ج5 - ف61
أَنَا هُوَ
ماريا فالتورتا
L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO
THE GOSPEL AS REVEALED TO ME
بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}
L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ
MARIA VALTORTA
الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.
الجزء الخامس/ القسم الثاني
61- (الخميس السابق للفصح. /V/)
27 / 01 / 1946
لا يتألّق الذين يتبعون يسوع ببطولتهم بالتأكيد!
النبأ الذي أتى به يهوذا يُشبِه ظهور باشق فوق باحة تعجّ بالصيصان أو ذئب بالقرب مِن قطيع! رُعب، أو أقلّه اضطراب يُقرأ على وجوه تسعة أعشار الحاضرين هنا وخاصّة الرجال منهم. أظنّ أنّ الكثيرين يتصوّرون حدّ السيف أو الجَّلد، وأقلّ ما يتصوّرونه هو اختبار أسرار السجون في انتظار القضيّة.
النساء أقلّ اضطراباً. أكثر مِن الاضطراب فهنّ قد شَغَلَهنّ الهمّ مِن أجل أبنائهنّ أو أزواجهنّ، ويَنصحن هؤلاء وأولئك بأن يتفرّقوا جماعات صغيرة وأن يتوزّعوا في الأرياف.
تقف مريم المجدليّة في وجه هذا السيل مِن الخوف المبالَغ فيه: «آه! كَم مِن الغِزلان في إسرائيل! ألا تخجلن مِن رعدتكنّ هكذا؟ لقد قلتُ لكنّ إنّكنّ سوف تكنّ في قصري بأكثر أماناً ممّا لو كنتنّ في قلعة. تعالين إذن! أَقطَع لكنّ عهداً أنّه لن يصيبكنّ شيء أبداً. وإذا كان هناك غير الذين أشار إليهم يسوع، يُفكِّرون أن يكونوا في أمان في بيتي، فليأتوا. فهناك أسِرّة ووسادات لمائة إنسان. هيّا، قَرِّروا بدل الموت مِن الخوف! أرجو فقط يُوَنّا أن تدعمكم بالطعام، إذ ليس في القصر ما يكفي لهذا العدد، ولقد حلّ المساء. وجبة جيّدة أفضل دواء لإعادة الشجاعة للخوّافين.» إنّها ليست مَهيبة فقط في ثوبها الأبيض، ولكنّ ما يكفي مِن السخرية تومِض في عينيها البديعتين، بينما هي تنظر مِن أعلى قامتها إلى القطيع الهَلِع الذي يتزاحم في ردهة يُوَنّا.
«سأهتمّ بذلك في الحال. هيّا إذن. يوناثان يتبعكم مع الخُدّام، وأنا معه، طالما مُنِحتُ فرح اتّباع المعلّم، وبغير خوف، أؤكّد لكم، لدرجة أنّني آخذ الأطفال معي.» تقول يُوَنّا التي تنسحب لتعطي الأوامر، بينما طلائع جيش الخوّافين تمرّ بحذر، الرأس خارج البوّابة، وحينما يتمّ التأكّد مِن أنّ ما مِن شيء يُخشى منه، يتجرّأون على الخروج إلى الشارع والابتعاد، يتبعهم الآخرون.
مجموعة العذارى في الوسط، مباشرة بعد يسوع الذي هو في الصفوف الأولى. في الخلف، آه! خلف العذارى النساء؛ ثمّ الأقلّ... شجاعة المحميّين مِن مريم المجدليّة التي انضمّت إلى الرومانيّات، اللواتي قرّرن ألاّ يفارقن يسوع. إنّما بعدئذ تركض مريم المجدليّة إلى الأمام لتقول شيئاً ما لأختها، والرومانيّات السبع يبقين مع سارة ومارسيل، الباقيتين أيضاً في المؤخّرة بإيعاز مِن مريم، وبنيّة إبقاء الرومانيّات السبع أكثر تخفّياً.
وبخطى سريعة تَصِل يُوَنّا مع الأولاد الذين تمسكهم بيدها. خلفها يوناثان مع الخُدّام يحملون الأكياس والسِّلال ويسيرون خلف المجموعة الصغيرة. في الحقيقة لا أحد يلحظهم، إذ إنّ الشوارع تعجّ بالمجموعات العائدة إلى البيوت أو المخيّمات. على كلّ حال، فشبه الظلّ يجعل التعرّف على الوجوه أكثر صعوبة. أَصبَحَت الآن مريم المجدليّة مع يُوَنّا وأنستاسيا وإليز وفي المقدّمة تماماً، وتقود ضيوفها، عَبْر سُبل فرعيّة، إلى قصرها.
