ج4 - ف149
أَنَا هُوَ
ماريا فالتورتا
L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO
THE GOSPEL AS REVEALED TO ME
بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}
L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ
MARIA VALTORTA
الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.
الجزء الرابع / القسم الثاني
149- (لعازر يستضيف يوحنّا الذي مِن عين دور وسِنْتيخي)
24 / 09 / 1945
«لعازر، صديقي، أَطلُب منكَ المجيء معي.» يقول يسوع وهو يَظهَر على عَتَبَة غرفة يبدو فيها لعازر شِبه مُستَلق على سرير، أثناء قراءته إحدى اللُّفافات.
«حالاً يا معلّم. إلى أين نمضي؟» يَسأَل لعازر وهو يَنهَض مباشرة.
«إلى الريف، فأنا في حاجة إلى أن أكون بمفردي معكَ.»
يَنظُر إليه لعازر مضطرباً، ويَسأَل: «هل لديكَ أخبار حزينة تريد أن تخبرني إيّاها سرّاً؟ أو أن... لا، لا أريد أن أُفكِّر في ذلك...»
«لا، بل إنّني أسألكَ نصيحة، وينبغي ألّا يَعلَم حتّى الهواء بما سـنقوله. أُطلب العربة لأنّني لا أريد أن أُتعِبكَ. عندما نُصبِح في قلب الريف، سأتحدّث إليكَ.»
«إذن، فأنا مَن سيقود العربة. وهكذا حتّى الخادم لا يَعرِف ما سيدور بيننا.»
«نعم، فليكن.»
«سأذهب حالاً، يا معلّم. وسأكون جاهزاً خلال لحظة.» ويَخرُج.
يَخرُج يسوع كذلك، بعد بقائه قليلاً مُفكِّراً وسط الغرفة الثريّة. وبينما هو يُفكِّر، وبشكل آليّ غَيَّر أمكنة غرضين أو ثلاثة، لَـمَّ اللُّفافة الواقعة على الأرض، وأخيراً، وبينما هو يَضَعها في مكانها على أحد الرفوف، بذلك الميل الفطريّ للترتيب، القويّ جدّاً لدى يسوع، يُبقي ذراعيه مرفوعتين وهو يَنظُر إلى أدوات أحد الفنون، أقلّ ما يقال فيه غريب، وهو يَختَلِف عمّا هو شائع في فلسطين، مُرتبة بالتدريج على الرفّ. إنّها جِرار وكؤوس قديمة جدّاً، كما يبدو، مِن مَعدن مُطرَّق، مزيّن برسوم تَنقُل تفاصيل هياكل اليونان القديمة، وإجّانات مأتميّة. لستُ أدري ما الذي يراه هو فيما وراء الأداة... يَخرُج ويمضي إلى الدّار الداخليّة حيث يتواجد الرُّسُل.
«إلى أين نحن ماضون، يا معلّم؟» يَسأَلون، حينما يَرَون يسوع يرتدي معطفه.
«لن نمضي إلى أيّ مكان. أنا خارج مع لعازر. وأنتم تبقون جميعاً هنا تنتظرونني. سأعود بسرعة.»
يَنظُر الاثنا عشر إلى بعضهم... ليسـوا مسـرورين جدّاً... يقول بطرس: «أتمضي وحدكَ؟ احترس...»
«لا تَخشَ شيئاً. وأثناء انتظاري، لا تكونوا عاطلين عن العمل. ثَقِّفوا هرمسـت لكي يَعرِف الشريعة أكثر، وكونوا رفاقاً صالحين. فلا مشاجرات ولا خُروج عن الأدب. تصرَّفوا بلطف ووَداعة وأَحِبّوا بعضكم بعضاً.»
يتوجّه إلى الحديقة ويَتبَعه الجميع. وفي الحال تَصِل عربة خفيفة ومغطّاة، يَركَبها لعازر.
«هل تمضي بالعربة؟»
«نعم، كي لا يُتعِب لعازر ساقيه. إلى اللقاء. مارغزيام كن عاقلاً. السلام لكم جميعاً.»
