ج6 - ف145

أَنَا هُوَ

ماريا فالتورتا

L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO

THE GOSPEL AS REVEALED TO ME

بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}

L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ

MARIA VALTORTA

الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.

 

الجزء السادس/ القسم الثاني

 

145- (يسوع في إيبّو)

 

02 / 07 / 1946

 

أرجوكم أن تعذروني إذا ما كان هذا الدفتر بالتحديد قد خُطّ بشكل سيّئ، إنّها أحداث قد رأيتُها بينما كنتُ بين الموت والحياة بعد تاريخ 02 / 07 / 1946 المشؤوم... لقد كتبتُها فيما كنتُ ممدّدة وقد أصابتني حمّى شديدة رافقتها... آلام حادّة…

 

----------

 

يَدخُل يسوع إيبّو في صبيحة صافية. لا بدّ أنّه قد أمضى الليل في منزل ريفيّ لواحد مِن سكّان البلدة كان قد ذهب ليسمعه، لا بدّ أنّه قد فَعَلَ ذلك كي يذهب إلى البلدة في الصباح الباكر ليوم تضجّ فيه بسبب السوق، يصحبه الكثيرون مِن إيبّو، وأكثر منهم يَهرَعون لملاقاته بعدما أُعلِموا بأنّ المعلّم قد وصل. إنّما ليس فقط سكّان إيبّو هم مَن يحيطون بيسوع. فسكّان القرية التي على البحيرة هم أيضاً حاضرون. فقط بعض النسوة كنّ غائبات، إمّا لأسباب صحّية وإمّا لأنّ سنّ أطفالهنّ الصغار لا يسمح لهنّ بمغادرة منازلهنّ.

 

تبدو البلدة جميلة. إنّها قائمة فوق مستوى البحيرة بقليل، وتمتدّ على طول أولى التضاريس التي ترتفع مِن السهل الذي يقع ما وراء الضفّة، والتي ترتفع نحو الشرق، ثمّ تمتدّ نحو الجنوب الشرقيّ وصولاً إلى جبال حورانيطس [حوران]، ونحو الشمال الشرقيّ وصولاً إلى سلسلة الجبال التي يتصدّرها حرمون الكبير. إنّ لهذه البلدة أهمّيّتها، ليس فقط بسبب تجارتها المزدهرة وغِناها، إنّما أيضاً بسبب كونها ملتقى طرق وتربط الكثير مِن مناطق ما وراء البحيرة، كما تشير إلى ذلك شاخصات الطرق الموضوعة في محيطها، والتي تحمل أسماء جَمَلا، جدرة، بيلّا، أربيلا، بصرى، جرجسا وغيرها. إنّها ذات كثافة سكّانيّة ومرتادة كثيراً مِن قِبَل غرباء يأتون مِن البلدات المجاورة كي يشتروا أو يبيعوا، أو مِن أجل أعمال أخرى. أرى أنّ وسط الجمع هناك الكثير مِن الرومان، مدنيّين وعسكريّين، وألاحظ بأنّ الناس هنا -لا أدري إذا ما كان أمراً تنفرد به هذه البلدة أو أنّه أمر تتميّز به كلّ المنطقة- لا يبدون عدائيّين أو مناوئين كثيراً للرومان. ربّما لأنّ علاقات العمل قد أنشأت بينهم روابط مصالح، إن لم تكن روابط صداقة، أكثر ممّا هو الحال عليه في أيّة منطقة أخرى على الضفّة المقابلة.

