إنّه مستغرق بالتفكير. يتنهّد. يهزّ رأسه.
يسوع يهزّ أغصاناً كي يجذب انتباهه، وحيث أنّ محاولته قد ذهبت عبثاً، فإنّه يلتقط حجراً مِن وسط العشب ويدحرجه إلى أسفل المسلك. صوت الحجر الّذي يطفر على المنحدر، يهزّ الشاب، الّذي يلتفت متفاجئاً وهو يقول: «مَن هنا؟»
«أنا يا صموئيل. لقد سبقتَني إلى أحد الأماكن المفضّلة إليّ للصلاة.» يقول يسوع وهو يظهر من خلف الجذع الضخم لشجرة البلّوط المنتصبة عند حدود المسلك. ويفعل ذلك كما لو أنّه وصل إلى هناك للتوّ.
«آه! المعلّم! أنا آسف… إنّما سأخلي لكَ المكان حالاً.» يقول وهو ينهض على عجل ويلتقط الرداء الّذي كان خلعه ليبسطه على الأرض تحته.
«لا. لماذا؟ هناك متّسع لشخصين. الموضع جميل للغاية! وهو هكذا منعزل، منزوٍ، معلّق في الفراغ، مع نور كثير والأفق إلى الأمام! لماذا تريد مغادرته؟»
«إنّما… كي أدعكَ تصلّي...»
«وألا يمكننا القيام بذلك معاً، أو حتّى التأمّل، متحدّثَين فيما بيننا، رافعيَن روحينا في الله… وناسين البشر ونقائصهم مفكّرَين بالله، أبينا الصالح والأب الصالح لكلّ مَن يبحثون عنه ويحبّونه بإرادة صالحة؟»
يُظهِر صموئيل دهشة عندما يقول يسوع: «ناسين البشر ونقائصهم…» لكنّه لا يردّ. يعود للجلوس.
يسوع يجلس إلى جانبه على العشب ويقول له: «اجلس هنا. ولنبقَ معاً. أُنظر كم الأفق صافٍ اليوم. لو كان لدينا عيون نسر، لأمكننا رؤية ابيضاض البلدات الّتي على قمم الجبال المحيطة بأورشليم كتاج. فقد نرى في الفضاء نقطة مشعّة مثل حجر ثمين تجعل قلبنا يخفق: قُبب بيت الله الذهبيّة… أُنظر، هناك هي بيت إيل، يُرى ابيضاض منازلها، وهناك، إلى ما بعد بيت إيل، توجد بَئيروت [البيرة]، أيّ مكر حادّ كان عليه سكّان ذاك الموضع القدامى وأولئك الّذين في الجوار! إنّما نتج عنه خير، على الرغم مِن أنّ الخداع ليس أبداً سلاحاً جيّداً. قد أثمر خيراً لأنّه وضعهم في خدمة الله الحقّ. مِن الأجدر دوماً فقدان الأمجاد البشريّة لكسب الجوار الإلهيّ. وإن كانت الأمجاد البشريّة كثيرة وقَيّمة، والجوار الإلهيّ متواضعاً ومغموراً. أليس كذلك؟»
«نعم يا معلّم، إنّكَ تُحسِن القول. هذا ما حصل لي.»
«لكنّكَ حزين في حين أنّ التغيير يجب أن يجعلكَ سعيداً. أنتَ حزين، تعاني، تنعزل، تنظر صوب الأماكن الّتي تركتَها. تبدو مثل طير أسير، محصور خلف قضبان سجنه، ينظر بأسى شديد إلى المكان الّذي أحبّه. أنا لا أقول لكَ ألّا تفعل ذلك. أنتَ حرّ. يمكنكَ أن ترحل و...»
«يا ربّ، أيمكن أن يكون يهوذا قد حدّثكَ بالسوء عنّي، حتّى تكلّمني هكذا؟»
«لا. يهوذا لم يكلّمني. هو لم يتكلّم معي. إنّما معكَ، فبلى. ولذلك أنتَ حزين. ولهذا السبب أنتَ تعزل نفسكَ مُحبَطاً.»
«يا ربّ، إن كنتَ تعرف هذه الأمور دون أن يقولها لكَ أحد، فإذن أنتَ ستعرف أيضاً أنّني لستُ حزيناً بسبب الرغبة في ترككَ، بسبب الندم على اهتدائي، بسبب الحنين إلى الماضي… ولا خوفاً مِن البشر، ذاك الخوف مِن عقوباتهم الّتي قد يُلمّحون لي بها. كنتُ أنظر إلى هناك، هذا صحيح. لقد كنتُ أنظر صوب أورشليم. إنّما ليس مِن منطلق تَوق للعودة إليها. أعني: أن أعود إليها كما كنتُ قبلاً. بالتأكيد إنّ في داخلي، كما فينا كلّنا، توق للعودة إلى هناك كإسرائيليّ يحبّ الدخول إلى بيت الله وعبادة العليّ، ولا أظنّ بأنّكَ قد تلومني على ذلك.»