يَصعَد إلى العربة التي إذ تصرّ على حصى الدرب، تَخرُج مِن الحديقة إلى الطريق العموميّة.
«هل تمضي إلى عين الحلوة، يا معلّم؟» يهتف توما مِن الخلف.
«لا. مرّة أخرى أقول لكم: كونوا صالحين.»
يَنطَلِق الحصان مُسرعاً. الطريق التي تذهب مِن بيت عنيا إلى أريحا، تمرّ عبر الريف الذي يتعرّى، ويُلاحِظ المرء موت الطبيعة كلّما انحَدَرَ إلى السهل.
يسوع يُفكِّر. لعازر يَصمُت وهو مُنشَغِل فقط بقيادة الحصان. عندما يُصبِحان في السهل، سهل خصيب جاهز تماماً لتغذية بِذار الحبوب المستقبليّة، ذي الكروم النائمة الآن مثل امرأة وَضَعَت منذ قليل ثمرة بطنها، وتستريح مِن تَعَبها اللّذيذ، فيشير إليه يسوع أن يتوقّف. ولعازر، مُطيعاً للأمر، يتوقّف ويقود الحصان على طريق فرعيّة صغيرة يؤدّي إلى بيـوت قَصيّة... ويُفسِّر: «هنا نكون في سكون أكثر مِن الطريق العموميّة. هذه الأشجار تخفينا عن نواظر الكثيرين.» بالفعل دَغل مِن الأشجار القصيرة كثيفة الأوراق تقوم مقام الحاجز في وجـه فضول المارّة. ويقف لعازر إلى جانب يسوع في أثناء الانتظار.
«يا لعازر، عليَّ إبعاد يوحنّا الذي مِن عين دور وسِنْتيخي. مِن باب الحِيطة والحذر وكذلك المحبّة. بالنسبة للواحد، كما للأخرى، هي تَجرُبة خَطِرة، أَلَم لا جدوى منه، أن يتعرّضا لاضطهادات تُطلَق ضدّهم... وقد تَحصل لأحدهما على الأقلّ مفاجآت مؤلمة للغاية.»
«في بيتي...»
«لا. ولا حتّى في بيتكَ. قد لا يصابا بأذى مادّيّ، ولكنّهما يُذَلّان معنوياً. العالم فظيع. يَسحَق ضحاياه. وأنا لا أريد لهاتين الطَّاقَتين الرائِعَتين أن تُفقَدا هكذا. بالنتيجة، فكما جَمعتُ يوماً بين العجوز إسماعيل وسارة، فإنّني أودُّ الآن أن أجمع بين يوحنّا المسكين وسِنْتيخي. أريد أن يموت بسلام، وألّا يكون وحيداً، وبإيحاء أنّه إنّما أُرسِل إلى مكان آخر، ليس لأنّه "المحكوم عليه سابقاً بالأشغال الشاقّة"، بل لأنّه التلميذ الـمُهتَدي الذي يمكن إرساله إلى أمكنة أخرى للتبشير بالمعلّم. وستساعده سِنْتيخي... سِنْتيخي نَفْس رائعة، وسوف تكون قوة عظيمة في كنيسة المستقبل، ومِن أجل كنيسة المستقبل. فهل يمكنكَ إسداء النُّصح لي إلى أين أُرسِلهما؟ ليس إلى اليهوديّة أو الجليل، ولا حتّى إلى المدن العشـر، إلى حيث أذهب ومعي الرُّسُـل والتلاميذ. ليس إلى العالم الوثنيّ. أين إذن؟ أين؟ ليكونا مُفيدَين وفي أمان؟»
«يا معلّم... أنا... ولكن أنا أنصحكَ!»
«لا، لا. تكلّم. أنتَ تحبّني كثيراً، ولا تخون. تحبّ الذين أحبّهم، وأُفُق تفكيركَ ليس ضيّقاً، كما هو لدى آخرين.»
