ج8 - ف27
أَنَا هُوَ
ماريا فالتورتا
L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO
THE GOSPEL AS REVEALED TO ME
بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}
L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ
MARIA VALTORTA
الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.
الجزء الثامن
27- (في أفرايم. وصول الأُمّ مع لعازر والتلميذات.)
12 / 02 / 1947
لقد استيقظوا بالفعل في منزل مريم الّتي ليعقوب، رغم أنّ النهار بالكاد قد طلع. يمكن القول بأنّه يوم سبت، لأنّني أرى تواجد الرُّسُل الّذين يكونون في العادة في رسالة التبشير. هناك تحضيرات كبيرة لنار وماء ساخن، وتتمّ مساعدة مريم على نخل الطحين وعجنه لعمل الخبز. العجوز مرتبكة للغاية، ارتباك فتاة صغيرة، وفيما تعمل بهمّة تَسأَل هذا وذاك: «هل الوصول هو اليوم حقّاً؟ وهل الغرف الأخرى جاهزة؟ هل أنتم متأكّدون بأنّهنّ لسن أكثر مِن سبع؟»
يجيبها بطرس عن الجميع، أثناء سلخه حَمَلاً لتحضيره للطهي: «كان ينبغي أن يكنّ هنا قبل السبت، لكن ربّما أنّ النسوة لم يكنّ جاهزات بعد، ولذلك فقد تأخّرن. إنّما حتماً سوف يأتين اليوم. آه! إنّني مسرور لذلك! هل خرج المعلّم؟ ربّما هو ذهب لملاقاتهنّ...»
«نعم. لقد خرج مع يوحنّا وصموئيل للتوجّه صوب طريق السامرة الرئيسيّة.» يجيب برتلماوس الّذي يخرج بإبريق مملوء ماءً مغليّاً.
«إذن يمكن أن نكون واثقين مِن أنّهنّ سيصلن. فهو دوماً يعلم كلّ شيء.» يعلن أندراوس.
«أودّ أن أعرف: لماذا تضحك هكذا؟ ما الّذي يثير الضحك في كلام أخي؟» يَسأَل بطرس الّذي لاحظ الضحكة التهكّمية ليهوذا، المتكاسل في إحدى الزوايا.
«أنا لا أضحك بسبب أخيكَ. إنّكم كلّكم سعداء، وأنا أيضاً يمكنني أن أكون كذلك، وأن أضحك حتّى دونما سبب.»
بطرس ينظر إليه مُظهِراً بماذا يفكّر، إنّما يعود للاهتمام بعمله.
«هاكم! لقد تمكّنتُ مِن العثور على غصن مُزهِر. هو ليس غصن لوز كما كنتُ أريد. إنّما هي، إذ ينتهي إزهار شجر اللوز، تلتقط أغصاناً أخرى، وسوف تسعد بغصني.» يقول تدّاوس الّذي يعاود الدخول، والّذي يقطر ندىً كما لو أنّه كان في الأحراج، حاملاً حزمة أغصان مُزهِرة. آية بياض نديّ تبدو أنّها تنير المطبخ وتُزيّنه.
«آه! إنّها جميلة! أين عثرتَ عليها؟»
«عند نُعْمي. كنتُ أعلم بأنّ بستانها يتأخّر في الإثمار بسبب الريح الشماليّة الّتي تعيقه. وقد صعدتُ إلى هناك.»
«لهذا السبب أنتَ أيضاً تشبه شجرة حراجيّة! فقطرات الندى تلمع في شعركَ، وقد بَلَّلَتْ ملابسكَ.»
«لقد كان الدرب رطباً كما لو أنّها أمطرت. إنّه الندى الوافر للأشهر الأجمل.» تدّايوس يمضي بزهوره، وبعد قليل ينادي أخاه كي يساعده في تنسيق الزهور.
«آتي أنا. فلي خبرة بذلك. يا امرأة، أليس لديكِ قارورة ماء طويلة العنق، وإن أمكن أن تكون مِن الفخّار الأحمر؟» يقول توما.
«عندي ما تبحث عنه وأيضاً مزاهر أخرى… تلك الّتي كنتُ أستخدمُها أيّام الأعياد... لأعراس أولادي أو لسبب آخر مهمّ. إن تنتظر لحظة لأضع هذه الفطائر في الفرن، فسآتي لأفتح لكَ الصندوق حيث توجد الأشياء الجميلة… آه! هي قليلة الآن، بعد الكثير مِن الـمِحَن! إنّما احتفظتُ ببعضها كي… أتذكّر… وأُعاني، لأنّها وإن كانت ذكريات مُفرِحة، فهي الآن تُسبّب البكاء لأنّها تُذكّر بما انتهى.»
«إذاً كان مِن الأفضل لو لم يطلبها أحد منكِ. لا أودُّ أن يحدث لنا كما حدث في نوبة. تحضيرات كثيرة مِن أجل لا شيء...» يقول الاسخريوطيّ.
«وإن قلتُ لكَ أنّ مجموعة تلاميذ قد أبلغتنا؟! أتريدهم أن يكونوا قد حلموا؟ لقد تكلّموا مع لعازر. وقد أرسلهم أمامهم عن قصد. كانوا آتين إلى هنا كي يُخطِروا بأنّ الأُمّ ستكون هنا ما قبل السبت بعربة لعازر، ولعازر والتلميذات...»
«إنّما لم يأتوا...»
«أنتم الّذين رأيتم ذاك الرجل، قولوا: ألا يسبّب الخوف؟» تسأل المرأة العجوز وهي تمسح يديها بمئزرها، بعدما عهدت بفطائرها ليعقوب بن زَبْدي ولأندراوس كي يحملاها إلى الفرن.
«الخوف؟ لماذا؟»
«إيه! إنسان يعود مِن عند الأموات!» إنّها متأثّرة للغاية.
«اهدئي يا أُمّي. إنّه مثلنا تماماً.» يطمئنها يعقوب بن حلفى.
«بالأحرى حاذري مِن أن تثرثري مع النساء الأخريات، كي لا نحظى بكلّ أفرايم في الداخل هنا لإزعاجنا.» يقول الإسخريوطيّ بعنجهيّة.
«إنّني لم أتفوّه أبداً بكلام متهوّر منذ وجودكم هنا. لا مع أهل المدينة ولا المسافرين. لقد فضّلتُ الظهور بمظهر البَلهاء بدلاً مِن أن أظهر بمظهر العالِمة وأُزعج المعلّم وأُسبّب له الضرر. وسوف أُحسِن الصمت اليوم أيضاً. تعال يا توما...» وتخرج كي تذهب لأخذ كنوزها المخبّأة.
«المرأة مرتعبةً مِن التفكير بأنّها سترى قائماً مِن الموت.» يقول الاسخريوطيّ ويضحك بسخرية.
«هي ليست الوحيدة. لقد قال لي التلاميذ بأنّ الجميع مضطربون في الناصرة، كما في قانا وطبريّا. إنّ شخصاً يعود مِن الموت بعد أربعة أيّام في القبر لا يمكن العثور عليه بسهولة كما الأقحوان في الربيع. كذلك نحن كنّا شديدي الشحوب عندما خرج مِن القبر! إنّما ألا يمكنكَ أن تعمل بدلاً مِن البقاء هناك لإبداء تعليقات عبثيّة؟ الجميع يعملون، وما يزال هناك الكثير لفعله… اذهب إلى السوق واشترِ ما يلزم طالما اليوم يمكن القيام بذلك. إنّ ما جلبناه نحن ليس كافياً، الآن وهنّ على وصول، ولم يكن لدينا الوقت للعودة إلى المدينة والتبضّع. إنّ مغيب الشمس قد ثبّتنا حيث كنّا.»
يهوذا ينادي متّى، الّذي يعود إلى المطبخ حسن الهندام، ويخرجان معاً.
يعود الغيور إلى المطبخ كذلك، حسن الهندام، ويقول: «توما هذا! إنّه فنّان بحقّ. بالقليل قد قام بتزيين الغرفة كما لوليمة عرس. اذهبوا وانظروا.»
الجميع، ما عدا بطرس، الّذي يُنهي تحضيراته، يهرعون كي يروا. يقول بطرس: «أتحرّق شوقاً للحظة وصولهم. قد يكون معهم مارغزيام أيضاً. الفصح بعد شهر. حتماً سيكون قد غادر كفرناحوم أو بيت صيدا.»
«إنّني مسرور لأجل المعلّم بمجيء مريم. هي سوف تواسيه أكثر مِن الجميع. وهو بحاجة إلى ذلك.» يجيبه الغيور.
«كثيراً. إنّما هل لاحظتَ كم يوحنّا حزين أيضاً؟ لقد سألتُه. إنّما عبثاً. فمع وداعته هو أكثر ثباتاً منّا كلّنا، وإن لم يكن يريد الكلام، فلا شيء يجعله يتكلّم. لكنّني واثق مِن أنّه يعلم شيئاً ما. إنّه يبدو كظلّ المعلّم. يتبعه دوماً. يراقبه دوماً. وعندما لا يعرف بأنّه مُراقَب -لأنّه آنذاك يجيب نظركَ بابتسامته تلك الّتي تجعل حتّى النمر وديعاً- عندما لا يعرف بأنّه مُراقَب، أقول أنّ وجهه يغدو حزيناً، حزيناً. حاول أن تسأله أنتَ. هو يحبّكَ كثيراً. ويعلم بأنّكَ أكثر احتراساً منّي...»
