ج10 - ف4

أَنَا هُوَ

ماريا فالتورتا

L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO

THE GOSPEL AS REVEALED TO ME

بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}

L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ

MARIA VALTORTA

الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.

 

الجزء العاشر

 

4- (النِّسوة الوَرِعات عند القبر)

 

02 / 04 / 1945

 

في هذه الأثناء، النسوة اللواتي غادرن المنـزل ويسرن بمحاذات السور، يبدين كأشباح في الظلّ. صامتات، متدثّرات، خائفات نتيجة للصمت المطبق والعزلة. ومِن ثمّ، إذ يستعدن الثقة بسبب سكون المدينة المطبق، يتجمّعن ويتجرّأن على الكلام.

 

«هل ستكون الأبواب قد فُتحت؟» تَسأَل سُوسَنّة.

 

«بالتأكيد. أنظري إلى أوّل بستانيّ يدخل مع خضاره. إنّه ذاهب إلى السوق.» تُجيب سالومة.

 

«ألن يقولوا لنا شيئاً؟» تَسأَل سُوسَنّة ثانيةً.

 

«مَن؟» تَسأَل المجدليّة.

 

«الجنود، عند باب القضاء. هناك... القليل مِن الناس يدخلون وأقلّ منهم بعد يخرجون... سنثير الشبهات...»

 

«ومع هذا؟ سوف ينظرون إلينا. سوف يرون خمس نسوة ذاهبات باتّجاه الريف. ومِن الممكن أيضاً أن نكون أشخاصاً ذاهبين نحو بلداتهم، بعد الاحتفال بالفصح.»

 

«ولكن... لئلاّ نجذب انتباه بعض أصحاب النيّة السيّئة، لمَ لا نخرج مِن باب آخر ومِن ثمّ نلتفّ على طول الأسوار...؟»

 

«سوف نُطيل الطريق.»

 

«لكنّنا سنكون أكثر سكوناً. لنسلك باب الماء...»

 

«آه! يا سالومة! لو كنتُ مكانكِ، لاخترتُ الباب الشرقيّ! سوف تكون الدورة الّتي عليكِ سلوكها أطول! يجب الذهاب بسرعة والعودة سريعاً.» إنّها المجدليّة الحازمة للغاية.

 

«إذاً اختاري باباً آخر، إنّما ليس باب القضاء. كوني طيّبة...» كلهنّ يتوسّلن.

 

«حسناً. إذاً، طالما أنّ ذلك ما تردنه، لنمرّ بيُوَنّا. لقد طلبت إعلامها بالأمر. لو كنّا مضينا مباشرةً، لكنّا أنجزنا عملنا دونها. إنّما طالما أنّكنّ تردن القيام بدورة أطول، ‏فلنمرّ بها…»

 

«آه! نعم. وأيضاً بسبب الحرّاس الّذين وُضِعوا هناك... إنّها معروفة ويهابونها...»

 

«أنا أرى أن نمّر أيضاً بيوسف الذي مِن الرّامة. إنّه مالك المكان.»

 

«ولكن نعم! لنشكّل موكباً، الآن، كي لا نلفت الانتباه! أيّة أختٍ فَزِعة لديَّ! أو بالأحرى، أتدرين يا مرثا؟ لنفعل هكذا. أنا أمضي قُدُماً وأُلقي نظرة. أنتنّ سوف تتبعنني مع يُوَنّا. وفي حال وجود خطر، فسأقف في منتصف الطريق، وسترونني، وسنعود أدراجنا. إنّما أؤكّد لكن أنّ الحرّاس، أمام هذا، لقد فكرتُ به (وتُظهِر كيساً مليئاً بالنقود)، سيدعوننا نفعل ما نشاء.»

 

«سنقول ذلك أيضاً ليُوَنّا، معكِ حقّ.»

 

«اتركنني أمضي أنا.»

 

«هل ستذهبين وحدكِ يا مريم؟ أنا سآتي معكِ.» تقول مرثا، الّتي تخاف على أختها.