 

الجمع يتزايد كلّما تقدّم يسوع نحو وسط المدينة، إنّه يتوقّف في ساحة واسعة مزروعة بالأشجار، حيث يقام سوق في ظلّها، إنّما هو سوق تُعقَد فيه أهمّ الصفقات، أمّا عمليات بيع التجزئة وشراء المواد الغذائيّة والحاجيّات فتتمّ خارج هذه الساحة، على رصيف، حيث الشمس تُلقي بأشعّتها، والباعة والمشترون يحمون أنفسهم منها بأقمشة قد نُصِبَت على أوتاد صغيرة، حيث تُلقي بالقليل مِن الظلّ على البضائع المعروضة على الأرض. إنّ هذا المكان، المغطّى بأقمشة مِن كافّة الألوان، والتي مُدّت ليس ببعيد جدّاً عن الأرض، والذي يعجّ بأناس يرتدون ملابس بألوان زاهية، يُشبه مرجاً مزيّناً بزهور ضخمة، بعضها ثابتة تقريباً، وبعضها تتحرّك بين الأقمشة المتعدّدة الألوان. لذلك فإنّ للمكان مظهراً بهيجاً، والذي لن يعود كذلك حينما تُزال تلك الأكشاك قديمة الطراز، حيث سيعود الرصيف قاحلاً ومُصفرّاً، مُوحِشاً ومعزولاً. إنّما الذي يعجّ الآن بأناس يصيحون، كم هو مرتفع صوت صياح أولئك الناس، وكَم يتجادلون ويصيحون حتّى مِن أجل وعاء خشبيّ، أو مِن أجل غربال أو حفنة مِن البذور! وتزيد حدّة الضجيج الصادرة عن الباعة والمشترين بفعل جوقة مِن المتسوّلين الذين هم أيضاً يرفعون أصواتهم كي تكون مسموعة في هكذا ضجيج.

 

«لن يكون بإمكانكَ التحدّث هنا يا معلّم!» يهتف برتلماوس. «إنّ صوتكَ قويّ، لكنّه لن يطغى على هذا الضجيج!»

 

«سوف ننتظر، أترون؟ السوق على وشك الانتهاء. بعض الأشخاص قد بدأوا بالفعل بتوضيب بضائعهم. اذهبوا في انتظار ذلك وأعطوا صدقة للفقراء مع تقدمات السكّان الأغنياء، سوف يكون ذلك مقدّمة للعِظة وبَرَكَة لها، لأنّ الصدقات الممنوحة بمحبّة ترتقي مِن مرتبة المساعدة المادّيّة إلى مرتبة محبّة القريب وتَجلب النّعم» يجيب يسوع.

 

يمضي الرُّسُل كي ينفّذوا الأمر.

 

يبدأ يسوع بالتحدّث وسط الجمع المنتبه. «إنّ البلدة غنيّة ومزدهرة. على الأقلّ في هذا الجزء منها. إنّني أرى بأنّكم ترتدون ملابس جميلة ونظيفة. ويبدو عليكم أنّكم تتغذّون جيّداً. كلّ ذلك يعني أنّكم لا تعانون مِن الفقر. والآن أودُّ أن أسألكم فيما إذا كان أولئك، الذين يتشكّون هناك، هُم مِن إيبّو، أم إنّهم متسوّلون عرضيّون قد أتوا إلى هنا مِن قرى أخرى طلباً للمساعدة. كونوا صادقين...»

 

«حسناً. سوف نجيبكَ، ولو أنّ كلماتكَ تحمل لوماً. إنّ بعضهم غرباء، إنّما أغلبهم هُم مِن إيبّو.»

 

«ألا يوجد عمل لهم؟ أرى بأنّكم تبنون الكثير مِن المنازل هنا، ويجب أن يكون هناك عمل للجميع...»

 

«الرومان هم غالباً مَن يستأجرون العمّال...»

 

«غالباً. أنتَ على حقّ. لأنّني كنتُ قد رأيتُ أيضاً بعض السكّان المحلّيّين يُشرفون على التشغيل. ولاحظتُ أنّ كثيرين منهم يستأجرون غرباء. لماذا لا تساعدون مواطنيكم أوّلاً؟»

 

«لأنّه... مِن الصعب فِعل ذلك هنا، فتحديداً منذ بعض الأعوام، قبل أن يُنشِئ الرومان طرقاً جيّدة، فقد كان جلب الصخور إلى هنا وشقّ طرق جديدة عملاً شاقاً... والكثيرون إمّا مرضوا أو أصبحوا معاقين... والآن هم متسوّلون لأنّهم ما عادوا يصلحون للعمل.»

