ج9 - ف1
أَنَا هُوَ
ماريا فالتورتا
L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO
THE GOSPEL AS REVEALED TO ME
بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}
L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ
MARIA VALTORTA
الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.
الجزء التاسع
{الآلام}
1- (وداع لعازر)
02 / 03 / 1945
يسوع في بيت عنيا. إنّه المساء، إحدى أمسيات نيسان [أبريل] الساكنة. مِن النوافذ الواسعة لقاعة الولائم تُرى حديقة لعازر الـمُزهِرة بكلّيتها، البستان الّذي يبدو وكأنّه غيمة مِن البتلات الرهيفة. عطر خُضرة جديدة، وأريج أزهار الأشجار المثمرة ذو المرارة العذبة، وعبير ورود وزهور أخرى تتمازج كلّها، وهي تلج مع نسيم المساء الهادئ، الّذي يجعل الستائر المنسدلة على الأبواب تتموّج برفق، ونور مصباح منتصف الغرفة يرتجف، مختلطةً مع الرائحة النافذة لمسك روميّ، لزنبق الوادي، لياسمين، ومتمازجة مع الخلاصة النادرة، الباقية من البلسم الّذي عَطّرت به مريم المجدليّة يسوعها، الّذي بقي شعره أكثر قتامة على أثر الدَهن.
مازال في القاعة سمعان، بطرس، متّى وبرتلماوس. أمّا الآخرون فقد خرجوا إلى أشغالهم.
ينهض يسوع عن المائدة ويتفحَّص لفافة مِن الرقّ أراه إيّاها لعازر. مريم المجدليّة تجول في القاعة... تحسبها فراشة يجذبها النور. إنّها لا تعرف سوى الدوران حول يسوعها. مرثا تُشرِف على الخُدّام الّذين يرفعون آنية المائدة الثمينة الّتي وُضِعت على الطاولة.
يضع يسوع اللفافة على خزانة صحون عالية مِن خشب أسود مصقول مُطَعّم بالعاج، ويقول: «لعازر، تعال إلى الخارج، أنا في حاجة إلى التحدّث إليكَ.»
«على الفور يا رب.» ولعازر ينهض مِن مقعده القريب مِن النافذة ويتبع يسوع إلى الحديقة، حيث يمتزج آخر ضوء مِن النهار مع أوّل شعاع مِن ضوء القمر الـمُتألِّق.
يسوع يسير مُتّجها إلى ما بعد الحديقة، إلى حيث قبر لعازر، الّذي يحيط الآن بمدخله الفارغ إطار كبير مِن شجيرات ورد مُزهِرة. وفي أعلاه، على الصخرة المائلة قليلاً، نُقِش: «لعازر، هلمّ خارجاً!» يسوع يتوقّف هناك. المنـزل لم يعد يُرى وقد حجبته أشجار وأسيجة. يَرين صمت مُطبِق وعزلة مُطلقة.
«لعازر، ياصديقي» يَسأَل يسوع الواقف في مواجهة صديقه، ويُحدِّق فيه بظلّ ابتسامة على وجهه النحيل والشاحب أكثر مِن المعتاد. «لعازر، ياصديقي، أتعلم مَن أكون؟»
«أنتَ؟ ولكن أنتَ يسوع الناصريّ، يسوعي العذب، يسوعي القدّوس، يسوعي القَدير!»
«هذا بالنسبة لكَ. إنّما بالنسبة للعالم، مَن أكون أنا؟»
«أنتَ مَسيّا إسرائيل.»
«ومِن ثمّ؟»
«أنتَ الموعود، الـمُنتظَر... ولكن لماذا تسألني هذا؟ أتشكّ بإيماني؟»
«لا يا لعازر. لكنّني أريد أن أفضي لكَ بحقيقة. لا أحد يعرفها، سوى أُمّي وواحد مِن أتباعي. أُمّي لأنّها لا تجهل شيئاً. وآخر لأنّه يُشارِك في هذا الأمر. لقد قُلتُه للآخرين، خلال السنوات الثلاث الّتي أمضوها معي، مرّات ومرّات كثيرة. ولكن محبّتهم كان لها مفعول شراب مخدّر وجعلت عائقاً أمام الحقيقة الـمُعلَنة. لم يتمكّنوا مِن فهم كلّ شيء... وحسناً أنّهم لم يفهموا، وإلاّ فَلِمنع جريمة كانوا سيرتكِبون أخرى. عبثاً. لأنّ ما يجب أن يحدث سوف يحدث، رغم كلّ قتل. أمّا لكَ أنتَ، فأريد أن أقولها.»