 

«لا. ستذهبين مع مريم الّتي لحلفى إلى يُوَنّا. سالومة وسُوسَنّة ستنتظرانكما قرب الباب، خارج الأسوار. ثمّ ستسلكن الطريق الرئيسيّة كلّكن معاً. وداعاً.»

 

ومريم المجدليّة تقطع عليهنّ الطريق لإبداء أيّ تعليقات محتملة أخرى إذ تمضي سريعاً مع كيس حُنُوطها، ونقودها في صدرها.

 

إنّها تطير، مِن فرط ما هي سريعة الخطى على الدرب الّتي تغدو أزهى مع أوّل خيط زهريّ للفجر. تتجاوز باب القضاء لتختصر الطريق. لا أحد يوقفها…

 

الأخريات يراقبنها تمضي، ثمّ يدرن ظهورهن لمفترق الطرق حيث كنّ ويسلكن طريقاً أخرى، ضيّقة ومعتمة، الّتي مِن ثمّ تُفضي إلى محيط الحيّ السُداسيّ، إلى طريق أعرض وأكثر انفراجاً، حيث توجد منازل جميلة. ينفصلن ثانيةً، سالومة وسُوسَنّة تُواصِلان المشي، فيما مرثا ومريم الّتي لحلفى تقرعان الباب الحديديّ، وتُظهِران نفسيهما للبوّاب مِن خلال فرجة للبوّابة الّتي يفتحها جزئيّاً.

 

تَدخُلان وتقصدان يُوَنّا الّتي نهضت وارتدت رداء بنفسجيّاً غامقاً جعلها تبدو أكثر شحوباً، والّتي كانت هي أيضاً تُحضّر زيوتاً مع مربّيتها وإحدى الخادمات.

 

«أأتيتما؟ ليكافئكما الله على ذلك. إنّما لو لم تأتيا، لكنتُ ذهبتُ وحدي... لأجد تعزية... فأشياء كثيرة لبثت مُعَكَّرة بعد ذلك اليوم الرهيب. ولئلاّ أشعر بالوحدة، عليّ أن أمضي إلى ذلك الحَجَر وأقرع وأقول: "يا معلّم، أنا يُوَنّا المسكينة... لا تدعني وحيدة أنتَ أيضاً"...» يُوَنّا تبكي بصمت إنّما بحرقة عميقة، فيما ‏أستير، مربّيتها، تقوم بإيماءات عديدة غير مفهومة خلف سيّدتها، بينما تُلبِسها رداءها.

 

«أنا ذاهبة يا أستير.»

 

«ليمنحكِ الله تعزية!»

 

يخرجن مِن القصر لينضممن إلى رفيقتيهنّ. وفي تلك اللحظة يَحدُث الزلزال الوجيز والقويّ، الّذي يزرع الهلع مجدّداً لدى سكّان أورشليم، الـمُرَوَّعين بعد مِن أحداث الجمعة.

 

النسوة الثلاث يَعدنَ على أعقابهنّ على عجل، ويمكثن في البهو العريض، وسط الخادمات والخدّام الّذين يصرخون ويبتهلون إلى الربّ، يلبثن خائفات مِن هزّات جديدة…

 

...المجدليّة، مِن جهتها، هي بالضبط عند طرف المسلك الّذي يقود إلى بستان يوسف الذي مِن الرّامة عندما يُفاجِئها الدويّ القويّ، ومع ذلك المتـناغم، لتلك العلامة السماويّة، فيما، في نور الفجر الّذي بالكاد استحال ورديّاً وينتشر في السماء، حيث في الغرب تُقاوِم نجمة عنيدة وتجعل الجوّ ذهبيّاً وقد كان حتّى ذلك الحين بالّلون الأخضر الكاشف، يلتمع نور عظيم، ويهبط كأنّه كرة مُتوهّجة، فائق البهاء، قاطعاً الجوّ الساكن بمساره المتعرّج.

 

إنّه يكاد يُلامِس مريم المجدليّة وتسقط أرضاً.

