ج7 - ف193
أَنَا هُوَ
ماريا فالتورتا
L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO
THE GOSPEL AS REVEALED TO ME
بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}
L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ
MARIA VALTORTA
الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.
الجزء السابع / القسم الأول
193- (يسوع وسمعان بن يونا)
20 / 09 / 1946
لا أعرف أين هم. بالتأكيد لم يعودوا في وادي الأردن، إنّما على الجبال الّتي تحدّه، لأنّني أرى الوادي الأخضر والنهر الأزرق الجميل في الأسفل، فيما تبرز قمم جبال مرتفعة فوق الهضبة الواسعة الّتي تمتدّ إلى شرق الأردن.
أرى بطرس، وحيداً على تلّة صغيرة، يحدّق صوب الشمال الشرقيّ ويتنهّد، حزيناً جدّاً. لديه حُزمة حَطَب عند قدميه، جَمَعَها بالتأكيد مِن الأحراج الّتي تغطّي هذه التلّة. هناك قرية صغيرة تقبع وسط الخُضرة. بطرس حقّاً مُنهَك تماماً. ينتهي بالجلوس على حُزمة حَطَبه، ويمسك رأسه بيديه، متقوقعاً كلّيّاً على نفسه. إنّه يبقى هكذا غافلاً عن الوقت وعن كلّ شيء، إنّه مستغرق لدرجة أنّه لا يتنبّه حتّى لمرور بعض الأطفال وراء عنزات شقيّة. الأطفال ينظرون إليه ثمّ يمضون راكضين وراء العنزات، صوب القرية الصغيرة. الشمس تغرب على مهل وبطرس لا يتحرّك.
على الدرب الّذي يصعد مِن القرية إلى التلّة، يتقدّم يسوع. يمضي على مهل، متحاشياً إحداث جَلَبَة. ويصل إلى الموضع حيث بطرس. يناديه وهو واقف أمامه: «سمعان!»
«المعلّم!» بطرس ينتفض، ويرفع وجهاً مضطرباً وهو يقول هذه الكلمة.
«ماذا كنتَ تفعل، يا سمعان؟ رفاقكَ قد عادوا كلّهم. أنتَ وحدكَ لم تعد، وكنّا قلقين. لدرجة أنّ أخاكَ وابنيّ زَبْدي مع توما ويهوذا قد تفرّقوا فوق الجبال، فيما نزل أَخَواي مع إسحاق ومارغزيام نحو السهل.»
«أنا آسف، أنا آسف لأنّني سبّبتُ عناءً وتعباً...»
«رفاقكَ يحبّونكَ كثيراً… ويهوذا بالتحديد كان أوّل مَن أصابه القلق ولام مارغزيام لأنّه ترككَ تذهب بمفردكَ»
«هوم!...»
«سمعان، ما بكَ؟»
«لا شيء، يا معلّم»
«ماذا كنتَ تفعل هنا، على هذه التلّة، وحدكَ، فيما يهبط المساء؟»
«كنتُ أنظر...»
«ربّما نظرتَ، يا سمعان. لكنّكَ الآن لم تكن تنظر … لقد مرَّ بالقرب منكَ بعض الأطفال وأَوشَكَ أن يصيبهم الخوف مِن أن تكون ميتاً مِن فرط ما كنتَ متقوقعاً على نفسكَ. لقد هرعوا إلى الحظيرة الّتي آوتنا وأخبروني. وأتيتُ… إلى ماذا كنتَ تنظر، يا سمعان؟»
«كنتُ أنظر… كنتُ أنظر صوب راموث جلعاد، صوب جيراسا، بُزرة، أربيلا ...سفرنا العام المنصرم، الكثير الجمال، الكثير… الأُمّ معنا! التلميذات… يوحنّا الذي مِن عين دور… التاجر… حتّى هو كان طيّباً وقد جعل السفر ممتعاً… كم مِن أمور قد تبدّلت! كم مِن اختلاف… وكم مِن ألم! هو ذا ما كنتُ أنظر إليه: الماضي.»