 

«لكنّكم تستفيدون مِن العمل الذي قاموا به؟»

 

«بالتأكيد يا معلّم! انظر كم البلدة جميلة وعمليّة، مع مياه وافرة في خزّانات عميقة، وطرقات جميلة تصل هذه البلدة ببلدات أخرى غنيّة، انظر كم هي الإنشاءات متينة. انظر كم مِن إنجازات. انظر...»

 

«أرى كلّ شيء. وأرى أنّ أولئك الذين ساعدوكم في بناء تلك الأشياء، هم الآن يسألونكم بأصوات مترجّية أن تتصدّقوا عليهم بكِسرة خبز؟ ستقولون بأنّكم تتصدّقون عليهم؟ حسناً. إنّما إذا ما كنتم تَنعَمون الآن بما هم قد ساعدوكم على امتلاكه، فلماذا لا تعطوهم جزءاً ضئيلاً جدّاً مِن هذه النعمة؟ بعضاً مِن الخبز، مِن دون أن يطلبوه. مأوىً، بحيث لا يضطرّون إلى مشاركة الحيوانات البرّيّة أوكارها. بعض المساعدة لأمراضهم، والتي، إذا ما عولجت، فلن تعود تمنعهم مِن أن يقوموا بعمل ما، بدلاً مِن العيش بيأس في بطالة جسديّة إجباريّة. كيف يمكنكم أن تجلسوا بسرور إلى موائدكم وأن تتشاركوا الطعام الوافر بفرح مع أولادكم المبتسمين، عالِمِين بأنّه، وليس ببعيد عنكم، هناك بعض مِن إخوتكم جائعون؟ كيف يمكنكم أن تمضوا وترتاحوا في سرير مريح، فيما تعلَمون بأنّه خارجاً، في الليل، هناك أشخاص ليس لديهم أسرّة، وليس بمقدورهم أن يحظوا براحة؟ ألا تتعذّب ضمائركم بكلّ قطع النقود تلك التي تخبّئونها في الخزائن، عندما تعلمون أنّ الكثيرين لا يملكون حتّى ما يشترون به القليل مِن الخبز؟

 

لقد قلتُم لي بأنّكم تؤمنون بالربّ العليّ وبأنّكم تتقيّدون بالشريعة، وبأنّكم مُلِمّون بالأنبياء وكُتُب الحكمة. لقد قلتُم لي بأنّكم تؤمنون بي وبأنّكم حريصون على معرفة عقيدتي. إذن، فعليكم أن تمتلكوا قلوباً طيّبة، لأنّ الله محبّة، وهو يوصي بالمحبّة، لأنّ الشريعة هي محبّة، لأنّ الأنبياء وكتب الحكمة تنصح بالمحبّة، وعقيدتي هي عقيدة محبّة. إنّ التقدمات والصلوات هي بلا جدوى ما لم يكن أساسها ومذبحها محبّة القريب، وبالأخصّ الفقير والمحتاج، اللَّذَين يمكنكم أن تُقدّموا لهما كلّ أشكال المحبّة: برغيف خبز، بمأوى، بملابس، بتعزية وتثقيف، بتوجيههم إلى الله. إنّ الفقر، بإذلاله للناس، يؤدّي بالأرواح إلى أن تفقد الإيمان بالعناية الإلهيّة، أي أن تفقد الإيمان الذي يساعد على الصمود في وجه تجارب الحياة. وكيف تتوقّعون مِن فقير أن يكون دوماً صالحاً، صبوراً، تقيّاً، عندما يرى بأنّ أولئك الذين قد نالوا كلّ شيء مِن الحياة، أي الذي نالوه وفقاً للفكر الشائع مِن العناية الإلهيّة، عندما يرى أنّهم قساة القلوب، ولا يتبعون الدين الحقّ -لأنّ دينهم يفتقر لأوّل وأهمّ ركن: المحبّة- وهم غير حليمين، فبالرغم مِن امتلاكهم لكلّ شيء، فهُم حتّى لا يحتملون توسّلات الجائعين؟ هل الفقراء في بعض الأحيان يلعنون الله ويلعنونكم؟ إنّما مَن هو الذي دفعهم إلى ارتكاب هكذا خطيئة؟ ألم تُفكّروا أبداً، أيا أغنياء هذه البلدة المزدهرة، بأنّ عليكم واجباً كبيراً: الذي هو: أن تقودوا الفقراء التعساء إلى الحكمة مِن خلال تصرّفاتكم؟