 

إنّها تنحني لبرهة وهي تتمتم: "ربّاه!" ومِن ثمّ تستقيم مثل ساق نبتة بعد مرور الريح، وتركض نحو البستان بشكل أسرع. تَدخله سريعاً، وتتّجه صوب القبر المحفور في الصخر مثل طائر مُطارَد يبحث عن عشّه. ولكن، وعلى الرغم مِن أنّها تمضي سريعاً، إلاّ أنّها لا تتمكن مِن التواجد هناك حين يقوم الشهاب السماويّ مقام رافِعَة ولَهَب فوق ختم الكلس الموضوع لتمكين الحَجَر الثقيل، ولا حين يسقط الباب الحجريّ بِدَويّ أخير، مُحدِثاً هزّة تتّحد بهّزة الزلزال الّذي، وإن كان وجيزاً، فإنّه كان عنيفاً إلى حدّ أنّه يطرح الحرّاس أرضاً كما لو كانوا أمواتاً.

 

مريم، فور وصولها، ترى سَجّاني الظافر عديمي الجدوى أولئك مطروحين أرضاً مثل حُزمة سنابل محصودة. لا تربط مريم المجدليّة الزلزال مع القيامة. ولكنّها، إذ رأت ذلك المشهد، تظنّ بأنّ ذلك عقاب الله لـمُدَنِّسي قبر يسوع، وتسقط على ركبتيها وهي تقول: «واحسرتآه! لقد سرقوه!»

 

إنّها منفطرة القلب حقّاً وتبكي مثل فتاة قد أتت وهي متأكّدة أنّها ستعثر على أبيها الّذي كانت تبحث عنه، فتجد على العكس أنّ المسكن خالٍ. ثمّ تنهض وتمضي راكضة، قاصدة بطرس ويوحنّا. وبما أنّها لا تفكّر سوى بإبلاغ الاثنين، فلا تعود تفكّر بالذهاب للقاء رفيقاتها، أن تنتظر على الطريق، إنّما تعود أدراجها مِن نفس الطريق الّذي أتت منه، سريعة مثل غزالة، تجتاز باب القضاء، وتطير عبر الشوارع الّتي دبّت فيها الحياة بعض الشيء، ترتمي على بوّابة المنـزل المضيف وتطرقها وتهزّها بعنف.

 

تفتح لها ربّة المنـزل. «أين يوحنّا وبطرس؟» تَسأَل مريم المجدليّة لاهثة.

 

«هناك.» وتشير المرأة إلى العلّية.

 

تَدخل مريم المجدليّة، وما أن تصبح في الداخل، أمام الرَجُلَين المدهوشين، ورفقاً بالأُمّ، وبصوت خافت، إنّما أكثر انقباضاً مِن الصراخ، تقول: «لقد أخذوا الربّ مِن القبر! مَن يدري أين وضعوه!» ولأوّل مرّة تترنّح وتتمايل، ولتتجنّب السقوط تتمسّك بما تستطيع.

 

«إنّما كيف؟ ماذا تقولين؟» الاثنان يسألان.

 

وهي، تُجيب لاهثةً: «لقد مضيتُ قُدُماً... لرشوة الحرّاس... مِن أجل أن يَدَعونا ننجز العمل. وكانوا هناك كأنّهم أموات... القبر مفتوح، الحَجَر مرميّ على الأرض... مَن؟ مَن استطاع فِعل ذلك؟ آه! تعاليا! لنركض...»

 

بطرس ويوحنّا ينطلقان فوراً. تتبعهما مريم على بُعد بضعة خطوات، ثمّ فجأة تعود أدراجها. تمسك بربّة المنـزل، تهزّها، عنيفةً بحُبّها الحريص، وتصرخ في وجهها: «حاذري جيّداً مِن إدخال أيّ أحد إلى عندها (وتُشير إلى باب غرفة مريم) تذكّري أنّني أنا سيّدتكِ. أطيعي والتزمي الصمت.»

 

ثمّ تتركها مذعورة، وتلحق بالرسولَين اللذَين يمضيان بخطىً واسعة نحو القبر.