«آه! هذا لا. أنتَ قدّ غدوت لنا كلّنا مثالاً في الاحتراس. ما عاد أحد يتعرّف فيكَ على سمعان الّذي كان قبلاً. إنّكَ حقّاً الصخرة الّتي تسندنا كلّنا بصلابتها وقوّتها.»
«إنّما! لا تقل ذلك! إنّني إنسان مسكين. بالتأكيد… بالبقاء معه سنين عديدة نصير مثله قليلاً. قليلاً… قليلاً جدّاً، إنّما مختلفين كثيراً عمّا كنّا عليه قبلاً. جميعنا كذلك… لا، ليس الجميع، للأسف. يهوذا هو دوماً ذاته. هنا كما في منطقة المياه الحلوة...»
«وبمشيئة الله يظلّ دوماً هو ذاته!»
«ماذا؟ ماذا الّذي تريد قوله؟»
«لا شيء وكلّ شيء يا سمعان بن يونا. لو سمعني المعلّم، لقال لي: "لا تدِنْ". إنّما هذا ليس إدانة. هذا تَخوُّف. إنّني أخشى مِن أن يكون يهوذا أسوأ ممّا كان عليه في منطقة المياه الحلوة.»
«بالتأكيد هو كذلك، ولو أنّه لا يزال كما كان آنذاك. إنّه كذلك لأنّه ينبغي أن يكون قد تغيّر، أن يرتقي بالبرّ، وعلى العكس هو دوماً ذاته. وبالتالي فإنّه يحمل في قلبه خطيئة الكسل الروحيّ الّتي لم تكن فيه آنذاك. ففي الأزمنة الأولى… مجنون نعم، إنّما كان مفعماً إرادة صالحة… قُل: بماذا يجعلكَ تفكّر قرار المعلّم بإرسال صموئيل معنا وأن يجمع كلّ التلاميذ، بقدر ما يمكننا أن نجمع منهم في أريحا، لقمر نيسان [أبريل] الجديد؟ قبلاً قال بأنّ الرجل سيبقى هنا… وكذلك كان قد منع مِن الإفصاح عن مكانه. إنّني مرتاب...»
«لا. إنّني أرى الأمور واضحة ومنطقيّة. فمن الآن وصاعداً، لا يُعرَف على يد مَن وكيف الانتشار، فخبر وجود المعلّم هنا قد بات معلوماً في كلّ فلسطين. ترى كيف أنّ مسافرين وتلاميذ قد أتوا إلى هنا مِن قادش إلى عين جدي، مِن جبّة (Joppe) إلى بصرى. وبالتالي لا جدوى مِن كتمان السرّ بعد. علاوة على ذلك فإنّ الفصح يقترب، ومِن المؤكّد أنّ المعلّم يريد أن يحظى بالتلاميذ معه لأجل عودته إلى أورشليم. السنهدرين يقول، وقد سمعتَ ذلك، بأنّه قد هُزِم وبأنّه فقد كلّ التلاميذ. وهو يردّ بدخوله إلى المدينة على رأسهم...»
«أنا خائف يا سمعان! خوفاً شديداً… لقد سمعتَ، إيه! الجميع، حتّى الهيروديّين، قد اتّحدوا ضدّه...»
«إيه! نعم! ليساعدنا الله!...»
«ولماذا يُرسِل صموئيل معنا؟»
«كي يعدّه لرسالته بالتأكيد. لا أرى سبباً للاضطراب… إنّهم يقرعون! حتماً هنّ التلميذات!...»
بطرس يتخلّص مِن مئزره الملطّخ بالدم ويتبع راكضاً الغيور، الّذي هرع إلى باب المنزل. كلّ الآخرين الّذين هم في المنزل يخرجون مِن أبواب مختلفة، والجميع يصيحون: «ها هنّ! ها هنّ!»
إنّما، وقد فُتِحَ الباب، فإنّهم يلبثون محبطين على نحو واضح أمام إليز ونيقي، بحيث أنّ التلميذتين تسألان: «ولكن هل حدث أمر ما؟»
«لا! لا! إنّما كنا نظنّ... بأنّها كانت الأُمّ وتلميذات الجليل...» يقول بطرس.
«آه! وقد لبثتم منزعجين. إنّما نحن على العكس مسرورتان جدّاً لرؤيتكم، ولمعرفة أنّ مريم لن تتأخّر.» تقول إليز.
«منزعجين لا… بل خائبين، هذا ما في الأمر! إنّما تعاليا! ادخلا! ليكن السلام مع أختينا الطيّبتين.» يحيّيهما تدّاوس باسم الجميع.
«ولكم. أليس المعلّم هنا؟»
«لقد ذهب مع يوحنّا لملاقاة مريم. لقد تمّ إعلامنا بأنّها آتية عبر طريق شكيم [نابلس]، على عربة لعازر.» يشرح الغيور.
تدخلان إلى المنزل، فيما يهتمّ أندراوس بجحش إليز. نيقي جاءت سيراً على الأقدام. تتحدّثان عمّا يجري في أورشليم، تسألان عن الأصدقاء والتلاميذ… عن أناليا، عن مريم ومرثا، عن يوحنّا العجوز الّذي مِن نوبة، عن يوسف، عن نيقوديموس، عن كثيرين آخرين. غياب يهوذا الاسخريوطيّ يسمح بالكلام في سلام وصراحة.
إليز، وهي إمرأة مسنّة، صاحبة خبرة، وقد كانت في فترة نوبة على احتكاك مع الاسخريوطيّ وتعرفه جيّداً مذ ذاك، وحتّى هي «لا تحبّه إلّا محبة بالله.» كما تقول صراحةً، بل وتستعلم إذا ما كان في المنزل ومنفصلاً عن الآخرين وفقاً لنزوة ما، وفقط بعدما تعلم بأنّه في الخارج، للتبضّع، فهي تُفضي بما تعرفه: «بأنّ كلّ شيء يبدو هادئاً في أورشليم، لا بل إنّهم ما عادوا يستجوبون التلاميذ المعروفين، ويقال همساً بأنّ ذلك قد حدث لأنّ بيلاطس قد رفع الصوت على جماعة السنهدرين، مُذكّراً إيّاهم بأنّه هو وحده صاحب القرار بإحلال العدالة في فلسطين، وبأن يكفّوا عن ذلك.»
«ومع ذلك يقال أيضاً:» تلاحظ نيقي. «-وبالضبط مَنَاين هو مَن يقول ذلك، ومعه آخرون، وخاصّة امرأة، لأنّ فاليريا هي مَن تقول ذلك- أنّ بيلاطس الّذي سئم بحقّ مِن هذا الهيجان الّذي يُبقي البلاد مضطربة، والّذي يمكن أن يسبّب له المتاعب، هو أيضاً متأثّر بالإلحاح الّذي يلمّح به اليهود بأنّ يسوع ينوي أن يُعلن نفسه مَلِكاً، ولو لم تكن هناك التقارير المتطابقة والإيجابيّة لقادة المئة، وخصوصاً نفوذ زوجته، لكان انتهى إلى معاقبة المسيح، ربّما بالنفي، كي لا يعاني بعد مِن المتاعب.»
«لا ينقص بعد إلاّ هذا! وهو قادر على فِعله! قادر جدّاً! إنّها العقوبة الأخفّ بالنسبة للرومان، وهي الأكثر استخداماً بعد الجَلْد. إنّما أتفكّرون بهذا؟ يسوع وحده لا أدري أين، ونحن مشتّتون هنا وهناك...» يقول الغيور.
«أجل! مشتّتون! أنتَ تقول ذلك. أنا لا يشتّتونني. أنا سأتبعه...» يقول بطرس.
«آه! يا سمعان! ويمكنكَ أن تتوهّم بأنّهم يدعونكَ تفعل ذلك؟ سيقيّدونكَ كما محكوم بالأشغال الشاقّة ويقودونكَ إلى حيث يروق لهم، ربّما إلى القَوادِس [السفن الكبيرة]، أو إلى أحد سجونهم، وأنتَ لن تعود تستطيع أن تتبع معلّمكَ بعد.» يقول له برتلماوس. بطرس يشبك شعره مرتبكاً، مُحبَطاً.
«سنقول ذلك للعازر. إنّ لعازر يذهب جهاراً عند بيلاطس. حتماً سيقابله بيلاطس عن طيب خاطر، لأنّ هؤلاء الوثنيّين يحبّون رؤية غير المألوفين...» يقول الغيور.
«ربّما كان بالفعل هناك قبل أن يرحل، وبيلاطس لم يعد يرغب برؤيته!» يقول بطرس مُحبطاً.
«إذن يذهب إلى هناك بصفته ابن ثيوفيلوس. أو يرافق شقيقته مريم إلى عند السيدات. لقد كنّ صديقات عندما… نعم، خلاصة القول، عندما كانت مريم خاطئة...»