«أنا أوّلاً، بطبيعتي المزدوجة، بي شوق لذاك المذبح، وأودّ أن أراه محاطاً بقداسة كما يليق. فباعتباري ابن الله، فإنّ كلّ ما هو تكريم له يحمل إليّ صوتاً مفعماً لطافة، وباعتباري ابن الإنسان، وباعتباري إسرائيليّاً، وبالتالي ابناً للشريعة، فإنّني أرى في الهيكل والمذبح المكان الأكثر قداسة في إسرائيل، ذاك الّذي فيه يمكن لبشريّتنا أن تقترب مِن الله، وأن تتعطّر بالهالة الّتي تحيط بعرش الله. أنا لا ألغي الشريعة يا صموئيل. إنّها مقدّسة بالنسبة لي لأنّها مُعطاة مِن قِبَل أبي. إنّني أُكمّلها وأضع فيها أجزاء جديدة. كوني ابن الله أستطيع فِعل ذلك. لهذا أرسلني الآب. إنّني آتٍ كي أؤسّس هيكل كنيستي الروحيّ، الهيكل الّذي لن يتغلّب عليه بشر ولا شياطين. إنّما ثوابت الشريعة سيكون لها فيه مكان شرف. لأنّها أبديّة، كاملة، لا تُمسّ. إنّ "لا تفعل هذه أو تلك الخطيئة"، المتضمّنة في هذين اللوحين، اللذين يحتويان في جوهرهما الموجز ما هو ضروريّ كي نكون أبراراً في عينيّ الله، لا تلغيه كلمتي. على العكس! أنا أيضاً أقول لكم تلك الوصايا العشر. إنّني فقط أقول لكم أن تتقيّدوا بها بكمال، أي ليس مِن منطلق الخوف مِن غضب الله على العاصِين لها، ولكن مِن منطلق محبّة لإلهكم الّذي هو أب. لقد أتيتُ كي أضع يدكم كأبناء في يد أبيكم. كم مِن عصور وهاتان اليدان منفصلتان! العقاب كان يفصل، والخطيئة كانت تفصل. والآن وقد أتى المخلّص، فها إنّ الخطيئة على وشك أن تُمحى، الحواجز تسقط، وأنتم مجدّداً أبناء الله.»
«هذا صحيح. إنّكَ طيّب وتشدّد العزم، دوماً. وتعلم. إذن فلن أفضي لكَ بضيقي. لكنّني أسألكَ: لماذا البشر أشرار ومجانين وحمقى إلى هذا الحدّ؟ كيف، أيّة مهارات يملكون كي يتمكّنوا مِن الإيحاء بالشرّ بأسلوب شيطانيّ؟ ونحن، كيف نكون عمياناً لدرجة عدم رؤية الواقع وتصديق أكاذيبهم؟ وكيف نغدو شياطين بهذا الشكل؟ ونبقى كذلك حين نكون قربكَ؟ كنتُ أنظر إلى هناك، وكنتُ أفكّر… نعم. أفكّر بكمّ السواقي السامّة الّتي تخرج مِن هناك لتُشوّش أبناء إسرائيل. كنتُ أفكّر كيف يمكن لحكمة الرابّيين أن تتحالف مع هكذا قدر مِن الخِسّة الّتي تُشوّه الأمور للتضليل. كنتُ أفكّر، بهذا على الخصوص، لأنّ...» صموئيل، الّذي كان يتكلّم بكثير مِن الاندفاع، يتوقّف ويحني رأسه.
يسوع يُنهي الجملة: «...لأنّ يهوذا، رسولي، هو ما هو، ويسبّب الألم لي ولمن يحيطون بي أو يأتون إليّ كما أنتَ أتيتَ. أعلم هذا. يهوذا يسعى لإبعادكَ مِن هنا، ويوجّه إليكَ تلميحات وسخريات...»
«وليس لي وحدي. نعم. لقد سمّم فرحي لكوني دخلتُ في البرّ. لقد سمّمه بكثير مِن الحِرَفيّة لدرجة أنّني أفكّر بأنّني هنا كخائن، لنفسي ولكَ. لنفسي، لأنّني أتوهّم بأن أكون أفضل بينما سأكون سبب هلاكك. بالفعل لم أعد أعرف نفسي… ويمكنني، بلقائي بجماعة الهيكل، أن أتراجع عن قراري وأكون… آه! لو كنتُ فعلتُ ذلك آنذاك، لكان لي عذر عدم معرفتكَ على ما أنتَ عليه، لأنّني كنتُ أعلم عنكَ ما كانوا يقولونه لي عنكَ ليجعلوا منّي شخصاً ملعوناً. إنّما إن كنتُ أفعله الآن! فأيّ لعنة ستكون لعنة الّذي سيخون ابن الله! أنا كنتُ هنا… مُفكّراً، نعم. كنتُ أفكّر أين أهرب كي أكون في مأمن مِن نفسي ومنهم. كنتُ أفكّر بالهروب إلى مكان ما بعيد، كي أنضمّ إلى أهل الشتات… بعيداً، بعيداً، كي أتفادى أن يجعلني الشيطان أخطئ… رسولكَ على حقّ بألّا يثق بي. هو يعرفني، لأنّه يعرفنا كلّنا، بمعرفة الرؤساء… ومعه حقّ بالشكّ بي. عندما يقول: "إنّما ألا تعلم بأنّه "هو" يقول لنا نحن، بأنّنا سنكون ضعفاء؟ فَكّر، نحن الّذين نكون الرُّسُل والّذين معه منذ وقت طويل. وأنتَ، الّذي سمّمكَ إسرائيل العتيق، الواصل للتوّ، والواصل في زمن يجعلنا نرتعد، أتظنّ بأنّ لديكَ القدرة على أن تحافظ على نفسكَ بارّاً؟" معه حقّ.» الرجل، محبطاً، يخفض رأسه.