 

لقد سمعتُ بعضكم يقولون لي: "نودُّ أن نكون كلّنا تلاميذكَ، مِن أجل أن نُبشِّر بكَ." وأنا أقول لكم كلّكم: بإمكانكم أن تفعلوا ذلك. فأولئك الذين أتوا إلى هنا بحياء، وهم خَجِلون بسبب ثيابهم الرّثة، وبوجوه هزيلة، هُم الذين ينتظرون البشرى الحسنة، التي أُعطِيَت قبل كلّ شيء مِن أجل الفقراء، كيما يحظوا بتعزية فائقة الطبيعة بالرجاء بحياة مجيدة، بعد واقع حياتهم الحاضرة الحزينة. فأنتم (الأغنياء) يمكنكم أن تمارسوا عقيدتي تلك بأقلّ الأتعاب المادّيّة، إنّما بأتعاب روحيّة جبّارة، لأنّ القداسة والاستقامة يكونان عرضة للخطر بوجود الغِنى. أمّا هم (الفقراء) فيمكنهم ذلك بأتعاب مِن كلّ الأنواع: نقص الخبز، نقص الثياب، عدم وجود المأوى، وأيضاً بِحثّهم أولئك الناس (الأغنياء) على سؤال أنفسهم: "كيف يسعني أن أؤمن بأنّ الله هو أبي، عندما لا يكون لديَّ ما لدى طائر السماء؟" فكيف يمكن للقسوة تجاه القريب أن تجعلهم يؤمنون بأنّه يتوجّب عليهم أن يحبّواً بعضهم البعض كالإخوة؟ إنّ مِن واجبكم أن تؤكّدون لهم بأنّ الله هو أب، وبأنّكم إخوتهم، وذلك عبر محبّتكم الفاعلة. إنّ العناية الإلهيّة موجودة، وأغنياء العالم هُم رُسُلها. وحقيقة أنّكم وسيلتها يجب أن تُعتَبر مِن قبلكم كأعظم تكريم قد مُنح لكم مِن قِبَل الله، وهذه هي الطريقة الوحيدة لجعل الغِنى الخَطِر مقدّساً.

 

وتصرّفوا كما لو أنّكم ترونني في كلّ واحد منهم. أنا فيهم. لقد أردتُ أن أكون فقيراً ومُضطَهَداً كي أكون مثلهم، وبحيث تدوم ذكرى المسيح الفقير والـمُضطَهَد عبر القرون، مُسلِّطة نوراً فائقاً للطبيعة على أولئك الفقراء والـمُضطَهَدين كما المسيح، نوراً يجعلكم تحبّونهم كما لو كانوا أنا بذاتي. إنّني حقيقة في المتسوّل الذي أُعطِيَ طعاماً، شراباً، ثياباً، مأوىً. أنا في اليتيم الذي تمّ الاعتناء به بدافع المحبّة، في الأرملة التي مُدّت لها يد العون، في المسافر الذي تمّت استضافته، في المريض الذي تمّت معالجته. وأنا في المحزونين الذين تتمّ تعزيتهم، وفي المرتابين الذين تتمّ طمأنتهم، وفي الجاهلين الذين يتمّ تعليمهم. إنّني حيثما يتمّ تلقّي المحبّة. وكلّ ما يُفعَل لأخ محروم، سواء كان حرماناً مادّيّاً أم روحيّاً، فهو يُفعَل لأجلي. لأنّني أنا الفقير، المحزون، رجل الآلام، وأنا على تلك الحال كي أَمنَح الغِنى، الفرح، حياة فائقة الطبيعة لكلّ البشر الذين هم في الكثير مِن الأحيان -وهم لا يعلمون، أنّما تلك هي الحقيقة- أغنياء وفَرِحين فقط في الظاهر، فيما كلّهم فقراء بالمعنى الحقيقيّ للغِنى والفرح، لأنّهم بدون النعمة التي كانت الخطيئة الأصليّة قد حرمتهم منها.

