ج7 - ف233

أَنَا هُوَ

ماريا فالتورتا

L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO

THE GOSPEL AS REVEALED TO ME

بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}

L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ

MARIA VALTORTA

الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.

 

الجزء السابع / القسم الثاني

 

233- (البُرص السبعة المتعافون. الوصول إلى بيت عنيا مع الرُّسُل.)

 

04 / 12 / 1946

 

يسوع مع بطرس ويوضاس تدّاوس يسيرون بسرعة في موضع كئيب، حجريّ، إلى جانب المدينة. وحيث أنّني لا أرى أشجار الزيتون الخضراء، بل التلّة، بالأحرى التلال القليلة أو المعدومة الخُضرة الكائنة غرب أورشليم، الّتي مِن بينها الجلجلة المحزنة، فأظنّ أنّني بالضبط خارج الجهة الغربيّة للمدينة.

 

«يمكننا أن نعطي بعضاً ممّا استطعنا الحصول عليه. لا بدّ أن العيش بين القبور رهيب في الشتاء.» يقول تدّاوس الـمُحَمَّل بالرِّزَم كما بطرس.

 

«أنا مسرور بذهابي إلى الـمُعتَقين كي أحصل على هذه النقود لأجل البرص. البؤساء المساكين! في أيّام الأعياد هذه لا أحد يفكّر فيهم. الجميع يبتهجون… وهم يفكّرون بمنازلهم الّتي خسروها… آه! لو كانوا يؤمنون بكَ على الأقلّ! هل سيؤمنون يا معلّم؟» يقول بطرس، ذو البساطة الدائمة، الشديد التعلّق بيسوعه.

 

«لنأمل بذلك يا سمعان. لنأمل به. لنصلِّ في غضون ذلك...» ويتابعون وهم يُصلّون.

 

وادي هنّوم الكئيب يتبدّى بقبور أحيائه.

 

«امضيا قُدُماً وأعطيا.» يقول يسوع.

 

يمضي الاثنان وهما يتحدّثان بصوت مرتفع. وجوه برص تطلّ مِن فتحات المغاور والملاجئ.

 

«إنّنا تلميذا الرابّي يسوع.» يقول بطرس. «إنّه قادم، وهو يرسلنا لإعطائكم معونة. كم عددكم؟»

 

«سبعة هنا. ثلاثة في الجهة الأخرى، ما وراء عين روجيل.» يقول أحدهم نيابة عن الجميع.

 

بطرس يفتح رزمته. تدّايوس يفتح رزمته. يقسمان عشر حصص. خبز، جبن، زبدة، زيتون. الزيت، أين يضعان الزيت الموضوع في جرّة صغيرة؟

 

«ليُحضِر أحدكم وعاء. هناك، على الصخرة. أنتم تتقاسمون الزيت، كإخوة كما أنتم عليه، وباسم المعلّم الّذي يبشّر بالمحبّة تجاه القريب.» يقول بطرس.

 

في غضون ذلك ينزل صوبهما أبرص، وهو يعرج، حيث مضيا إلى قرب صخرة عريضة، ويضع عليها إبريقاً مهترئاً. ينظر إليهما فيما يسكبان الزيت، ويَسأَل مندهشاً: «ألا تخافا مِن أن تكونا قريبيَن منّي إلى هذا الحدّ؟» بالفعل بين الرسولين والأبرص لا يوجد سوى الصخرة.

 

«نحن لا نخاف سوى مِن الإساءة للمحبّة. هو أرسلنا قائلاً أن نعينكم، لأنّ مَن ينتمي إلى المسيح عليه أن يحبّ مثلما يحبّ المسيح. عسى أن يفتح هذا الزيت قلوبكم، ويمنحها النور كما لو أنّه يشتعل بالفعل في مصابيح قلوبكم. إنّ زمن النعمة قد حلّ لأولئك الّذين يرجون بالربّ يسوع. آمنوا به. إنّه المَسيّا ويشفي الأجساد والنفوس. إنّه قادر على كلّ شيء لأنّه عمانوئيل!» يقول تدّاوس بوقاره الّذي يفرض نفسه دوماً.