«كَم مِن أحزان يُحسِن أبناء الإنسان أن يُسبّبوها لأنفسهم! الحقّ إنّ الشيطان يعرف كيف يستخدم نزعتهم هذه لترويعهم تماماً وفصلهم عن الفرح الآتي لملاقاتهم كي يخلّصهم. ذلك أنّ حزن الروح، الخوف مِن الغد، الهموم، هي دوماً أسلحة يضعها الإنسان بين يديّ خصمه. وذاك يخيفه بالأشباح ذاتها الّتي يخلقها الإنسان بنفسه، وهناك بشر آخرون، حقّاً، يتحالفون مع الشيطان لمساعدتهم في إخافة إخوتهم. إنّما، أيا بنيّ، ألا يوجد إذاً أب في السماء؟ أب إذ يسدّ حاجة ساق العشب هذا في هذا الشقّ في الصخر -هذا الصدع المليء بتربة خصبة، الـمُشَكَّل بحيث أنّ رطوبة الندى، الّتي تسيل على الحجر الأملس، تتجمّع في هذا الثلم الصغير، حتّى تتمكّن ساق العشب مِن أن تعيش وتُزهِر بهذه الزهرة الصغيرة، الّتي لا تقلّ بروعة جمالها عن الشمس العظيمة الّتي تسطع هناك عالياً: وكلاهما صنيعة كاملة للخالق- أب إذ يعتني بساق العشب الّذي نبت على صخرة، أفلا يستطيع الاعتناء بواحد مِن أبنائه يريد أن يخدمه بثبات؟ آه! الحقّ أنّ الله لا يخيّب رغبات الإنسان الصالحة. لأنّه هو بذاته الّذي يُضرِمها في قلوبكم. إنّه هو، البصير والحكيم، الّذي يخلق الظروف ليُسهّل رغبة أبنائه، وليس فقط هذا، إنّما ليُقوّم ويجعل كاملة، رغبةً لتكريمه تسلك سُبُلاً غير كاملة، ليجعلها رغبة في تكريمه بسبل قويمة. أنتَ كنتَ مِن بين هؤلاء. كنتَ تؤمن، كنتَ تريد، كنتَ مقتنعاً أنّكَ تُكرّم الله باضطهادي. إنّ الآب قد رأى أنّ في قلبكَ لم تكن كراهية لله، بل تَوق لتمجيد الله بأن تُزيل مِن العالم ذاك الّذي قالوا لكَ بأنّه عدوّ لله ومُفسِد للنفوس. حينها خلق الظروف للاستجابة لرغبتكَ بتمجيد ربّكَ. وها أنتَ ذا بيننا. وهل يمكنكَ الظنّ أن الله يتخلّى عنكَ، الآن وقد قادكَ إلى هنا؟ فقط إن تخلّيتَ عنه يمكن أن تسيطر عليكَ قوى الشرّ.»
«أنا لا أريد هذا. إنّ إرادتي صادقة!» يُعلِن الرجل.
«فإذن ما الّذي يُقلقكَ؟ كلام إنسان؟ دعه يقول. إنّه يفكّر بعقله. إنّ فكر إنسان هو غير كامل على الدوام. إنّما سأعالج الأمر.»
«أنا لا أريدكَ أن توبّخه. يكفيني أن تؤكّد لي أنّني لن أخطئ.»
«أُؤكّد لكَ ذلك. لن يحدث لكَ شيء لأنّكَ لا تريده أن يحدث. ذلك أنّ، كما ترى يا بنيّ، الذهاب إلى الشتات وحتّى إلى أقاصي الأرض لن يفيدكَ كي تحفظ نفسكَ مِن الكراهية نحو المسيح ومِن عقاب هذه الكراهية. كُثُر في إسرائيل لن يلطّخوا أنفسهم بشكل ملموس بالجريمة، لكنّهم لن يكونوا أقلّ ذنباً مِن أولئك الّذين سوف يحكمون عليّ ويُنفّذون الحكم. معكَ يمكنني أن أتحدّث عن هذه الأمور. لأنّكَ تعلم بالفعل أنّ كلّ شيء مُعدّ لهذا الهدف. أنتَ تعلم اسم وفِكر مَن هم الأكثر إصراراً ضدّي. لقد قلتَ ذلك: "يهوذا يعرف الجميع لأنّه يعرف كلّ الرؤساء". لكن إن كان هو يعرفكم، كذلك أنتم، الأدنى، لأنّكم مثل أجرام صغيرة قبالة الكواكب الأكبر، فإنكم تعلمون على قدركم ما الّذي يتمّ فِعله وكيف يتمّ فِعله ومَن يَفعل، وأيّ مؤامرات تُحاك، وأيّة وسائل تُدرَس… فيمكنني التحدّث إليكَ. لن يمكنني فِعل ذلك مع الآخرين… فإنّ ما أُحسِن تَحمُّله وتبريره لا يُحسِنه الآخرون...»
