ج5 - ف37
أَنَا هُوَ
ماريا فالتورتا
L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO
THE GOSPEL AS REVEALED TO ME
بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}
L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ
MARIA VALTORTA
الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.
الجزء الخامس/ القسم الأول
37- (التجلّي والمصروع الـمُبرأ)
03 / 12 / 1945
مَن مِن الناس لم يرَ أبداً، ولو مرّة واحدة، فجراً صافياً في آذار (مارس)؟ وإذا ما وُجِد أحدهم، فإنّه سيّئ الحظّ، إذ إنّه يجهل واحدة مِن أجمل محاسن الطبيعة، عندما تستيقظ مِن سباتها في الربيع، إذ تعود عذراء، فتيّة، كما يُفترض أن تكون في يومها الأوّل.
روعة فائقة في الظاهر كلّه، بدءاً مِن العشب الجديد حيث يتلألأ الندى، مروراً بالبراعم التي تتفتّح كالأطفال يولدون للتوّ، إلى العصافير التي تستيقظ مع حفحفة أجنحة وهي تُطلِق أوّل «سيب» لها مُستَفسِر، ممهّدة لكلّ حِوارات يومها المتناغمة، إلى حتّى رائحة الهواء الذي تُخلِّص خلال الليل، بفعل الندى وغياب البشر، مِن كلّ تلوّث الغبار، والدخان وأبخرة الأجساد الآدميّة. في مثل هذه الروعة يسير يسوع والرُّسُل والتلاميذ. ومعهم سمعان بن حلفى كذلك. يَمضون صوب الجنوب الشرقيّ، مجتازين الروابي التي تُشكِّل تاجاً حول الناصرة، يمرّون بسيل ويجتازون سهل الناصرة الضيّق بين الروابي والجبال صوب الشرق. ويسبق تلك الجبال مخروط طابور نصف المقطوع الذي تُذكِّرني قمته بشكل غريب بقبّعات الدَّرَك عندنا إذا ما شوهِدت جانبيّاً.
يَلحقون به. يتوقّف يسوع ويقول: «فليصحبني بطرس ويوحنّا ويعقوب بن زَبْدي إلى الجبل. أمّا أنتم فانتشروا في الأسفل وتفرّقوا على الطرقات المحاذية له وبَشِّروا بالربّ. وعند المساء، أريد أن أكون في الناصرة مِن جديد. فلا تبتعدوا إذاً. السلام معكم.» ويتوجّه إلى الثلاثة الذين دعاهم ويقول: «هيّا بنا.» ويبدأ بالصعود دون أن يلتفت إلى الوراء، وبخطى سريعة حتّى إنّ بطرس بدأ يُعاني مِن اللحاق به.
وفي إحدى المحطّات، يَسأَله بطرس، وقد كساه الاحمرار وبَلَّلَه العرق، وهو يلهث: «ولكن إلى أين نحن ماضون؟ فلا بيوت على الجبل. وعلى القمّة هناك تلك القلعة القديمة. هل تودّ الكرازة هناك؟»
«لو كان هذا، لكنتُ سلكتُ المنحدر الآخر، ولكنّكَ ترى أنه خلفي. لن نذهب إلى القلعة، والذين فيها لن يرونا. أريد الاتّصال بأبي، وأردتُ أن تكونوا معي، لأنّني أحبّكم. هيّا بنا بسرعة!»
«آه! ربّي! ألا يمكننا السير أبطأ قليلاً والتحدّث عما سَمِعناه ورأيناه أمس، وجعلنا نسهر طوال الليل للتحدّث عنه؟»
«مِن أجل موعد اللقاء مع الله، على المرء أن يُسرع على الدوام. هيّا يا سمعان بطرس! في الأعلى سأجعلكم تستريحون.» ويُعاود الصعود…
(يقول يسوع: «أضيفي هنا التجلّي الذي رأيتِهِ في 05 / 08 / 1944، إنّما بدون الإملاء المرافق. وبعد الانتهاء مِن كتابة تجلّي العام الماضي تجري كتابة ما أريكِ الآن.»)
----------------------------------------------------------------
05 / 08 / 1944
أنا مع يسوعي على جبل عال. ومع يسوع بطرس ويعقوب ويوحنّا. ما يزالون يَصعدون إلى الأعلى ويَنظرون إلى الأفق المفتوح، حيث يوم جميل كهذا وساكن يَسمح برؤية التفاصيل بوضوح حتّى في البعيد.