«هل تعلمون أنّ فاليريا، بعدما طلّقها زوجها، قد تهوّدت؟ لقد فعلت ذلك بشكل جدّي. إنّها تعيش حياة بارّة هي مثال بالنسبة لكثيرين منّا. لقد أعتقت عبيدها، وهي تثقّفهم كلّهم عن الله الحقّ. لقد اتّخذت لها منزلاً في صهيون. إنّما الآن وقد أتت كلوديا، فقد عادت إليها...»
«هكذا إذن!...»
«لا. لقد قالت لي: "ما أن تأتي يُوَنّا، سأذهب معها. إنّما الآن أريد أن أقنع كلوديا"... يبدو أنّ كلوديا غير قادرة على تجاوز حدود قناعاتها عن المسيح. إنّه بالنسبة لها حكيم، لا شيء أكثر… لا وبل يبدو، أنّها قبل أن تأتي إلى المدينة، قد شوّشتها إلى حدّ ما الإشاعات الّتي كانت تتناقل، وقالت بارتياب: "إنّه إنسان مثل فلاسفتنا، وليس مِن بين الأفضل منهم، لأنّ كلامه لا يتطابق مع حياته"، وكان لها بعض… بعض… الخلاصة لقد سمحت لنفسها بأمور كانت قد هجرتها قبلاً.» تقول نيقي.
«كان ينبغي توقّع ذلك. نفوس وثنيّة! همم! يمكن أن تكون هناك واحدة صالحة منها… أمّا الأخرى!... قذارة! قذارة!» يقول برتلماوس بأسلوب مُفخَّم.
«ويوسف؟» يسأل تدّاوس.
«أيّ واحد؟ ذاك الّذي مِن سيفوريس؟ إنّه خائف! آه! كان هناك أخوكما يوسف. لقد أتى وغادر على الفور، مارّاً مجدّداً ببيت عنيا كي يقول للأختين أن تمنعا المعلّم مهما كلّف الأمر مِن الذهاب إلى المدينة، وبأن يبقى هناك. أنا كنتُ هناك وسمعتُ. هكذا أيضاً علمتُ بأنّ يوسف سيفوريس قد تعرّض لمتاعب جمّة والآن هو خائف جدّاً. إنّ أخاكما قد كلّفه بمواكبة ما يُحاك في الهيكل. إنّ يوسف الّذي مِن سيفوريس يمكنه معرفة ذلك عن طريق ذاك القريب الّذي هو زوج لا أدري إن كانت أخت أو بنت أخت زوجته، والّذي هو موظّف في الهيكل.» تقول إليز.
«كَم مِن مخاوف! الآن، حين نذهب إلى أورشليم، أريد أن أرسل أخي إلى عند حَنّان. يمكنني الذهاب إلى هناك أنا أيضاً، لأنّني أعرف ذاك الثعلب العجوز جيّداً. لكنّ يوحنّا يُحسِن تدبّر الأمر على نحو أفضل. وحَنّان كان يحبّه كثيراً، فيما مضى، حينما كان يتمّ الإصغاء لكلام ذاك الذئب العجوز ظنّاً بأنّه حَمَل! سوف أُرسِل يوحنّا. هو سوف يُحسِن تحمّل حتّى الإهانات مِن دون أن يُبدي ردّ فعل. أنا… إن كان يقول لي لعنة على المعلّم، أو حتّى فقط بأنّني ملعون لأنّني أتبعه، فسوف أنقضّ على عنقه، أُمسك به وأعصر هذا العجوز المنتفخ كما لو كان شبكة يجب أن تتخلّص مِن مائها، سوف أجعله أنا يلفظ الروح الماكرة الّتي في داخله! حتّى ولو كان حوله كلّ جنود الهيكل والكَهَنَة!»
«آه! لو كان المعلّم يسمعكَ تتكلّم هكذا!» يقول ساخطاً أندراوس.
«لأنّه غير موجود، أقول ذلك!»
«أنتَ على حقّ! لستَ الوحيد الّذي تريد ذلك. أنا أريده أيضاً!» يقول بطرس.
«وأنا أيضاً، وليس لحَنّان وحده.» يقول تدّاوس.
«آه! بالنسبة لهذا أنا عندي… الكثيرون كي أُجهِز عليهم. لديَّ لائحة طويلة… هياكل كفرناحوم العظميّة المتهالكة الثلاثة تلك -باستثناء الفرّيسي سمعان لأنّه يبدو لي صالحاً بشكل مقبول- ذِئبا مرج ابن عامر، وكتلة العظام العجوز حنانيا، ومِن ثمّ… مجزرة، أقول لكم، مجزرة في أورشليم، وعلى رأس الجميع حِلقِيّا. لم أعد أطيق رؤية كلّ تلك الـحَيّات المتربّصة!» بطرس هائج.
تدّاوس، يقول بهدوء، لكنّه مؤثّر أكثر بعد في هدوئه الجليديّ ممّا لو كان حانقاً مثل بطرس: «وأنا سوف أساعدكَ. إنّما قد أبداً بانتزاع الـحَيّات القريبة.»
«مَن؟ صموئيل؟»
«لا، لا! ليس صموئيل وحده هو القريب منّا. هناك الكثير ممّن يُظهِرون وجهاً ولهم نَفْس مختلفة عن الوجه الّذي يُظهِرونه! إنّهم لا يغيبون عن ناظري. أبداً. أريد أن أكون متأكّداً قبل أن أتصرّف. لكن حينما أتأكّد! إنّ دم داود حارّ، وحارّ هو دم الجليل. وكلاهما فيَّ، حسب الذريّة الأبوية والأموميّة.»
«آه! يكفي أن تقول لي ذلك، إيه! وأساعدكَ.» يقول بطرس.
«لا. ثأر الدمّ يخصّ الأقارب. يخصّني.»
«إنّما يا أبنائي! يا أبنائي! لا تتكلّموا هكذا! ليس هذا ما يُعلّمه المعلّم! تبدون أشبالاً حانقة بدلاً مِن أن تكونوا حِملان الحَمَل! انزعوا عنكم كلّ هذا القدر مِن روح الثأر. أزمنة داود قد انقضت منذ وقت طويل! المسيح قد أبطل شريعة الدم وشريعة العين بالعين. إنّه يحافظ على الوصايا العشر الثابتة، إنّما يُبطِل الشرائع الموسويّة الأخرى القاسية. مِن موسى تبقى وصايا الرحمة، الإنسانيّة والعدل، الّتي لَـخّصها وأكملها يسوعنا في وصيّته الأعظم: "أن نحبّ الله مِن كلّ ذواتنا، وأن نحبّ قريبنا مثل نفسنا، أن نغفر للمسيء، وأن نمنح مِن يكرهنا المحبّة". آه! اغفروا لي إن أنا، المرأة، قد تجاسرت على تعليم إخوتي، وهم أكبر منّي! لكنّني أُمّ عجوز، ويمكن لأُمّ أن تتكلّم دوماً. صدّقوني، يا أبنائي! إن أنتم بذاتكم استدعيتم الشيطان إليكم بكراهية الأعداء، بالرغبة في الانتقام، فهو سوف يدخل فيكم ليُفسدكم. الشيطان ليس قوّة. صدّقوا ذلك. القوّة هي الله. الشيطان ضعف، إنّه ثِقل، إنّه خَدَر. فلا تعودون تُحسِنون تحريك إصبع، ليس ضدّ الأعداء، إنّما حتّى لمنح يسوعنا المحزون ملاطفة، إذا ما قيّدتكم الكراهية والانتقام. نعم يا أبنائي، يا كلّ أبنائي. حتّى أنتم الّذين مِن عمري، وربّما أكثر. كلّكم أبناء لامرأة تحبّكم، لأُمّ استعادت فرح أن تكون أُمّاً بأن تحبّكم كلّكم كأبناء. لا تجعلوني مكروبة مجدّداً لخسارة أبناء أعزّاء ثانيةً، وإلى الأبد، لأنّكم إن متّم وأنتم في الكراهية، أو في الجريمة، فإنّكم مائتون للأبد، ولن نعود نستطيع الالتقاء هناك فوق، في الفرح، حول محبّتنا المشتركة: يسوع. عِدوني هنا، فوراً، أنا الّتي أتوسّل إليكم، المرأة المسكينة، الأمّ المسكينة، بألّا تكون فيكم بعد هذه الأفكار مطلقاً. آه! حتّى وجوهكم قد تشوّهت. إنّكم تبدون لي مجهولين، لم تعودوا ذاتكم! كم يجعلكم الحقد بشعين! كنتم ودعاء جدّاً! إنّما ما الّذي يحدث؟ أَنصِتوا إليّ! إنّ مريم كانت لتقول لكم كلامي ذاته، بأكثر سلطان، لأنّها مريم، إنّما مِن الأفضل ألّا تختبر الآلام كلّها… آه! الأُمّ المسكينة! إنّما ما الّذي يحدث؟ أينبغي ليّ إذن الاعتقاد بأنّ ساعة الظلمات تحلّ بالفعل، الساعة الّتي ستبتلع الكلّ، الساعة الّتي سيكون فيها الشيطان مَلِكاً على الجميع، إلّا على القدّوس، ويضلّ حتّى القدّيسين، حتّى أنتم، بجعلكم جبناء، حالِفين بالزور، متوحّشين مثله؟ آه! لقد رجوتُ دوماً، حتّى الآن! لقد قلتُ دوماً: "لن يتفوّق البشر على المسيح". إنّما الآن! الآن أخشى وأرتعد للمرّة الأولى! فإنّني، فوق سماء أذار [مارس] الصافية هذه، أرى الظلمة العظيمة الّتي تحمل اسم لوسيفر تتمدّد وتجتاح، وتُغرقكم كلّكم في الظلام، وتُمطِر سموماً تُمرضكم. أه! إنّني خائفة!» إنّ إليز، الّتي كانت تبكي بصمت منذ بعض الوقت، تستسلم، حانية رأسها على الطاولة الّتي تجلس قربها وتنتحب بألم.