«أتعتقد أنّني أحبّكَ أقلّ منهم؟ عن أيّة جريمة تتحدّث؟ أيّ جريمة ينبغي أن تَحدُث؟ تكلّم، باسم الله!» لعازر مُنفعِل.
«سأتكلّم، نعم. أنا لا أشكّ بمحبّتكَ. إنّ ارتيابي بها ضئيل هو بحيث أنّي أعهد إليكَ بكلّ ما أريد…»
«آه! يسوعي! ولكنّ ذلك يَفعله مَن هو على وشك الموت! لقد قمتُ أنا بذلك حينما أدركتُ أنّكَ لن تأتي وأنّني كنتُ على وشك الموت.»
«وأنا عليَّ أن أموت.»
«لا!» يُطلِق لعازر أنيناً عميقاً.
«لا تصرخ، لا يَسْمعنّ أحد. أنا بحاجة للتحدّث إليكَ وحدكَ. لعازر، يا صديقي، أتعلم ما يحدث في هذه اللحظة الّتي أنتَ فيها إلى جانبي، في الصداقة الوفيّة الّتي منحتنيها منذ اللحظة الأولى، والّتي لم تهتزّ أبداً لأيّ سبب؟ إنّ رَجُلاً، هو الآن مع رجال آخرين، يُساوِم على ثَمَن الحَمَل. أتعرف أيّ اسم يحمل هذا الحَمَل؟ اسمه يسوع الناصريّ.»
«لا! هناك أعداء، هذا صحيح. ولكن لا يمكن لأحد أن يبيعكَ! مَن؟ مَن يكون؟»
«إنّه واحد مِن أتباعي. لا يمكن إلّا أن يكون واحداً مِن هؤلاء الّذين خاب أملي فيهم بشدّة، والّذي، إذ تَعِبَ مِن الانتظار، يُريد أن يتخلّص ممّن لم يَعُد سوى خطر شخصيّ. ويعتقد أنّه بذلك يستعيد اعتباره، بحسب ظنّه، أمام عظماء العالم. وعلى العكس، سيكون مُحتقَراً مِن عالم الصالحين وعالم المجرمين. لقد وصل إلى هكذا قَدْر مِن التعب منّي، مِن انتظار ما حاول بكلّ الوسائل أن يتوصّل إليه: العَظَمَة البشريّة، الّتي سعى إليها بادئ ذي بدء في الهيكل، وظنّ أنّه يبلغها مع مَلِك إسرائيل، والآن يسعى إليها مِن جديد، في الهيكل، ولدى الرومان... يأمل... ولكنّ روما، إن كانت تعرف أن تُكافِئ خُدّامها الـمُخلِصين... فهي أيضاّ تُحسِن أن تدوس باحتقار الوشاة الدون. لقد تَعِبَ مِنّي، مِن الانتظار، مِن عبء أن يكون صالحاً. لأنّ مَن كان سيّئاً، فأن يكون صالحاً، وجوب التظاهر أنّه كذلك، هو عبء شديد الوطأة عليه. قد يتحمّله لبعض الوقت... ومِن ثمّ... لا يعود يطيقه... ويتخلّص منه لكي يعود حرّاً. حرّاً؟ هذا ما يعتقده الأشرار. هذا ما يعتقده هو. ولكنّها ليست الحرّية. إنّ الانتماء إلى الله هو الحريّة. والوقوف ضدّ الله هو سجن بحديد وسلاسل، بأثقال وضربات سياط، تلك الّتي لا يتحمّلها أيّ محكوم بالأشغال الشاقّة في التجديف، تلك الّتي لا يتحمّلها أيّ عبد في البناء، في العمل تحت سوط حارس مساجين الأشغال الشاقّة.»
«مَن هو؟ أخبرني. مَن يكون؟»
«لا ضرورة.»
«بلى، ضروريّ هو... آه!... لا يمكن أن يكون إلاّ هو: الرجل الّذي كان دوماً لطخة وسط مجموعتكَ، الرجل الّذي كذلك قد أهان أختي منذ زمن قصير. إنه يهوذا الاسخريوطيّ!»