الجبل ليس جزءاً مِن سلسلة جبليّة كما هي الحال في اليهوديّة، إنّه ينتصب منفرداً، وبالنسبة إلى المكان الذي نحن فيه، فالشرق في المواجهة والشمال إلى اليسار والجنوب إلى اليمين وفي الخلف في الغرب، القمّة التي تتجاوز بضع مئات مِن الخطوات.
إنّه شاهق جدّاً، ويمكن للعين أن تكتشف أُفقاً رحباً. وتبدو بحيرة جنّسارت كقطعة مِن السماء هبطت لتُوضَع في إطار مِن الخُضرة، حجر فيروز بيضويّ محاط بأحجار زمرّد مختلفة الألوان، مرآة ترتجف وتتماوج بفعل نسيم، تنـزلق عليها، بخفّة النوارس، مَراكِب مبسوطة الأشرعة. ثمّ، ها هو وريد يتفرّع عن حجر الفيروز الكبير، زُرقته أكثر شحوباً حيث الشاطئ أرحب، وأكثر ظلاًّ، حيث الشطآن تتقارب وحيث المياه أكثر عمقاً وأكثر قتامة بسبب الظلّ الذي تبسطه عليها الأشجار التي تنمو قويّة قرب النهر الذي يغذّيها بنداوته. يبدو نهر الأردن وكأنّه ضربة ريشة رسّام مستقيمة في خُضرة السهل. قرى صغيرة متناثرة على جانبي النهر على مدى السهل. بعضها لا تتجاوز بيوتها الحفنة، أخرى أكبر، وقد بدأت تبدو عليها مظاهر التمدّن. الطرق الرئيسيّة خطوط صفراء وسط الخضرة. إنّما هنا، جهة الجبل، السهل معتنى به أكثر، وهو أكثر خصباً، وأكثر جمالاً. تُرى محاصيل مختلفة بألوانها المتعدّدة وهي تضحك للشمس المشرقة مِن السماء الصافية.
مِن المرجَّح أنّه الربيع، وقد يكون آذار (مارس)، إذا وضعنا في الحسبان مناخ فلسطين، ذلك أنّني أرى القمح وقد نما، ولكنّه ما يزال أخضراً، وهو يتماوج كبحر أزرق ضارب إلى الخضرة، وأرى الخُصَل المبكرة النّضج وسط أشجار الفاكهة تَبسُط سُحُباً بيضاء وورديّة على هذا البحر النباتيّ الصغير، ثمّ الحقول الـمُزهِرة والشعير الذي نَبَت، حيث تبدو النّعاج التي ترعى فيها ككتل مِن الثلج المتراكم على كلّ هذه الخضرة تقريباً.
إلى جانب الجبل مباشرة، على الروابي التي تُشكِّل الأساس، الروابي قليلة الارتفاع والممتدّة قليلاً، هناك مدينتان صغيرتان، الواحدة صوب الشمال والأخرى صوب الجنوب. السهل الأكثر خصباً يمتدّ بشكل خاصّ وأكثر رحابة صوب الجنوب.
يسوع، بعد استراحة قصيرة في ظلّ باقة مِن الأشجار، جَعَلَها بالتأكيد إشفاقاً على بطرس الذي يبدو عليه التعب جليّاً أثناء الصعود، يُعاوِد الارتقاء. يكاد يمضي إلى القمّة، حيث مُسطّح مُعشِب تحدّه، مِن جهة الشاطئ، نصف دائرة مِن الأشجار.
«استريحوا، أيّها الأصدقاء، أنا ماض إلى هناك للصلاة» ويشير بيده إلى صخرة ضخمة، صخرة تَبرُز مِن الجبل، إنّما ليس مِن جهة الشاطئ، بل مِن الداخل، جهة القمّة.
يجثو يسوع على العشب ويسند يديه ورأسه إلى الصخرة، متّخذاً الوضعيّة ذاتها، كما أثناء صلاته في جَثْسَيْماني. لا تضربه الشمس لأنّ القمّة توفِّر له ظلاًّ. إلّا أنّ بقيّة المكان المغطّى بالعشب فإنّه يطرب مع الشمس حتّى حدود باقة الأشجار التي يجلس تحتها الرُّسُل.
يَخلَع بطرس نعليه وينفض عنه الغبار والحصيّات، ويبقى هكذا، حافياً، قدماه التعبتان في العشب النديّ، شبه متمدّد، ورأسه على حزمة عشب، كانت له بمثابة الوِسادة.
يَحذو يعقوب حذوه، إنّما كي يكون أكثر ارتياحاً، يبحث عن جذع شجرة يسند إليه ظهره الذي ما يزال متدثّراً بالمعطف.