 

إنّكم تعلمون أنّه مِن دون فداء ليس هناك نعمة، ومن دون النعمة ليس هناك فرح ولا حياة. وكي أمنحكم النعمة والحياة فأنا لم أشأ أن أُولَد مَلِكاً أو مُقتَدِراً، ولكنّني اخترتُ أن أكون فقيراً، إنساناً متواضعاً مِن عامّة الشعب، لأنّ التاج، العرش، السُّلطة هي لا شيء بالنسبة لِمَن أتى مِن السماء كي يقود النُّفوس إلى السماء، فأهمّ شيء هو الـمَثَل الذي يجب على المعلّم الحقيقيّ أن يكونه كي يعطي القوّة لعقيدته. لأنّ أغلب الناس هم فقراء وتعساء، أمّا المقتدرون والسعداء فهمّ قلّة. فالصلاح إذن هو رأفة.

 

لذلك أتيتُ ولذلك مَسَحَ الربّ مسيحه: كي أُعلِن البشرى الحسنة للودعاء، وأشفي منكسري القلوب، كي أبشّر العبيد بالانعتاق، والمسجونين بالحرّيّة، كي أعزّي الباكين، كي أضع لأبناء الله -الأبناء الذين يُحسنون البقاء هكذا في الفرح وفي الألم- إكليلهم، وأُلبِسهم ثوب البرّ، وأحوّلهم مِن نباتات برّيّة إلى أشجار للربّ، إلى أبطاله ومَفاخِره. أنا كلّ شيء للجميع، وأريد الجميع معي في ملكوت السماوت، المفتوح للجميع شريطة أن يحيوا في البرّ. والبرّ هو في تطبيق الشريعة وفي أعمال المحبّة. إنّ دخول ذلك الملكوت لا يكون بامتلاك الثروة، ولكن بالبطولة في القداسة. ومَن يريد دخوله عليه أن يتبعني وأن يفعل ما أفعل: عليه أن يحبّ الله أكثر مِن كلّ شيء، وأن يحبّ قريبه كما أنا أحبّه، عليه ألّا يجدّف على الربّ، عليه أن يراعي الأيّام المقدّسة وأن يكرّم والديه، عليه ألّا يُمارِس العنف على أخيه الإنسان، عليه ألّا يرتكب الزنى أو أن يسرق أخاه بأيّ شكل مِن الأشكال، أو أن يشهد بالزُّور، أو أن يَشتَهي ما ليس لديه ويمتلكه الآخرون، ولكن عليه أن يكون راضياً بنصيبه، ناظراً إليه دوماً على أنّه حالة عابرة، طريق ووسيلة لكسب مصير أفضل ويدوم للأبد، عليه أن يحبّ الفقراء، والمحزونين، والأكثر بؤساً على الأرض، واليتامى، والأرامل، وعليه ألّا يمارس الرِّبا. وكلّ مَن يفعل ذلك، مهما كان انتماؤه ولغته، مركزه وثروته، فسيكون بإمكانه دخول ملكوت الله: الذي سأفتح أنا أبوابه لكم.