 

...سُوسَنّة وسالومة، خلال ذلك الوقت، وبعدما فارقتا رفيقتيهما وأدرَكَتا الأسوار، تتفاجآن بالزلزال. تلتجئان، مرتاعتين، إلى شجرة وتلبثان تحتها، تـتنازعهما رغبة شديدة في المضيّ نحو القبر، ورغبة في الركض إلى منزل يُوَنّا. لكنّ الحُبّ ينتصر على الخوف، وتمضيان نحو القبر.

 

تَدخلان البستان وهما لا تزالان مرتاعَتَين، وتريان الحرّاس مغمى عليهم... تَرَيان نوراً ساطعاً يخرج مِن القبر المفتوح. يزيد ارتياعهما، ويصل إلى أقصى حدوده حين تمثلان عند العتبة، ممسكتين بيد بعضهما لتستمدّا بعض الشجاعة، وتلمحان في ظلمة المدفن مخلوقاً مُنيراً وفائق الجمال، يبتسم بلطف، ويُحيّيهما مِن المكان الّذي يقف فيه: مُتّكئاً إلى يمين حَجَر المسحة الّذي تختفي رماديّته أمام هذا البهاء المتوهّج.

 

تَسقُطان على ركبتيهما مِن فرط الذهول.

 

لكنّ الملاك يكلّمهما بتؤدة. «لا تخافا منّي. أنا ملاك الألم الإلهيّ. أتيتُ لأغتبط بانتهاء هذا. لم يعد مِن ألم للمسيح، مِن إذلال الموت له. إنّ يسوع الناصريّ، المصلوب الّذي تطلبانه، قد قام. لم يعد ها هنا! الموضع الّذي مُدّد فيه فارغ. اغتبطا معي. اذهبا. قولا لبطرس والرُّسُل إنّه قد قام ويسبقكم إلى الجليل. سوف ترونه هناك لوقت قصير بعد، كما قال.»

 

الامرأتان تخرّان ووجههما إلى الأرض، وحين ترفعانه، تهربان كأنّ عِقاباً يطاردهما، إنّهما مُرَوَّعتان وتتمتمان: «سوف نموت! لقد رأينا ملاك الربّ!»

 

تسكنان قليلاً وسط الريف، وتتشاوران فيما بينهما. ماذا ستفعلان؟ إن أفصَحَتا عما رأتاه، فلن يصدّقوهما، وأيضاً إذا قالتا إنّهما جاءتا مِن هناك، فمِن الممكن أن يتّهمهما اليهود بقتل الحرّاس. لا. لا تستطيعان أن تقولا شيئاً، لا للأصدقاء، ولا للأعداء…

 

تعودان إلى المنـزل عبر درب أخرى، فَزِعتين، مصعوقتين. تدخلان وتلتجئان إلى العلّية. حتّى إنّهما لا تطلبان رؤية مريم... وهناك، تفكّران بأنّ ما رأتاه لم يكن سوى خدعة مِن الشيطان. وبسبب ما هُما عليه مِن تواضع، تستنتجان بأنّه «مِن غير الممكن أن تُعطى لهما رؤية مُرسَل مِن الله. إنّه الشيطان الّذي أراد إخافتهما لإبعادهما مِن هناك.»

 

تبكيان وتصلّيان كطفلتين صغيرتين أرعبهما كابوس…

 

...المجموعة الثالثة، تلك المؤلّفة مِن يُوَنّا، مريم الّتي لحلفى ومرثا، وعندما تَبَيَّن لهنّ أنّ شيئاً لا يحدث مجدّداً، فقد قرّرن الذهاب إلى المكان حيث تنتظرهنّ رفيقاتهنّ حتماً. يخرجن إلى الشوارع حيث هناك أناس مذعورون، يُعلّقون على الزلزال الجديد ويربطونه بأحداث الجمعة، ويرون كذلك أشياء لا وجود لها.

