ج7 - ف218

أَنَا هُوَ

ماريا فالتورتا

L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO

THE GOSPEL AS REVEALED TO ME

بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}

L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ

MARIA VALTORTA

الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.

 

الجزء السابع / القسم الثاني

 

218- (يسوع يتحدّث في تيكوا)

 

31 / 10 / 1946

 

إنّ الجهة الخلفيّة لمنزل سمعان الّذي في تيكوا هي مجرّد ساحة يحدّها جناحا البيت. أقول ساحة، إذ في أيّام السوق، كالّذي أراه، تُفتَح مِن ثلاث جهات البوّابة الصلبة الّتي تفصلها عن الساحة العامّة الأكبر، ويجتاح باعة كثيرون مع معروضاتهم الأروقة الّتي في جهات المنزل الثلاث، والّتي أُدرِك الآن فائدتها... الماليّة، إذ إنّ سمعان، كإسرائيليّ صالح، يتلقّى مِن كلّ بائع أجرة المكان الّذي يشغله. إنّه يجعل العجوز يتبعه مرتدياً ثوباً لائقاً، ويقدّمه لكلّ الباعة قائلاً: «هاكم، مِن الآن فصاعداً، له تؤدّون الأجرة المتّفق عليها.» وبعد الانتهاء مِن الجولة على الأروقة يقول لإيلي-حنّة: «هذا هو عملكَ. هنا، وفي الداخل، في النزل والاسطبلات. فهذا ليس صعباً ولا مُتعِباً، ولكنّه يُظهِر الاعتبار الّذي أكنُّه لكَ. لقد طردتُ ثلاثة مستخدمين لكونهم غير نزيهين، الواحد تلو الآخر. إلاّ أنّكَ تعجبني، وثمّ هو مَن جلبكَ. والمعلّم يجيد معرفة القلوب. هيا بنا لنلقاه الآن ونقول له بأنّه، إن أراد، فهذا الوقت المناسب ليتحدّث.» ويمضي يتبعه العجوز…

 

يجتاح الناس الساحة باطّراد، ولا يكفّ الضجيج عن التنامي. نساء يأتين للتسوّق؛ باعة حيوانات، مشترون لثيران الفلاحة أو حيوانات أخرى؛ قرويّون منحنون تحت ثقل سلال الفاكهة ويمدحون بضاعتهم؛ صنّاع سكاكين مع بضائعهم مِن الأدوات الحادّة وهم، بصخب جهنّميّ، يضربون بفؤوس على جذور لإظهار صلابة النصل، أو يضربون بمطرقة على مناجل معلّقة على حوامل لتبيان الصلادة المثاليّة للنصل، أو يرفعون السكّة بيدين اثنتين ويغرسونها في الأرض، الّتي تُفتَح مجروحة، للدلالة على صلابة السكّة الّتي لا تقاومها أرض؛ صانعوا القدور النحاسيّة مع أباريق ودلاء، مقالي ومصابيح، يضربون على معدنها مُحدِثين صَخَباً مُصِمّاً لتبيان أنّه كثيف، ويصيحون ملء حناجرهم لعرض مصابيح بشعلة أو أكثر مِن أجل أعياد كسلو القادمة؛ وفوق كلّ هذا الصخب، صياح المتسوّلين، الرتيب والحادّ مثل صياح البومة النوحيّ أثناء الليل، المنتشرين في النقاط الاستراتيجيّة للسوق.

 

يُقبِل يسوع من المنزل مع بطرس ويعقوب بن زَبْدي. لستُ أرى الآخرين. أظنّهم يجولون في المدينة للإعلان عن المعلّم، ذلك أنّني أرى أنّ الجمع يتعرّف عليه مباشرة، وكثرة مِن الناس يهرعون بينما تضعف الأصوات وصَخَب السوق. يجعل يسوع الصدقة تُعطى لبعض المتسوّلين، ويتوقّف لتحيّة رجلين كانا يهمّان بمغادرة السوق، يتبعهما خدّامهما بعد تسوّقهما مشترياتهما. إنّما الآن يتوقّفان، هما كذلك، للاستماع للمعلّم. ويبدأ يسوع الكلام آخذاً موضوعه ممّا يراه:

 