يبقى يوحنّا جالساً يراقب المعلّم. ولكنّ هدوء المكان، والنسيم المنعش، والصمت والتعب يأخذون منه مأخذاً جَعَلَ رأسه يهوي على صدره وجفنيه تُطبِقان على عينيه. لم ينم ولا واحد مِن الثلاثة نوماً عميقاً، ولكنّهم تحت تأثير ذلك الخمول الصيفيّ الذي يدوّخهم.
يَصحون على نور ساطع لدرجة أنّ نور الشمس قد تلاشى أمامه، وقد انتَشَرَ واختَرَقَ، حتّى الأعماق، خُضرة الأدغال والأشجار التي جلسوا تحتها.
يَفتحون أعينهم مندهشين ليروا يسوع وقد تجلّى. هو الآن كما أراه في رؤى الجنّة، طبعاً دون الجراح ودون راية الصليب، في عَظَمَة الوجه والجسم، في النورانيّة وفي الثوب الذي تحوَّلَ مِن الأحمر الداكن إلى نسيج لا مادّيّ مِن الماس واللآلئ وهو ثوبه السماويّ. وجهه شمس تَبُثّ نوراً فلكيّاً، إنّما كثيفاً للغاية، وعيناه الزفيريّتان تُشِعّان. يبدو أعظم، كما لو أنّ مجده زاد حجم قامته. لستُ أدري إذا ما كان النور الذي يجعل الهضبة تومض كالفوسفور، ينبعث منه بالكامل، أو إذا ما كان نوره الخاصّ قد امتَزَجَ بكلّ النور الموجود في الكون والسماوات ليتركّز على إلهه. أعلم أنّ هذا مِمّا لا يمكن وصفه.
يسوع الآن واقف، بل أقول إنّه مرتفع عن الأرض، إذ بينه وبين خضرة المرج هناك نوع مِن الدخان المضيء، مسافة مِن النور فقط، ويبدو أنّه ينتصب عليها. ولكنّه ساطع لدرجة أنّني قد أُخطئ، وعدم إمكانيّة رؤية خضرة العشب تحت قدميّ يسوع قد تكون ناجمة عن ذلك النور الكثيف الذي يهتزّ ويتماوج، كما يَظهَر لنا أحياناً في الحرائق. التموّجات، هنا، ذات لون أبيض متوهّج. ويبقى يسوع رافعاً رأسه صوب السماء، ويبتسم لرؤيا تنقله.
يَكاد يستولي الخوف على الرُّسُل، وينادونه، إذ يبدو وكأنّه لم يَعُد هو معلّمهم، لشدّة تجلّيه. «يا معلّم! يا معلّم!» ينادونه بتؤدة إنّما بصوت يشوبه القلق.
إنّه لا يسمعهم.
«إنّه في حالة انخطاف» يقول بطرس مرتجفاً. «أتسائل عمّا يراه؟»
يَنهَض الثلاثة. يودّون الاقترابَ مِن يسوع، ولكنّهم لا يجرؤون.
يزداد النور سطوعاً، وتَهبط شُعلتان مِن السماء، إلى جانبيّ يسوع. وعندما تتوقّفان على الهضبة، ينكشف الحجاب لِيَخرُج منه شخصيّتان مَهيبتان ونورانيّتان. الواحد أكبر سنّاً، له نظرة خارقة وصارمة، ولحية طويلة متفرّعة إلى قسمين. مِن جبهته يَنطَلِق قرنان مِن النور يُشيران لي أنّه موسى. والآخر أصغر سنّاً ونحيل، له لحية وشعره كثيف (شعرانيّ)، وهو يُشبِه المعمدان تقريباً بالقامة والنحول والتكوين والصرامة. وبينما نور موسى ذا بياض ساطع، كالذي ليسوع، خاصّة أشعّة الجبهة، فإنّ الذي يَنبَعِث مِن إيليا يُشبِه لهب الشمس المتأجّج.
يتّخذ النبيّان وضعيّة إجلال أمام إلههما المتجسّد، ورغم كلام يسوع الودّي معهما، لا يُبدِّلان مِن وضعيّة الإجلال. لم أفهم كلمة ممّا قالوا.