«إنّما يا معلّم، كيف يمكنكَ، رغم علمكَ بذلك، أن تكون هكذا… مَن الّذي يصعد الدرب؟» صموئيل ينهض ليرى. يصيح: «يهوذا!»
«نعم. هذا أنا. لقد تمّ إخباري بأنّ المعلّم قد مرّ مِن هنا، وعلى العكس مِن ذلك ألاقيكَ أنتَ. أعود أدارجي إذن، لأترككَ مع أفكاركَ.» ويضحك ضحكته المريعة أكثر مِن نواح بوم، بقدر ما هي غير صادقة.
«أنا أيضاً هنا. أمَن يطلبني في البلدة؟» يقول يسوع وقد ظهر مِن وراء صموئيل.
«آه! أنتَ! إذن كنتَ مع صحبة جيّدة يا صموئيل! وأنتَ أيضاً يا معلّم...»
«نعم. إنّها دوماً جيّدة صحبة شخص يعانق البرّ. كنتَ تبحث عنّي إذن كي تمكث معي. تعال. هناك متّسع لكَ كما ليوحنّا كذلك، إن كان معكَ.»
«إنّه في الأسفل، منشغل مع مسافرين آخرين.»
«ينبغي أن أذهب إذن، إن كان هناك مسافرون.»
«لا. سيبقون طوال الغد. يوحنّا يجهّز لهم أسرّتنا لأجل إقامتهم. إنّه سعيد للقيام بذلك. ثمّ إنّ كلّ شيء يجعله سعيداً. إنّكما متشابهان بحقّ، ولا أعلم ما تفعلان كي تكونا سعيدين دوماً، وبكلّ الأمور الأكثر… تنغيصاً.»
«هو السؤال ذاته الّذي كنتُ سأطرحه عندما أتيتَ!» يصيح صموئيل.
«آه! نعم! إذن أنتَ أيضاً لا تشعر بأنّكَ سعيد، ويدهشكَ أن آخرين، هم في ظروف أكثر بعد… صعوبة مِن ظروفنا، يمكنهم أن يكونوا كذلك.»
«أنا لستُ تعيساً. لا أتكلّم عن نفسي. إنّما أفكّر مِن أيّة منابع يتأتّى صفاء المعلّم، الّذي لا يجهل مستقبله، وهو مع ذلك لا يضطرب مِن أيّ شيء.»
«مِن منبع سماويّ! هذا طبيعيّ! هو الله! أتشكّ بذلك؟ أيمكن لإله أن يعاني؟ إنّه فوق الألم. فمحبّة الآب هي بالنسبة له مثل… مثل نبيذ مُسْكِر. ونبيذ مُسْكِر بالنسبة له هو الاقتناع بأنّ أفعاله… هي خلاص العالم. ومِن ثمّ… أيمكن أن تكون له ردود الفعل الجسديّة الّتي لنا نحن البشر الوضيعين؟ ذلك مخالف للحسّ السليم. إن كان آدم البريء لم يكن يعرف آلاماً مِن أيّ نوع، وما كان ليعرفها مطلقاً لو ظلّ بريئاً، فإنّ يسوع، الفائق البراءة، الخليقة… لا أعرف كيف أدعوها: غير مخلوقة كونه الله، أو مخلوقة لأنّ له أبوين… آه! كم مِن "لماذا" متعذّر حلّها لأهل المستقبل، أيا معلّمي! إن كان آدم معصوماً مِن الألم بسبب براءته، أيمكن التفكير ربّما بأنّ على يسوع أن يتألّم؟»
يلبث يسوع حاني الرأس. لقد عاود الجلوس على العشب. شعره يحجب وجهه. فلذلك لا أرى تعبيره.
صموئيل، الواقف قبالة يهوذا الواقف هو كذلك، يردّ: «إنّما إن كان عليه أن يكون الفادي، فيجب أن يتألّم بحقّ. ألا تتذكّر داود وإشَعياء؟»
«أتذكّرهما! أتذكّرهما! إنّما هما، عند رؤيتهما وجه الفادي، لم يكونا يريان المعونة غير الماديّة الّتي يحظى بها الفادي كي يكون… لنقل: معذّباً، دون أن يشعر بالألم.»