 

«مِن الأفضل أنّ يكون الكلّ مذعورين! فلربّما الحرّاس سيكونون مذعورين كذلك، بحيث لا يُبدون أيّة معارضة.» تقول مريم الّتي لحلفى.

 

ويمضين سريعاً نحو الأسوار. إنّما، وفيما هنّ ماضيات إلى هناك، فإنّ بطرس ويوحنّا كانا قد وصلا بالفعل إلى البستان، تتبعهما المجدليّة.

 

ويوحنّا، الأسرع، هو الأوّل الّذي يصل إلى القبر. الحرّاس لم يعودوا هناك. والملاك لم يعد هناك. يوحنّا يركع، خائفاً وحزيناً، عند المدخل المفتوح، وكي يُجِلَّ وليلتقط أدلّة مِن الأشياء الّتي يراها. لكنّه يرى فقط البياضات فوق الكَفَن، مُكَوَّمة أرضاً.

 

«إنّه ليس هنا بحقّ يا سمعان! إنّ مريم قد رأت جيّداً. تعال، ادخل، انظر.»

 

بطرس، المقطوع النَّفَس تماماً بفعل الركض المتواصل، يدخل القبر. قد قال وهو في الطريق: "لن أجرؤ على الاقتراب مِن ذلك المكان." إنّما الآن فلا يفكّر إلاّ في اكتشاف أين يمكن أن يكون المعلّم. ويناديه أيضاً، كما لو كان مختبئاً في زاوية ما معتمة.

 

العتمة، في هذه الساعة المبكرة مِن الصباح، لا تزال شديدة في القبر، حيث لا يصله الضوء إلاّ مِن خلال فتحة مدخله الصغيرة، الّتي يجعلها في الظلّ الآن كلّ مِن يوحنّا والمجدليّة… بطرس يجد صعوبة في الرؤية، وعليه الاستعانة بيديه ليتأكّد مِن الحالة... يتلمّس طاولة المسحة، وهو يرتجف، ويُدرِك بأنّها خالية…

 

«هو ليس هنا يا يوحنّا! ليس هنا!... آه! تعال أنتَ أيضاً! لقد بكيتُ كثيراً بحيث أكاد لا أرى مع هذا الكمّ القليل مِن الضوء.»

 

يَنهض يوحنّا ويَدخل. وفيما يفعل ذلك، يَعثر بطرس على منديل الوجه في إحدى الزوايا، مطويّاً جيّداً وفي داخله الكَفَن ملفوفاً بعناية.

 

«لقد اختطفوه حقّاً. الحرّاس لم يكونوا هنا مِن أجلنا، بل للقيام بذلك... ونحن تركنا ذلك يجري. بابتعادنا، سمحنا بذلك...»

 

«آه! أين يمكن أن يضعوه!»

 

«بطرس، بطرس! الآن... هي حقّاً النهاية!»

 

يَخرج التلميذان محطّمَيَن.

 

«لنذهب يا امرأة. أنتِ ستخبرين الأُمّ...»

 

«أنا لن أبتعد. أبقى هنا... سيأتي أحد ما... آه! أنا لن أذهب... لا يزال شيء ما منه هنا. الأُمّ كانت على حقّ... استنشاق الهواء حيث كان، هو التعزية الوحيدة الّتي بقيت لنا.»

 

«التعزية الوحيدة... الآن ترين أنتِ أيضاً أنّ الرجاء كان جنوناً...» يقول ‏بطرس.

 

مريم لا تكلّف نفسها عناء الردّ عليه. تجثم على الأرض، تماماً عند مدخل القبر، وتبكي، فيما الآخران يمضيان على مهل.

 

ثمّ ترفع رأسها وتـنظر إلى الداخل، وعبر دموعها، ترى ملاكَين، أحدهما يجلس عند أوّل حَجَر المسحة، والآخر يجلس آخره. مريم المسكينة، المسحوقة في صراعها الأعنف، بين الرجاء الّذي يموت، والإيمان الّذي لا يريد أن يموت، مسحوقة لدرجة أنّها تنظر إليهما مُتبلّدة الذهن، حتى إنّها لا تندهش. المرأة الشجاعة الّتي قاومت كلّ شيء، مِثل بطلة، لم تعد تمتلك سوى الدموع.