«كلّ شيء في وقته، كلّ شيء في مكانه. لا يقام السوق في السبت، ولا تُمارس التجارة في المعابد، ولا يكون العمل في الليل، إنّما بالعكس يكون أثناء النهار. وحده الخاطئ يمارس التجارة في يوم الربّ، أو يدنّس الأماكن المخصّصة للصلاة بعلاقات بشريّة، أو يتصرّف كلصّ أثناء الليل مرتكباً السرقات والجرائم. كذلك التاجر النزيه ينهمك في إثبات نوعيّة سِلَعه الجيّدة للمشترين وصلابة أدواته، ويمضي المشتري راضياً عن جودة ما اقتناه. ولكن لو كان البائع، على سبيل المثال، لكثرة المكر، قد نجح في غشّ المشتري، وكان هذا الأخير قد تنبّه إلى أنّ الأداة أو السلعة المشتراة لم تكن مِن النوعيّة الجيّدة، وأنّه كان قد دفع غالياً جدّاً، أفلا يلجأ المشتري إلى وسائل دفاع، الّتي أقلّه الإحجام عن شراء أيّ شيء مِن هذا البائع، وعلى الأكثر اللجوء إلى القاضي لاسترداد دراهمه؟ هذا ما قد يحدث، ويكون عادلاً.

 

ومع ذلك، ألا نرى، نحن أبناء إسرائيل، الشعب المخدوع مِن أناس يبيعون بضائع مختلفة على أنّها جيّدة، ويذمّون الّذي يبيع البضائع الجيّدة، لأنّه بارّ أمام الربّ؟ بلى، نحن نراهم جميعاً. الأمس مساء كثيرون منكم جاؤوا ليَرووا سِيَر البائعين السيّئين، وأنا قلتُ: "دعوهم يفعلون. حافظوا على قلوبكم ثابتة، والله يدبّر الأمور".

 

الّذين يبيعون أشياء غير جيّدة، مَن يهينون؟ أنتم؟ أنا؟ لا. الله ذاته. فالمذنب، ليس من خُدِع بقدر ما هو مَن خَدَع. إنّ محاولة ترويج أشياء ليست جيّدة كي لا يمضي الّذي يبغي الشراء إلى الأشياء الجيّدة، ليست خطيئة ضدّ الإنسان بقدر ما هي ضدّ الله. أنا لا أقول لكم: تصرّفوا، انتقموا. لا يمكن أن تصدر منّي هذه الكلمة. أنا أقول لكم فقط: اسمعوا الصوت الحقيقيّ للكلام، تفحّصوا جيّداً، في النور الساطع، أفعال مَن يكلّمكم، تذوّقوا أوّل رشفة أو أوّل لقمة تُقدّم لكم، وإذا ما شعرتم بمذاق حادّ، إذا كان في سلوك الغير شيء مِن الغموض، إذا ما المذاق الّذي بقي في قلوبكم يجعلكم تضطربون، فارفضوا ما قُدّم لكم باعتباره شيئاً ليس جيّداً. إنّ الحكمة، البرّ، المحبّة ليست أبداً حادّة المذاق، هي غير مزعجة ولا تعشق العمل في الظلّ.

 

أعلم أنّ تلاميذي قد تقدّموني، وأترك لكم اثنين مِن رُسُلي، كذلك مساء أمس، بالفعل أكثر منه بالقول، قد شهدتُ مِن أين أنا آتٍ وبأيّة رسالة. فلا حاجة إذن لخُطَب طويلة كي أجذبكم إلى طريقي. فكّروا وامتلكوا إرادة البقاء فيها. اقتدوا بمؤسّسي هذه المدينة على حدود الصحراء القاحلة. فَكِّروا دوماً بأنّ خارج مذهبي هناك قحط الصحراء، بينما في عقيدتي توجد ينابيع الحياة، ومهما كانت الأحداث الّتي يمكن أن تطرأ كثيرة، فلا تضطربوا، لا تَعثروا. تذكّروا كلام الربّ في إشَعياء. إنّ يدي لن تقصر أبداً ولن تصغر في إغداق النِّعم على مَن يتبعون طرقي، مثلما أنّ يد العليّ لن تتوانى عن ضرب الّذين يوجّهون لي أنا -الّذي أتيتُ، ووجدتُ قلّة قليلة قد استقبلتني، أنا الّذي ناديتُ، وقلّة هي الّتي سمعتني- يوجّهون الإساءة والألم. لأنّ، وكما أنّ مَن يكرّمني يكرّم الآب الّذي أرسلني، فكذلك مَن يزدريني، يزدري مَن أرسلني. ووفقاً لشريعة الاقتصاص القديمة، فمن يرفضني سوف ينال الرفض.