يَجثو الرُّسُل الثلاثة على رُكَبهم، يرتَعِشون ووجوههم في أيديهم. يودُّون النَّظَر، ولكنّهم خائفون. أخيراً يتكلّم بطرس: «يا معلّم، يا معلّم! اسمعني.» يُدير يسوع نَظَرَه وهو يبتسم، صوب بطرسه الذي يتجاسر ويقول: «حسن أن تكون هنا ومعكَ موسى وإيليا. وإن شئتَ، ننصب ثلاث مظالّ، واحدة لكَ وواحدة لكلّ مِن موسى وإيليا، ونمكث نحن هنا لنخدمكم...»
ما يزال يسوع يَنظُر إليه بابتسامة أكبر. ويَنظُر كذلك إلى يعقوب ويوحنّا نظرة يبدو معها وكأنّه يعانقهما بحبّ. كذلك موسى وإيليا يَنظُران إلى الثلاثة. أعينهما تشعّ. وكأنّها أشعّة تخترق القلوب.
لا يجرؤ الرُّسُل على قول كلمة أخرى. هُم خائفون ويصمتون. يبدون وكأنّهم سكارى ومذهولون. ولكن عندما ظلّلهم وِشاح، الذي لا هو غماماً ولا هو ضباب ولا هو شعاع، وحَجَبَ الثلاثة الممجَّدين عن عيون الرُّسُل الثلاثة، خلف ستار أكثر سطوعاً مِن الذي كان يحيط بهم، ملأ المكان صوت قويّ ومتناغم، فيقع الثلاثة أرضاً ووجوههم على العشب.
«هذا هو ابني الحبيب الذي به سُرِرتُ، فله اسمعوا.»
يهتف بطرس، وقد ارتمى على وجهه منبطحاً: «ارحمني أنا الخاطئ! هو مجد الله الذي يَنـزل!» يعقوب لا ينبس ببنت شفة، يوحنّا يُتمتِم وهو يتنهّد، كما لو أنّه على وشك أن يُغمى عليه: «الربّ يتكلّم!»
لم يَعُد أحد يجرؤ على رفع رأسه مجدّداً، حتّى بعد أن أَصبَحَ الصمت مطبقاً. كما أنّهم لم يَروا عودة النور إلى طبيعته كنور شمس، ليظهر يسوع وقد بات وحده، بعد أن عاد يسوع الاعتياديّ بثوبه الأحمر. يسير باتجاههم مبتسماً، يهزّهم، يلمسهم ويناديهم بأسمائهم.
«انهضوا! هذا أنا. لا تخافوا.» يقول ذلك لأنّ الثلاثة لا يجرؤون على رفع رؤوسهم، ويتضرّعون إلى الله رحمة بخطاياهم، خوفاً مِن أن يكون ملاك الله هو الذي يَبغي عرضهم عليه تعالى.
«انهضوا! أنا آمركم» يُكرِّر يسوع بسلطان. يَرفَعون الطَّرف ويَرَون يسوع يبتسم.
«آه! يا معلّم، يا إلهي!» يهتف بطرس. «ما العمل لِنَحيا بقربكَ، وقد رأينا مجدكَ؟ كيف سنكون قادرين على أن نعيش بين الناس ومع ذواتنا، ونحن أناس خَطأة، وقد سَمِعنا صوت الله؟»
«ينبغي لكم أن تعيشوا بقربي وتروا مجدي إلى النهاية. كونوا أهلاً لذلك فإنّ الزمن قريب. أطيعوا الآب الذي هو أبي وأبوكم. فلنَعُد الآن بين الناس، لأنّني أتيتُ لأمكث بينهم وأقودهم إلى الله. هيّا بنا. كونوا قدّيسين كُرمى لهذه الساعة، كونوا أقوياء وأوفياء. ستشاركونني كامل مجدي. إنّما لا تتحدّثوا الآن عما رأيتم، لأيّ كان، حتّى ولا لرفاقكم. عندما يقوم ابن الإنسان مِن بين الأموات، ويعود إلى مجد أبيه، حينذاك تتكلّمون. لأنّ حينذاك سيكون مِن الواجب الإيمان لمشاركتي الملكوت.»
«ولكن ألا ينبغي لإيليّا أن يأتي لِيُهيّئ ملكوتكَ؟ هكذا يقول الرابّيون.»
«لقد أتى إيليا وأعدَّ سُبُل الربّ. سيحدث كلّ شيء كما أوحي به. ولكنّ الذين يُعلّمون الوحي لا يعرفونه، ولا يُدرِكونه. لا يَرَون ولا يتعرّفون على علامات الأزمنة ومُرسَليّ الله. أمّا الآن أقول لكم إنّ إيليّا قد أتى لِيُعدّ الأوائل للمسيح، والناس لم يريدوا التعرّف إليه، وقد عَذَّبوه وحَكَموا عليه بالموت. وسوف يفعلون الشيء ذاته بابن الإنسان، ذلك أنّ الناس لا يريدون أن يعرفوا صالحهم.»