«لا. إنّه الشيطان. إنّ الله قد اتّخذ جسداً فيَّ أنا: يسوع. والشيطان قد اتّخذ جسداً فيه هو: يهوذا الاسخريوطيّ. ذات يوم... بعيد جدّاً... هنا، في بستانكَ هذا، قد واسيتُ دموعاً وسامحتُ نَفْساً ساقِطة في الوحل. قلتُ إنّ المسّ هو عدوى مِن الشيطان الّذي يبثّ عصاراته في الكائن ويمسخه. لقد قلتُ أنّه اقتران روح مع الشيطان ومع الطبيعة الحيوانيّة. ولكنّ الاستحواذ يبقى أمراً بسيطاً مقارنة بالتجسُّد. إنّ قِدّيسيَّ سيمتلكونني، وأنا سأمتلكهم. ولكنّ الله هو فقط في يسوع المسيح كما هو في السماء، ذلك أنّني الله المتجسّد. لا يوجد سوى تجسُّد إلهيّ واحد. وكذلك في واحد فقط سيكون الشيطان، لوسيفر، كما هو في مملكته، ذلك أنّ الشيطان تجسَّدَ فقط في قاتل ابن الله. وأثناء حديثي معكَ، هو أمام السنهدرين يساوم على قتلي ويجتهد فيه. إنّما ليس هو: إنّه الشيطان. الآن اسمع يا لعازر، يا صديقي الوفيّ. إنّني ألتمس منكَ بعض الطلبات. وأنتَ لم ترفض لي أبداً أيّ أمر. إنّ محبّتكَ عظيمة لدرجة أنّها، دون أن تنقض الاحترام، كانت دائماً فعّالةً تجاهي، بألف عون، بمساعدات كثيرة احترازية، ونصائح حكيمة قد تقبّلتُها دوماً، لأنّني كنتُ أرى في قلبكَ رغبة حقيقيّة لما فيه صالحي.»
«آه! ربّي! إنّما فرحي كان في الاهتمام بكَ! ما الّذي سأفعله الآن إن لم أعد أهتمّ بمعلّمي وربّي؟ قليل جدّاً، قليل جدّاً ما سمحتَ لي أن أفعله! إنّ دَيني لكَ، أنتَ الّذي أعدتَ مريم إلى محبّتي وإلى الكرامة، والّذي أعدتني إلى الحياة هو بحيث.... آه! لماذا أعدتَني مِن الموت كي أعيش هذه الساعة؟ الآن بعدما كنتُ قد تخطّيتُ كلّ هَلع الموت وكلّ ضيق الروح، محمولاً مِن الشيطان على الخوف مِن لحظة المثول أمام الديّان الأبديّ، وكان الظلام... ماذا بكَ يا يسوع؟ لماذا ترتعِش وتُصبِح أكثر شحوباً ممّا كنتَ عليه؟ إنّ وجهكَ أكثر شحوباً مِن زهرة الثلج هذه الّتي تذوي تحت القمر. آه! يا معلّم! يبدو وكأنّ الدم والحياة يهجرانكَ...»
«إنّني بالفعل كمن يموت وعروقه مفتوحة. إنّ أورشليم كلّها، وبهذا أقصد القول "إنّ كلّ أعدائي الّذين هم بين أقوياء إسرائيل"، قد ألصَقوا أفواههم النهمة فيّ ليمتصّوا حياتي ودمي. إنّهم يريدون كتم الصوت الّذي، قد عذّبهم لثلاث سنوات، مع كونه قد أحبّهم... لأنّ كلّ أقوالي، حتّى ولو كانت كلمات محبّة، فقد كانت هزّة تدعو نفوسهم إلى الاستيقاظ، وهم لم يكونوا يريدون سماع نَفْسهم تلك الّتي قَيّدوها بالشهوة الثلاثيّة. وليس فقط العظماء... بل أورشليم كلّها، أورشليم بأكملها سوف تتألّب على البريء وتريد موته... ومع أورشليم، اليهوديّة... ومع اليهوديّة البيريه، الأدومين، المدن العشر، الجليل، فينيقية-سورية... إنّ إسرائيل، إسرائيل بأكملها قد اجتمعت في صهيون مِن أجل "عبور" المسيح مِن الحياة إلى الموت... يا لعازر، أنتَ يا مَن مُتّ وقمتَ مِن الموت، قل لي: ما هو الموت؟ ماذا اختبرتَ؟ ماذا تتذكّر؟»
«الموت؟… لا أتذكّر تماماً ما كان. فبعد الألم الشديد حصل ارتخاء عظيم... كان يبدو لي توقّف الألم والشعور بنعاس عميق فقط... كانت الأضواء والضجيج تخفت وتبعد باطّراد... تقول أختاي ومكسيمين إنّني كنتُ أُظهِر علامات ألم عنيف... أمّا أنا، فلا أتذكّر شيئاً مِن ذلك...»