«وأيّة معونة؟ إنّ مخلوقاً يمكن أن يحبّ الألم، أو يكابده بإذعان، بحسب مدى كمال برّه، لكنّه سيشعر به دوماً. وإلّا… إذا لم يكن يشعر به… فلن يكون ألماً.»
«يسوع هو ابن الله.»
«لكنّه ليس شبحاً! إنّه جسد حقيقيّ! والجسد يتألّم إذا ما عُذّب. إنّه إنسان حقيقيّ! فِكر الإنسان يتألّم إذا ما أُسيء إليه، وجُعِل منه موضوع احتقار.»
«إنّ اتّحاده مع الله يلغي فيه أمور الإنسان هذه.»
يسوع يرفع رأسه ويتكلّم: «الحقّ أقول لكَ يا يهوذا، بأنّني أتألّم وسوف أتألّم مثل كلّ إنسان، وأكثر مِن كلّ إنسان. إنّما يمكنني أن أكون سعيداً رغم ذلك، بالغبطة المقدّسة والروحيّة لأولئك الّذين نالوا التحرّر مِن أحزان الأرض لأنّهم عانقوا مشيئة الله كعروس لهم وحيدة. بإمكاني ذلك لأنّني تجاوزتُ المفهوم البشريّ للسعادة، هاجس السعادة، تلك الّتي يتصوّرها البشر. إنّني لا أتبع ما يشكّل بالنسبة للإنسان سعادة، إنّما أضع فرحي بالضبط بما يناقض ما يسعى إليه الإنسان بهذا الشأن. إنّ الأمور الّتي يهرب منها الإنسان ويحتقرها، لأنّه يعتبرها حِمْلاً ثقيلاً وألماً، تمثّل بالنسبة لي الأمور الأكثر عذوبة. إنّني لا أعير اهتماماً للوقت. إنّني أنظر إلى العواقب الّتي يمكن أن يُحدثها الوقت في الأبديّة. إنّ حقبتي تنتهي، إنّما ثمرتها تدوم. لألمي نهاية، إنّما قِيَم ألمي هذا لا نهاية لها. وماذا أفعل بساعة فيما يقال عنها "سعادة" على الأرض، ساعة أُدرِكت بعد السعي وراءها لسنوات وعقود، إن لم تستطع تلك الساعة بعد ذلك مرافقتي إلى الأبديّة باعتبارها فرحاً، حينما يتوجّب عليَّ أن أتنعّم بها وحدي، دون أن أشارك فيها مَن أحبّهم؟»
«إنّما إن انتصرتَ، فنحن، أتباعكَ، سيكون لنا حصّة مِن سعادتكَ!» يهتف يهوذا.
«أنتم؟ ومَن أنتم، مقارنةً بالحشود الماضية، الحاليّة، المستقبليّة، الّتي سيمنحها ألمي الفرح؟ أرى أبعد كثيراً مِن السعادة الأرضيّة. إنّني أغوص بالنظر إلى ما وراءها في الفائق الطبيعة. إنّني أرى ألمي يستحيل فرحاً أبديّاً لحشود مِن المخلوقات. وأعانق الألم باعتباره أعظم قوّة لبلوغ الغبطة الكاملة، الّتي هي محبّة القريب إلى درجة التألّم لمنحه الفرح. إلى درجة الموت لأجله.»
«لستُ أفهم هذه الغبطة.» يعلن يهوذا.
«لستَ حكيماً بعد، وإلّا لكنتَ تفهمها.»
«وهل يوحنّا هو كذلك [حكيم]؟ إنّه أكثر جهلاً منّي!»
«بشرياً، نعم. لكنّه يمتلك عِلم المحبّة.»
«حسناً. إنّما لا أعتقد أنّ المحبّة تمنع العصيّ مِن أن تكون عصيّاً، والحجارة مِن أن تكون حجارة، وتؤلم الأجساد الّتي تضربها. أنتَ دوماً تقول بأنّ الألم عزيز عليكَ لأنّه محبّة بالنسبة لكَ. إنّما عندما سيُلقى القبض عليكَ وتُعَذّب حقّاً، إذا ما كان ذلك ممكناً، فلا أعرف إن كنتَ ستظلّ تمتلك هذا الفكر. فَكِّر بذلك بينما لا يزال يمكنكَ الهروب مِن الألم. سيكون رهيباً، أتعلم؟ إن تمكّن البشر مِن القبض عليكَ… آه! فلن يراعوكَ!»
يسوع ينظر إليه. إنّه شديد الشحوب. عيناه، المفتوحتان جدّاً، تبدوان كأنّهما تريان، خلف وجه يهوذا، كلّ العذابات الّتي تنتظره، ومع ذلك فإنّهما في حزنهما تظلّان وادعتين وعذبتين، وفوق كلّ شيء صافيتين: فهما عينان رائقتان لبريء في سلام. يجيب: «أعلم ذلك. وأعرف حتّى ما لا تعرفه أنتَ. إنّما رجائي برحمة الله. فهو، الرحوم تجاه الخطأة، سوف يتحلّى بالرحمة كذلك نحوي. إنّني لا أطلب منه ألّا أتألّم، بل أن أُحسِن التألّم. والآن لنذهب. يا صموئيل، اسبقنا قليلاً وبلّغ يوحنّا بأنّنا سنكون في البلدة عمّا قريب.»