يُطأطئ الثلاثة الرأس مفكّرين وحزينين، ويَهبطون عَبْر الطريق التي سلكوها مع يسوع أثناء الصعود.
...مازال بطرس الذي يتكلّم أثناء وقفة في منتصف الطريق: «آه! يا ربّ! أنا كذلك أقول ما قالتهُ أُمّكَ بالأمس: "لماذا صنعتَ بنا هذا؟" وأقول أيضاً: "لماذا قلتَ لنا هذا؟" كلامكَ الأخير أزال مِن قلوبنا فرح الرؤيا المجيدة! إنّه لَيوم الخوف العظيم! في البدء أخافَنا النور الساطع الذي أيقَظَنا، أكثر سطوعاً ممّا لو كان الجبل كلّه يحترق، أو لو كان القمر قد هبط ليشعّ على الهضبة، تحت أنظارنا؛ ثمّ مظهركَ وطريقة ارتقائكَ عن الأرض، كما لو أنّكَ كنتَ تبغي الطيران. فقد خفتُ، بسبب امتعاضكَ مِن جور إسرائيل، أن تعود إلى السماوات، وقد يكون ذلك بأمر منه تعالى. ثمّ خفتُ مِن ظهور موسى الذي لم يستطع أناس زمانه النَّظَر إليه دون حجاب، لشدّة ما كان الله ينعكس على وجهه بسطوع بالغ، وقد كان إنساناً، والآن هو روح مغبوط ومضطرم بالله، وإيليّا... يا للرحمة الإلهيّة! ظننتني بلغتُ لحظة النهاية، وجميع خطاياي، مُذ كنتُ طفلاً أسرق الفاكهة مِن خزانة أطعمة (نمليّة) جارنا، حتّى الأخيرة منها عندما أسأتُ لكَ النُّصح منذ أيّام خَلَت، كلّها دارت في خُلدي. وبأيّة رعدة ندمتُ! ثمّ بدا لي أنّ هذين البارَّين كانا يحبّانني... وتجاسرتُ على الكلام. إنّما حتّى حبّهما أخافني لأنّني لا أستحق حبّ أرواح مثلهما. وبعد ذلك... وبعد ذلك!... خوف الخوف! صوت الله!... يهوه تحدّث! إلينا! قال لنا: "له اسمعوا" أنتَ. وأَعلَنَ أنّكَ "ابنه الحبيب الذي به يُسَرّ". يا له مِن خوف! يهوه!... إلينا!... حتماً هي قدرتكَ التي حَفِظتنا في الحياة!.. وعندما لَمَستَنا، وكانت أصابعكَ مُضطَرِمة كالنار الواخزة، اعتراني الهلع الأخير. ظننتها ساعة الدينونة، وأنّ الملاك كان يلمسني لينزع منّي النَّفْس ويحملها إليه تعالى... ولكن ماذا فعَلَت والدتكَ لترى... وتسمع... وتحيا تلك الساعة التي تحدَّثتَ عنها في الأمس، دون أن تموت، وهي التي كانت وحدها، فتيّة، وبدونكَ؟
«مريم، الخالية مِن أيّة وصمة، لم يكن بإمكانها أن تخاف مِن الله. فحوّاء لم تكن لتخاف طالما هي بريئة. وقد كنتُ أنا. أنا والآب والروح، نحن الموجودون في السماء وعلى الأرض وفي كلّ مكان، وقد جَعَلنا تابوت عهدنا في قلب مريم» يقول يسوع بتؤدة.
«يا له مِن أمر! يا له من أمر!... ولكنّكَ تحدَّثتَ بعد ذلك عن موت... وانتفى كلّ فرح... إنّما لماذا كلّ ذلك لنا نحن الثلاثة فقط؟ ألم يكن حسناً أن تمنح رؤيا مجدكَ هذه للجميع؟»
«هذا بالضبط لأنّه يُغشى عليكم لدى سماعكم الحديث عن موت ابن الإنسان، الموت بالآلام، فقد شاء الإنسان الإله أن يقوّيكم مِن أجل تلك الساعة ومِن أجل كلّ ساعة، مِن أجل معرفة مسبقة لما أكون عليه بعد الموت. تذكّروا ذلك كلّه لتقولوه في أوانه... هل فهمتم؟»
«آه! نعم يا ربّ. لا يمكن نسيان ما حَصَل، ومِن غير المجدي روايته. فيحسبوننا "سكارى".»