يوناثان يسير في الترتيب ذاته الذي للرومانيّات اللواتي يوجّه إليهنّ الكلام كما لخادمات التلاميذ الأكثر ثراء. تستغلّ كلوديا ذلك لتقول له: «يا رَجُل، أرجوكَ الذهاب لتنادي التلميذ الذي أتى بالنبأ. قُل له أن يأتي إلى هنا، وقُل له ذلك بشكل لا يثير الانتباه. اذهب!» الثوب بسيط ولكن اللهجة، بشكل لا إراديّ، لهجة مَن اعتاد على إصدار الأوامر. يُحملِق يوناثان مُحاولاً رؤية مَن يحدّثه هكذا عَبْر الوِشاح الـمُنسَدِل. ولكنّه لا يتمكّن مِن رؤية شيء سوى بريق العينين الآمرتين. مع ذلك عليه إدراك أنّ المرأة التي تكلّمه ليست خادمة، وينحني قبل تنفيذ الأمر.
يَلحَق بيهوذا الاسخريوطيّ الذي يتحدّث بحماس مع استفانوس وتيمون ويشدّه مِن ثوبه.
«ماذا تريد؟»
«لديَّ ما أقوله لكَ.»
«قُله.»
«لا. تعال معي إلى الخلف. أنتَ مطلوب، مِن أجل صَدَقَة، على ما أظنّ...»
السبب وجيه ومقبول بارتياح مِن قِبَل رِفاق يهوذا ومِن قِبَل يهوذا بالذات بحماس. فيعود مع يوناثان إلى الخلف بسرعة.
ها هو في الصفّ الأخير: «يا امرأة، هو ذا الرجل الذي كنتِ تَطلُبين.» يقول يوناثان لكلوديا.
«أنا ممتنّة لكَ لهذه الخدمة التي أسديتَها لي.» تُجيب تلك وما يزال الحجاب مُنسَدلاً. ثمّ، متوجّهة إلى يهوذا: «هل يرضيكَ التوقّف لحظة لتستمع إليَّ؟»
يَسمَع يهوذا طريقة كلام مُرهَفة جدّاً، ويرى عينين رائعتين مِن خلال الوشاح الرقيق، وقد يكون شَعَرَ بمغامرة كبيرة وشيكة، ويُوافِق دون صعوبة.
مجموعة الرومانيّات تتفرّق، ويبقى مع كلوديا وبلوتينا وفاليريا، والأخريات يتابعن.
تَنظُر كلوديا حولها. وترى أنّ الدرب حيث توقّفوا مُنعَزِل، وبيدها الجميلة جدّاً ترمي الوشاح إلى الخلف وتكشف عن وجهها.
يتعرّف إليها يهوذا، وبعد بُرهة مِن الدهشة، ينحني لتحيّتها مازجاً حركات يهوديّة بعبارات رومانيّة: «دومينا!» (سيّدتي).
«نعم، هذه أنا. انتَصِب واسمع. أنتَ تحبّ الناصريّ. تهتمّ بمصلحته. أنتَ على حقّ. إنّه صالح تجب حمايته. نحن نُجِلّه كعظيم وبارّ. اليهود لا يُجلّونه. إنّهم يَبغضونه. أنا أَعلَم. اسمع. اسمع جيّداً، تذكّر ونفّذ. أنا، أريد حمايته. لستُ كتلك الفاسقة. إنّما بشرف وفضيلة. عندما حبّكَ وفطنتكَ تجعلانكَ ترى أن هناك فخّاً يُنصَب ضدّه، تعال أو أَرسِل أحداً. كلوديا تستطيع كلّ شيء لدى البنطيّ. كلوديا ستحصل على حماية البارّ. هل تُدرِك؟»
«تماماً، يا سيّدتي. فليحفظكِ الله. سوف آتي، شريطة أن أتمكّن فقط، سآتي بشخصي أنا. ولكن كيف الوصول إليكِ؟»
«اسأل دائماً عن ألبولا دوميتيلاّ. هي تمثّلني. إنّما لا أحد يُدهَش إذا ما تَحدَّثَت إلى يهود، إذ إنّها هي التي تهتمّ بهباتي. سوف يظنّونكَ زبوناً. هل يمكن أن يذلّكَ هذا؟»
«لا، سيّدتي. خدمة المعلّم والحصول على حمايتكِ، شرف هو.»