«والمستقبل، يا عزيزي سمعان.» يسوع يجلس على حُزمة الحَطَب إلى جانب بطرس، واضعاً ذراعه على كتفيه فيما يكلّمه: «لقد كنتَ تنظر إلى الأفق… والحزن أَظلَمَه لكَ. إنّ الحاضر، مثل إعصار، قد أثار غيوماً مخيفة، وأخفى عنكَ الذكرى المشرقة، الـمُفعَمة بالوعود والآمال، وأخافكَ. يا سمعان، إنّكَ خاضع لواحدة مِن ساعات الحزن والسأم الّتي تصادفها طبيعتنا البشريّة على طريقها. لا أحد معفى منها. لأنّ تلك الساعات يُسبّبها مَن يكره الإنسان. وكلّما قام الإنسان بخدمة الله أكثر، كلّما سعى الشيطان لإخافته وإنهاكه أكثر لفصله عن خدمته. أنتَ أيضاً تتعرّض لساعة تعب… إنّ الضغط المتواصل الّذي يسبّبه اضطهاد معلّمك يتعبكَ. وبالنتيجة -وأنتَ لا تعلم أنّه ليس أنتَ، بل إنّما هو الـمُجرِّب- إنّكَ تسمع صوتاً يهمس لكَ: "وغداً؟ ما سيكون أمر الغد؟...»
«يا ربّ، هذا صحيح. إنّكَ تقرأ ما في قلبي. لكنّكَ ترى أيضاً أنّني إن كنتُ أتساءل هكذا، فذلك ليس بدافع الخوف على نفسي. فذلك لأنّ… لا. لن أستطيع أبداً أن أراكَ معذّباً… إنّكَ غالباً ما تتحدّث عن جريمة، عن خيانة. أنا… آه! أنا لستُ الوحيد! كَم مِن بين الـمُسِنّين خصوصاً، قد طلبوا منكَ الموت قبل أن يروا مَلِكَهم مُهاناً؟ وأنا!... أنا، أنتَ تعلم، أنتَ كلّ شيء بالنسبة لي. ما عاد يهمّني أيّ شيء ليس أنتَ. ليس، كما يقول يهوذا، الحنين إلى قاربي وإلى امرأتي… أُنظر، أنتَ ترى إن كنتُ أقول الحقيقة. لقد ألححتُ كثيراً كي أحظى بمارغزيام. إنّ إنسانيّتي كانت تريد أن تحظى أقلّه بابن بالتبنّي عوضاً عن الأبناء الّذين لم تعطني إيّاهم امرأتي، مُهينةً رجولتي الّتي كانت تريد أن تدوم. أمّا الآن، أمّا اليوم، فأنا… أحبّه، نعم. لكن إن انتَزَعتَه منّي فلا أعارض. فقط كنتُ لأقول لكَ… إنّما لا! ما كنتُ لأقول شيئاً!»
«فقط كنتَ لتقول لي؟ أَكمِل»
«لا يهمّ، يا معلّم»
«قُل!»
«كنتُ لأقول: "أعطه لِمَن يجعله ينمو في البِرّ أكثر منّي". ليس أكثر! يعني… وهذا أقوله لكَ، باكياً، عنه، عنّي، عن أخي، وكذلك عن يوحنّا ويعقوب… وأيضاً عن الآخرين، إنّما نحن… نحن أوائلكَ...» بطرس ينزلق راكعاً، ليستند إلى ركبتيّ يسوع، يداه مرفوعتان، راحتاه إلى أعلى، متوسّلاً، مع دموع تنساب على خدّيه وتضيع في لحيته… «...أقوله عنّا: أَمِتنا، خذنا قبل أن… آه! لقد فكّرتُ، أفكّر على الدوام، منذ أشهر -وأنتَ ترى إذا ما كان فِكر ينخرني ويجعلني أشيخ، إذا ما كان خوفاً متواصلاً يمنعني حتّى مِن النوم- إنّني أفكّر بأنّه إن كان الأمر بالضبط كما تقول، فيمكن أن أكون أنا كذلك الخائن، أو أندراوس، أو يوحنّا، أو يعقوب، أو مارغزيام… وإن لم نصل إلى هذا، أن نكون أحد أولئك الّذين كنتَ تتحدّث عنهم كذلك قبل ثلاث أمسيات عند حنانيا، أحد أولئك الّذين يَصِلون إلى إرادة سفك دمكَ، أحد، كذلك أحد أولئك الّذين لا يعرفون بدافع الجُبن معارضة ذلك ويوافقون على الشرّ خوفاً مِن الشرّ… أنا… إن كان عليَّ أن أسمح بذلك فقط بغياب ردّة الفِعل، خوفاً… يا معلّم، آه! يا معلّمي، فسأقتل نفسي عقاباً لنفسي، أو… أقتلهم، إذا ما صادفتُهم، قَتَلَتكَ. أنا… إن لم تكن تريد ذلك، فاجعلني أموت قبلاً، حالاً، هنا… إنّ الحياة لا شيء، إنّما غياب المحبّة تجاهكَ… أن أكون واحداً مِن أولئك… أن أكون… أن أرى ولا...» إنّه مضطرب إلى درجة أنّ حتّى الكلمات تخذله. ينحني ووجهه على ركبتيّ يسوع، باكياً بكاءً مريراً لرجل صلب، مُسِنّ، غير معتاد على الدموع، وقد هَزّته مشاعر كثيرة.