«أنا... نعم. أنصحكَ بإرسالهم إلى حيث لديَّ أصدقاء. إلى قبرص أو إلى سوريا. اختر. في قبرص لديَّ أشخاص موثوقون. وفي سوريا!... لديَّ هناك أيضا بيت صغير يُديره أحد القائمين، وهو مُخلِص أكثر مِن نَعجة. صاحبنا فليبّس! مِن أجلي سوف يَفعَل كلّ ما أقول. وإذا سمحتَ لي، فإنّهما، وهما الـمُضطَهَدان مِن إسرائيل، والعزيزان على قلبكَ، يمكنهما اعتبار نفسيهما ضيفيَّ منذ الآن وبأمان في بيتي... آه! هو ليس بقصر! إنّه بيت يقطنه فليبّس وحده مع حفيد يعتني بحدائق أنتيجونيا. الحدائق التي كانت أُمّي تُحبّها. لقد احتفظنا بها إحيـاءً لذكراها. فإنّها كانت قد حَمَلَت إليها نباتات مِن حدائقها في اليهوديّة، وقد كانت نادرة... أُمّي!... كم كانت تصنع مِن خلاصاتها خيراً للفقراء... لقد كانت حقل اختصاصهـا السرّيّ... أُمّي... يا معلّم، سأمضي بسرعة لأقول لها: "افرحي أيّتها الأُمّ الصالحة، الـمُخلِّص على الأرض". لقد كانت تنتظركَ...» دمعتان باديتان على وجه لعازر المتألّم. يَنظُر إليه يسوع ويبتسم. فيعاود لعازر: «فلنتحدّث عنكَ أنتَ. هل يبدو لكَ المكان ملائماً؟»
«نعم. ومرّة أخرى أشكركَ عنّي وعنهم. إنّكَ تزيح عنّي حِملاً عظيماً...»
«متى سيذهبان؟ أَسأَل لكي أُهيّئ رسالة إلى فليبّس. سوف أقول فيها إنّهما صديقان لي مِن هنا، وهما في حاجة إلى السلام. وهذا يكفي.»
«نعم، هذا يكفي. وفي هذه الأثناء، أرجوكَ ألّا يَعلَم بكلّ هذا حتّى الهواء ذاته. أنتَ تَرى! إنّهم يتجسّسون عليَّ...»
«أرى ذلك. ولن أتحدّث عن ذلك ولا حتّى إلى أُختيَّ. ولكن ماذا ستفعل حتّى تُوصِلهما إلى هناك؟ إنّ الرُّسُل معكَ...»
«الآن، سأعاود الصعود إلى عِرا بدون يهوذا بن سمعان وتوما وفليبّس وبرتلماوس. وفي هذه الأثناء سوف أُثقِّف يوحنّا وسِنْتيخي بعمق... كي يَمضِيا ومعهما مؤونة عظيمة مِـن الحقيقة... ومِن ثمّ سأنزل إلى ميرون ومِن هناك إلى كفرناحوم. وهناك... هناك مِن جديد أُرسِل الأربعة في رسالة أُخرى، وحينئذ أَجعَل الاثنين يَمضِيان إلى أنطاكية. لا خيار لديَّ...»
«أنتَ مُحقّ تماماً في خشيتكَ مِن أتباعكَ... يا معلّم، إنّني أتألم لرؤيتي إيّاكَ قَلِقاً...»
«ولكنّ صداقتكَ الطيّبة تُشدِّد عزيمتي كثيراً... أشكركَ يا لعازر... بعد غـد أمضي مُصطَحِباً أختيكَ معي. إنّني في حاجة إلى تلميذات كثيرات تَختَلِط بهنّ سِنْتيخي. سوف تأتي كذلك يُوَنّا امرأة خُوزي. ومِن ميرون سوف تَمضي إلى طبريّا، لأنّها سَتُمضي الشتاء هناك. هذا ما يريده زوجها لتكون قريبة منه. ذلك أنّ هيرودس يَعود إلى طبريّا لبعض الوقت.»
«ما ترغبه أنتَ يكون. أُختايَ لكَ كما أنا لكَ، أنا وبيوتي وأملاكي وخُدّامي. كلّ شيء ملك لكَ يا معلّم. فاستخدِمه مِن أجل الخير. سوف أُهيّئ لكَ الرسالة إلى فليبّس. يُفضَّل أن تَحصل عليها مباشرة.»
«شكراً يا لعازر.»