«أجل. إنّ رحمة الآب تُضعِف حواسّ الـمُحتَضِرين الذهنيّة، بحيث أنّ الألم ينحصر فقط في الجسد الّذي ينبغي له أن يتنقّى بهذا الّذي يسبق المطهر الّذي هو النـزاع. أمّا أنا... وعن الموت ماذا تتذكّر؟»
«لا شيء يا معلّم. في روحي مساحة مظلمة. منطقة فارغة. في مجرى حياتي انقطاع لا أعرف كيف أملأه. لا ذكريات لي. ولو كنتُ أنظر إلى عمق هذا الثقب الـمُظلِم الّذي احتفَظَ بي لأربعة أيام، ورغم أنّه كان الليل وأنا فيه بمثابة الظلّ، لشعرتُ، ولو لم أكن أرى، بالرطوبة الباردة تصعد مِن أحشائه وتنفخ في وجهي. إنّه، عموماً، إحساس. ولكننّي إن فكّرتُ في تلك الأيّام الأربعة، فليس لديَّ شيء. لا شيء. هي ذي الكلمة.»
«أجل. الّذين يرجعون لا يُحسِنون الكلام... إنّ السرّ ينكشف تدريجيّاً لمن يدخل فيه. أمّا أنا، يا لعازر، فأعلم ما ستكون آلامي. أعلم أنّني سأتألّم بملء الوعي. لن تكون هناك حلاوة أيّ شراب أو ارتخاء يخفّف وطأة النـزاع. سأشعر بالموت. وقد بدأتُ أشعر به... إنّني أموت بالفعل يا لعازر. وعلى مثال إنسان يُعاني مِن مرض عضال، فقد استمرّيتُ بالموت طوال الثلاثة والثلاثين عاماً. والموت كان يتسارع أكثر فأكثر كلّما كان الزمن يدنيني مِن هذه الساعة... في البدء كان فقط الموت مِن معرفة أنّني إنّما وُلدتُ لكي أكون الفادي. ثمّ كان موت مَن يرى نفسه مُحارَباً، مُتّهماً، مُهاناً، مُضطَهَداً، معاقاً... يا له مِن إنهاك! ثمّ... الموت مِن مجاورة ذاك الّذي يقترب منيّ أكثر فأكثر، حتّى يطوّقني كما يطوّق الأخطبوط الغريق، ذاك الّذي كان ينبغي أن يكون الخائن بالنسبة إليَّ. يا له مِن غثيان! والآن أنا أموت مُمزَّقاً لاضطراري القول: "وداعاً" لأعزّ الأصدقاء ولأُمّي...»
«آه! يا معلّم! أأنتَ تبكي؟! أعلم أنّكَ بكيتَ كذلك أمام قبري لأنّكَ كنتَ تحبّني. ولكنّكَ الآن... تبكي مِن جديد. أنتَ بارد كالثلج. يداكَ باردتان كما جثّة. إنّكَ تتألّم... أنتَ تتألّم كثيراً!...»
«إنّني الإنسان يا لعازر. لستُ فقط الله. مِن الإنسان لي الأحاسيس والعواطف. ونفسي تختبر الانقباض حينما أفكّر بأُمّي... بل وأقول لكَ، إنّ عذابي هذا صار مُريعاً للغاية وأنا أتحمّل مجاورة الخائن، والكراهية الشيطانيّة لعالم بأسره، وصَمَم أولئك الّذين، إن لم يكونوا يكرهون، فلا يجيدون الحبّ بفاعليّة، لأنّ المحبّة الفاعلة هي التوصّل إلى ما يريده المحبوب ويُعَلّمه، وهنا على العكس!... نعم، كُثُر يحبّونني. لكنّهم ظلّوا "هم". لم يتّخذوا "أنا" أخرى حبّاً بي. هل تعلم مَن مِن بين أقرب المقرّبين إليَّ، عرف أن يغيّر طبيعته لكي يكون للمسيح، مثلما يريد المسيح؟ واحدة فقط: أختكَ مريم. لقد انتقلَتْ مِن حيوانيّة كاملة ومنحطّة كي تبلغ روحانيّة ملائكيّة. وذلك بفضل قوّة المحبّة وحدها.»
«لقد افتديتَها.»
«لقد افتديتُ الجميعَ بالكلمة. ولكنّها هي وحدها الّتي تغيّرت بالكامل بفاعليّة المحبّة. ولكنّي كنتُ أقول: إنّ معاناتي المتأتّية مِن كلّ تلك الأمور مُريعة هي بحيث لن أتنفّس إلاّ بعد أن يتمّ الكلّ. إنّ قوّتي تنثني... الصليب سيكون أقلّ وطأةً مِن عذاب الروح والمشاعر هذا...»