 

تعالوا إليَّ كلّكم يا ذَوي الإرادة الصالحة. لا تخافوا ممّا أنتم عليه أو ممّا كنتم عليه. أنا الماء الذي يطهّر الماضي ويحصّن للمستقبل. تعالوا إليَّ، أنتم الفقراء في الحكمة. فالحكمة هي في كلماتي. تعالوا إليَّ، ابدأوا حياة جديدة مؤسّسة على مُثُل جديدة. لا تخافوا مِن ألّا تعرفوا كيف، أو مِن ألّا تكونوا قادرين على فِعل ذلك. إنّ عقيدتي سهلة، إنّ نيِري خفيف. أنا المعلّم الذي يعطي مِن دون أن يَطلُب مقابلاً، مِن دون أن يَطلُب أيّ مقابل سوى المحبّة. إذا كنتم تحبّونني، فسوف تحبّون عقيدتي، وبالتالي سوف تحبّون قريبكم، وسوف تنالون الحياة والملكوت.

 

أيّها الأغنياء، جَرِّدوا أنفسكم مِن تعلّقها بالثروة، واشتروا بها الملكوت بواسطة أعمال المحبّة الرحيمة لقريبكم. أيّها الفقراء، جَرِّدوا أنفسكم من الكآبة وتعالوا إلى طريق مَلِككم. ومع إشَعياء أقول: "أيّها العطاش جميعاً هلمّوا إلى المياه، والذي ليس له فضّة تعالوا واشتروا." بالمحبّة سوف تشترون كلّ ما هو محبّة، الغذاء الذي لا يفنى، الغذاء الذي يُشبِع ويقوّي.

 

إنّني راحل يا رجال إيبّو ونساءها، أغنياءها وفقراءها. إنّني راحل كي أطيع مشيئة الله. لكنّني أريد المغادرة وأنا أقلّ حزناً منه حينما وصلتُ. ووعدكم لي هو ما سوف يخفّف حزني. لخيركم أيّها الأغنياء، لخير بلدتكم هذه، كونوا وتعهّدوا بأن تكونوا في المستقبل رحماء تجاه المعدمين الذين هم وسطكم. كلّ شيء جميل هنا. إنّما وكما أنّ غيمة قاتمة عاصفة تُعطي مظهراً مخيفاً حتّى لأجمل مدينة، كذلك قسوة قلوبكم تُشكِّل خطراً وشيكاً هنا، كما الظلمة التي تُسبّب تلاشي الجمال. ازيلوا قسوتكم وستكونون مباركين. وتذكّروا: إنّ الله قد وَعَدَ بألّا يُدمِّر سدوم، إذا ما وُجِد فيها عشرة أشخاص صالحين. إنّكم لا تعرفون المستقبل. أمّا أنا فأعرفه. والحقّ أقول لكم بأنّه مُثقَل بالعقوبات أكثر ممّا هي سحابة صيف مثقلة بالبَرَد. خلّصوا مدينتكم ببرّكم ورحمتكم. هل ستفعلون ذلك؟»

 

«سوف نفعل ذلك باسمكَ يا ربّ. تكلّم، نرجوكَ، كَلِّمنا بعد! لقد كنّا قساة القلوب وخطأة. إنّما أنتَ تخلّصنا. إنّكَ المخلّص. كَلِّمنا...»

 

«سوف أبقى معكم حتّى المساء. إنّما سأتكلّم مِن خلال أفعالي. أمّا الآن، وبما أنّ الشمس متّقدة، فاذهبوا إلى منازلكم وتأمّلوا بكلامي.»

 

«وإلى أين أنتَ ذاهب يا ربّ؟ تعال إلى منزلي! إلى منزلي!» كلّ أغنياء إيبّو يريدون استضافته، وهم يوشكون على التخاصم واحدهم مع الآخر فيما يُسوِّغون أسباب وجوب ذهاب يسوع مع هذا أو مع ذاك.