ينظر الرُّسُل إلى بعضهم البعض. ثمّ، محزونين، يجهدون لتعزيتها. لكنّها لا تريد تعزية منهم وتقول لهم: «شيء واحد، شيء واحد فقط له قيمة عندي: وعدكم. لخيركم! كي لا يتكبّد يسوع في آلامه الألم الأعظم: ألم رؤيتكم مدانين، أنتم، الأحبّاء إلى قلبه.»
«إنّما نعم، يا إليز. إن كنتِ تريدين ذلك! لا تبكي يا امرأة! إنّنا نعدكِ. اسمعي. لن نرفع إصبعاً على أحد. إنّنا حتّى لن ننظر كي لا نرى. لا تبكي! لا تبكي! سوف نغفر لمن يسيئون إلينا. سوف نحبّ مَن يكرهوننا! هيّا! لا تبكي.»
إليز ترفع وجهها المتجعّد، حيث تلمع الدموع، وتقول: «تذكّروا. لقد وعدتموني بذلك! كَرّروا الوعد!»
«نعدكِ يا امرأة»
«أبنائي الأعزّاء! الآن تُعجبونني! الآن أعاود رؤيتكم طيّبين. الآن وقد هدأ قلقي، وقد عدتم أنقياء، بعد ذاك الخمير المرّ، فلنستعدّ لاستقبال مريم. ما الّذي يجب فِعله؟» تقول وهي تُنهي تجفيف عينيها.
«في الحقيقة… لقد أعددنا كلّ شيء. كرجال. إنّما مريم الّتي ليعقوب قد ساعدتنا. إنّها سامرية، لكنّها طيّبة جدّاً. سوف ترينها الآن. إنّها عند الفرن تراقب الخبز. هي وحيدة. فأولادها منهم مَن مات ومنهم مَن نَسِيَها، ثرواتها تلاشت، ومع ذلك لا تحمل ضغينة...»
«آه! أترون! أترون أنّ هناك مَن يُحسِن المغفرة، حتّى لدى الوثنيّين، السامريّين؟ ولا بدّ أنّه أمر رهيب، اعلموا ذلك، وجوب المغفرة لابن!... الأفضل أن يكون ميّتاً مِن أن يكون خاطئاً! آه! هل أنتم متأكّدون مِن أنّ يهوذا ليس هنا؟»
«إن لم يصبح طيراً، فلا يمكن أن يكون هنا، لأنّ النوافذ مفتوحة، إنّما مغلقة هي الأبواب، إلّا هذا.»
«إذاً… مريم الّتي لسمعان كانت في أورشليم مع قريبها. لقد أتت لتقدّم قرابين للهيكل، ومِن ثمّ جاءت إلينا. تبدو شهيدة. كم هي حزينة! لقد سألتني، سألت الجميع إذا ما كنّا لا نعرف شيئاً عن ابنها. إن كان مع المعلّم، إن كان دوماً معه.»
«ما بها تلك المرأة؟» يَسأَل أندراوس مستغرباً.
«بها ابنها. ألا يبدو لكَ ذلك كافياً؟» يَسأَل تدّاوس.
«أنا قد واسيتُها. لقد أرادت العودة معنا إلى الهيكل. لقد ذهبنا كلّنا مجتمعين كي نصلّي… ثمّ غادرت، وهي لا تزال قلقة. أنا قلتُ لها: "إن بقيتِ معنا، فسوف نقصد المعلّم قريباً. إنّ ابنكِ بقربه". هي كانت تعلم مسبقاً أنّ يسوع هنا. إنّ ذلك معلوم وصولاً إلى تخوم فلسطين. لكنّها قالت لي: "لا، لا! المعلّم قال لي بألّا أكون في أورشليم في الربيع. إنّني أطيع، لكنّني أردتُ الصعود إلى الهيكل قبل أوان عودته. إنّني في حاجة ماسّة إلى الله". وقالت كلمة غريبة… قالت: "إنّني بريئة. لكنّ الجحيم فيَّ وأنا فيها معذّبة للغاية"... لقد سألناها مُطوّلاً، لكنّها لم ترد أن تقول أكثر، لا عن عذاباتها، ولا عن سبب منعها مِن قِبَل يسوع. لقد أوصتنا بأن لا نقول شيئاً لا ليسوع ولا ليهوذا.»
«يا للمرأة المسكينة! فإذن لن تكون هنا في الفصح؟» يَسأَل توما.
«لن تكون.»
«إن يكن يسوع قد فرض عليها ذلك، فلا بدّ أنّ لديه أسبابه… لقد سمعتم، إيه؟ يعلمون حقّاً في كلّ مكان أنّ يسوع هنا!» يقول بطرس.
«نعم. البعض كانوا يقولون أنّ مَن كان يقول ذلك كان يدعو إلى الاحتشاد باسمه، للتمرّد "ضدّ الطغاة". وآخرون يقولون إنّه هنا لأنّ أمره قد افتُضِح...»
«دوماً الأسباب ذاتها! لا بدّ مِن أنّهم قد أنفقوا كلّ ذهب الهيكل كي يرسلوا مبعوثيهم إلى كلّ مكان!» يلاحظ أندراوس.
هناك مَن يقرع الباب.
«إنّهم هم!» يقولون ويهرعون كي يفتحوا.
على العكس، هو يهوذا مع مشترياته. متّى يتبعه. يهوذا يرى إليز ونيقي ويحيّيهما، سائلاً: «أأنتما وحدكما؟»
«وحدنا. مريم لم تأتِ بعد.»
«مريم لا تأتي عبر مناطق الجنوب ولا يمكنها بالتالي أن تكون معكما. كان سؤالي إن لم تكن أنستاسيا هنا.»
«لا. لقد بقيت في بيت صور.»
«لماذا؟ هي أيضاً تلميذة. ألا تعلمين أنّنا مِن هنا سنذهب إلى أورشليم لأجل الفصح؟ كان عليها أن تكون هنا. إذا لم تكن التلميذات كاملات وكذلك المؤمنون، فمن سيكون؟ مَن سيواكب المعلّم، لتبديد خرافة أنّ الجميع قد تخلّوا عنه؟»
«آه! لأجل ذلك! لن تكون المرأة المسكينة الّتي ستملأ الفراغات! فالورود وسط الأشواك هي وفي الحدائق المقفلة. أنا لها بمثابة أُمّ وقد فرضتُ عليها ذلك.»
«إذاً لن تكون هناك في الفصح؟»
«لن تكون.»
«واثنان!» يصيح بطرس.
«ما الّذي تقوله؟ مَن هما الاثنان؟» يسأل يهوذا، المرتاب دوماً.
«لا شيء، لا شيء! حساب خاصّ. يمكننا حساب أمور كثيرة، أليس كذلك؟ حتّى الـ… ذباب، على سبيل المثال، الّذي يحطّ على حَمَلي المسلوخ.»
مريم الّتي ليعقوب تعود، يتبعها صموئيل ويوحنّا اللذان يحملان الخبز الخارج مِن الفرن. إليز تحيّي المرأة وكذلك نيقي. ولدى إليز كلام عذب لإراحة المرأة على الفور: «إنّكِ مع أختين في الألم يا مريم. أنا وحيدة لأنّني فقدتُ زوجي وأبنائي، وهي أرملة. سنحبّ بعضنا إذن، فوحده مَن بكى يُحسِن الإدراك.
إنّما بطرس يقول ليوحنّا في تلك الأثناء: «كيف تكون هنا؟ والمعلّم؟»
«على العربة. مع أُمّه.»
«ولا تقول ذلك؟»
«لم تعطني الوقت لذلك. جميعهنّ معه. إنّما سوف ترون كم تغيّرت مريم الناصرة! تبدو كما لو أنّها قد تقدّمت في العمر كثيراً. كان لعازر يقول أنّها قلقت بشدّة حين قيل لها بأنّ يسوع كان قد لجأ إلى هنا.»
«لماذا أخبرها ذاك الأحمق؟ قبل أن يموت كان ذكيّاً. لكن ربّما أنّ دماغه قد سُحِق في القبر ولم يتجدّد. لا أحد يبقى ميتاً دونما عقاب!...» يقول يهوذا الاسخريوطيّ بسخرية واستخفاف.