يسوع يضع يديه على رأسه، كما كي يسكّن هذا الألم ويبدّد الأفكار الـمُقلِقة، ويكلّمه: «يا صديقي، وهل تعتقد أنّه، إذا ما أنتَ أيضاً كان عليكَ... ألّا تكون كاملاً في تلك الساعة، أنّ الربّ، الّذي هو عادل، لا يزن خطأكَ بمثقال محبّتكَ وإرادتكَ الراهنين؟ وهل تخشى أنّ تكون هذه المحبّة وهذه الإرادة الذهبيتيّن أقلّ وزناً مِن نقصكَ اللّحظيّ، وغير كافيتين لنيل مغفرة الله، ومع المغفرة كلّ المعونات كي تعود أنتَ نفسكَ، يا سمعاني الحبيب؟»
«اجعلني أموت! خلّصني! إنّني خائف»
«أنتَ صخرتي، يا سمعان. أيمكنني أنا أن أفتّت الصخرة التي سأؤسّس عليها ما يجب أن يديمني على الأرض؟»
«لستُ أهلاً لذلك. أشعر بذلك. إنّني إنسان مسكين، جاهل، خاطئ. كلّ الميول السيّئة هي فيَّ. لستُ أهلاً، لستُ أهلاً! سوف أغدو فاسداً. قاتلاً. كلّ ما هو أسوأ… اجعلني أموت. تدرك أنّ، إذا ما كان عليَّ اكتشاف مَن يكرهكَ...»
«إنّ عالماً كاملاً يكرهني، يا سمعان. يجب أن نغفر...»
«أتحدّث عن المذنب الرئيسيّ. ينبغي أن يكون هناك واحد هو الرئيسيّ، و...»
«سيكون هناك كُثُر مِن هذا الواحد. وكلّهم سيكون لهم مهمّتهم الرئيسيّة...»
«أيّة مهمّة؟ مهمّة أن… آه! لا تجعلني أقولها! إنّما أنا...»
«أمّا أنتَ يجب أن تغفر، مثلي ومعي. لماذا تكدّر نفسكَ هكذا، يا سمعان، بالتفكير بما يمكنكَ أن تفعله كي تُعاقِب؟ دع هذه العناية للربّ. أنتَ أَحِبّ واغفر، أَشفِق واغفر. فَهُم، كلّ أولئك الّذين سيكونون مذنبين حيال يسوعكَ، هم بحاجة ماسّة إلى المساعدة كي ينالوا المغفرة!»