 

«لم تبكين يا امرأة؟» يَسأَل أحد الصبيّيَن الـمُشِعّيَن، لأنّهما يبدوان كمُراهِقَين فائقي الجمال.

 

«لأنّهم أخذوا ربّي، ولا أعلم أين وضعوه.»

 

مريم لا تخاف مِن التحدّث إليهما، إنّها حتّى لا تسأل: "مَن أنتما؟" لا شيء. ما عاد شيء يُدهِشها. لقد سبق أن عانت كلّ ما يمكن أن يُذهِل مخلوقاً. الآن لم تعد سوى شيء منكسر يبكي، مجرّدة مِن القوّة والتحفّظ.

 

أحد الملاكَين الشابّين ينظر إلى رفيقه ويبتسم. وكذلك يفعل الآخر. وفي وميض فرح ملائكيّ كلاهما ينظران خارجاً، صوب البستان الـمُزهِر كلّياً بملايين الزهور الّتي تفتّحت عند أوّل شعاع شمس أشرق على أشجار التفّاح الكثيفة في البستان.

 

تستدير مريم لترى إلى مَن ينظران، وترى رجلاً، فائق الوسامة، ولا أدري كيف يمكنها ألاّ تتعرّف عليه فوراً.

 

رجلٌ ينظر إليها بشفقة ويسألها: «يا امرأة، لماذا تبكين؟ عمّن تبحثين؟»

 

صحيح أنّه يسوع محجوب بشفقته نحو خليقة، أنهكتها انفعالاتها الـمُفرِطة، ويمكن لبهجة مُفاجِئة أن تتسبّب بموتها، إنّما أتساءل كيف أمكنها ألاّ تتعرّف عليه.

 

وتقول مريم وسط شهقاتها: «لقد أخذوا مني ربّي يسوع! لقد جئتُ لأحنّطه في انتظار قيامته... لقد استجمعتُ كلّ شجاعتي ورجائي وإيماني حول حُبّي... والآن ما عدتُ أجده… حتّى إنّي وضعتُ حُبّي حول إيماني، رجائي وشجاعتي، لأحميهم مِن البشر... إنّما كلّ شيء كان بلا فائدة! البشر سرقوا حُبّي، ومعه انتزعوا منّي كلّ شيء... أيا سيّدي، إن كنتَ أنتَ مَن أخذه‏، فقل لي أين وضعتَه، وأنا سآخذه... لن أقول ذلك لأحد... سيكون الأمر سرّاً بينكَ وبيني. انظر: أنا ابنة ثيوفيلوس، أخت لعازر، إنّما أنا راكعة أمامكَ، أُناشِدكَ كعبدة. أتريد أن أشتري منكَ جسده؟ سأفعل ذلك. كم تريد؟ أنا غنيّة. أستطيع أن أعطيكَ مقدار وزنه ذهباً وأحجاراً كريمة. إنّما أعده إليّ. لن أشي بكَ. أتريد أن تضربني؟ افعل ذلك. اضربني حتّى أنزف، إن شئتَ. إذا كنتَ تكرهه، اجعلني أدفع الثمن. إنّما أعده إليّ. آه! لا تجعلني غارقة بهذا البؤس، أيا سيّدي! أشفق على امرأة مسكينة!... ألا تريد أن تفعل ذلك مِن أجلي؟ فافعله إذاً مِن أجل أُمّه. قل لي! أخبرني أين ربّي يسوع. أنا قويّة. سآخذه بين ذراعيّ وأحمله كطفل إلى مكان آمن. يا سيّد... يا سيّد... أنتَ ترى ذلك... منذ ثلاثة أيام وغضب الله يصيبنا بسبب ما فُعِل بابن الله... لا تضف انتهاك حرمة جسده إلى الجريمة...»

 

«مريم!» يسوع يشعّ وهو يناديها. يُظهِر نفسه في بهائه الظافر.