«نعم، سوف أحميكم. أنا امرأة، لكنّني مِن عائلة كلوديا. لديَّ مِن السُّلطان أكثر مِن كلّ عظماء إسرائيل، ذلك أنّ خلفي روما. في انتظار ذلك، خُذ مِن أجل فقراء المسيح. صَدَقَتنا. في هذه الأثناء... أودُّ تركي وسط التلاميذ هذا المساء. وَفِّر لي هذا الشرف وستكون في حماية كلوديا.»
على شخصيّة مِن نمط الاسخريوطيّ، كلام النبيلة له تأثير عجيب. إنّه في السماء السابعة... يتجرّأ على السؤال: «ولكن هل حقّاً ستساعدينه؟»
«نعم، فملكوته يستحقّ أن يؤسَّس، ذلك أنّه ملكوت الفضيلة. سيكون مُرحَّباً به ليواجه البشاعات التي تُغلِّف الممالك الحاليّة، والتي تثير فيَّ الاشمئزاز. روما عظيمة، ولكنّ الرابّي أعظم كثيراً مِن روما. على الرايات التي لنا لدينا العظماء والنقوش المتشامخة، أمّا على راياته فستكون المواهب واسمه المقدّس. عظيمتان، حقّاً عظيمتان ستكونان، روما والأرض كلّها، عندما تَضَعان هذا الاسم على راياتهما، وعندما ستكون شارته على الأعلام والهياكل وعلى القناطر والعواميد.»
يهوذا مذهول، حالم، ومنتش. يَزِن الـمِنحة الثقيلة التي أُعطيت له، يَفعَل ذلك عفوياً وهو يهزّ رأسه ويقول: «نعم، نعم، نعم.» لكلّ شيء.
«الآن، هيّا بنا إذن لننضمّ إليهم. نحن حُلَفاء، أليس كذلك؟ حُلَفاء لحماية معلّمكَ ومَلِك النُّفوس النـزيهة.»
ترخي وِشاحها، وسريعة ورشيقة، تمضي وكأنّها تجري لتنضمّ إلى المجموعة التي سبقتها، يتبعها الآخرون بمن فيهم يهوذا الذي يلهث ليس مِن الجري بقدر ما هو مِن الذي سَمِعَه. قصر لعازر يبتلع مجموعات التلاميذ الأخيرة الذين يبلغونه. بسرعة يَسمَعون بوّابة الحديد تُغلَق مع صخب حديد المزاليج التي يدفعها الحارس.
مصباح واحد تحمله زوجة الحارس ينير بصعوبة بهو قصر لعازر المربّع الأبيض بأكمله. يمكن إدراك أنّ البيت ليس مأهولاً رغم حراسته وترتيبه. مريم ومرثا تقودان الضيوف إلى قاعة عريضة، تُستخدم بالتأكيد للولائم، جدرانها فاخرة تغطّيها الأقمشة الثمينة التي تَظهَر تطريزاتها كلّما أضيئت المنارات ووُضِعَت المصابيح على القواعد وعلى الصناديق الثمينة الموضوعة على طول الجدران، أو على الطاولات المستندة إليها، الجاهزة للخدمة، إنّما غير المستخدمة منذ مدّة. ولكنّ مريم تأمر بجلبها إلى منتصف القاعة وتوزيعها مِن أجل العشاء، بينما خُدّام يُوَنّا يُخرِجون الأطعمة مِن الحقائب والسِّلال ليضعوها على القواعد.
يهوذا يأخذ بطرس على حدة ويهمس شيئاً في أذنه، أرى بطرس يُحملِق ويهزّ يديه كما لو أنّه أحرَقَ أصابعه وهو يهتف متعجّباً: «عواصف وزوابع! ولكن ما الذي تقوله؟»
«نعم. انظر وفَكِّر! لا خوف بعد الآن! ولا قلق كهذا!»
«ولكنّ هذا جميل جدّاً! جدّاً! ولكن ما الذي قالَته؟ إنّها حقّاً ستحمينا؟ فليباركها الله! ولكن مَن تكون؟»
«تلك التي ترتدي رداء بلون اليمامة البرّيّة، كبيرة ونحيفة. انظر، إنّها تنظر إلينا...»