 

الأبرص يلبث والأبريق بين يديه، وينظر إليه كالمسحور. ثمّ يقول: «أَعلَم أنّ لإسرائيل مسيحها، إذ يتحدّث عنه المسافرون الّذين يأتون إلى المدينة بحثاً عنه، ونحن نستمع إلى أحاديثهم. إنّما أنا لم أره أبداً لأنّني أتيتُ إلى هنا منذ وقت قصير. أتقولان أنّه يشفيني؟ إنّ بيننا مَن يُجدّفون عليه، وآخرون يباركونه، وأنا لا أعرف مَن أصدّق.»

 

«هل أولئك الّذين يلعنونه طيّبون؟»

 

«لا. إنّهم قساة ويسيئون معاملتنا. إنّهم يريدون أفضل الأماكن وأوفر الحصص. ولا نعلم إن كنّا نستطيع البقاء هنا بسبب ذلك.»

 

«إذن إنّكَ ترى أنّ وحده مَن يسكنه الجحيم هو مَن يكره المَسيّا. لأنّ الجحيم يشعر بأنّه مغلوب على يده ولذلك يكرهه. إنّما أنا أقول لكَ بأنّه يجب أن نحبّه، وبإيمان، إذا ما كنّا نريد أن نحصل على نعمة، هنا أو ما وراء الأرض، مِن العليّ.» يقول أيضاً تدّاوس.

 

«لو أنّي أحظى بالنعمة! إنّني متزوّج منذ سنتين ولي صبيّ صغير لا يعرفني. إنّني أبرص منذ أشهر قليلة. إنّكما تريان ذلك.» بالفعل لديه آثار قليلة.

 

«فإذن توجّه للمعلّم بإيمان. أُنظر! إنّه آتٍ. أَعلِم رفاقكَ وعد إلى هنا. هو سوف يمرّ ويشفيكَ.»

 

الرجل يصعد المنحدر وهو يعرج وينادي: «أوريا، يوآب! أدينا! وأنتم أيضاً الّذين لا تؤمنون. إنّ الربّ آتٍ ليخلّصنا.»

 

واحد، اثنان، ثلاثة. ثلاثة مصائب أكثر فأكثر هولاً تتقدّم. إنّما المرأة بالكاد تظهر. إنّها فظاعة حيّة… ربّما تبكي وربّما تتكلّم، إنّما مِن غير الممكن فهم أيّ شيء، لأنّ صوتها يخرج غير واضح ممّا كان فماً، إنّما الّذي هو الآن ليس سوى فكّين بلا أسنان، مكشوفَين، مُرعِبَين…

 

«نعم. أقول لكِ أنّهما قالا لي بأن أجيء لأناديكم. فهو آتٍ ليشفينا.»

 

«أنا لا! إنّني لم أؤمن في المرّات السابقة… ولن يسمعني بعد… ومِن ثمّ ما عدتُ أستطيع السير.» تقول المرأة بوضوح أكثر، مَن يدري بأيّ جهد. إنّها تستعين حتّى بأصابعها للإمساك ببقايا شفتيها حتّى يمكن فهمها.

 

«سوف نحملكِ نحن يا أدينا.» يقول الرجلان وذاك صاحب الإبريق.

 

«لا… لا… أنا قد خطئتُ كثيراً...» وتنهار حيث هي.

 

يهرع ثلاثة آخرون، بقدر استطاعتهم، متنمّرين، ويقولون: «أعطونا الزيت الآن، ومِن ثمّ اذهبوا إلى بعلزبول إن أردتم.»

 

«الزيت للجميع.» يقول صاحب الإبريق محاولاً حماية كنزه. لكنّ الثلاثة العنيفين، القساة، يسحقونه وينتزعون منه الإبريق.

 

«هوذا! دوماً هكذا… قليل مِن الزيت بعد وقت طويل!... لكنّ المعلّم آتٍ… لنذهب إليه. ألا تأتين حقّاً يا أدينا؟»

 

«لا أجرؤ...»

 

الثلاثة ينزلون إلى قرب الصخرة. يتوقّفون لانتظار يسوع، الّذي ذهب الرسولان لملاقاته. وما أن وصل، يصيحون: «ارحمنا، يا يسوع إسرائيل! إنّنا نرجو بكَ يا سيّد!»

 

يسوع يرفع وجهه، ينظر إليهم بنظرته الفريدة. يَسأَل: «لماذا تريدون الصحّة؟»

 

«لأجل عائلاتنا، لأجلنا… مرعب هو العيش هنا...»