«الصليب؟! لا! آه! لا! هذا فظيع جدّاً! هذا شائن جدّاً! لا!» لعازر، الواقف في مواجهة معلّمه، والّذي يمسك منذ برهة بيديّ يسوع الـمُثلَّجتين بين يديه، يتركهما وينهار على المقعد الحجريّ القريب منه. ويخبّئ وجهه بين يديه، يبكي يائساً.
يسوع يدنو منه، يضع يده على كتفيه اللذين يهتزّان مِن النحيب، ويقول: «وماذا؟ أينبغي لي أنا، الّذي أموت، أن أعزّيكَ أنتَ الّذي تحيا؟ يا صديقي، أنا محتاج إلى قوّة ومعونة. وأطلب ذلك منكَ. ليس لي سواكَ مَن يمكنه أن يمنحني إيّاها. الآخرون، مِن الأفضل ألاّ يعلموا، لأنّهم إن كانوا يعرفون... فإنّ دماً سوف يسيل. وأنا لا أريد أن يتحوّل الحملان إلى ذئاب، حتّى ولو بدافع محبّة للبريء. أُمّي...آه! كم يحزّ في قلبي التكلّم عنها!... أُمّي أصبحت في غاية الضيق! هي أيضا تحتضر مُنهَكة... منذ ثلاثة وثلاثين عاماً تموت هي كذلك، والآن لم تعد سوى جرح كما ضحيّة عذاب مريع. أؤكّد لكَ أنّ صراعاً نشب بين روحي وقلبي، بين المحبّة والمنطق، كي أقرّر إن كان صائباً إبعادها، إعادتها إلى منـزلها، حيث لا تتوقّف عن الحلم بالمحبّة الّتي جَعَلتها أُمّاً، تتذوّق طعمَ قبلته المضطرمة، ترتعش في نشوة تلك الذكرى، ولا تنفكّ ترى بعينيّ نفسها نسمات الهواء الّتي تتحرّك وتهتزّ مِن الوميض الملائكيّ. ففي الجليل سيصل إليها خبر موتي في اللحظة الّتي سأتمكّن فيها مِن أن أقول لها: "أُمّي، أنا الـمُنتصِر!". ولكنّني لا أستطيع، لا، لا يمكنني فِعل ذلك. إنّ يسوع المسكين، الحامل خطايا العالم، يحتاج إلى تعزية، وأُمّي ستمنحني إيّاها. والعالَم الّذي هو أكثر بؤساً بحاجة إلى ضحيّتين. لأنّ الرجل أخطأ مع المرأة؛ وعلى المرأة ان تُكفّر، كما يكفّر الرجل. ولكن طالما لم تحن الساعة بعد، فإنّي أمنح أُمّي ابتسامة واثقة... إنّها ترتعد... أعلم ذلك. هي تشعر بدنوّ العذاب. أعلم ذلك. وهي تنبذه باشمئزاز طبيعيّ ولمحبّة مقدّسة، كما أنا أنبذ الموت لأنّني "حيّ" عليه أن يموت. ولكن يا له مِن شقاء لو كانت لتعلم أنّ خلال خمسة أيّام... فلن تصل إلى تلك الساعة وهي حيّة، وأنا أريدها حيّة لكي أستمدّ مِن شفتيها القوّة كما أخذتُ الحياة مِن أحشائها. والله يريدها في موضع صَلبي (الجلجلة) لمزج ماء دموعها العذريّ بخمر الدم الإلهيّ والاحتفال بالقدّاس الأوّل. هل تعرف ما سيكون القدّاس؟ لا تعرف. ولا يمكنكَ أن تعرف. سيكون موتي المبذول باستمرار للجنس البشريّ الحيّ أو المتألّم. لا تبكِ يا لعازر. إنّها قويّة، لن تبكي. لقد بكت طوال حياتها كأُمّ. والآن لن تبكي بعد. لقد صَلَبَت الابتسامة على وجهها... هل رأيتَ أيّ وجه اكتسبت في الآونة الأخيرة؟ لقد صَلَبَت الابتسامة على وجهها لتعزّيني. أسألكَ أن تقتدي بأُمّي. لم أكن أستطيع بعد الاحتفاظ بسرّي لنفسي فقط. لقد بحثتُ حولي عن صديق صادق وثقة. والتقيتُ بنظرتكَ النـزيهة. فقلتُ: "للعازر". أنا، عندما كنتَ أنتَ مثقل القلب، احترمتُ سرّكَ ودافعتُ عنه حتّى ضدّ الفضول الطبيعيّ للقلب. وأنا أسألكَ ذات الاحترام لسرّي. فيما بعد... بعد موتي ستتكلّم عنه. ستتكلّم عن هذا الحوار. كي يصير معلوماً أنّ يسوع ذهب عن إدراك إلى الموت، وإلى العذابات المعلومة قد أضاف أيضاً أنّه لم يكن يجهل شيئاً، لا عن الأشخاص ولا عن مصيره. وكي يكون معلوماً أنّه عندما كان باستطاعته أن ينقذ نفسه بعد، لم يرد، لأنّ محبّته اللامتناهية للبشر لم تكن تتحرّق إلاّ كي تستنفذ التضحية مِن أجلهم.»