يَنظُر بطرس إلى تلك المرأة طويلة القامة، ذات الوجه المتناسق والجادّ، والعينين الوديعتين ومع ذلك المهيمنتين.
«و... ما الذي فَعَلتَه كي تتحدّث إليها؟ ألم...»
«لا، أبداً.»
«ومع ذلك، كنتَ تمقت الاتّصال بهم! مثلي، ومثل الجميع...»
«نعم، ولكنّني تجاوزتُ ذلك حبّاً بالمعلّم. كما تجاوزتُ الرغبة في قطع الاتّصال برفاق الهيكل القدامى... آه! كلّ ذلك مِن أجل المعلّم! أنتم جميعاً، وأُمّي معكم، تظنّون ذلك رياء. أنتَ، سابقاً، قد انتقدتَ صداقاتي. ولكن، لو لم أكن قد حافظتُ عليها، وبصعوبة بالغة، لم أكن لِأَعلَم بأشياء كثيرة. ليس حسناً أن يضع المرء عصابة على عينيه وسدّادة في أذنيه خوفاً مِن أن يَدخُل العالم إلينا مِن خلال العينين والأذنين. عندما نكون في مشروع كالذي لنا، يجب السهر على إبقاء العينين والأذنين مفتوحة تماماً. اسهروا مِن أجله، لمصلحته، مِن أجل تأسيس هذه المملكة المباركة...»
عدد كبير مِن الرُّسُل وبعض التلاميذ اقتربوا ليسمعوا مع إشارات استحسان بالرأس. إذ، بالفعل، لا يمكن القول إنّ يهوذا يتحدّث بشكل سيّئ!
بطرس، بنـزاهة وتواضع، يُقِرّ بذلك ويقول: «في الحقيقة أنتَ مُحقّ! سامحني على انتقاداتي. أنتَ أفضل منّي، وتجيد التصرّف في ذلك. آه! هيّا بنا نقول ذلك للمعلّم ولأُمّه ولأُمّكَ! لقد كانت قلقة جدّاً!»
«لأنّ ألسنة سيّئة دَسَّت... الآن اصمت. فيما بعد. هل ترى؟ يَجلسون إلى المائدة والمعلّم يشير إلينا بالذهاب هناك...»
...انتهى العشاء سريعاً. حتّى الرومانيّات، الجالسات إلى مائدة النساء، مختلطات بهنّ، وهكذا كانت كلوديا بين بورفيرا ودوركا، يأكلن بصمت ما يُقدَّم لهنّ. وبينهنّ وبين يُوَنّا ومريم المجدليّة، كان يدور كلام سرّيّ قوامه ابتسامات وغمزات. كنّ وكأنّهنّ طالبات في إجازة.
بعد العشاء، يَطلب يسوع أن تُوضَع المقاعد على شكل مربّع، ويأخذ كلّ مكانه للاستماع إليه. يجلس في الوسط ويشرع يتحدّث في مركز مربّع مِن الوجوه المتنبّهة، حيث لا شيء مُغلَق سوى عينيّ طفل يوركا النائم على صدر أُمّه، وحيث تكاد عينا مريم تُغلَقان مِن النعاس، وهي تجلس على ركبتيّ يُوَنّا، وعينا ماتياس الذي يجلس القرفصاء أمام ركبتيّ يوناثان.
«أيّها التلاميذ، رجالاً ونساءً، المجتمعون هنا باسم الربّ، أو الـمُجتَذَبون إلى هنا بالرغبة في الحقيقة، الرغبة الآتية أيضاً مِن الله الذي يريد أن يكون النور في كلّ القلوب، اسمعوا.
هذا المساء، أُبيح لنا أن نجتمع كلّنا، هذا بالضبط ما وَفَّرَته لنا إساءة الذين أرادوا أن نكون مُشَتَّتين. ولا تعلمون، أنتم يا أصحاب المشاعر المحدودة، كم عميق وواسع هو هذا الاتّحاد الحقيقيّ، فجر الاتّحادات المستقبليّة التي سوف تتحقّق عندما لا يعود المعلّم فيما بينكم، جسديّاً، ولكنّه سيكون فيكم بروحه. حينذاك تعرفون أن تحبّوا. حينذاك تعرفون أن تُطبِّقوا فِعل الحبّ. في هذا الأوان، أنتم كالأطفال الذين ما يزالون على الصدر. حينذاك تُصبِحون كالبالغين الذين يستطيعون تذوّق كلّ أنواع الطعام دون أن يؤذيهم ذلك. حينئذ سوف تعرفون أن تقولوا، كما أقول أنا: "تعالوا إليَّ، جميعكم، لأنّنا جميعنا إخوة، ولأنّه هو قَدَّمَ نفسه ذبيحة مِن أجل الجميع".