 

«أنتم لستم جسداً فقط يا أبنائي. لديكم نَفْس أيضاً، وهي أثمن مِن الجسد. بها عليكم أن تهتمّوا. فلا تطلبوا إذن فقط الشفاء لأجلكم، لأجل عائلاتكم، إنّما كي تمتلكوا الوقت لمعرفة كلمة الله والعيش لاستحقاق ملكوته. هل أنتم أبرار؟ كونوا أكثر برّاً. هل أنتم خطأة؟ اطلبوا العيش كي تحظوا بالوقت للتعويض عن الشرّ الّذي ارتكبتموه… أين هي المرأة؟ لماذا لا تأتي؟ ألا تجرؤ على مواجهة وجه ابن الإنسان، في حين لم تخف مِن أن يتوجّب عليها ملاقاة وجه الله عندما كانت تخطئ؟ اذهبوا وقولوا لها أنّه قد غُفِر لها الكثير لأجل توبتها وخضوعها. وأنّ الأزليّ قد أرسلني كي أغفر كلّ خطايا مَن تابوا عن ماضيهم.»

 

«يا معلّم، إنّ أدينا ما عادت تستطيع السير...»

 

«اذهبوا وساعدوها على النزول إلى هنا. واجلبوا وعاءً آخر. سنعطيكم المزيد مِن الزيت...»

 

«يا ربّ، يوجد ما يكفي بالكاد للآخرين.» ينبّه بطرس بصوت خافت بينما يمضي البرص لجلب المرأة.

 

«سوف يتوفّر منه للجميع. تحلّى بالإيمان. لأنّه مِن الأسهل بالنسبة لكَ أن تؤمن بهذا، منه أن يؤمن هؤلاء البائسون بأن يعود جسدهم إلى ما كان عليه.»

 

في تلك الأثناء، في الأعلى، في المغاور، يشبّ شِجار بين البرص الثلاثة الأشرار على تقاسم الطعام…

 

المرأة تنزل، محمولة على الأذرع… وتنوح، بقدر ما هو مسموح لها: «المغفرة! عن الماضي! لعدم طلبي المغفرة في المرّات السابقة!... يا يسوع، يا ابن داود، ارحمني!»

 

يضعونها عند أسفل الصخرة. وفوق الصخرة يضعون وعاءً متآكلاً تماماً.

 

يسوع يَسأَل: «ما قولكم أنتم؟ هل تكثير الزيت في إناء أسهل، أم جعل اللحم ينمو حيث أتلفه البرص؟»

 

صَمْت… ثمّ المرأة بالذات تقول: «الزيت، إنّما أيضاً اللحم، لأنّكَ قادر على كلّ شيء. وقادر كذلك على منحي النّفْس الّتي كانت لي في أعوامي الأولى. إنّني أؤمن يا ربّ.»

 

آه! الابتسامة الإلهية! إنّها مثل نور ينتشر، مُفعَمة عذوبةً، بهجةً، رهافةً! وهي في العينين، وعلى الشفتين، وفي الصوت حين يقول: «لأجل إيمانكِ كوني مُبرأة ومغفوراً لكِ. وكذلك أنتم. وليكن لكم زيت وطعام لتتقوّا. واذهبوا أروا أنفسكم لكاهن كما تنصّ الشريعة. غداً. عند الفجر سأعود ومعي ملابس ويمكنكم الذهاب مراعين الحشمة. هيّا! سبّحوا الربّ. ما عدتم برصاً بعد!»

 

عندئذ، الأربعة الّذين كان نظرهم حتّى تلك اللحظة مثبّت على الربّ، ينظرون إلى بعضهم ويصرخون دهشتهم. المرأة تودّ النهوض، لكنّها عارية للغاية كي تفعل ذلك. ثوبها يتساقط أشلاء، وما هو عارٍ فيها أكثر ممّا هو مغطّىً. وفيما تَلبَث نصف محجوبة خلف الصخرة، في حياء ليس فقط بسبب يسوع، بل بسبب رفاقها أيضاً، بوجهها المعاد تكوين قسماته، الهزيلة فقط بفعل شظف العيش، فإنّها تبكي قائلة بلا توقّف: «مبارك! مبارك! مبارك!» بركاتها تختلط مع التجديفات الفظيعة للبرص الثلاثة الأشرار، وقد لبثوا حانقين لرؤيتهم الآخرين مُبرَئين. فتتطاير القذارات والحجارة.