 

«رابّوني!» صيحة مريم هي حقّاً "الصيحة العظيمة" الّتي تُقفِل حلقة الموت. مع الأولى، غطّت ظلمات الكراهية الضحيّة باللفائف المأتميّة، ومع الثانية زادت أنوار الحُبّ سطوعه.

 

وتنهض مريم مع الصيحة الّتي تملأ البستان، تَركض نحو قدميّ يسوع تودّ تقبيلهما.

 

يسوع يبعدها وهو بالكاد يلمس جبهتها برؤوس أصابعه: «لا تلمسيني! فأنا لم أصعد بعد إلى أبي بهذا الثوب. اقصدي إخوتي وأصدقائي وقولي لهم بأنّني سأصعد إلى أبي وأبيكم، إلى إلهي وإلهكم. وبعدها سآتي إليهم.» ويختفي يسوع، يغلّفه نورٌ لا يُحتمَل.

 

مريم تُقبّل الأرض حيث كان، ثمّ تهرع نحو المنـزل. تدخل كما صاروخ لأنّ البوابة كانت مفتوحة لإفساح المجال لربّ المنـزل للذهاب إلى النبع؛ تفتح باب غرفة مريم وترتمي في حضنها وهي تصيح: «لقد قام! لقد قام!» وتبكي، مُغتبِطة.

 

وفيما يهرع بطرس ويوحنّا، ومِن العلّية تتقّدم سالومة وسُوسَنّة خائفتين، ويستمعون إليها، فها هي مريم الّتي لحلفى، تدخل مِن الشارع، مع مرثا ويُوَنّا، ويقلن بنَفَس مقطوع: «بأنّهن كُنّ هناك أيضاً، ورأين ملاكَين كانا يقولان بأنّهما حارسا الإنسان-الله وملاك ألمه، وأنّهما أمراهنّ إخبار التلاميذ بأنّه قام مِن الموت.»

 

ولأنّ بطرس يهزّ رأسه، فإنّهنّ يؤكّدن قولهنّ: «نعم. قالا: "لماذا تطلبن الحيّ بين الأموات؟ هو ليس هنا. لقد قام كما قال حين كان لا يزال في الجليل". ألا تتذكّرون ذلك؟ لقد قال: "إنّ ابن الإنسان سوف يُسلّم لأيدي الخطأة وسيُصلَب، لكنّه في اليوم الثالث سيقوم."»

 

يقول بطرس وهو يهزّ رأسه: «أمور كثيرة في هذه الأيّام! قد جعلَتْكنّ مضطربات.»

 

المجدليّة ترفع رأسها عن صدر مريم وتقول: «لقد رأيتُه! لقد كلّمتُه. قال لي إنّه سوف يصعد إلى الآب ومِن ثمّ يأتي. كم كان وسيماً!» وتبكي كما لم تبكِ أبداً، وقد كَفَّت عن تعذيب نفسها، كي تتقوّى لمواجه الشكوك الّذي تَبرز مِن كلّ حدبٍ وصوب.

 

لكنّ بطرس وكذلك يوحنّا، يلبثان متردّدين جدّاً. ينظران إلى بعضهما، إنّما عيونهما تقولان: "تخيّلات نسوة!"

 

سُوسَنّة وسالومة تجرؤان أيضاً على الكلام. لكنّ التناقضات الجليّة في تفاصيل حالة الحرّاس الّذين هم في البدء هناك مثل أموات ومِن ثمّ لم يعودا هناك، وفي تفاصيل حالة الملائكة الّذين هم تارّة واحد وتارّة اثنان، والّذين لم يُظهِروا أنفسهم للرسولين، وفي الروايتين المختلفتين بخصوص مجيء يسوع إلى هنا وتقدُّمه أتباعه إلى الجليل، كلّ تلك التناقضات تجعل الشكّ، يزداد أكثر فأكثر، ويُصبِح إقناع الرسولين أمراً بعيد المنال.