«لا شيء مِن هذا. انتظر لتعلم، قبل أن تتكلّم. إنّ لعازر بيت عنيا قد قال ذلك لمريم فقط عندما كانوا على الطريق، لأنّها كانت مستغربة مِن سلوك لعازر هذه الطريق.» يقول صموئيل بحزم.
«نعم. ففي مروره الأوّل بالناصرة لم يقل سوى: "سوف أقودكِ إلى عند ابنكِ خلال شهر". وحتّى لم يقل لها: "لنذهب إلى أفرايم". لحظة المغادرة، إنّما...» يقول يوحنّا.
«الكلّ يعلمون أنّ يسوع هنا. وحدها هي لم تكن تعلم ذلك؟» يَسأَل يهوذا، دوماً بوقاحة، مقاطعاً رفيقه.
«مريم كانت تعلم ذلك، لقد سمعت ذلك يقال. إنّما، بما أنّ نهراً مِن الأكاذيب المختلفة كان يجري مُوحِلاً عبر فلسطين كلّها، فهي لم تكن تعتبر أيّ خبر صحيحاً. كانت تذوب غَمّاً بصمت، متضرّعةً. إنّما ما أن شرعوا بالسفر، فقد سلك لعازر الطريق الّتي تحاذي النهر، بهدف تضليل الناصريّين وكلّ أهل قانا، سيفوريس، بيت لحم الجليل...»
«آه! أهناك أيضاً نُعْمي مع ميرتا وأوريا؟» يَسأَل توما.
«لا، لقد مُنِعن من قبل يسوع. إنّ إسحاق هو مَن حَمَل هذا الأمر لـمّا عاد إلى الجليل.»
«إذن… فكذلك أولئك النسوة لن يكنّ معنا كما في السنة الماضية.»
«لن يكنّ معنا.»
«وثلاثة!»
«ولا نساؤنا وبناتنا. فالمعلّم قد قال لهنّ ذلك قبل مغادرته الجليل. أو بالأحرى كَرّرَه، لأنّ ابنتي ماريانا قالت لي إنّ يسوع قد قال ذلك منذ الفصح الأخير.»
«إنّما… حسناً جدّاً! هناك على الأقلّ يُوَنّا؟ سالومة؟ مريم الّتي لحلفى؟»
«نعم. وسُوسَنّة.»
«وبالتأكيد مارغزيام… إنّما ما هي هذه الضجّة؟»
«العربات! العربات! وكلّ الناصريّين الّذين لم يقرّوا بالهزيمة وتبعوا لعازر… وأهل قانا...» يجيب يوحنّا الّذي يمضي راكضاً مع الآخرين.
مشهد صاخب يتبدّى للنظر مِن الباب المفتوح. فبالإضافة لمريم، الجالسة قرب ابنها وقرب التلميذات، ولعازر، ويُوَنّا الّتي هي على عربتها مع مريم وماتّياس، وإستير وخدّام آخرين، والوفيّ يوناثان، هناك حشد مِن الناس: وجوه معروفة، وجوه مجهولة. مِن الناصرة، مِن قانا، مِن طبريّا، مِن نائيم، مِن عين دور. وسامريّون، مِن كلّ البلدات، كانوا قد التقوا خلال الرحلة، ومِن بلدات مجاورة. ويندفعون إلى أمام العربات، معرقلين مرور مَن يريدون الخروج ومَن يريدون الدخول.
«إنّما ما الّذي يريده هؤلاء؟ لماذا أتوا؟ كيف عَلِموا؟»
«إيه! إنّ أهل الناصرة كانوا متأهّبين. وما إن أتى لعازر، في المساء، كي ينطلق في الصباح، حتّى هرعوا ليلاً إلى المدن المجاورة، وكذلك أهل قانا، لأنّ لعازر كان قد مرّ لأخذ سُوسَنّة والالتقاء بيُوَنّا. وقد تبعوه وتقدّموه، كي يروا يسوع ويروا لعازر. وأهل السامرة قد علموا كذلك وانضمّوا إليهم. وها هم كلّهم!...» يشرح يوحنّا.
«قُل! أنتَ الّذي كنتَ تخاف مِن ألّا يحظى المعلّم بمرافقة، هل تبدو هذه كافية لكَ؟» يقول فيلبّس للاسخريوطيّ.
«لقد أتوا لأجل لعازر...»
«على اعتبار أنّهم رأوه، كان بوسعهم أن يرحلوا. إنّما على العكس فقد بقوا، وصولاً إلى هنا. إنّها علامة على أنّه يوجد بعد مَن يأتي لأجل المعلّم.»
«حسناً. دعنا مِن الكلام غير المجدي، ولنحاول بدلاً مِن ذلك أن نفسح لهم مجالاً كي نجعلهم يدخلون. هيّا يا أولادي! لنعد إلى التمرين! منذ زمن ونحن لم نُعمل مَرافِقنا كي نشقّ طريقاً للمعلّم!» وبطرس هو أوّل مَن يخترق الحشد الّذي: يطلق هوشعنا، الفضوليّ، المخلص، الثرثار، حسب الحالة. وإذ قد فَعَل ذلك، فإنّه بمساعدة الآخرين وتلاميذ كُثُر موزّعين في الحشد، يسعون للانضمام إلى الرُّسُل، يحفظ فسحة خالية كي تتمكّن النسوة مِن اللجوء إلى المنزل، وكذلك يسوع ولعازر، ومِن ثمّ يُغلِق الباب منسحباً آخرهم، ويُحكِم الإغلاق بمزاليج وعوارض، ويُرسل آخرين ليُغلِقوا مِن جهة البستان. «آه! أخيراً! ليكن السلام معكِ يا مريم المباركة! أخيراً أراكِ مجدّداً! الآن كلّ شيء جميل لأنّكِ معنا!» يحيّي بطرس منحياً حتّى الأرض أمام مريم. إنّها مريم ذات الوجه الحزين، الشاحب والـمُتعَب، وجه المحزونة منذ الآن.
«نعم. الآن كلّ شيء أقلّ إيلاماً لأنّني بقربه.»
«لقد أكّدتُ لكِ بأنّني لم أكن أقول سوى الحقيقة!» يقول لعازر.
«معكَ حقّ… لكنّ الشمس أظلمت بالنسبة لي وكلّ سلام احتجب عندما علمتُ بأنّ ابني كان هنا… لقد فهمتُ… آه!...» دموع أخرى تسيل على خدّيها الشاحبين.
«لا تبكي يا أُمّي! لا تبكي! كنتُ هنا وسط هؤلاء الناس الطّيبين، قرب مريم أخرى هي أُمّ...» يسوع يرافقها إلى غرفة تطلّ على الحديقة الهادئة. الجميع يتبعونهما.
لعازر يعتذر: «كنتُ مضطراً لأن أقول لها، لأنّها كانت تعرف الطريق ولم تكن تدرك لماذا سلكتُ ذلك المنعطف. كانت تظنّ بأنّه معي، في بيت عنيا… وأيضاً في شكيم [نابلس] رجل صاح: "كذلك نحن إلى أفرايم، إلى عند المعلّم". لم يعد مِن عذر متاح لي… كنتُ آمل أيضاً بأن أتقدّم هذه الجموع، بالانطلاق ليلاً، عبر طرق غير مألوفة. إنّما نعم! كانوا يحرسون في كلّ المواضع. وفيما كانت مجموعة تتبعني، فإنّ أخرى كانت تمضي إلى الجوار للتبليغ.»
مريم الّتي ليعقوب تجلب حليباً، عسلاً، زبدة وخبزاً طازجاً، وتقدّمها لمريم أوّلاً، وتنظر خلسة إلى لعازر مِن أسفل، بقليل مِن الفضول، وقليل مِن الخوف، ويدها ترتعش حينما، وهي تقدّم الحليب للعازر، تمسّ يده، وفمها لا يستطيع حبس «آه!» حينما تراه يأكل فطيرته مثل الجميع.
لعازر هو أوّل مَن يضحك وهو يقول، وَدوداً، لَبِقاً وواثقاً كما كلّ ذَوي الأصل: «نعم يا امرأة. إنّني آكل مثلكِ تماماً، وأُحِبّ خبزكِ وحليبكِ. وحتماً سيعجبني سريركِ، لأنّني أشعر بالتعب كما أشعر بالجوع.» ويتوجّه إلى الجميع قائلاً: «كُثُر هم الّذين يلمسونني متذرّعين بعذر ما كي يتفحّصوا إن كنتُ مِن لحم وعظم، إن كانت بي حرارة وأتنفّس. إنّه إزعاج خفيف. وما إن تنتهي مهمّتي فسوف أنكفئ في بيت عنيا. فبقربكَ يا معلّم، أُسبّب الكثير مِن الإلهاء. لقد لـَمَعتُ، شهدتُ لقدرتكَ حتّى سورية. الآن أتوارى. فأنتَ وحدكَ يجب أن تتألّق في سماء المعجزة، في سماء الله، وفي حضرة البشر.»