«لا مغفرة لهم»
«آه! كم أنتَ صارم مع إخوتكَ، يا سمعان! بالطبع هناك مغفرة لهم كذلك، إن تابوا. الويل إن لم يكن كلّ المسيئين إليَّ لينالوا المغفرة! هيّا، انهض، يا سمعان. حتماً إنّ قلق رفاقكَ قد ازداد وقد رأوا أنّني أنا كذلك لم أعد في الحظيرة. إنّما، وإن كلّف ذلك جعلهم يعانون لبعض الوقت بعد، فلنصلّ قبل أن نذهب إليهم. لنصلّ معاً. ما مِن شيء آخر ينبغي فِعله لاستعادة السلام، القوّة الروحيّة، المحبّة، الرحمة… حتّى حيال أنفسنا. فالصلاة تطرد أشباح الشيطان، تُشعِرنا بقربنا مِن الله. ومع الله قربنا، فكلّ شيء يمكن مواجهته وتحمّله ببرّ واستحقاق. لنصلّ هكذا، أنا وأنتَ معاً، هنا، مِن على هذا الجبل حيث يمتدّ جزء كبير مِن وطننا، كما مِن على جبل نيبو انكشفت لموسى رؤيا أرض الميعاد. نحن، الأوفر حظّاً منه، نحمل إلى هذه الأرض الّتي ستكون للمسيح، الكلمة والخلاص. أنا أوّلاً، ومِن ثمّ أنتَ. أُنظر! في وميض النور الأخير للنهار ما زال بالإمكان رؤية جبال اليهوديّة. إنّما، إلى ما وراءها هناك السهل، البحر، ثمّ أراضٍ أخرى، العالم… هي، هما، ينتظرونكَ، يا بطرس. ينتظرونكَ كي يَعلَموا بوجود الإله الحقّ. إله يمنح النور الحقّ للنُّفوس الّتي تتلمّس طريقها في ظلمات الشرك والوثنيّة. أُنظر: على الأرض يخفت النور. فكيف يمكن للمسافرين ألاّ يضيّعوا اتّجاههم في ليل مِن دون نور؟ إنّما هي ذي نجمة القطب. إنّها تَطلَع كي ترشد المسافرين. إنّ ديانتي ستكون النجمة الّتي ستقود المسافرين الروحيّين على طريق السماء. وأنتَ ستكون متّحداً بها لدرجة أن تكونا نوراً واحداً معي ومع عقيدتي، يا عزيزي بطرس، أيا صخرتي المباركة. لنصلّ لأجل تلك الساعة حيث البشر سيخلصون بفضل اسمي. "أبانا الذي في السموات…"»
يتلو الأبانا على مهل، ممسكاً بيد بطرس، وكأنّما يقدّمه للآب، رافعَين هكذا الذراعين واليدين، حيث يد الرسول اليسرى في يده اليمنى.
«والآن لننزل. ولنترك هنا أحزان وهموم الغد عديمة الجدوى. إنّ الله سيعطينا غداً، كلّ غدٍ، معوناته مع الخبز اليوميّ. هل أنتَ مقتنع بذلك، يا سمعان؟»
«نعم، يا معلّم، أؤمن بذلك» يقول بثبات بطرس الّذي لم يعد وجهه مضطرباً، بل جدّيّاً، كما هو منذ عدّة أشهر، والّذي يجعله يبدو مختلفاً جدّاً عن الصيّاد الفظّ والهزليّ الّذي كان عليه في العامين الأوّلين.
ينزلان، يسوع في الأمام، بطرس وراءه مع حُزمة حَطَبه، وتقريباً عند المنزل الأوّل مِن القرية يلتقيان بالرُّسُل القلقين.
«إنّما إلى أين ذهبتَ؟» يصيحون ببطرس.
«كنّا لِنَصِل إلى هنا منذ وقت طويل، لكنّني توقّفت لأتحدّث معه، ناظِرَين صوب جيراسا...» يجيب عنه يسوع.
ينعطفون يميناً، نحو حظيرة أغنام شبه متداعية. داخل سياج خشبيّ نصفه منهار والباقي عَفِن ومتهالك، إنّه مأوىً بجدران خشنة، مغطّىً على نحو رديء، مغلق على نحو سيّئ، بجدران مِن ثلاث جهات، وبألواح مِن الجهة الرابعة. في الداخل لا شيء سوى بعض مِن قشّ على الأرض، وموقد بدائيّ في إحدى الزوايا.
أعتقد بأنّه لم يتمّ استقبالهم في القرية، وبأنّهم قد لجأوا إلى هنا...