يُعاوِدون المسير صوب الوادي، ولكن، ما أن وَصَلَوا إلى أحد الأمكنة، حتّى تحوَّلَ يسوع صوب عين دور عَبْر مَسلَك سريع، أي باتّجاه معاكس للمكان الذي تَرَكَ فيه التلاميذ.
«لن نجدهم» يقول يعقوب. «بدأت الشمس تميل إلى المغيب. سوف يتجمّعون في انتظاركَ، في المكان الذي تركتَهم فيه.»
«تعال، ولا تكن لديكَ أفكار ساذجة.»
بالفعل، في اللحظة التي اجتازوا فيها الدغل ليسلكوا مرجاً يهبط مُنحَدِراً بلطف ليصل إلى الطريق الرئيسيّة، يَرَون جمع التلاميذ وقد تزايد بانضمام المسافرين الفضوليّين والكَتَبَة الذين أتوا لستُ أدري مِن أين، وهُم في هياج عند أسفل الجبل.
«أواه! كَتَبَة!... وقد شَرَعوا بالجدال!» يقول بطرس مشيراً إليهم بإصبعه. ويهبط الأمتار الأخيرة على مضض.
ولكنّ الذين في الأسفل يَرَونَهم ويُشيرون إليهم، ثمّ يَشرعون بالجري صوب يسوع وهم يَهتِفون: «كيف إذن يا معلّم، مِن هذه الجهة، وقد كنّا على وشك المضيّ إلى المكان المتّفق عليه، ولكنّ الكَتَبَة أمسكوا بنا بنقاشات، وأباً مُنقَبِض النَّفْس بتوسّلات.»
«بأيّ شأن كنتم تتناقشون؟»
«بشأن ممسوس. فلقد سَخر منّا الكَتَبَة لأنّنا لم نستطع تحريره. يهوذا الاسخريوطيّ حاول أيضاً، كان ذلك بالنسبة إليه امتيازاً، إنّما عَبَثَاً. حينذاك قلنا لهم: "تفضّلوا وافعلوها أنتم." فأجابونا: "نحن لسنا مقسّمين (طاردي أرواح)" بالصدفة مرَّ أناس قادمين مِن طابور، وكان بينهم مقسّمان. إنّما لا نتيجة. وها هو الأب قادم ليرجوكَ. استمع إليه.»
بالفعل يتقدّم رجل متوسّلاً، ويجثو أمام يسوع الذي يظلّ على المرج المنحدر، بشكل أنّه يبقى أعلى مِن الطريق بحوالي ثلاثة أمتار، وبالنتيجة فالجميع يَرَونَه.
«يا معلّم» يقول له الرجل «لقد مضيتُ مع ابني إلى كفرناحوم نطلبكَ. كنتُ آتياً إليكَ بابني المسكين لِتُحرّره، أنتَ يا مَن يطرد الشياطين ويشفي كلّ الأمراض. غالباً ما يعتريه روح أَبكَم. وعندما يعتريه لا يعود قادراً سوى على الصراخ كالحيوان الذي يُذبَح. ويرميه الروح على الأرض. وهو يتدحرج ويصرف بأسنانه ويزبد كالحصان الذي يعض حديد اللجام، ويجرح نفسه ويقع فريسة خطر الموت غرقاً أو حرقاً أو سَحقَاً، ذلك أنّ الروح رماه أكثر مِن مرة في الماء وفي النار أو على السلالم. حاوَلَ تلاميذكَ فلم يُفلحوا. آه! أيّها السيد الممتلئ صلاحاً! ارحمني وارحم ابني!»
يتلألأ يسوع بالقدرة عندما يَصرُخ: «أيّها الجيل الفاسد، أيّها الجمع الشيطانيّ، الجوقة المتمرّدة، شعب جهنّم الكافر والسفّاح، حتامَ أبقى معكم؟ وإلامَ أحتملكم؟» إنّه مَهيب لدرجة أنّ صمتاً مُطبِقاً خيَّمَ وكَفَّ الكَتَبَة عن السخرية.
يقول يسوع للأب: «انهض وأتِني بابنكَ.»