مريم، في تلك الأثناء، تقول للمرأة العجوز: «قد كنتِ طيّبة مع ابني. هو قال لي كم كنتِ كذلك. دعيني أعانقكِ كي أقول لكِ أنّني ممتنّة لكِ. إنّني لا أملك شيئاً كي أكافئكِ، باستثناء محبّتي. أنا أيضاً فقيرة… ويمكنني القول بأنّني أنا أيضاً ما عدتُ أملك ابناً، لأنّه ينتمي إلى الله وإلى رسالته… وليكن الأمر هكذا دائماً، لأنّ كل ما يشاؤه الله هو قداسة وبرّ.»
مريم بغاية اللطف، لكن بما أنّها منكسرة بالفعل… فكلّ الرُّسُل ينظرون إليها بشفقة، لدرجة أنّهم ينسون أمر مَن يُحدِثون صخباً في الخارج، ويسألون عن أخبار الأقارب القاطنين في البعيد.
إنّما يسوع يقول: «إنّني صاعد إلى الشرفة كي أصرف الناس وأباركهم.» إذ ذاك يصحو بطرس ويقول: «لكن أين مارغزيام؟ لقد رأيتُ كلّ التلاميذ ما عداه.»
«مارغزيام ليس هنا.» تجيب سالومة، أُمّ يعقوب ويوحنّا.
«مارغزيام ليس هنا؟ لماذا؟ أهو مريض؟»
«لا. هو بخير. وبخير هي زوجتكَ. إنّما مارغزيام ليس هنا، بورفيرا لم تدعه يأتي.»
«يا للمرأة البلهاء! الفصح بعد شهر، وهو يجب أن يأتي للفصح! كان بإمكانها أن تدعه يأتي معكم منذ الآن، أن تمنح فرحاً للابن وكذلك لي. لكنّها أبطأ مِن نعجة في فهم الأمور و...»
«يوحنّا وسمعان بن يونا، وأنتَ يا لعازر مع سمعان الغيور، تعالوا معي. أنتم كلّكم ابقوا هنا حيث أنتم، إلى أن أكون قد صرفتُ الناس، فاصلاً التلاميذ عنهم.» يأمر يسوع ويخرج مع الأربعة مغلقاً الباب.
يجتاز الممرّ، المطبخ، يخرج إلى البستان، يتبعه بطرس الّذي يتمتم والآخرون. لكنّه قبل أن يطأ الشرفة يتوقّف على الدرج، يستدير واضعاً يده على كتف بطرس الّذي يرفع وجهه المستاء. «أَنصِت إليَّ جيّداً يا سمعان بطرس، وكُفّ عن اتّهام ولوم بورفيرا. إنّها بريئة. إنّها تطيع أمراً منّي. أنا الّذي أمرتُها، قبل عيد المظالّ، بعدم إرسال مارغزيام إلى اليهوديّة...»
«إنّما الفصح يا ربّ؟»
«أنا الربّ. أنتَ تقول ذلك. وكوني الربّ فيمكنني أن آمر بأيّ شيء، لأنّ كلّ أمر منّي هو عدل. وبالتالي، لا تدع الوساوس تشوّشكَ. هل تذكر ما قيل في سفر العدد؟ "إن كان أحد مِن أمّتكم نَجِساً بسبب ميّت، أو في سَفَر بعيد، فليُقِم فصح الربّ في اليوم الرابع عشر مِن الشهر التالي، عند المساء".»
«لكنّ مارغزيام ليس نَجِساً، وأقلّه آمل ألّا تفكّر بورفيرا أن تموت بالضبط الآن، وهو ليس في سَفَر...» يعترض بطرس.
«لا يهمّ. أنا أريده هكذا. هناك أمور تجعلنا أكثر نجاسة مِن ميت. مارغزيام… أنا لا أريده أن يصاب بالعدوى. دعني أتصرّف يا بطرس. أنا أعلم. كن قادراً على الطاعة كما هي زوجتكَ ومارغزيام نفسه. سوف نقيم معه الفصح الثاني، في اليوم الرابع عشر مِن الشهر الثاني. وهكذا سنكون سعداء آنذاك. أعدكَ بذلك.»
بطرس يقوم بحركة كما كي يقول: "لنُذعِن"، لكنّه لا يعترض بشيء.
الغيور يبدي ملاحظة: «مِن الأفضل ألّا تتابع عَدَّ مَن لن يكونوا أثناء الفصح في المدينة!»
«لم تعد بي رغبة بالعدّ. كلّ ذلك يسبّب لي… إحساساً بالبَرد… هل يمكن للآخرين أن يعلموا؟»
«لا. لقد أخذتُكم جانباً عن قصد.»
«إذن… أنا أيضاً لديَّ ما أقوله للعازر على انفراد.»
«قُله. وإن أمكنني فسوف أستجيبكَ.» يقول لعازر.
«آه! حتّى لو لم تستجبني، فلا بأس. يكفيني أن تقصد بيلاطس -هي فكرة صديقكَ سمعان- بحيث أنتَ هكذا، فيما تتحدّثان بأمر وآخر، تستنطقه بخصوص ما ينوي فِعله بالنسبة ليسوع، خيراً أم شرّاً… تعلم… ببراعة… لأنّ أموراً كثيرة تقال!...»
«سأفعل ذلك. فور وصولي إلى أورشليم. سأمرّ مِن بيت إيل وراما بدلاً مِن أريحا للذهاب إلى بيت عنيا، وسأقيم في قصري بصهيون، وسأقصد بيلاطس. كُن مطمئنّاً يا سمعان. لأنّني سأكون حاذقاً وصريحاً.»
«وستضيع الوقت لأجل لا شيء يا صديقي. لأنّ بيلاطس -أنتَ تعرفه معرفة إنسان، وأنا أعرفه معرفة إله- هو ليس سوى قَصَبَة تميل إلى الجهة المعاكسة للإعصار، محاولاً الهروب منه. لا تنقصه الصراحة أبداً. فهو دوماً مقتنع بأنّه يريد أن يفعل، ويفعل الأمر الّذي يقوله في تلك اللحظة. إنّما في اللحظة التالية، بفعل صرخة عاصفة تأتي مِن جهة أخرى، فهو ينسى. -آه! ليس لأنّه لا يحترم وعوده ورغباته- إنّه ينسى وحسب، كل ما كان يريده قبلاً. ينساه لأنّ صرخة إرادة أقوى مِن إرادته تجعله ينسى، تُبدّد كلّ الأفكار الّتي وضعتها فيه صرخة أخرى، وتضع في داخله الجديدة. ومِن ثمّ، فوق كلّ العواصف الّتي بألف صوت، هناك الّذي لزوجته الّتي تهدّده بالانفصال عنه إن لم يفعل ما تريده -وبانفصاله عنها، فالوداع لكلّ قوّته، لكلّ حماية له مِن قِبَل قيصر "الإلهي"، كما يقولون، رغم قناعتهم بأنّ قيصر هذا هو أكثر وضاعةً منهم… إنّما هم قادرون على رؤية الفكرة في الإنسان، لا بل إنّ الفكرة تلغي الإنسان الّذي يمثّلها، ولا يمكن القول بأن الفكرة نَجِسة: فكلّ مواطن يحبّ، وهو أمر عدل أن يحبّ الوطن، أن يتمنّى انتصاره… وقيصر هو الوطن… وهاكم... فحتّى مَن كان بائساً، هو عظيم بفضل ما يمثّله… لكنّني لم أكن أريد التحدّث عن قيصر، إنّما عن بيلاطس!- كنتُ أقول، إذاً، أنّ فوق كلّ الأصوات، بداية مِن صوت زوجته إلى الّذي للجموع، هناك الصوت، آه! يا له مِن صوت! صوت أناه. الأنا الدونيّة للإنسان الدونيّ، الأنا الجشعة للإنسان الجَشِع، الأنا المستكبرة للإنسان المتكبّر، هذه الدونيّة، هذا الجشع، هذه الكبرياء، تريد أن تسود كي تكون عظيمة، تريد أن تسود كي تمتلك مالاً كثيراً، تريد أن تسود كي تستطيع السيطرة على أكوام مِن الرعايا الّتي تجعلها الطاعة منحنية. إنّما الكراهية تضمر مِن تحت، لكنّ القيصر الصغير المدعو بيلاطس لا يراها، قيصرنا الصغير… لا يرى سوى الأعمدة الفقريّة المحنيّة الّتي تتظاهر بالاحترام والرعدة أمامه، أو الّتي تفعل ذلك حقّاً. ولأجل صوت الأنا العاصف هذا، فهو مستعدّ لكلّ شيء. أقول: لكلّ شيء. على أن يستمرّ في أن يكون بيلاطس البنطيّ، الوالي، خادم القيصر، المهيمن على واحدة مِن مناطق الإمبراطوريّة الكثيرة. وبسبب كلّ ذلك، وإن يكن الآن المدافع عنّي، فغداً سيكون قاضيَّ، والّذي لا يرحم. ففكر الإنسان متردّد دوماً، ثمّ بغاية التردّد، عندما يكون ذاك الإنسان اسمه البنطيّ بيلاطس. لكن أنتَ يا لعازر، يمكنكَ أن تريح بطرس… إن كان على ذلك أن يعزّيه...»
«يعزّيني لا، إنّما… يبقيني أكثر سكوناً، نعم...»