«آه! أنقذ نفسكَ يا معلّم! أنقذ نفسكَ! بإمكاني مساعدتكَ على الهرب. هذه الليلة بالذات. لقد هربتَ ذات مرّة إلى مصر! اهرب الآن أيضاً. تعال، لنرحل. نأخذ معنا مريم وأختيّ، ونرحل. لن تعيقني أيّ مِن ثرواتي، أنتَ تعلم هذا. أنتَ هو ثروتي وثروة مريم ومرثا. فلنرحل.»
«يا لعازر، قد هربتُ آنذاك لأنّ الساعة لم تكن قد حانت بعد. الآن هي الساعة. وأبقى.»
«فإذاً آتي معكَ. لن أفارقكَ.»
«لا. أنتَ تبقى هنا. باعتبار أنّه مسموح لمن لا يبعد منزله أكثر مِن مسير سبت أكل الحَمَل في المنزل، لذلك فأنتَ، وكما هو الحال دائما، ستأكل حَمَلك هنا. ومع ذلك، دع أختيكَ تأتيان... لأجل أُمّي... آه! ما الّذي كانت تخفيه عنكَ، أيا أيّها الشهيد، ورود المحبّة الإلهيّة! الهاوية! الهاوية! ومنها ترتفع الآن وتنطلق ألسنة لهب الكراهية لتنهش قلبكَ! أختاكَ، نعم. إنّهما شجاعتان ونشيطتان... وأُمّي ستكون كمن في نزاع وهي تنحني فوق جثتي. يوحنّا لا يكفي. هو المحبّة، يوحنّا، ولكنّه مازال يفتقر إلى النضوج. آه! سينضج ليصبح رجلاً بفعل انفطار القلب في الأيّام القادمة. أمّا المرأة فهي بحاجة إلى النسوة لجراحها الرهيبة. هل تهبهما لي؟»
«ولكنّني أعطيتُكَ كلّ شيء دائماً، كلّ شيء، بفرح، وكنتُ أعاني فقط مِن أنّكَ تطلب منّي القليل!...»
«أنتَ ترى. إنّني لم أقبل مِن أيّ إنسان آخر بقدر ما قبلتُ مِن أصدقائي مِن بيت عنيا. وكان هذا واحداً مِن الاتّهامات الّتي وجّهها إليَّ الظالم أكثر مِن مرّة. إنّما أنا، هنا بينكم، كنتُ أجد ما يكفي لتعزية ابن الإنسان مِن كلّ مرارته كإنسان. في الناصرة، كان الله هو الّذي يتعزّى بقرب بهجة الله الوحيدة. هنا كان الإنسان. وأنا، قبل أن أرتقي إلى الموت، أشكركَ يا صديقي الوفيّ، الودود، اللطيف، الـمُبادِر، المتحفّظ، العَالِـم، الكتوم والكريم. أشكركَ على كلّ شيء. وأبي، فيما بعد، سوف يكافئكَ...»
«لقد نلتُ كلّ شيء بالفعل بمحبّتكَ وبافتداء مريم.»
«آه! لا. ينبغي أن تنال الكثير أيضاً. وستنالَه. اسمع. لا تقنط هكذا. أَعِرني ذهنكَ كي أتمكّن مِن قول ما أطلبه منكَ بعد. أنتَ ستبقى هنا تنتظر...»