 

إنّه يَرفَع يده فارضاً الصمت. ويتمكّن مِن ذلك بصعوبة. إنّه يقول: «إنّني باقٍ مع هؤلاء.» ويشير إلى الفقراء الذين، وقد تجمّعوا معاً فيما وراء الجمع، فإنّهم ينظرون إليه نظرة مَن كان مُحتَقَراً على الدوام، والآن يَشعُر بأنّه محبوب. ويُكرّر: «إنّني باقٍ معهم كي أعزّيهم وكي أشاركهم الزَّاد. أريد منحهم دفعة مقدّمة مِن سعادة الملكوت حيث سيكون الـمَلِك جالساً وسط رعاياه إلى وليمة المحبّة ذاتها. وأيضاً، وحيث إنّ إيمانهم مكتوب على وجوههم وفي قلوبهم، أن أقول لهم: "ليكن لكم ما ترغب به قلوبكم، ولتبتهج أجسادكم ونفوسكم بأوّل علاج لصحتكم يمنحكم إيّاه المخلّص."»

 

لا بدّ أنّ عدد الفقراء يبلغ مئة شخص على أقلّ تقدير. وثلثاهم على الأقلّ يعانون مِن إعاقات جسديّة، أو هم عميان، أو مرضى بشكل جليّ، أمّا الثّلث الآخر فهم أطفال يتسوّلون مِن أجل أُمّهاتهم الأرامل أو مِن أجل أجدادهم... ومِن ثمّ: إنّه لَمِن الرائع رؤية الأذرع العاجزة، الأوراك المخلّعة، الظهور المشوّهة، العيون المنطفئة، الأجساد الـمُستَنفَذة التي تجرّ نفسها، كلّ تلك الأمراض المؤلمة والمصائب مِن كلّ الأنواع، التي سَبَّبَتها حوادث العمل أو فرط الإجهاد والعَوَز، مِن الرائع رؤيتها وقد عادت إلى حالتها الصحّيّة الطبيعيّة، بما يَسمَح لأولئك الفقراء البؤساء كي يعودوا للحياة مجدّداً ويشعروا بأنّهم في وضع يسمح لهم بأن يعيلوا أنفسهم. إنّ صيحاتهم تملأ الساحة الواسعة وتتردّد فيها.

 

أحد الرومانيّين يشقّ لنفسه بمرفقيه طريقاً عبر الجمع المنتشي ويصل إلى يسوع الذي كان، وبصعوبة كبيرة، يتوجّه نحو الفقراء الذين كانوا قد تعافوا للتوّ، والذين يباركونه مِن حيث يقفون، حيث يستحيل عليهم أن يخترقوا كتلة الناس المتراصّة.

 

«تحيّة يا معلّم إسرائيل. ما فعلتَه، أهو فقط مِن أجل أبناء شعبكَ؟»

 

«لا يا رجل. لا ما فعلتُه ولا ما قلتُه. إنّ قدرتي شاملة، لأنّ محبّتي شاملة. وعقيدتي أيضاً شاملة، حيث لا تحدّها طبقات اجتماعيّة، ولا أديان، ولا أُمم. إنّ ملكوت السموات هو لكلّ الإنسانيّة التي بوسعها الإيمان بالله الحقّ. وأنا هنا مِن أجل أولئك الذين بوسعهم الإيمان بمقدرة الله الحقّ.»

 

«إنّني وثنيّ. لكنّني أؤمن بأنّكَ إله. عندي عَبْد، وهو عزيز عليَّ. عبد عجوز كان قد تَبِعَني مذ كنتُ طفلاً. إنّ الشلل يقتله الآن ببطء، ويُسبّب له ألماً شديداً. لكنّه عبد وربّما أنتَ...»

 

«الحقّ أقول لكَ بأنّه فقط عبوديّة واحدة تنفّرني: عبوديّة الخطيئة، والخطيئة المتعنّتة. لأنّ مَن يُخطئ ويَندم فسوف يلقى رحمتي. إنّ عبدكَ قد شفي. اذهب وتخلّص مِن ضلالك بالمجيء إلى الإيمان الحقّ.»

 

«ألن تأتي إلى منزلي؟»

 

«لا يا رجل.»