 

مريم، الأُمّ المباركة، تصمت بينما تسند المجدليّة... لا أدرك سرّ هذا الصمت الأموميّ.

 

مريم الّتي لحلفى تقول لسالومة: «لنعد كلانا إلى هناك. لنرى إن كنّا كلّنا ثَمِلات...» وتركضان إلى الخارج.

 

الأخريات يبقين، وهنّ محطّ سخرية صامتة مِن قِبَل الرسولين، قُرب مريم الّتي تصمت، المأخوذة بفكرة أنّ كلّ واحد يُفسّر على طريقته، ومِن دون أن يُدرِك أحد أنّها في نشوة.

 

الامرأتان الـمسنّتان تعودان: «هذا صحيح! هذا صحيح! لقد رأيناه. قرب بستان برنابا، وقال لنا: "السلام لكما. لا تخافا. امضيا وقولا لإخوتي أنّني قمتُ، وليذهبوا خلال بضعة أيّام إلى الجليل. سنجتمع هناك معاً ثانيةً". هكذا قال. مريم على صواب. يجب أن نُعلِم جماعة بيت عنيا بذلك، يوسف، نيقوديموس، التلاميذ الأوفى، الرُّعاة، يجب أن نذهب، ونقوم بـ...، نقوم بـ... آه! لقد قام!...» يبكين كلهنّ مغتبطات.

 

«إنّكن مجنونات أيّتها النسوة. الألم شوّشَكن. النور بدا لكُنّ ملاكاً. والريح صوتاً. والشمس المسيح. أنا لا أنتقدكنّ، أنا أتفهمكنّ، لكنّني لا أستطيع أن أصدّق إلاّ ما رأيتُ: القبر مفتوح وفارغ، والحرّاس سرقوا الجثمان وفرّوا.»

 

«إنّما إن كان الحرّاس أنفسهم يقولون أنّه قام! إن كانت المدينة مضطربة وأمراء الكَهَنَة قد جنّ جنونهم مِن الغضب، لأنّ الحرّاس تكلّموا عند هربهم الهائج! ويريدون منهم الآن أن يقولوا أمراً مختلفاً ويَدفعون لهم في سبيل ذلك. لكنّ الحقيقة قد باتت معروفة، وإذا ما كان اليهود لا يؤمنون بالقيامة، ولا يريدون أن يؤمنوا، فكُثُر آخرون يؤمنون...»

 

«هه! الِنسوة!...» يهزّ بطرس كتفيه لا مبالياً ويهمّ بالرحيل.

 

عندها الأُمّ، الّتي لا تزال تحتضن المجدليّة الّتي تبكي مثل صفصافة تحت وابلٍ مِن المطر بسبب فرحها العظيم جدّاً، والّتي تُقبّلها على شعرها الأشقر، ترفع وجهها المتجلّي وتقول عبارة قصيرة: «لقد قام حقّاً. لقد احتضنتُه بين ذراعيّ وقَبَّلتُ جروحه.» ومِن ثمّ تنحني فوق شعر الهائِمة وتقول: «نعم، الفرح أقوى مِن الألم. ولكنّه ليس سوى حبّة رمل بالمقارنة مع ما سيكون محيط فرحكِ الأبديّ. طوبى لكِ لأنّكِ جعلتِ روحكِ يتكلّم متجاوزاً عقلكِ.»

 

ما عاد بطرس يجرؤ على الإنكار... وبإحدى تلك الانتفاضات الّتي لبطرس القديم الّذي يعود الآن مزهراً، يقول، ويصيح، وكأنّ التأخير كان بسبب الآخرين وليس بسببه: «فإذاً، إذا كان الأمر هكذا، فيجب أن نُعلِم الآخرين به. أولئك الّذين ينتشرون في الأرياف... لنبحث... لنتصرّف... هيّا... تحرّكوا. إذا كان يأتي حقّاً، فليجدنا على الأقلّ.» ولا ينتبه أنّه، بكلامه هذا، يعترف ثانية بأنّه لا يؤمن بعد بشكل أعمى بقيامته.