 

«لا يمكنكم البقاء هنا. تعالوا معي. لن يصيبكم أيّ مكروه. انظروا. الطريق خاوية. فالساعة السادسة تجعل السكّان في منازلهم. سوف تذهبون عند برص آخرين، حتّى الغد. لا تخافوا. اتبعوني. خذي يا امرأة.» ويعطيها معطفه لتستر نفسها.

 

الأربعة، الخائفون بعض الشيء، المذهولون بعض الشيء، يتبعونه مثل أربعة حِملان. يجتازون ما تبقّى مِن وادي هنّوم. يعبرون الطريق، يمضون صوب سلوان، موضع كئيب آخر للبرص. يسوع يتوقّف عند أسفل المنحدر ويأمر: «اصعدوا وقولوا لهم بأنّني سأكون هنا غداً عند الساعة الأولى. اذهبوا واحتفلوا معهم، معلنين عن وصول معلّم البشرى الحسنة.» يُوجّه بإعطائهم كلّ الطعام المتبقّي بحوزتهم ويباركهم قبل أن يصرفهم…

 

«لنذهب الآن. إنّ الساعة قد تجاوزت السادسة.» يقول يسوع فيما يستدير كي يعود إلى الطريق الواطئة المؤدّية إلى بيت عنيا.

 

إنّما سرعان ما يناديه هتاف: «يا يسوع، يا ابن داود، ارحمنا نحن أيضاً.»

 

«لم ينتظروا حتّى الفجر، هؤلاء...» يلاحظ بطرس.

 

«لنذهب إليهم. قليلةً جداً هي الساعات الّتي يمكنني فيها أن أعمل خيراً دون أن يعكّر أولئك الّذين يكرهونني سلام الّذين صنعتُ لهم الخير!» يجيب يسوع ويعود على أعقابه مبقياً رأسه مرفوعاً صوب برص سلوان الثلاثة، الّذين أطلّوا مِن مسطّح التلّة الصغيرة، والّذين يكرّرون صراخهم، يساعدهم مِن سبق أن برئوا، والّذين هم وراءهم.

 

يسوع يكتفي ببسط يديه والقول: «ليكن لكم كما تطلبون. اذهبوا وعيشوا في دروب الربّ.» يباركهم، فيما البرص يتلاشى مِن أجسادهم مثل طبقة ثلج رقيقة تذوب في الشمس. ويسوع يرحل سريعاً، تلاحقه بركات المبرئين بمعجزة. الّذين مِن فسحتهم المنبسطة يبسطون أذرعهم، في عناق حقيقيّ أكثر ممّا لو كان ممنوحاً بحقّ.

 

يعودون إلى طريق بيت عنيا، طريق تحاذي مجرى القدرون، الّذي ينعطف بزاوية حادّة بعد حوالي مائة خطوة مِن سلوان. إنّما ما أن يتمّ اجتياز المنعطف ويصبح ممكناً رؤية القسم الآخر مِن الطريق المؤدّية إلى بيت عنيا، حتّى يظهر يهوذا الاسخريوطيّ هناك، وحيداً، يسير بسرعة.

 

«إنّما هو يهوذا!» يصيح تدّاوس الّذي يراه أوّلاً.

 

«لماذا هنا؟ وحده؟ أوهي! يهوذا!» يصيح بطرس.

 

يهوذا يلتفت منتفضاً. إنّه شاحب، يميل إلى الاخضرار. بطرس يقول له: «أرأيتَ الشيطان؟ حتّى تكون بلون الخسّ؟»

 

«ماذا تفعل هنا يا يهوذا؟ لماذا تركتَ الرفاق؟» يَسأَل يسوع في الوقت ذاته.

 

يهوذا إذ استعاد السيطرة على نفسه، يقول: «لقد كنتُ معهم. لقد التقيتُ شخصاً يحمل أخباراً عن أُمّي. أُنظر...» يفتّش في حزامه. يضرب بيده جبهته قائلاً: «لقد تركتُها مع ذاك الرجل! كنتُ أريدكَ أن تقرأ الرسالة… أو أنّني قد فقدتُها على الطريق… هي ليست على ما يرام. بل وكانت مريضة… إنّما ها هم الرفاق هناك… لقد توقّفوا. لقد رأوكَ… يا معلّم، إنّني مُشوَّش...»

 

«أرى ذلك.»

 

«يا معلّم… هاك كيسا المال. لقد جعلتُهُما اثنين كي… كي لا ألفت الأنظار… كنتُ وحدي...»