«هذا كلّ ما يمكنني فِعله... لو أنّني كنتُ في صحّة جيّدة، لأتيتُ... اشفني يا معلّم، وسآتي.»
«لا، يا صديقي. فأنا في حاجة إليكَ كما أنتَ.»
«حتّى ولو لم أفعل شيئاً؟»
«حتّى ولو كان ذلك. آه! يا صديقي لعازر!» يُعانِقه يسوع ويُقبِّله.
يَصعَدان إلى العربة مِن جديد ويَعودان. الآن لعازر هو الصامت تماماً وشارد الذهن. يَسأَله يسوع عن السَّبَب.
«أُفكّر في أنّني سأفقد سِنْتيخي. ولقد كانت ثقافتها وطِيبتها تَشُدّانني...»
«يسوع هو الذي حَصَلَ عليها...»
«صحيح، صحيح. متى سأراك ثانية يا معلّم؟»
«في الربّيع.»
«وفوق ذلك حتّى الربّيع؟ العام الماضي كنتَ عندي مِن أجل عيد الأنوار...»
«هذا العام أُرضِي الرُّسُل. ولكن في العام القادم سأكون معكَ أكثر. أَعِدُكَ.»
تَظهَر بيت عنيا تحت شمس تشرين (أكتوبر-نوفمبر). إنّهما على وَشك الوصول عندما يُوقِف لعازر الحصان ليقول: «يا معلّم، حسناً تفعل بإبعادكَ الاسخريوطيّ. إنّني أخشاه. فهو لا يحبّكَ. وهو لا يروق لي أبداً. ولم يَرُق لي يوماً. إنّه شهوانيّ وَشَرِه. كذلك هو مُؤهَّل لأن يَرتَكِب أيّ ذنب. يا معلّم، إنّه هو مَن وَشَى بكَ...»
«هل لديكَ أدلّة على ذلك؟»
«لا.»
«إذن لا تَحكُم. فأنتَ لستَ خبيراً جدّاً في أمور الحُكم. تذكَّر أنّكَ كنتَ تَحكُم على مريم بأنّها ضالّة بدون رحمة... لا تَقُل إنّ الفضل في ذلك يعود لي. فإنّها هي مَن بَحَثَت عنّي أوّلاً.»
«وهذا كذلك صحيح. إنّما خلاصة القول لا تَثِق بيهوذا.»
بعد قليل يَدخُلان إلى الحديقة حيث ينتظرهما الرُّسُل بفضول.
غياب الرُّسُل الأربعة، وخاصة يهوذا، جَعَلَ المجموعة الباقية أكثر حميمية وأكثر تألُّقاً. حقّاً إنّهم عائلة -رئيساها يسوع ومريم- والتي تُدير ظهرها لبيت عنيا في صبيحة لتشـرين (أكتوبر-نوفمبر) صافية، متوجِّهة صوب أريحا، لِتَعبر إلى الضفّة المقابلة للأردن. تجتمع النساء حول مريم، ولا تغيب عن مجموعة النساء التلميذات سوى أناليا، أي الحاملات اسم مريم الثلاث، ويُوَنّا وسُوسَنّة وإليز ومارسيل وسارة وسِنْتيخي. ويجتمع حول يسوع بطرس وأندراوس، ويعقوب ويوضاس ابنا حلفى، ومتّى، ويوحنّا ويعقوب ابنا زَبْدي، وسمعان الغيور ويوحنّا الذي مِن عين دور، وهرمست وتيمون، بينما مارغزيام يقفز كالجَدي مثل المكّوك بين المجموعتين، حيث تَسبق الواحدة الأخرى أمتاراً قليلة. ورغم أنّهم يحملون حقائب ثقيلة، فإنّهم يَنطَلِقون فَرِحين على الطريق التي تغطيها أشعة للشمس لطيفة، في غفوة الريف الـمَهيبة.
يتقدّم يوحنّا الذي مِن عين دور بصعوبة تحت الثّقل الذي على مَنكبيه. يُلاحِظ بطرس ذلك ويقول: «أعطني إيّاه إذن. هل كنتَ مصاباً بالحنين حتّى أردتَ معاودة أخذ هذا الحِمل؟»
«إن المعلّم هو الذي أَمَرَني بذلك.»