«لا، هذا لا. لماذا مريم ومرثا وليس أنا؟»
«لأنّني لا أريد أن تفسد مثلما سيفسد كلّ الرجال. إنّ أورشليم في الأيام القادمة ستفسد كما الهواء حول جيفة تتفسّخ، وفجأة تنفجر نتيجة ضربة غافلة مِن عَقِب أحد المارّة. إنّها فاسدة وتنشر الفساد. إنّ روائحها النتنة ستصيب بالجنون حتّى الأقلّ قسوة، حتّى تلاميذي. هم سيهربون. وإلى أين يذهبون في ارتباكهم؟ إلى لعازر. كم مِن مرّة، خلال هذه السنوات الثلاث، قد أتوا بحثاً عن خبز، مضجع، حماية، ملجأ، والمعلّم!... الآن سيعودون. مثل النعاج الّتي شتّتها الذئب الّذي اختطف راعيها، سيهرعون إلى حظيرة. اجمعهم. شدّد عزمهم. قل لهم إنّني أغفر لهم، أَعهَد لك بغفراني لهم. لن يشعروا بالسلام بسبب هروبهم. قل لهم ألاّ يسقطوا في خطيئة أعظم بيأسهم مِن غفراني.»
«أجميعهم سيهربون؟»
«الجميع، ما عدا يوحنّا.»
«يا معلّم، لن تطلب منّي استقبال يهوذا؟ اجعلني أموت مُعَذَّباً، إنّما لا تطلب منّي ذلك. مرّات كثيرة ارتعشت يدي على سيفي، متلهّفةً لقتل عار العائلة. ولم أفعل ذلك أبداً لأنّني لستُ عنيفاً. فقط قد جُرِّبتُ لفعل ذلك. ولكن أُقسم لكَ أنّني لو عاودتُ رؤية يهوذا فسأذبحه ككبش فداء.»
«لن تراه أبداً. أؤكّد لكَ ذلك.»
«هل سيهرب؟ لا يهمّ. لقد قُلتُ: "لو رأيتُه". والآن أقول: "سألحق به، ولو كان في آخر الدنيا، وسأقتله".»
«لا ينبغي لكَ أن تشتهي هذا.»
«سأفعله.»
«لن تفعله، ذلك أنّه لا يمكنكَ الذهاب إلى حيث يكون هو.»
«في قلب السنهدرين؟ في قدس الأقداس؟ هناك أيضاً سألحق به وأقتله.»
«لن يكون هناك.»
«عند هيرودس؟ سأُقتَل، إنّما قبل ذلك سأقتله.»
«سيكون عند الشيطان. وأنتَ لن تكون أبداً عند الشيطان. إنّما دعكَ على الفور مِن فكرة القتل هذه، وإلاّ سأترككَ أنا.»
«آه! آه!.. لكن... نعم، مِن أجلكَ... آه! يا معلّم! يا معلّم! يا معلّم!»
«نعم، معلّمكَ... سوف تستقبل التلاميذ، وتعزّيهم. ستردّهم إلى السلام. أنا السلام. وحتّى بعد ذلك... بعد ذلك ستساعدهم. فبيت عنيا ستبقى على الدوام بيت عنيا، طالما لم تنبش الكراهية بيت المحبّة هذا ظنّاً منها أنّها ستُبدّد ألسنة اللهب، وهي على العكس تنثرها في العالم كي تُلهبه كلّه. إنّني أباركك يا لعازر، مِن أجل كلّ ما فعلتَه وكلّ ما ستفعَله...»
«لا شيء، لا شيء. أنتَ جذبتَني مِن الموت ولا تسمح لي أن أدافع عنكَ. فما الّذي فعلتُه إذاً؟»
«لقد أعطيتَني منازلكَ. أترى؟ قد كان مُقدّراً. إنّ أوّل مسكن في صهيون كان في أرض عائدة لكَ. والأخير أيضاً في واحدة منها. كان مقدّراً لي أن أكون ضيفكَ. أمّا فيما يخصّ الموت فلا يمكنكَ الدفاع عنّي. سألتُكَ في بداية هذا الحوار: "أتعلم مَن أكون؟" والآن أجيب: "إنّني الفادي". وعلى الفادي أن ينجز التضحية حتّى آخر الذبيحة. عدا ذلك، صدّقني: إنّ الّذي سيصعد إلى الصليب وسيكون عرضةً لنظرات واحتقار العالم لن يكون حيّاً، بل ميتاً. وأنا منذ الآن ميت. فقد قتلني غياب المحبّة أكثر وقبل الموت بالعذاب. وشيء آخر بعد يا صديقي، غداً، عند الفجر، أمضي إلى أورشليم، وستسمع مَن يقول إنّ صهيون هتفت لـمَلِكها المفعم وداعة كما منتصر، الّذي سيدخلها راكباً على جحش. فلا يخدعنّكَ هذا النصر ولا يجعلكَ تحكم أنّ الحكمة الّتي تكلّمكَ لم تكن حكيمة في تلك الأمسية الهادئة. فَأسرَع مِن نجم يشقّ السماء ويختفي في فضاءات مجهولة، سيختفي رضى الناس، وأنا بعد خمس أمسيات، في مثل هذه الساعة، سأبدأ العذاب بقبلة غاشّة ستفتح الأفواه، المنهمكة غداً بالهتاف هوشعنا، لتستحيل جوقة للّعنات المريعة وصيحات اتّهامات وحشيّة.