 

«في الحقيقة... لقد بالغتُ في الطلب. إنّ إلهاً لا يذهب إلى منازل الفانِين. إنّنا نقرأ عن ذلك فقط في الأساطير... إنّما لم يحصل أبداً أنّ إنساناً قد استضاف جوبيتر أو أبولّو.»

 

«لأنّه لا وجود لهما. إنّما الله، الله الحقّ يَدخُل منازل أولئك الذين يؤمنون به ويحمل لهم الصحّة والسلام.»

 

«مَن هو الله الحقّ؟»

 

«إنّه الكائن.»

 

«أليس أنتَ؟ لا تكذب! إنّني أشعر بأنّكَ الله...»

 

«أنا لا أكذب. ما قلتَه أنتَ صحيح: إنّني الله. أنا ابن الله الذي أتيتُ كي أُخلِّص أيضاً نَفْسكَ كما خلّصتُ عبدكَ المحبوب. أليس هو ذاك الآتي صائحاً بأعلى صوته؟»

 

يلتفت الرومانيّ، يرى رجلاً عجوزاً، يتبعه أشخاص آخرون، إنّه يركض، ملتفّاً بغطاء، ويصيح: «ماريوس! ماريوس! سيّدي!»

 

«بحقّ جوبيتر! إنّه عبدي! كيف!... أنا... قلتُ: جوبيتر... لا: بل أقول: بحق معلّم إسرائيل! أنا... أنا...» الرجل يَحار فيما يقول…

 

يفتح الجمع ممرّاً بطيب خاطر كي يدع العجوز الذي شُفي للتوّ يمرّ.

 

«إنّني بخير يا سيّدي. لقد شعرتُ بشيء كما النار في أطرافي، وسمعتُ أمراً: "انهض" ظننتُ أنّه كان صوتكَ. فنهضتُ... وقد استطعتُ الوقوف... حاولتُ المشي... وقد استطعتُ ذلك... تحسّستُ القروح... إنّما كانت قد اختفت. صرختُ. فهرع كلّ مِن نيريوس وكوينتوس. لقد قالا لي أين أنتَ موجود. لم أنتظر لأحصل على ثياب. الآن أستطيع أن أستأنف خدمتكَ...» الرجل العجوز يبكي جاثياً على ركبتيه فيما يُقبّل رداء الرومانيّ.

 

«ليس لي. هذا المعلّم هو الذي شفاكَ. علينا أن نؤمن يا أكويلا. إنّه الله الحقّ. لقد شفى أولئك الناس بصوته فقط، وشفاكَ... لا أعرف كيف... يجب أن نؤمن... يا ربّ... أنا وثنيّ، إنّما... خذ... لا. إنّ هذا قليل جدّاً. قل لي إلى أين أنت ذاهب وسوف أُكرّمكَ.» لقد قَدَّم كيس مال ثمّ تراجع.

 

«إنّني ذاهب معهم إلى أسفل ذاك الرواق المعتم.»

 

«سوف أُرسِل لكَ تقدمة مِن أجلهم. تحيّة يا معلّم. وسوف أخبر أولئك الذين لا يؤمنون...»

 

«وداعاً. سوف أنتظركَ على دروب الله.»

 

يمضي الرومانيّ مع عبيده. ويسوع يمضي مع فقرائه والرُّسُل والنسوة التلميذات.

 

إنّ الرواق -هو درب مسقوف أكثر منه رواق- ظليل ومنعش، والفرح عظيم لدرجة أنّه حتّى المكان يبدو جميلاً، على الرغم مِن أنّه مكان عاديّ جدّاً. ومِن وقت لآخر يأتي أحد السكّان ويقدّم صَدَقات. ويعود عبد الرومانيّ بكيس نقود ثقيل. ويسوع يوزّع كلمات مِن نور ومعونات نقديّة، وعندما يعود الرُّسُل بتشكيلة مِن المواد الغذائيّة، فإنّ يسوع يقسم الخبز ويبارك الطعام، ومِن ثمّ يوزّع على الفقراء، على فقرائه...