 

أمّا أنتم، الّذين تقبّلتم كلمتي، فلا تخشوا إذلال البشر، ولا ترتجفوا مِن إهاناتهم، الموجّهة أوّلاً لي، وبعد ذلك لكم لأنّكم تحبّونني. فأنا، على الرغم مِن أنّني أبدو مُضطَهَداً وسأبدو مضروباً، سوف أعزّيكم وأحميكم. لا تخشوا، لا تخشوا الإنسان الفاني الّذي يوجد اليوم، وغداً لن يكون سوى ذكرى وغبار. إنّما خافوا الربّ، خافوه بمحبّة مقدّسة، لا برهبة، اخشوا ألّا تُحسِنوا محبّته بمقياس يتناسب مع محبّته اللامتناهية. أنا لا أقول لكم: افعلوا هذا الأمر أو ذاك. فما عليكم فِعله تعرفونه. أقول لكم: أَحِبّوا. أحِبّوا الله ومسيحه. أَحِبّوا قريبكم كما علّمتكم. ولسوف تفعلون كلّ شيء إذا عرفتم أن تحبّوا.

 

أبارككم يا أهل تيكوا، المدينة القائمة على تخوم الصحراء، إنّما هي واحة سلام لابن الإنسان الـمُضطَهَد، ولتكن بركتي في قلوبكم وفي منازلكم، الآن وعلى الدوام.»

 

«ابقَ يا معلّم! ابقَ معنا. لطالما كانت الصحراء صالحة لقدّيسي إسرائيل!»

 

«لا أستطيع. لديَّ آخرون ينتظرونني. إنّكم فيَّ، وأنا فيكم، بما أنّنا نحبّ بعضنا البعض.»

 

يسوع يمرّ بصعوبة بين الناس الّذين يتبعونه ناسين التجارة وكلّ شيء آخر. مرضى قد برئوا يباركونه بعد، قلوب قد تعزّت تشكره، متسوّلون يحيّونه: «يا مَنَّ الله الحيّ.»… العجوز إلى جانبه، ويبقى هكذا حتّى حدود المدينة. وفقط حين يبارك يسوع متّى وفليبّس اللذيَن يبقيان في تيكوا، يقرّر مغادرة مخلّصه، ويفعل ذلك بقبلات على قدميّ المعلّم الحافيتين، ودموع وكلام عرفان بالجميل.

 

«انهض يا إيلي-حنّة، وتعال كي أُقبّلكَ. قبلة ابن إلى أب، وليعوّضكَ هذا عن كلّ شيء. إنّني أطبّق عليكَ كلام النبيّ: "أنتَ يا مَن تبكي لن تبكي بعد، لأنّ الرحوم قد أشفق عليكَ". الربّ أعطاكَ القليل مِن الخبز والماء. لم أستطع أن أفعل أكثر. وإذا ما كان واحد فقط قد طردكَ، فأنا لديَّ كلّ مُقتَدِري شعب ليطردوني، ويكون كثيراً إذا وجدتُ لي ولرُسُلي القليل مِن الزاد ومأوى. لكنّ عينيكَ قد رأتا مَن كنتَ ترغب به، وأذنيكَ قد سمعتا كلامي، كما لا بدّ لقلبكَ مِن أن يشعر بمحبّتي. اذهب، وكن في سلام، لأنّكَ شهيد البرّ، واحد مِن سابِقي الّذين سيكونون مُضطَهَدين بسببي. لا تبكِ يا أبي!» ويُقبّله على رأسه الأشيب.

 

العجوز يردّ له القبلة على خدّه، ويهمس في أذنه: «حاذر مِن يهوذا الآخر يا ربّي، لا أريد أن أوسّخ لساني… إنّما أنتَ فتوخّى الحذر. فهو لا يأتي بمقاصد صالحة إلى عند ابني...»

 

«نعم. إنّما لا تفكّر بعد بالماضي. قريباً سينتهي كلّ شيء، ولن يعود أحد يستطيع أن يؤذيني. وداعاً يا إيلي-حنّة. الربّ معكَ.»