نعم، أخيراً تحصلين، يا مدينة صهيون، يا شعب إسرائيل، على الحَمَل الفصحيّ! سوف تنالينه في هذا الطقس القريب. ها هو. إنّه الضحيّة المعدّة منذ عصور. المحبّة ولدته، بإعداد أحشاء بلا دنس وكأنّها مهاد. والمحبّة تستنفذه. ها هو. الضحيّة الـمُدرِكة. ليس كما الحَمَل الّذي، بينما يسنّ الجزّار سكّينه للذبح، ما زال يقضم عشب المرج، أو وهو جاهل يصدم بفمه الورديّ ضرع أُمّه. أمّا أنا، فإنّي الحَمَل القائل عن وعي: "الوداع!" لحياته، لأُمّه، لأصدقائه، ويذهب إلى مُقَدّم الذبيحة قائلاً: "ها أنا ذا!" أنا غذاء البشر. الشيطان وَضَع جوعاً لا يُشبَع أبداً، ولا يمكن أن يُشبَع. ليس هناك سوى غذاء واحد يُشبِعه، إذ يهدّئ هذا الجوع. وها هو هذا الغذاء. ها هو ذا خبزكَ، هو ذا خمركَ أيّها الإنسان. انجزي فصحكِ أيا أيّتها الإنسانيّة! اجتازي بحركِ الأحمر مِن النيران الشيطانيّة. إن اصطبغتَ بدمي فستجتاز، أيا أيّها الجنس البشريّ، مُصاناً مِن النار الجهنّميّة. إنّكَ تستطيع المرور. إنّ السماوات، إذ تدفعها رغبتي، تشرع بفتح الأبواب الأزليّة. انظروا، أيا أرواح الموتى! انظروا، أيا أيّها البشر الأحياء! انظري أيا أيّتها النفوس الّتي ستتّخذ جسداً في المستقبل! انظروا، يا ملائكة الجنّة! انظروا، يا شياطين جهنّم! انظر، أيّها الآب، انظر، أيّها البراقليط! إنّ الضحيّة تبتسم، إنّها لم تعد تبكي…
كلّ شيء قد قيل. الوداع يا صديقي. أنتَ أيضاً لن أراك مجدّداً قبل الموت. فلنتبادل قبلات الوداع. ولا تَشُكّ. سيقولون لكَ: "كان مجنوناً! كان شيطاناً! كاذباً! لقد مات بينما كان يقول إنّه الحياة". أجبهم، أجب نفسكَ على وجه الخصوص: "قد كان وما يزال هو الحقّ والحياة. هو المنتصر على الموت. أنا أعلم ذلك. إنّه لا يمكن أن يموت إلى الأبد. أنا أنتظره. ولن يُستهلك زيت المصباح كلّه، الّذي جعله الصديق جاهزاً كي ينير العالم المدعو لحضور عرس المنتصر، حتّى يعود العريس. والنور، هذه المرّة، لا يمكن أن ينطفئ أبداً". ثق بذلك يا لعازر. أطع رغبتي. هل تسمع هذا البلبل كيف يغنّى بعد أن صَمَت بسبب نحيبكَ؟ افعل مثله. فلترتّل نفسكَ بثقة بعد البكاء المحتّم على الضحيّة، ترتيلة إيمانك. كن مباركاً، مِن الآب والابن الروح القدس.»
كم تألّمتُ! طوال الليل مِن الخميس الأوّل مِن أذار [مارس] الساعة الحادية عشرة حتّى الساعة الخامسة مِن صباح الجمعة. رأيتُ يسوع في كرب داخليّ أقلّ قليلاً مِن الضيق في جَثْسَيْماني، خاصّة حينما يتكلّم عن أُمّه، عن الخائن، وعندما يشير إلى هلعه مِن الموت، لقد أطعتُ وصيّة يسوع بأن أكتب هذا في دفتر منفصل، كي أصف الآلام بأكثر تفصيلاً. رأيتُم وجهي هذا الصباح... صورة ضعيفة عن الألم الّذي قاسيتُه... ولن أضيف المزيد ذلك أنّ هناك حياء لا يمكن تجاوزه.