صموئيل ينحني ويمضي مسرعاً.
يسوع يبدأ بالنزول. المسلك ضيّق لدرجة أنّه يتوجّب أن يتقدّم الواحد الآخر، إنّما ذلك لا يمنع يهوذا مِن الكلام: «إنّكَ تبالغ في الوثوق بهذا الرجل يا معلّم. لقد قلتُ لكَ مَن يكون. إنّه الأكثر حماساً والأكثر إثارة للانفعال مِن بين تلاميذ يوناثان. على كلّ حال، الآن قد فات الأوان. لقد وضعتَ نفسكَ بين يديه. إنّه جاسوس بقربكَ. وأنتَ الّذي، لأكثر مِن مرّة، والآخرون أكثر منكَ، قد ظننتم بأنّني أنا كنتُ كذلك! أنا لستُ جاسوساً.»
يسوع يتوقّف ويلتفت. الألم والجلال يمتزجان على وجهه، وفي نظرته الّتي تُثبّت الرسول. يقول: «لا. لستَ جاسوساً. أنتَ شيطان. لقد سرقتَ مِن الحيّة امتياز الإغواء والخداع للفصل عن الله. سلوككَ لا هو حجر ولا هو عصا، لكنّه يجرحني أكثر مِن ضربة حجر أو عصا. آه! خلال معاناتي الفظيعة، ما مِن شيء سيكون أعظم قدرة مِن سلوككَ على إيلام الشهيد في الشهادة.» يسوع يغطّي وجهه بيديه، كما كي يخفي الهول عن نفسه، ثمّ يشرع بالنزول سريعاً عبر المسلك.
يهوذا يصرخ خلفه: «يا معلّم! يا معلّم! لماذا تُحزنني؟ ذاك الكاذب قد قال لكَ افتراءات بالتأكيد… أَنصِت إليَّ يا معلّم!»
يسوع لا يُنصت إليه. إنّه يركض، يطير نزولاً. يمرّ مِن دون أن يتوقّف عند الحطّابين أو الرعاة الّذين يحيّونه. يمرّ، يحيّي، لكنّه لا يتوقّف. يهوذا يُذعِن للصمت…
إنّهما تقريباً في الأسفل حين يصادفان يوحنّا أثناء صعوده نحوهما، بوجهه الرائق الّذي تنيره ابتسامته الهادئة. إنّه يمسك باليد طفلاً يناغي وهو يمصّ قرص عسل.
«يا معلّم، ها أنا ذا! إنّهم أناس مِن قيصريّة فيلبّس. لقد علموا بأنّكَ هنا وأتوا. إنّما يا للغرابة! فلا أحد قد تكلّم، والجميع يعلمون أين أنتَ! إنّهم الآن يرتاحون. إنّهم متعبون جدّاً. لقد قصدتُ دينا كي تعطيني حليباً وعسلاً، لأنّ هناك مريض. لقد وضعتُه في سريري. إنّني لا أخاف. والصغير حنّان أراد المجيء معي. لا تلمسه يا معلّم: إنّه ممتلئ عسلاً.» ويضحك يوحنّا الطيّب، هو الّذي توجد قطرات عسل كثيرة وآثار أصابع على ثيابه. يضحك محاولاً أن يبقي خلفه الطفل الّذي يودّ الذهاب كي يقدّم ليسوع قرص عسله النصف ممصوص، والّذي يصيح: «تعال. هناك منه الكثير لأجلكَ!»
«نعم. إنّهم ينزعون أقراص العسل عند دينا. كنتُ أعلم ذلك. إنّ نحلها قد تفرّق منذ وقت قريب.» يشرح يوحنّا.
يستأنفون السير ليصلوا إلى أوّل منزل، حيث لا يزال يتردّد صوت قرع الطبلة الّتي يستخدمها النحّالون، لا أدري لأيّ سبب بالتحديد. عناقيد نحل -تبدو كما مخاريط ضخمة لعنب عجيب- تتدلّى مِن بعض الأغصان، ورجال يلتقطونها كي يحملوها إلى قِفار جديدة. هناك أبعد منها، مِن قِفار موضوعة، يلج نحل يطنّ بلا كلل.
رجال يحيّون وامرأة تهرع بأقراص عسل جميلة جدّاً تقدّمها ليسوع.
«لماذا تحرمين نفسكِ منها؟ لقد سبق أن أعطيتِ منها ليوحنّا...»
«آه! إنّ نحلي قد أنتج بوفرة. لا يضيرني أن أقدّم منه. إنّما بارك الأسراب الجديدة. أُنظر، إنّهم يلتقطون الأخيرة. هذا العام حصلنا على ضعف القِفار.»
يسوع يذهب صوب مدن النحل الصغيرة ويباركها واحدة فواحدة، رافعاً يده وسط طنين العاملات الّتي لا تتوقّف عن العمل.