كثيرة هي الظنون في إسرائيل! إنّها كالسهام التي تجرح المحبّة. أتحدّث إليكم، أيّها الأوفياء، بشكل واضح وصريح، لأنّه لا خائن فيما بينكم، ولا أُناس مفعمون بالظُّنون التي تُفرِّق، التي تتبدّل إلى عدم فهم، إلى عِناد، وإلى حقد عليَّ أنا الذي أدلّكم على طرق المستقبل. لا يمكنني التحدّث بشكل مختلف. ومِن الآن وصاعداً سوف أُقلِّل مِن الحديث لأنّني أرى أنّ الكلام يكاد يكون بلا جدوى. لقد نلتم ما تتقدّسون وتتثقّفون به بشكل كامل. ولكنّكم ارتقيتم قليلاً، خاصّة أنتم، أيّها الرجال إخوتي، ذلك أنّ الكلمة تعجبكم وترضيكم، ولكنّكم لا تضعونها موضع التطبيق. مِن الآن وصاعداً، سوف أُكثِر مِن جعلكم تفعلون ما ينبغي لكم أن تفعلوه حينما يعود المعلّم إلى السماء مِن حيث أتى. سوف أجعلكم تشهدون ما يكون كاهن المستقبل. لاحِظوا أفعالي أكثر مِن أقوالي، كَرِّروها، تعلّموها، أضيفوها إلى التعليم. حينذاك تصبحون تلاميذ كاملين.
ماذا فَعَلَ المعلّم اليوم، وماذا جَعَلَكم تُمارِسون؟ المحبّة تحت أشكالها المتعدّدة. محبّة الله. ليس فقط محبّة الصلوات الشفويّة والطقسيّة، إنّما المحبّة الفاعلة التي تُجدّد في الربّ، التي تُجرِّد مِن روح العالم والهرطقات الوثنيّة التي ليست فقط لدى الوثنيّين، ولكن أيضاً في إسرائيل، مع آلاف العادات التي حلّت محلّ الدين الحقيقيّ، المقدّس، المنفتح، والبسيط مثل كلّ ما يأتي مِن الله. لا يجب أن تكون الأعمال صالحة، أو أن تكون كذلك في الظاهر ليمدحها الناس، إنّما أن تكون الأعمال مقدّسة كي تستحقّ مديح الله. فالذي يُولَد يموت. تَعلَمون ذلك. ولكنّ الحياة لا تنتهي بالموت. بل هي تستمرّ تحت شكل آخر وإلى الأبد مع مكافأة لِمَن كان بارّاً، وقصاص ِلِمَن كان شرّيراً. فلا تَشلّ أحداً هذه الفكرة عن دينونة كهذه أثناء الحياة وفي ساعة الموت، إنّما فلتكن كمِنخَس ومِكبَح، مِنخَس يدفع إلى الخير، ومِكبَح يُبعِد الأهواء الشرّيرة.
كونوا إذاً حقيقةً أصدقاء الله الحقّ، بتصرّفكم على الدوام بنيّة استحقاقه في الحياة المستقبليّة. أنتم يا مَن تحبّون العَظَمَة، أيّة عَظَمَة أرفع قَدراً مِن أن تُصبِحوا أبناء الله، وبالتالي آلهة؟ أنتم يا مَن تخافون الألم، أيّ يقين بانتفاء الألم كالذي ينتظركم في السماء؟ كونوا قدّيسين. هل تريدون تأسيس ملكوت منذ هذه الأرض؟ هل تَشعُرون أنّكم فريسة في فخّ وتخشون ألاّ تنجحون؟ إذا تصرّفتم كقدّيسين فسوف تُحقِّقون النجاح. ذلك أنّ القُدرة ذاتها التي تسيطر عليكم لن تتمكّن مِن الحؤول دونه، رغم جحافلها، لأنّكم سوف تُقنِعون الجحافل باتّباع المذهب المقدّس، تماماً كما أقنعتُ نساء روما أنّ هنا تكمن الحقيقة...»