يمضي الرجل ويعود برفقة رجال آخرين، ومعهم صبيّ في حوالي الثانية عشرة أو الرابعة عشرة. وسيم، ولكنّ نظره لا يخلو مِن الغباء والبَلَه كما لو أنّه في ذهول. على جبهته المحمرّة جرح طويل، وأخفض منه أثر أبيض لجرح قديم. وما أن رأى يسوع الذي يُحدِّق فيه بعينيه الساحرتين حتّى أطلَقَ صَرخَة مُدوّية وبدأ جسمه كلّه بالاختلاج، بينما وقع على الأرض وهو يزبد وقد رفع عينيه حتّى لم يعد يُرى منهما سوى البياض، وأخذ يتمرّغ على الأرض في حركات تشنّجيّة وصفيّة لمرضى الصرع.
يتقدّم يسوع بضع خطوات ليكون قريباً منه، ويقول: «منذ متى يحدث هذا له؟ ارفع صوتكَ ليسمع الجميع.»
يقول الرجل وهو يصيح، بينما الجمع المحيط يتراصّ، والكَتَبَة يتَّخِذون مواضع لهم أعلى مِن يسوع كي لا يفوتهم شيء مِن المشهد: «منذ طفولته، ولقد قُلتُ لكَ: كثيراً ما يقع في النار وفي الماء، يسقط مِن على السلالم والأشجار، لأنّ الروح يهاجمه بغتة ويأخذ به هكذا حتّى يكاد يصرعه. إنّه مغطّى بالقروح والحروق. فَضلٌ أنّه لم يُصَب بالعمى بنار الموقد. لم يتمكّن طبيب ولا مُقَسِّم مِن شفائه، حتّى ولا تلاميذكَ. أمّا أنتَ، فإن استطعت شيئاً كما أؤمن بشكل ثابت، فارحمنا وأنجدنا.»
«إن استطعتَ أن تؤمن، فكلّ شيء ممكن عندي، ذلك أنّ المؤمن ينال كلّ شيء.»
«آه! يا ربّ، بلى أنا أؤمن! ولكنّ إيماني ما يزال غير كافٍ، فزده أنتَ لِيُصبح كاملاً وأنال المعجزة» يقول الرجل وهو يبكي جاثياً أمام ابنه الذي يتشنّج أكثر مِن أيّ وقت.
ينتصب يسوع ثانية، يتراجع خطوتين، وبينما الجمع المحيط يضيق الدائرة، يصيح بصوت عالٍ: «أيّها الروح الملعون الذي يجعل الصبيّ أصمّ أبكماً ويقضُّ مضجعه، آمركَ: اخرج منه ولا تَعُد إليه أبداً!»
يَنتَفِض الولد، وهو ما يزال على الأرض، بقفزات مرعبة، يَزفر ويُطلق صيحات غير بشرية، ثم بعد قفزة أخيرة يعود منبطحاً وهو يضرب جبهته وفمه بصخرة بارزة عن العشب، فيكسوها الدم، ويبقى هو بلا حراك.
«لقد مات!» يَصيح البعض.
«يا للصبيّ المسكين!»، «يا للأب المسكين!»يقول آخرون مُشفِقين عليهما.
والكَتَبَة الساخرون: «لقد أسدى لكَ الناصريّ خدمة جلّى!» أو: «كيف هذا يا معلّم؟ هذه المرّة بعلزبول خذلكَ...» ويَضحَكون بحقد.
لا يردّ يسوع على أحد، ولا حتّى على الأب الذي قَلَبَ ابنه وهو يمسح الدم عن جبهته وشفتيه المجروحة، وهو يئنّ ويستدعي يسوع. ولكنّ المعلّم ينحني ويمسك بيد الصبيّ. فيفتح ذاك عينيه ويُطلِق زفرة وكأنّه كان يستيقظ مِن حُلم، يجلس ويبتسم. يشدّه يسوع إليه، يجعله يقف، ويعيده إلى أبيه، بينما يَصرُخ الجمع بحماس، ويهرب الكَتَبَة، تلحق بهم سخرية الجموع…
«والآن هيّا بنا» يقول يسوع لتلاميذه. وبعد أن صَرَفَ الجمع، يدور حول الجبل متوجّهاً صوب الطريق التي سلكوها في الصباح.
----------------------------------------------------------------
يقول يسوع:
«لقد هيّأتُكِ لتتأمّلي مجدي. غداً (عيد التجلّي) تحتفل به الكنيسة. ولكنّني أريد أن يراه يوحنّاي الصغير على حقيقته لفهمه بشكل أفضل. لم أختركِ لتتعرّفي فقط على أحزان معلّمكِ وآلامه. فالذي يُجيد المكوث معي في آلامي له أن يشاركني في فرحي.