«المعلّم؟ آه! إنَّما لماذا؟»
«لستُ أدري. أمس مساء قال لي: "خُذ كُتُبكَ معكَ مِن جديد واتبعني.»
«آه! حسناً جدّاً! حسناً جدّاً! إذا كان هو مَن قال ذلك، فهذا يعني شيئاً حسـناً. قد يكون مِن أجل تلك المرأة. كم مِن الأشياء تَعرِف؟ هل تَعرِفها أنتَ كذلك؟»
«تقريباً بقدر ما تَعرِف هي. إنّها مُثقَّفة جدّاً.»
«ولكنكَ لا تستطيع الاستمرار في مُواكَبَتنا مع هذا الحِمل. أليس كذلك؟»
«آه! لا أظنّ، ولكنّني لا أَعلَم. إنّما ما زلتُ أستطيع حَمله...»
«لا يا صديقي. أنا حريص على ألّا تُصاب بالمرض. فأنتَ لستَ في حال جيّدة. هل تَعلَم ذلك؟»
«أعلم، أشعر بأنّني أموت.»
«لا تمزح! دعنا نَصِل على الأقلّ إلى كفرناحوم. إنّنا على ما يرام، الآن ونحن مع بعضنا دون ذاك... يا للّسان اللعين! لقد نَقَضتُ وَعدي للمعلّم!... يا معلّم! يا معلّم!»
«ماذا تريد يا سمعان؟»
«لقد تفوَّهتُ بالسوء على يهوذا وكنتُ قد وعدتكَ بألّا أعود أفعل. سامحني.»
«نعم. حاوِل ألّا تَعود إلى فِعل ذلك.»
«ما زِلتُ أملك الحقّ في نيل مسامحتكَ 489 مرّة...»
«ولكن ما الذي تقوله يا أخي؟» يَسأَل أندراوس مندهشاً.
وبطرس، بإشـراقة خُبث على وجهه الطَّيب، وقد لوى عُنقه تحت ثِقل حقيبة يوحنّا الذي مِن عين دور: «ألا تَذكُر أنّه، هو الذي قال بالمسامحة سبعين مرّة سبع مرات؟ بالنتيجة، فأنا ما زلت أملك الحق بنيل 489 مسامحة. إنّني حريص جدّاً على دقّة الحسابات...»
يضحك الجميع، حتّى يسوع، تَراه مُرغَماً على الابتسام. ولكنّه يُجيب: «يَجدر بكَ أن تَحرص على حساب كلّ المرّات التي عليكَ أن تكون فيها صالحاً، يا أيّها الوَلَد الكبير.»
يَقتَرِب بطرس ويُحيط قامة يسوع بذراعه اليمنى وهو يقول: «يا معلّمي العزيز! كم أنا سعيد لكوني معكَ بدون... هيّا بنا! إنّكَ مسرور أنتَ كذلك... وتُدرِك ما أريد قوله. إنّنا معاً، ومعنا أُمّكَ والصبيّ، ونَمضي إلى كفرناحوم، والطقس بديع... خمسة أسباب للسعادة. آه! إنّ المجيء معكَ لَمُمتع حقّاً! أين نتوقّف هذا المساء؟»
«في أريحا»
«في العام الماضي رأينا هناك المرأة ذات الحِجـاب. ولكن مَن يدري ماذا حلَّ بها؟... ينتابُني الفضول لمعرفة ذلك... وَوَجَدنا إنسان الكُروم...» ويَضحَك بطرس ضحكة مُعدية لِشدّة دَويّها. ويضحك الجميع مُفكِّرين مِن جديد بمشهد اللقاء بيهوذا الاسخريوطيّ.
«ولكنّكَ غير قابل للإصلاح يا سمعان!» يؤنّبه يسوع.
«لم أقل شيئاً يا معلّم. ولكنّني لم أستطع مَنع نَفسي مِن الضَّحِك وأنا أُفكّر بمظهره عندمـا وَجَدنا هناك... في كُرومه...» ويضحك بطرس مِن أعماق قلبه، حتّى إنّه اضطُرَّ إلى التوقّف، بينما يُتابع الآخرون وهُم يَضحكون رُغماً عنهم.