«كلّها في عيد، وكذلك كلّها مضطربة. مسكن جديد...» يقول رجل.
«وأعراس جديدة. تبدو حقّاً كأنّها نسوة يُحضّرن لحفلة العرس.» يقول آخر.
«نعم، إنّما النسوة يثرثرن أكثر ممّا يعملن. هذه، على النقيض، تعمل بصمت، وتعمل حتّى في أيّام الاحتفال بالعرس. إنّها تعمل دون كلل لإنشاء مملكتها وإدخال كنوزها إليها.» يجيب ثالث.
«العمل دوماً مِن أجل الفضيلة هو أمر مشروع، لا بل هو واجب. العمل الدائم لأجل الربح، لا. لا يستطيع فِعله سوى أولئك الّذين لا يعلمون بأنّ لديهم إلهاً ينبغي تكريمه في يومه. العمل بصمت هو مزيّة يجب على الجميع تعلّمها مِن النحل. ذلك أنّ الأمور المقدّسة تُجعَل بقداسة في الصمت. أنتم كونوا مثل نحلكم في البرّ: مثابرين وصامتين. إنّ الله يرى. الله يكافئ. السلام لكم.» يقول يسوع. حين يبقى وحده مع رسوليه، يقول: «وعلى عمّال الله خصوصاً أقترح النحل نموذجاً: إنّها تضع في خفايا القَفير العسل الّذي كوّنته في داخله بفعل عمل دؤوب على تويجات سليمة. إنّ كدّها لا يبدو حتّى أنّه هكذا، بقدر ما تفعل ذلك بإرادة صالحة، بطيرانها، كنقاط ذهبيّة، مِن زهرة إلى زهرة، ومِن ثمّ، مُحَمّلة بالعصارات، تدخل لتصنع عسلها في عمق الخلايا. ينبغي أن نُحسِن الاقتداء بها. اختيار التعاليم، العقائد، الصداقات السليمة، القادرة على إعطاء عُصارات فضيلة حقّة، ومِن ثمّ أن نُحسِن الانعزال للتحضير، انطلاقاً ممّا تمّ جمعه بنشاط، الفضيلة، البرّ، ما يشابه العسل المستخرج مِن عناصر سليمة كثيرة، دون إغفال الإرادة الصالحة الّتي بدونها تكون العصارات المأخوذة مِن هنا وهناك بلا فائدة. ينبغي أن نُحسِن التأمّل بتواضع، في صميم القلب، بصلاح ما رأيناه وسمعناه، دونما غيرة مِن أنّ الـمَلِكات هنّ قرب النحلات العاملات، أي إن كان هناك مَن هو أكثر برّاً ممَّن يتأمّل. كلّ النحل ضروريّ في القفير، العاملات كما الـمَلِكات. الويل لو كنّ جميعهنّ مَلِكات، والويل لو كنّ جميعهنّ عاملات، فتموت هذه كما تلك، لأنّ الـمَلِكات لن تحصل على الطعام كي تنجب إن لم يكن هناك عاملات، ولا يعود هناك عاملات إن لم تكن تنجب الـمَلِكات. ويجب عدم الغيرة مِن الـمَلِكات، فهي أيضاً لديها تعبها وتكفيرها. فهي لا ترى الشمس سوى مرّة واحدة، في طيرانها التزاوجيّ الوحيد. وقبل ذلك وبعده، هناك فقط ودوماً الاحتجاز بين جدران القفير العنبريّة. لكلّ واحد واجب، وكلّ واجب هو اختيار، وكلّ اختيار هو عبء إلى جانب أنّه تشريف. والعاملات لا تضيّع الوقت في طيران عبثيّ، أو طيران خطر فوق زهور مريضة وسامّة. إنّها لا تغامر. إنّها لا تعصى مهمّتها، لا تتمرّد على الغاية الّتي خُلقت مِن أجلها. آه! يا للكائنات الصغيرة المثيرة للإعجاب! كَم مِن تعاليم تقدّمينها للبشر!...»
يسوع يصمت مستغرقاً في تأمّله. يهوذا يتذكّر فجأة أنّ عليه الذهاب لا أدري إلى أين، ويمضي تقريباً راكضاً. يبقى يسوع ويوحنّا. ويوحنّا ينظر إلى يسوع دون أن يدع مجالاً لملاحظته. نظرة متنبّهة، قَلِقة بمحبّة. يسوع يرفع رأسه، يلتفت قليلاً ليقابل نظرة الـمُفَضّل الّتي تتفحّصه. فيُشرق وجهه فيما يجذبه إليه.
يوحنّا، وهو مُعانَق هكذا بينما هو يسير، يَسأَل: «يهوذا قد سبّب لكَ ألماً إضافيّاً، أليس كذلك؟ ولا بدّ أنّه قد كَدَّر صموئيل أيضاً.»