أمام يسوعكِ الذي يُظهِر نفسه لكِ، أريد أن تكون لكِ مشاعر التواضع والتوبة ذاتها التي كانت لِرُسُلي.
لا كبرياء على الإطلاق. وإلّا عوقِبتِ بفقداني.
تذكُّر مستمرّ لما أكون أنا، وما تكونين أنتِ.
تفكير مستمرّ بنقائصكِ وكمالي ليكون قلبكِ مغتسلاً بالندامة. ولكن، في الوقت ذاته، أن تكون لكِ ثقة كبيرة بي أنا. لقد قُلتُ: "لا تخافوا. انهضوا. هيّا بنا. لنذهب وسط الناس لأنّني أتيتُ لأمكث معهم. كونوا قدّيسين، أقوياء وأمناء كرمى لهذه الساعة". أقول ذلك لكِ أيضاً ولكلّ أخصّائي مِن البشر، للذين يمتلكونني بأسلوب مميزّ.
لا تخشي شيئاً مِن ناحيتي. أُظهِر نفسي لأرفعكِ وليس لأحوّلكِ إلى رماد. انهضوا: وليمنحكم فرح النعمة القوّة ولا يجعلنّكم خاملين في متعة السكينة ظانيّن أنفسكم أنّكم قد خلصتم لأنّني أظهرتُ لكم السماء. لنمضِ معاً وسط الناس. لقد دعوتكم إلى أعمال تفوق قدرة البشر برؤى فوق بشريّة وتثقيف، لتتمكّنوا مِن مساعدتي أكثر. أجعلكُم تشاركونني عملي. ولكنّني لم ولا أعرف الراحة. لأنّ الشرّ لا يرتاح أبداً، وعلى الخير أن يكون فاعلاً على الدوام لِيُبطِل، ما أمكن، عمل العدوّ. سوف نرتاح عندما يتمّ الزمان. الآن يجب السير بلا كلل، العمل بشكل متواصل، إفناء الذات دون سأم مِن أجل رسالة الله. فليقدسكم تماسيّ المستمرّ، ولتمنحكم تعاليمي المستديمة القوةّ، وليجعلكم حبّي لكم، كمفضّلين، أمناء ضدّ كلّ مكيدة. لا تكونوا كالرابّيين القدامى الذين كانوا يُعلّمون الوحي ثمّ لم يكونوا يؤمنون به، حتّى إنّهم لم يتعرّفوا على علامات الأزمنة ومُرسليّ الله. تعرّفوا على سابقي المسيح في مجيئه الثاني بما أنّ قوى المسيح الدجال فاعلة هي، وباستثناء المدى الذي أفرض فيه ذاتي، بما أنّني أعرف أنّكم تشربون بعض الحقائق، ليس بفضل روح فائق الطبيعة، بل بفعل تعطُّش الفضول البشريّ، الحقّ أقول لكم إنّ ما يظنّه الكثيرون انتصاراً على المسيح الدجّال، سلاماً وشيكاً، لن يكون سوى وقفة تمنح الوقت لعدوّ المسيح كي يستعيد نشاطه، ويشفي جراحه، ويعيد جمع أسلحته لمعركة أكثر ضراوة.
وأنتم، يا مَن تكونون "أصوات" يسوعكم، مَلِك الملوك، الأمين والصادق الذي يدين ويحارب بعدل، وسيكون المنتصر على الوحش وخُدّامه وأنبيائه، اعرفوا خيركم واتبعوه على الدوام.
لا تقعوا فريسة إغواء أيّ مظهر خداّع، ولا يصرعنّكم أيّ اضطهاد. ولينطق "صوتكم" بكلامي. ولتكن حياتكم مِن أجل هذا العمل. وإن يكن مصيركم على هذه الأرض كمصير المسيح ذاته وسابقه وإيلياّ، مصيراً دامياً أو مصيراً مبرّحاً بعذابات معنويّة، فابتسموا لمصيركم القادم والأكيد الذي يكون لكم مشتركاً مع مصير المسيح وسابقه ونبيهّ.
التساوي في العمل وفي الألم وفي المجد. في الدنيا أنا المعلّم والـمَثَل. وفي الأعالي، أنا المكافأة والـمَلِك. امتلاكي سيكون غبطتكم، سيكون نسيان الألم. سيكون ما تعجز كلّ أنواع الوحي عن جعلكم تدركونه، ذلك أنّ فرح الحياة القادمة يفوق كثيراً إمكانات التصوّر لدى الخليقة التي ما تزال متّحدة بالجسد.»