تلحق النساء ببطرس. تَسأَله مريم بلطف: «ما بكَ يا سمعان؟»
«آه! لا يمكنني البوح، فأُخِلُّ بالمحبّة مرّة أخرى. ولكن... أيّتها الأُمّ، يا مَن أنتِ حكيمة، قولي لي: إذا ما أَلـمَحتُ إلى أمر ما، أو حتّى تفوّهتُ بنميمة، فَمِن الطبيعيّ أنّني أخطئ. أمّا لو ضحكتُ بسبب أمر يعرفه الجميع، أمر يَبعَث على الضَّحِك، مثلاً التذكير بمفاجأة كاذِب وارتباكه وأعذاره، ومُعاوَدة الضَّحِك كما ضَحِكنا في حينها، فهل يُعتَبر هذا سوءاً أيضاً؟»
«إنّ في ذلك إخلالاً بالمحبّة. هو ليس بخطيئة كالنميمة والوشاية وحتّى كالتلميح، ولكنّه يبقى إخلالاً بالمحبّة. فهو كالخيط المنـزوع مِن قُماش. وهذا ليس خَرقاً بالمعنى الصحيح، والقماش ليس مهترئاً تماماً، ولكنّ الأمر يبقى على الدوام مما يُصيب سلامة القماش وجماله، يبقى أمراً يُهيّئ لتمزُّقات وخُروق. ألا تظنُّ ذلك؟»
يَفرك بطرس جبهته ويقول وهو مقهور قليلاً: «نعم. لم أُفكّر بهذا أبداً.»
«فَكِّر فيه الآن ولا تَعُد تفعله ثانية. كم مِن ضحكة تَجرَح المحبّة أكثر مِن الصَّفع. هل اقتَرَف أحدهم خطيئة؟ هل حُمِل على الكَذِب أو على ارتكاب خطيئة أخرى؟ فإذاً؟ لماذا التَّذكير بها؟ وجَعل الآخرين يُفكِّرون فيها؟ فلنُلقِ وِشاحاً على أخطاء أخ لنا، مُفكِّرين على الدوام: "لو كنتُ أنا المذنب، فهل أُحِبُّ أن يَذكُر آخر تلك الخطيئـة، أو أن يَجعَل الآخـرين يُفكِّرون بها؟ "هناك أمور تدعو إلى الخَجَل الداخليّ، أمور تُسبِّب ألماً كثيراً. لا تهزّ رأسكَ. أعرِف ما الذي تودّ قوله... ولكن المخطئين كذلك يتألّمون. ثِق تماماً. فانطَلِق، انطَلِق دائماً مِن هذه الفكرة: "هل أُحِبّ ذلك لنفسي؟" وسَتَرى أنّكَ لن تعود تخطئ ضدّ المحبّة، وسـوف يكون لكَ سلام عظيم في داخلكَ. انظر هناك إلى مارغزيام، بأيّ فَرَح هو يَقفِز ويُغنّي. ذلك أنّه لا يَحمِل أيّة فِكرة في قلبه. ليس له أن يُفكِّر بخطوط سير، بمصاريف، وبكلام يقوله. إنّه يَعرِف أنّ آخرين يُفكِّرون بكلّ هذا مِن أجله. تصرَّف أنتَ أيضاً هكذا. دَع كلّ شيء لله، حتّى الحُكم على الأشخاص. وطالما تستطيع أن تكون مِثل صبيّ يقوده الله، فلماذا تريد أن تُحمِّل نفسك حِمل التقرير والحُكم؟ سيأتي الوقت الذي سوف تُضطَرّ لأن تكون فيه حاكِماً وحَكَماً، وحينئذ ستقول: "آه! كم كان أسهل آنذاك وأقلّ خطراً!" وسوف تَعتَبِر نفسكَ على درجة مِن الحمق لرغبتكَ في أن تُحمِّل نفسكَ قبل الأوان كلّ تلك المسؤوليّات. الحُكم! يا له مِن أمر صعب! هل سمعتَ ما قالته سِنْتيخي منذ أيّام؟ "ما يُبحَث عنه بالحواس هو دائماً ناقِص". لقد أجادت فيما قالت. كثيراً ما نَحكُم وفقاً لردود فعل حواسّنا، وبالنتيجة باختلال عظيم. فلا تَحكُم...»