«يا ربّ!...» تهتف الرومانيّات عندما يَرَين أنّ أمرهنّ قد افتُضِح.
«نعم، أيّتها النساء. اسمعن وتذكّرن. أريد القول للإسرائيليّين الذين يتبعونني، أريد القول لكنّ أنتنّ غير الإسرائيليّات، إنّما لكنّ نَفْس مستقيمة، دستور ملكوتي.
لا ثورات، فهي لا تفيد في شيء. قَدِّسوا السلطة بتشرّبها قداستنا. سيكون العمل طويلاً، ولكنّه سيكون ظافراً. بلطف وصبر، دون تسرُّع مجنون، دون انحرافات بشريّة، دون ثورات بلا جدوى، بالطاعة حيث الطاعة لا تؤذي النَّفْس ذاتها، يمكن التوصّل إلى جَعل السُّلطة التي تسيطر علينا الآن بوثنيّة، سُلطة نصيرة ومسيحيّة. قوموا بواجبكم كمواطنين تجاه السُّلطة كما تقومون به كمؤمنين تجاه الله. اجتهدوا في ألاّ تَرَوا في السُّلطة كَمَن يضطهدكم، بل كَمَن يرفعكم، حيث يمنحكم فرصة تقديسه وتقديس ذواتكم بالـمَثَل والبطولة.
وكما أنّكم مؤمنون صالحون ومواطنون صالحون، اجتهدوا في أن تكونوا أزواجاً صالحين وزوجات صالحات، قدّيسين، عفيفين، مطيعين، حَنونين الواحد تجاه الآخر، متّحدين لتربية أولادكم في الربّ، وأن تُعامِلوا حتّى الخُدّام والعبيد كآباء وأُمّهات، فهم كذلك لهم نَفْس وجسد، ومشاعر ومودّة، كما هي لكم. وإذا نَزَعَ الموت منكم الزوج أو الزوجة، فلا ترغبوا في زواج جديد. أَحِبّوا الأيتام حتّى إكراماً للرفيق الغائب. وأنتم أيّها الخُدّام، اخضَعوا لمعلّميكم، وإذا لم يكونوا كاملين، فقدِّسوهم بِمَثَلِكم. بذلك تنالون استحقاقاً عظيماً في عينيّ الربّ. في المستقبل، باسمي، لن يكون هناك معلّمون وخُدّام: إنّما إخوة. لن يكون هناك سُلالات، بل إخوة، لن يكون هناك مُضطَهَدون وظالمون يحقدون بعضهم على بعض، لأنّ الـمُضطَهَدين يُطلِقون اسم الإخوة على ظالميهم.
أحبّوا بعضكم بإيمان واحد، مساعدين بعضكم بعضاً، كما جعلتُكم تفعلون اليوم. ولا تَقصروا المساعدة على الفقراء والحجّاج مِن سُلالتكم، ولا على مرضاكم فقط. بل افتحوا ذراعيكم للجميع كما فَتَحَتهما لكم الرحمة.
مَن يملك الكثير فليعطِ الذي لا يملك شيئاً أو يملك القليل. ومَن يعرف الكثير فليُعلّم الذي لا يعرف شيئاً أو يَعرف القليل، وليُعلّم بصبر وتَواضُع، متذكّراً أنّه، في الحقيقة، قبل أن أُعلِّمه، لم يكن يعرف شيئاً. ابحثوا عن الحكمة، لا مِن أجل أن تجعلكم تَبرزون، بل مِن أجل أن تُساعدكم على التقدّم في طرق الربّ.
فلتحبّ المتزوّجات العذراوات، والعكس بالعكس. وهؤلاء وأولئك فليُحِطن الأرامل بالعطف. فالجميع لازم في ملكوت الربّ.
لا يكن حَسَد لدى الفقراء، ولا يتسبّب الأغنياء بالحقد بتراكم ثرواتهم وقسوة قلوبهم.
اعتنوا بالأيتام والمرضى والذين لا مأوى لهم. افتحوا لهم قلبكم، قبل فتح محفظة نقودكم وبيتكم، لأنّكم إن أعطيتم، مُكرَهين، فإنّكم لا تُكرِمون الله، بل تهينونه، وهو الحاضر في كلّ بائس.
الحقّ، الحقّ أقول لكم إنّ خدمة الربّ ليست صعبة. الحبّ يكفي. حبّ الله الحقيقيّ، وحبّ القريب كائناً مِن كان.