«فإذاً أَرِح عزيزنا الطيب بطرس، واقصد بيلاطس.»
«سوف أذهب يا معلّم. إنّما قد صوّرتَ الوالي كما لم يستطع أيّ مؤرّخ أو فيلسوف أن يفعل. إنّه وصف كامل!»
«يمكنني على حدّ سواء تصوير أيّ إنسان بصورته وشخصيّته. إنّما لنذهب إلى أولئك الّذين يثيرون الضوضاء.»
يصعد الدرجات الأخيرة ويظهر. يرفع ذراعيه ويقول بصوت جهور: «يا أهل الجليل والسامرة، يا تلاميذي والّذين يتبعونني. إنّ محبّتكم، رغبتكم بتكريمي وتكريم أُمّي وصديقنا بمواكبة عربتهما، تُفصِح لي عن ماهيّة تفكيركم. لا يسعني سوى مباركتكم على تفكيركم هذا. إنّما عودوا إلى منازلكم، إلى أشغالكم. وأنتم يا أهل الجليل اذهبوا وقولوا للباقين هناك بأنّ يسوع الناصريّ يباركهم. يا أهل الجليل، سوف نلتقي مِن أجل الفصح في أورشليم، حيث سأدخل غداة السبت ما قبل الفصح. يا أهل السامرة، اُمضوا أنتم كذلك، وأحسِنوا ألّا تُبقوا محبّتكم لي قاصرة على تتبّعي والبحث عنّي على طرق الأرض، بل عبر طرق الروح. اذهبوا وليتألّق النور فيكم. يا تلاميذ المعلّم، انفصلوا عن المؤمنين مع بقائكم في أفرايم كي تتلقّوا تعليماتي. هيّا. أطيعوا.»
«معه حقّ! إنّنا نزعجه. هو يريد البقاء مع أُمّه!» يصيح التلاميذ والناصريّون.
«سوف نمضي. إنّما أوّلاً نريد وعداً منه: المجيء إلى شكيم [نابلس] قبل الفصح. إلى شكيم [نابلس]! إلى شكيم [نابلس]!»
«سوف آتي. اذهبوا. سوف آتي قبل أن أصعد إلى أورشليم للفصح.»
«لا تذهب! لا تذهب! ابقَ معنا! معنا! سوف نحميكَ! سوف ننصّبكَ مَلِكاً وحبراً أعظم! هم يكرهونكَ! نحن نحبّكَ! يسقط اليهود! يحيا يسوع!»
«صمتاً! لا تُثيروا هذا الشغب! أُمّي تتعذّب مِن هذه الصيحات الّتي يمكن أن تسبّب لي الأذى أكثر مِن صوت يلعنني. لم تأتِ ساعتي بعد. اذهبوا. سوف أمرّ بشكيم [نابلس]. إنّما انزعوا مِن قلوبكم فكرة أنّه يمكنني، بدافع جُبن بشري دنيء، وبدافع تمرّد تدنيسيّ ضدّ مشيئة أبي، ألّا أتمّ واجبي كإسرائيليّ، بالتعبّد لله الحقّ في المعبد الوحيد حيث يمكن أن يُعبَد، وكمَسيّا، بلبس التاج في مكان آخر غير أورشليم، حيث سأُمسَح مَلِكاً على العالم أجمع بحسب الكلمة والحقيقة الّتي رآها الأنبياء العظماء.»
«ليسقطوا! لا يوجد نبيّ آخر بعد موسى! أنتَ وَاهِم.»
«وأنتم كذلكَ. أأنتم أحرار يا ترى؟ لا. ماذا تُدعى شكيم [نابلس]؟ ما هو اسمها الجديد؟ وكما الأمر بالنسبة لها، كذلك هو بالنسبة لمدن أخرى كثيرة في السامرة، في اليهوديّة، في الجليل. لأنّ المنجنيق الرومانيّ يضعنا جميعاً في نفس المستوى. أتُدعى شكيم [نابلس] يا تُرى؟ لا. إنّ اسمها هو (نيابوليس). كما أنّ بيت شان [بيسان] تُدعى (سيتوبوليس)، ومدن أخرى كثيرة، الّتي إن بإرادة الرومان، أو بإرادة تابعيهم المتملّقين، قد اتّخذت الاسم الّذي تُمليه الهيمنة أو التملّق. وأنتم، كلّ بمفرده، تودّون أن تكونوا أكثر شأناً مِن مدينة، أكثر شأناً مِن المتحكّمين بنا، أكثر شأناً مِن الله؟ لا. ما مِن شيء يمكن أن يغيّر ما هو مقرّر لخلاص الجميع. أنا الطريق المستقيم. اتبعوني، إن كنتم تريدون أن تدخلوا معي إلى الملكوت الأبديّ.»
إنّه على وشك الانسحاب. لكنّ السامريّين يُحدثون شغباً كثيراً بحيث أنّ الجليليّين ينتفضون، ومَن كانوا في المنزل، يهرعون معاً خارج المنزل، إلى البستان، ومِن ثمّ إلى الدرج وإلى الشرفة. يظهر أوّلاً الوجه الشاحب والحزين، القلق لمريم وراء يسوع، وتعانقه أُمّه وتضمّه كما لو أنّها تريد حمايته مِن الإهانات الّتي تتصاعد مِن الأسفل: «لقد خنتنا! لقد لجأتَ إلى عندنا لتجعلنا نعتقد بأنّكَ تحبّنا، فيما بعد ذلك تحتقرنا! سوف نكون محتقرين أكثر بعد بسبب خطئكَ!» وما إلى ذلك.
تقترب مِن يسوع أيضاً التلميذات، الرُّسُل، وأخيراً مريم الّتي ليعقوب، خائفة. فالصيحات مِن الأسفل تفسّر مصدر الضوضاء، مصادر بعيدة إنّما أكيدة: «لماذا إذاً أرسلتَ إلينا تلاميذكَ ليقولوا بأنّكَ مُضطَهَد؟»
«أنا لم أرسل أحداً. ها هم هناك أهل شكيم [نابلس]. فليتقدّموا. ماذا قلتُ لهم ذات يوم على الجبل؟»
«حقّاً. لقد قال لنا بأنّه لن يستطيع إلّا أن يكون متعبّداً في الهيكل طالما الزمن الجديد لم يحلّ للجميع. يا معلّم، لسنا نحن المخطئين، صدّق ذلك. إنّما هؤلاء قد خدعهم مُرسَلون كَذَبَة.»
«أعلم ذلك. إنّما امضوا الآن. مع ذلك سوف آتي إلى شكيم [نابلس]. أنا لا أخاف أحداً. إنّما امضوا الآن لئلّا تؤذوا أنفسكم وإخوتكم. أترون هناك دروع الجنود تلمع في الشمس وهم يسلكون الطريق نزولاً؟ حتماً قد تبعوكم عن بُعد، وقد رأوا هكذا مَوكِب، لابثين في الحرج مترقّبين. ها إنّ صياحكم يجذبهم الآن إلى هنا. ارحلوا، لمصلحتكم.»
بالفعل، هناك في البعيد على الطريق الرئيسيّة الّتي يمكن رؤيتها صاعدةً صوب الجبال، تلك الّتي عثر يسوع فوقها على الجائع، يمكن رؤية أنوار تلمع وهي تتحرّك، تتقدّم. يتفرّق الناس على مهل. يبقى أهل أفرايم، الجليليّون، التلاميذ.
«اذهبوا أنتم أيضاً إلى منازلكم يا أهل أفرايم. وارحلوا أنتم يا أهل الجليل. أطيعوا مَن يحبّكم!»
كذلك أولئك يمضون! يبقى فقط التلاميذ الّذين يأمر يسوع بإدخالهم إلى المنزل وإلى البستان. ينزل بطرس ومعه الآخرون كي يفتحوا.
يهوذا الاسخريوطيّ لا ينزل. يضحك! يضحك قائلاً: «الآن سوف ترى "السامريّين الصالحين" كيف سيكرهونكَ! كي تبني الملكوت تُبعثر الحجارة، والحجارة المبعثرة لبناء تغدو أسلحة للضرب. لقد ازدريتَهم! وهم لن ينسوا هذا.»
«ليكرهوني. فلن أمتنع عن القيام بواجبي بدافع خوف مِن كراهيتهم. تعالي يا أُمّي. هيّا نقول للتلاميذ ما يتوجّب عليهم فِعله قبل صرفهم.» وينزل الدرج بين مريم ولعازر، ليدخل إلى المنزل حيث يكتظّ التلاميذ القادمون إلى أفرايم، ويعطيهم الأمر بالانتشار في كلّ مكان، لإعلام كلّ رفاقهم بأن يكونوا في أريحا عند حلول قمر نيسان [أبريل] الجديد وأن ينتظروه حتّى يصل، وإعلام قاطني المناطق الّتي سيمرّون بها بأنّه سيغادر أفرايم، وبأن يبحثوا عنه في أورشليم وقت الفصح.