«نعم يا مريم. أعدكِ أنتِ بحقّ. ولكنّني لستُ أعرف كلّ الأشياء الجميلة التي تعرفها سِنْتيخي!»
«وتتألّم لذلك يا رجل؟ ألا تَعرِف أنّني أريد التَّخلُّص منها لأخذ فقط ما تعرفه أنتَ؟»
«حقّاً؟ لماذا؟»
«لأنّكَ بالمعرفة يمكنكَ أن تَسلُك على الأرض، ولكنّكَ بالحِكمة تغزو السماء. فأنا لديَّ المعرفة، أمّا أنتَ فلديكَ الحِكمة.»
«ولكنّكِ بمعرفتكِ عَرفتِ أن تأتي إلى يسوع! فهي إذن شيء صالح.»
«إنّما مُمتَزِجة بأخطاء كثيرة، بحيث أودُّ لو أتخلّص منها لأَلبس الحكمة وحدها. بعيدة عنّي هي الثياب المزركشة عديمة النَّفع. وليكن ثوبي الثوب المتزمت للحكمة التي تلبس ثوباً لا يبلى وخالياً مِن المظاهر الخارجيّة، فلا يكن ما هو قابل للفساد بل ما هو خالد.. إنّ نور المعرفة يرتجف ويهتزّ. أمّا نور الحكمة فيشعّ ثابتاً لا يتغيّر ولا يتبدّل، مِثل الإله الذي أَحدَثَهُ.»
يُبطِئ يسوع سيره لِيَسمَع. يلتفت ويقول لليونانيّة: «ليس لكِ أن تتوقي إلى التخلّص مِن كلّ ما تعرفينه، إنّما عليكِ أن تنتقي ممّا تعرفينه ما يُقدَّر مِقدار ذرّة مِن الفِكر الأزليّ، الـمُكتَسَب مِن أرواح ذات قيمة لا يمكن إنكارها.»
«تلك الأرواح حقّقت إذن في ذاتها أسطورة النار المحجوبة عن الآلهة؟»
«نعم، يا امرأة. إنّما هنا لم تَحجبها، بل عَرفت تَقبُّلها، عندما تمسّها الألوهة بنيرانها، مُداعِبة إيّاها كأمثلة، منتشرة في إنسانيّة مجرّدة ممّا هو الإنسان، الـمُنعَم عليه بالعقل.»
«يا معلّم، ينبغي لكَ أن تدلّني على ما ينبغي لي الاحتفاظ به وما عليَّ تركه. أنا لستُ حاكماً جيّداً، لملء الفراغات، وثمّ وضع أنوار حكمتكَ.»
«هذا ما أنوي فِعله. وسوف أدلّكِ إلى أيّ حدّ تَصِل حكمة الفِكرة التي تعرفين، وسوف أتوسَّع بها، انطلاقاً مِن ذلك الحدّ، حتّى نهاية الفكرة الحقيقيّة. ولِتَعلَمي. سيكون الأمر جيّداً كذلك بالنسبة للمُعَدّين لأن يكون لهم، في المستقبل، احتكاكات كثيرة مع الوثنيّين.»
«لن نفهم شيئاً مِن ذلك يا ربّ.» يُتمتِم يعقوب بن زَبْدي.
«قليلاً في الوقت الراهن. إنّما ستُدرِكون يوماً التعاليم الحاليّة وأهميّتها. وأنتِ، يا سِنْتيخي، اعرضي لي النقاط الـمُبهَمة بالأكثر بالنسبة لكِ. وأثناء التوقّفات أُوضِحها لكِ.»
«نعم، يا ربّي. إنّها رغبة نفسي التي تذوب في رغبتكَ. أنا، تلميذة الحقّ، وأنتَ المعلّم. وحُلم حياتي كلّها: امتلاك الحقيقة.»