سوف أكون في كلّ جرح أو حرارة تُعالجونها. سوف أكون في كلّ بؤس تُغيثونه. وكلّ ما سوف تفعلونه للقريب مِن أجلي، إذا كان صالحاً، فلي أنا تفعلونه، وإذا كان سيّئاً، فلي كذلك تفعلونه. هل تريدون جعلي أتألّم؟ هل تريدون فقدان ملكوت السلام ومستقبلكم كآلهة، فقط لكونكم غير صالحين مع القريب؟
لن نكون مجتمعين هكذا أبداً. سيأتي الفصح مرّات... ولن نستطيع أن نكون معاً لأسباب كثيرة. السبب الأوّل حرص مقدّس في جزء وفي جزء حرص مبالغ فيه، ذلك أنّ كلّ مبالغة معيبة، وهي سوف تُرغِمنا على أن نكون متفرّقين. والسبب الثاني هو أنّني لن أكون معكم في أعياد الفصح المستقبلية... ولكن تذكّروا هذا اليوم. افعلوا في المستقبل، وليس في فصح وحيد، إنما في كلّ مناسبة، ما جعلتُكم تفعلونه.
لا تتباهوا بأنّكم صرتم خاصّتي بسهولة. أن يكون المرء خاصّتي يعني أن يعيش في نور الحقّ، ولكن أن يأكل أيضاً خبز الصراع والاضطهادات. حينذاك، كلّما تنامت قوّة حبّكم تصبحون أكثر قوّة في الصراع والاضطهادات.
آمنوا بي، بما أنا عليه في الحقيقة: يسوع المسيح، الـمُخلِّص، الذي ملكوتي ليس مِن هذا العالم، الذي مجيئي يعني السلام للأخيار، الذي امتلاكي يعني معرفة وامتلاك الله، ذلك أنّ مَن كنتُ فيه حقيقة وكان فيَّ فهو في الله، وحائز على الله في روحه ليحوز عليه فيما بعد في الملكوت السماويّ إلى الأبد.
لقد أَقبَلَ الليل. غداً عشيّة السبت. امضوا. تطهّروا، تأمّلوا، عَيّدوا فصحاً مقدّساً.
النساء اللواتي مِن سُلالة أخرى، إنّما اللواتي روحهنّ مستقيم، امضين. ولتكن الإرادة الصالحة التي تحرّككنّ طريقكنّ لتأتين إلى النور. باسم الفقراء كما أنا نفسي فقير، أبارككنّ مِن أجل الصَّدَقة السخيّة وأبارككنّ لتصرّفاتكن تجاه ابن الإنسان الذي أتى يحمل السلام والحبّ إلى الأرض. امضين! وأنتِ، يا يُوَنّا، وكلّ الذين لم يعودوا يخشون الفِخاخ، اذهبوا أيضاً.»
هَمهَمَة ذُهول سَرَت بين الجمع لدى رحيل الرومانيّات. كانت فلافيا قد كَتَبَت على ألواح مِن شمع كلام يسوع عندما كان يتحدّث. وهي الآن مرتّبة في صندوق، وتنصرف الرومانيّات بعد تحيّة جماعية. لم يعدن سوى ستّ، ذلك أنّ إلغا مَكَثَت مع مريم المجدليّة. يُوَنّا، ويوناثان وخُدّام يُوَنّا يمضون حاملين الأولاد النائمين بين أذرعتهم. عندما يُشير صَخَب البوّابة التي أُغلقت إلى أنّ الرومانيّات قد خرجن، صياح تَبع الهَمهَمة.
«ولكن مَن يكنّ؟»
«كيف هنّ فيما بيننا؟»
«ماذا فعلن؟»
وعلاوة على كلّ ذلك يهتف يهوذا: «كيف علمتَ يا ربّ بالصَّدَقَة السخيّة التي أعطينني إيّاها؟»
بإشارة منه، يُهدِّئ يسوع الصخب ويقول: «إنّها كلوديا ورفيقاتها السيّدات. وبينما سيّدات إسرائيل الأخريات، خوفاً مِن غضب أزواجهنّ، أو بأفكار أزواجهنّ ومشاعرهم ذاتها، لا يتجرّأن على اتّباعي، تعرف الوثنيّات اللواتي نحتقرهنّ، بدهاء مقدّس، أن يأتين لتعلّم المذهب الذي، حتّى ولو قُبِل الآن بمشاعر بشريّة، إنّما يَعمَل على الدوام على الارتقاء بهنّ... وهذه الصبيّة، التي كانت عبدة، إنّما مِن أصل يهوديّ، هي الزهرة التي قَدَّمَتها كلوديا لقطيع المسيح، بإعادتها إلى الحرّيّة وتقديمها إلى الإيمان بالمسيح. فيما يخصّ معرفتي بالصَّدَقة... آه! يهوذا! يمكن للجميع أن يَطرحوا عليَّ هذا السؤال، إلاّ أنتَ! أنتَ تَعلَم أنّني أرى ما في القلوب.»