ثمّ يقسمهم إلى مجموعات مِن ثلاث أشخاص، ويعهد إلى إسحاق، هَرْماس واستفانوس، بالتلميذ الجديد صموئيل، الّذي يحيّيه استفانوس هكذا: «إنّ فرحة رؤيتكَ في النور تلطّف قلقي مِن رؤية كلّ شيء وقد غدا حجراً بالنسبة للمعلّم.» في حين أنّ هَرْماس يحيّيه هكذا: «لقد تركتَ إنساناً لأجل الله. والله هو الآن بحقّ معكَ.» وإسحاق، المتواضع والمتحفّظ، فيقول فقط: «ليكن السلام معكَ يا أخي.»
التلاميذ، بعد تقديم الخبز والحليب لهم مِن قِبَل أهل أفرايم الّذين فكّروا ذوقاً بتقديمه، هم أيضاً يغادرون، وأخيراً يحلّ السلام… إنّما فيما يتمّ تحضير الحَمَل، ما يزال يسوع منشغلاً. إنّه يذهب إلى لعازر ويقول له: «تعال معي على طول السيل.»
لعازر يطيع بجاهزيته المعتادة.
يبتعدان عن المنزل حوالي مئتي متر. لعازر يصمت منتظراً أن يتكلّم يسوع. ويسوع يتكلّم: «هذا ما كنتُ أريد قوله لكَ. إنّ أُمّي محبطة جدّاً. ترى ذلك. أرسل أختيكَ إلى هنا. أنا في الحقيقة سأتقدّم نحو شكيم [نابلس] مع كلّ الرُّسُل والتلميذات، إنّما بعدها سأرسلهم قُدُماً، إلى بيت عنيا، فيما سأتوقّف في أريحا لبعض الوقت. ما زال بإمكاني أن أتجاسر على إبقاء نسوة معي هنا في السامرة. إنّما ليس في مكان آخر...»
«يا معلّم! إنّكَ حقّاً خائف… آه! إن كان الأمر كذلك، لماذا أقمتني مِن الموت؟»
«كي أحظى بصديق.»
«آه!!! إن كان الأمر لأجل ذلك، فها أنا ذا إذن. كلّ ألم لا يعدّ شيئاً بالنسبة لي، إن كنتُ أستطيع أن أعزّيكَ بصداقتي.»
«أعلم ذلك. لأجل هذا أعتمد عليكَ وسوف أتّكل عليكَ كالصديق الأكثر كمالاً.»
«هل عليَّ حقّاً أن أقصد بيلاطس؟»
«نعم، إن أردتَ ذلك. إنّما لأجل بطرس. لا لأجلي.»
«يا معلّم، سوف أُعلِمكَ… متى تغادر هذا المكان؟»
«خلال ثمانية أيّام. إنّني بالكاد أملك الوقت كي أذهب إلى حيث أريد وأكون بعدها عندكَ قبل الفصح، كي أجدّد نشاطي في بيت عنيا، واحة السلام، قبل أن أغوص في صخب أورشليم.»
«هل تعلم يا معلّم أنّ السنهدرين عازم جدّاً على اختلاق الاتّهامات، رغم أنّ لا وجود لها، لإجباركَ على الفرار بشكل نهائيّ؟ أعلم ذلك عن طريق السنهدرينيّ يوحنّا، الّذي التقيتُه بالصدفة في بتولمايس [عَكّا]، وهو السعيد بالطفل الجديد الّذي على وشك أن يولد. لقد قال لي: "إنّني حزين مِن قرار السنهدرين هذا. فقد كنتُ أودّ أن يكون المعلّم حاضراً ختان الطفل، الّذي آمل بأن يكون صبيّاً. يجب أن يولد في الأيّام الأولى مِن تموز [يوليو]. إنّما هل سيكون المعلّم بعد بيننا في ذاك الوقت؟ وأودّ… لو أنّ الصغير عمّانوئيل، وهذا الاسم يفصح لكَ عن فِكري، يحظى به كي يباركه في أوّل دخول له في العالم. لأنّ ابني، إن يكن سعيداً، فلن يكون عليه أن يكافح كي يؤمن، كما يتوجّب علينا نحن. سوف ينمو في الزمن المسيحانيّ، وسيكون مِن السهل عليه تقبّل فِكره". إنّ يوحنّا قد توصّل للإيمان بأنّكَ الموعود.»
«وهذا الوحيد، وسط كُثُر آخرين، يعوّضني عمّا لا يفعله الآخرون. يا لعازر، لنتبادل التحيّة هنا، في السلام. وشكراً على كلّ شيء يا صديقي. إنّكَ صديق حقيقيّ. مع عشرة مثلكَ، كان ليصبح عذباً بعد العيش وسط الكثير مِن الكراهية...»
«الآن لديكَ أُمّكَ يا ربّي. هي تساوي عشرة ومائة لعازر. لكن تذكّر دوماً أنّ أيّ شيء قد تحتاجه، إن كان بمقدوري، فسوف أوّفره لكَ. مُرني وسأكون خادمكَ، في كلّ شيء. لن أكون حكيماً، ولا قدّيساً، كما هم الآخرون الّذين يحبّونكَ، إنّما، إن استثنيتَ يوحنّا، فلن تستطيع إيجاد شخص آخر أكثر وفاءً منّي. لا أظنّني متكبّراً لقولي ذلك. والآن بعد أن تكلّمنا عنكَ، سوف أحدّثكَ عن سِنْتيخي. لقد رأيتُها. إنّها نشيطة وحكيمة كما يمكن أن تكون عليه يونانيّة قد أمكنها أن تتبعكَ. إنّها تعاني مِن كونها بعيدة. إنّما تقول بأنّها سعيدة لقيامها بإعداد سبيلكَ. إنّها تأمل بأن تراكَ قبل أن تموت.»
«سوف تراني بالتأكيد. إنّني لا أخيّب آمال الأبرار.»
«لديها مدرسة صغيرة ترتادها بكثرة فتيات صغيرات مِن كلّ المناطق. إنّما في المساء فتأخذ معها فتاة فقيرة مُختَلَطَة العِرق، وبالتالي فلا تنتمي لأيّ دين. وهي تُثقّفهن عنكَ. لقد قلتُ لها: "لماذا لا تتهوّدي؟ إنّ ذلك يساعدكِ كثيراً". وأجابتني: "لأنّني لا أريد أن أكرّس نفسي لأهل إسرائيل، بل للمذابح الفارغة الّتي تنتظر إلهاً. وأنا أعدّهنّ كي يستقبلن ربّي. ثمّ، ما أن يترسّخ ملكه، فسوف أذهب إلى وطني، وتحت سماء هيلاّس [اليونان]، سوف أستنفذ حياتي بإعداد القلوب للمعلّمين. هذا حلمي. إنّما إن متُّ قبلاً بفعل مرض أو اضطهاد، فسوف أرحل سعيدة على حدّ سواء، لأنّ ذلك سيكون علامة على أنّني أتممتُ عملي، وأنّه يستدعي إليه خادمته الّتي أَحَبَّته منذ اللقاء الأوّل.»
«هذا صحيح. إنّ سِنْتيخي قد أحبّتني حقّاً منذ اللقاء الأوّل.»
«لقد أردتُ أن أكتم عنها كم أنتَ مهموم. لكنّ أنطاكية تُردّد مثل محارة صدى كلّ أصوات امبراطوريّة روما الشاسعة، وبالتالي ما يحدث هنا أيضاً. وسِنْتيخي لا تجهل أحزانكَ. وتؤلمها أكثر بعد كونها بعيدة. كانت تريد أن تعطيني مالاً، فلم أقبله، قائلاً لها بأن تستخدمه لأجل البنات الصغيرات. لكنّني أخذتُ غطاء رأس نسجته هي بخيوط حرير مِن قياسين. هو مع أُمّكَ. أرادت سِنْتيخي أن ترسم بالخيط قصّتكَ وقصّتها وقصّة يوحنّا الذي مِن عين دور. وهل تعلم كيف؟ بحياكة إطار حول المربّع تُصوُّر بداخله حَمَلاً يدافع، ضدّ قطيع ضباع، عن حمامتين، إحداهما مكسورة الجناحين، والأخرى قد قطعت السلسلة الّتي كانت تُبقيها مقيّدة. وتتواصل القصّة، متعاقبة، حتّى طيران الحمامة مكسورة الجناحين صوب الأعالي، والحبس الطوعي للأخرى عند أقدام الحَمَل. تحسبها إحدى القصص الّتي يُصوّرها النحّاتون اليونانيّون بالرخام على أكاليل المعابد، وعلى النصب التذكاريّة لموتاهم، أو أيضاً تلك الّتي يرسمها الرّسامون على الأواني (المزهريّات). لقد أرادت أن ترسله إليكَ مع أحد خدّامي. فأخذتُه أنا.»
«سوف ألبسه لأنّه يأتي مِن تلميذه صالحة. لنذهب صوب المنزل. متى تعتزم المغادرة؟»
«غداً عند الفجر. كي أريح الجياد. ثمّ لن أتوقّف حتّى أورشليم، وسوف أقصد بيلاطس. إن أمكنني أن أتكلّم معه فسأرسل لكَ أجوبته مع مريم.»
يعودان إلى المنزل على مهل فيما يتحدّثان بأمور ثانويّة.