 

يفترقان…

 

«يا معلّم، ما الّذي قاله لكَ العجوز بصوت خافت؟» يَسأَل بطرس الّذي يسير بجانب يسوع، وبمشقّة، لأنّ يسوع يخطو خطوات طويلة بساقيه الطويلتين، وهو أمر متعذّر على بطرس، القصير القامة جدّاً.

 

«يا له مِن عجوز مسكين! وما الّذي تريد أن يقوله لي ولا أعلمه أنا؟» يجيب يسوع متحاشياً إجابة محدّدة.

 

«أكان يتحدّث عن ابنه؟ أقال لكَ مَن هو؟»

 

«لا يا بطرس. أؤكّد لكَ ذلك. لقد احتفظ بذاك الاسم في قلبه.»

 

«لكنّكَ مع ذلك تعرفه؟»

 

«أعرفه، إنّما لن أقوله لكَ.»

 

يسود صمت لوقت طويل. ثمّ، السؤال القَلِق لبطرس واعترافه: «يا معلّم، لكن لماذا، لأيّة غاية يذهب الاسخريوطيّ إلى منزل شخص شرّير مثل ابن إيلي-حنّة؟ إنّني خائف يا معلّم! فهو ليس لديه أصدقاء صالحون. لا يذهب علناً. لا يمتلك قوّة مقاومة الشرّ. أنا خائف يا معلّم. لماذا؟ لماذا يقصد يهوذا هؤلاء، وفي الخفاء؟» إنّ وجه بطرس يعبّر عن استفهام قَلِق.

 

يسوع ينظر إليه ولا يجيب. بماذا ينبغي بالفعل أن يجيب؟ بماذا، كي لا يكذب، وكي لا يؤلّب بطرس الوفيّ على يهوذا الخائن؟ إنّه يفضّل ترك بطرس يتكلّم.

 

«ألا تجيب؟ أنا، منذ أمس، منذ اللحظة الّتي اعتقد فيها العجوز أنّه عرف مِن بيننا يهوذا، لا أشعر بالسلام. إنّ الأمر كما ذاك اليوم الذي تحدّثتَ فيه إلى زوجة الصدّوقي. هل تذكر؟ هل تذكر شَكّي؟»

 

«أذكره. وأنتَ هل تتذكّر الكلام الّذي قلتُه لكَ حينذاك؟»

 

«نعم يا معلّم.»

 

«ما مِن شيء آخر يقال يا سمعان. إنّ لأفعال الإنسان مظهراً مختلفاً عن الواقع. لكنّني مسرور لتوفير حاجات ذاك العجوز. الأمر كما لو أنّ حنانيا قد عاد. ولو لم يستقبله سمعان تيكوا، لكنتُ قدتُه حقّاً إلى منزل سليمان، لنحظى هناك بأب ينتظرنا دوماً. إنّما بالنسبة لإيلي فهكذا أفضل. سمعان طيّب، ولديه الكثير مِن الأحفاد. إيلي يحبّ الأطفال… والأطفال يجعلون الكثير مِن الأمور المؤلمة تُنسَى...»

 

وبحسن تدبيره المعتاد بصرف انتباه مَن يحادثه وأخذه إلى مواضيع أخرى، عندما يرى أنّه مِن غير المناسب الإجابة على أسئلة خطرة، فإنّ يسوع قد صرف انتباه بطرس عن فكرته. ويواصل الحديث معه عن الأطفال الّذين عرفهم هنا وهناك، إلى أن يصل لتذكيره بمارغزيام، الّذي هو في هذه اللحظة ربّما يسحب الشِّباك بعد أن اصطاد في بحيرة جنيسارت الجميلة.

 

وبطرس، الّذي هو الآن بعيد عن التفكير بإيلي ويهوذا، يبتسم وهو يسأل: «إنّما سنذهب إلى هناك بعد الفصح، أليس كذلك؟ المكان جميل جدّاً. آه! أجمل بكثير مِن هنا. إنّنا نحن الجليليّين خطأة وفقاً لأهل اليهوديّة… إنّما أن نعيش هنا! آه! أيّتها الرحمة الأزليّة! إنّ كنّا نحن سنعاقب، فحتماً لن تكون مِن مكافأة في هذه المنطقة.»

 

يسوع ينادي الآخرين الّذين بقوا متخلّفين، ويبتعد معهم عبر الطريق الّتي دفّأتها شمس كانون الأوّل (ديسمبر).