«إذن، هل رأيتَ أنّني قلتُ الحقيقة عندما تحدّثتُ عن فخّ فضحتُ أمره بجعلي... مذنبين يتكلّمون؟»
«صحيح.»
«قُل ذلك إذن بشكل أقوى، كي تسمعه أُمّي... أُمّي، أُنا صبيّ، إنما لستُ أثيماً... فلنعقد سلاماً. لنفهم بعضنا، لنحبّ بعضنا، متّحدين في خدمة يسوعنا.»
ويهوذا، بتواضع وودّ، يمضي ليعانق أُمّه التي تقول له: «نعم، يا ولدي! نعم، يا يهوذاي! صالح! صالح! كن صالحاً على الدوام، يا ولدي! مِن أجلكَ، مِن أجل الربّ! مِن أجل أُمّكَ المسكينة!»
في تلك الأثناء، كثيرون، ممّن في القاعة، يتحرّكون ويُعلّقون، وكثيرون يفيدون أنّه كان مِن قبيل التهوّر استقبال الرومانيّات ويتّهمون يسوع بذلك.
يَسمَع يهوذا ويترك أُمّه ليدافع عن المعلّم. يروي حديثه مع كلوديا ويُنهي بالقول: «هذا ليس عَوناً مُحتَقَراً. وحتّى كوننا لم نستقبلها سابقاً فيما بيننا، لم يجعلنا نتحاشى الاضطهاد. فلندعها وشأنها. وتذكّروا جيّداً أنّه يجدر بنا عدم التحدّث عن ذلك لأيٍّ كان. فَكِّروا أنّه إذا كان خطراً على المعلّم، فهو ليس بأقلّ مِن ذلك علينا كوننا أصدقاء لوثنيّين. فالسنهدرين، الذي هو في الأساس متحفّظ خوفاً مِن يسوع، على أثر التهيّب مِن رفع اليد على مسيح الله، لا يتحرّج مِن قتلنا كالكلاب، نحن النّاس المساكين العاديّين. وبدل هذه المظاهر المتشكّكة، تذكّروا أنّكم، منذ برهة، كنتم كعصافير الدوري الجافلة، وباركوا الربّ الذي وَفَّر لنا العَون بوسائل لم تكن لتخطر لنا على بال، غير نظاميّة إذا شئتم، ولكنّها على قدر كبير مِن السلطان لتأسيس ملكوت مَسيّا. نستطيع كلّ شيء إذا دافعت عنّا روما! آه! أنا، ليس بي خشية بعد الآن! اليوم يوم عظيم! لأجل هذا أكثر مِن أيّ أمر آخر... آه! عندما تصبح الرئيس! أيّة سلطة لطيفة، قويّة ومباركة! أيّ سلام هو! أيّ عدل! الملكوت القويّ والمتسامح للبارّ! والعالم الـمُقبِل ببطء إليه!... النبوءات التي تتحقّق! الجموع، الأمم... العالم عند قدميكَ! آه! يا معلّم! يا معلّمي! أنتَ الـمَلِك ونحن الوزراء... على الأرض السلام، في السماء المجد... يسوع المسيح الناصريّ، الـمَلِك مِن سُلالة داود، المَسيّا الـمُخلِّص، أُحيّيكَ وأعبدكَ!» ويهوذا، الذي يبدو في نشوة روحيّة، يجثو وهو يُنهي بالقول: «على الأرض، في السماء وحتّى في الجحيم، اسمكَ معروف وسلطانكَ لا حدود له. أيّة قوّة يمكنها أن تقاومكَ أيّها الحَمَل والأسد، الكاهن والـمَلِك، القدّوس، القدّوس، القدّوس؟» ويمكث منحنياً إلى الأرض في القاعة التي خرست مِن الدهشة.