«لماذا؟ هل تكلّم معكَ حول ذلك؟»
«لا. لكنّني أدركتُ. لقد قال فقط: «عموماً، إنّ العيش قرب شخص صالح بحقّ يجعلنا نغدو صالحين. لكنّ يهوذا ليس كذلك، رغم أنّه يعيش مع المعلّم منذ ثلاث سنوات. إنّه فاسد في أعماقه، وصلاح المسيح لا يتغلغل فيه مِن فرط ما هو مليء بالفساد.» أنا لم أعرف ماذا أقول… لأنّ ذلك صحيح… لكن لماذا يهوذا هو هكذا؟ هل مِن الممكن ألّا يتغيّر أبداً؟ ومع أنّنا… نتلقّى جميعنا الدروس نفسها… وحينما أتى بيننا لم يكن أسوأ منّا...»
«يا عزيزي يوحنّا! يا طفلي الوديع!» يسوع يُقبّله على جبينه العاري والنقيّ للغاية، ويهمس له في شعره الأشقر والخفيف الّذي يغطّي رأسه: «هناك مخلوقات يبدو أنّها تعيش كي تُدمّر الخير الّذي فيها. إنّكَ صيّاد وتعلم ما يفعله الشراع حينما يضغطه الإعصار. إنّه ينخفض نحو الماء لدرجة أنّه يقلب القارب ويصبح خطراً عليه، بحيث ينبغي أحياناً إنزاله، وفقدان جناح للمضيّ صوب العشّ، ذلك أنّ الشراع، وقد تمكّن منه الإعصار، لا يعود جناحاً، بل ثقلاً يقود إلى القاع، إلى الموت بدلاً مِن الخلاص. إنّما إن سكن العصف العنيف للإعصار، ولو للحظات قصيرة، يعود الشراع جناحاً في الحال، ويهرع سريعاً إلى المرفأ كي يقود إلى الخلاص. هكذا هي نفوس كثيرة. يكفي أن يسكن إعصار الشهوات حتّى تعود النَّفْس المحنيّة، والمغمورة تقريباً بـ… بما هو غير صالح، تمتلك مجدّداً التوق إلى الخير.»
«نعم يا معلّم. إنّما مع ذلك… قل لي… هل سيصل يوماً ما، يهوذا، إلى مرفئكَ؟»
«آه! لا تجعلني أنظر إلى مستقبل واحد مِن أعزّ الناس لديَّ! أمامي مستقبل ملايين النفوس الّتي سيكون ألمي مِن أجلها بلا جدوى… أمامي كلّ أدناس العالم… الغثيان يكدّرني. غثيان كلّ هذا الغليان لأمور دنيئة، الّذي يغطّي الأرض وسوف يغطّيها كما الفَيض، بمظاهر مختلفة، ولكنّها شنيعة بالنسبة للكمال على الدوام، حتّى نهاية العصور. لا تجعلني أنظر! دعني أرتوي وأتعزّى مِن مَنهَل يجهل الفساد، وأنسى الفساد الـمُدوِّد لكثيرين، بالنظر فقط إليكَ أنتَ، يا سلامي!» ويُقبّله مرّة أخرى، العينان في العينين، محدّقاً في العينين الصافيتين للبتول والـمُحِبّ…
يدخلان المنزل. في المطبخ هناك صموئيل يكسر الحطب كي يوفّر على العجوز عناء إشعال النار.
يسوع يخاطب المرأة: «هل المسافرون نائمون؟»
«أظنّ ذلك. إنّني لا أسمع أيّ صوت. الآن آخذ ماءً للمطايا. أنّها تحت العنبر.»
«أنا سأفعل ذلك، أيّتها الأُمّ. اذهبي بالأحرى عند راحيل. لقد وعدتني بجبن طازج. قولي لها بأنّني سأدفع لها السبت.» يقول يوحنّا وهو يحمل الدلوين المليئين بالماء.
يسوع وصموئيل يبقيان وحدهما. يسوع يذهب إلى قرب الرجل، المنحني فوق النار والّذي ينفخ كي يشعل اللهب، ويضع يده على كتفه قائلاً: «يهوذا قد قاطعنا هناك فوق… أريد أن أقول لكَ بأنّني سأرسلكَ مع الرُّسُل في اليوم الّذي يعقب السبت. ربّما تفضّل ذلك...»
«شكراً يا معلّم. إنّني آسف لخسارة جواركَ. إنّما سوف أجدكَ أيضاً في رُسُلك. وأُفضّل، نعم، البقاء بعيداً عن يهوذا. لم أكن أجرؤ على أن أطلب منكَ ذلك...»
«حسناً. لقد حُسِم الأمر. وتحلَّ بالشفقة، تجاهه. مثلي. ولا تتحدّث عنه لبطرس ولا لأحد آخر...»
«إنّني أُحسِن الصمت يا معلّم.»
«لاحقاً سيأتي التلاميذ. هناك هَرْماس واستفانوس، وإسحاق، حكيمان وبارّ، وآخرون كثر. ستكون على ما يرام. وسط إخوة حقيقيّين.»
«نعم يا معلّم. أنتَ تُدرك وتُنجد. إنّكَ حقّاً المعلّم الصالح.» وينحني ليقبّل يد يسوع.