 

الرُّسُل: برتلماوس، فيلبّس، متّى، سمعان ويعقوب بن زَبْدي، يشعرون بالحرج بعض الشيء. يقتربون مِن يسوع بمحبّة، إنّما كَمَن يشعر بأنّه أخطأ.

 

يسوع ينظر إليهم ويقول: «لا تعاودوا فِعل ذلك بعد. فليس جيّداً أبداً بالنسبة لكم أن تنفصلوا. وإذا ما قلتُ لكم ألّا تفعلوا ذلك، فلأنّني أعلم أنّكم بحاجة إلى أن تعضدوا بعضكم البعض. لستم أقوياء كفاية لتتصرّفوا وحدكم. فبكونكم مجتمعين، الواحد يكبح أو يسند الآخر. منقسمين...»

 

«لقد كنتُ أنا يا معلّم، مَن قدّم النصيحة السيّئة، لأنّنا تذكّرنا فيما بعد بأنّكَ كنتَ قد قلتَ بألّا ننفصل، وبأنّ نذهب جميعنا معاً إلى بيت عنيا، ويهوذا كان قد ذهب لسبب محقّ، ولم نفكّر بالذهاب معه. اغفر لي يا ربّ.» يقول برتلماوس بتواضع وصراحة.

 

«بالتأكيد أغفر لكم. لكنّني أكرّر لكم: لا تفعلوا ذلك بعد. فكّروا بأنّ الطاعة تخلّص دوماً أقلّه مِن خطيئة: خطيئة افتراض القدرة على التصرّف مِن تلقاء الذات. إنّكم لا تعلمون كم يدور الشيطان حولكم كي يتلقّف كلّ الذرائع لجعلكم تخطئون، ولجعلكم تُسبّبون الأذى لمعلّمكم الّذي أصبح مضطهداً كثيراً. إنّها أوقات تصبح أكثر فأكثر صعوبة بالنسبة لي وبالنسبة للهيئة الّتي أتيتُ كي أُكوّنها. لذلك يتوجّب الكثير مِن العناية لتحاشي أن تصبح، لا أقول مجروحة أو مقتولة، لأنّه لن تكون كذلك أبداً حتّى نهاية الأزمنة، بل ملطّخة بالوحل. إنّ خصومها يراقبونكم بتمعّن، إنّهم لا يغفلون عنكم أبداً، كما أنّهم يكيلون أفعالي وأقوالي، وذلك كيما يمتلكوا وسيلة للتشويه. وإذا ما أظهرتم أنّكم متشاجرون، منقسمون، غير كاملين بشكل ما، حتّى في أمور غير ذات أهمّيّة، فإنّهم يلتقطون ما قمتم به ويتلاعبون به، ويقذفونه كما وحل واتّهام ضدّي وضدّ كنيستي الآخذة في التكوّن. إنّكم ترون ذلك! إنّني لا أوبّخكم، إنّما أنصحكم. لخيركم. آه! ألا تعلمون، يا أصدقائي، أنّهم سيتلاعبون حتّى بأفضل الأمور، ويقدّمونها كيما يتمكّنوا مِن اتّهامي بعدل ظاهريّ؟ فهيّا إذن. كونوا أكثر طاعةً واحتراساً في المستقبل.»

 

الرُّسُل جميعاً متأثّرون بفعل وداعة يسوع. لون يهوذا الاسخريوطيّ لا يكفّ عن التبدّل. إنّه يلبث صاغراً، خلف الجميع قليلاً، إلى أن يقول له بطرس: «ماذا تفعل هناك؟ ليس بكَ أخطاء أكثر مِن الآخرين. فتعال إذن إلى الأمام مع الآخرين.» ويُرغَم على الطاعة.

 

يحثّون الخطى، فعلى الرغم مِن الشمس، فهناك ريح تدعو للمسير التماساً للدفء. لقد كانوا قد ساروا مسافة لا بأس بها عندما نثنائيل، الّذي يشعر بالبرد ويُظهِر ذلك بالتدثّر بمعطفه كما لم يفعل مِن قبل، يلاحظ أنّ يسوع لا يرتدي سوى ثوبه: «يا معلّم، إنّما ماذا فعلتَ بمعطفكَ؟»

 

«أعطيتُه لبرصاء. لقد شفينا وعزّينا سبعة برص.»

 

«إنّما لا بدّ أنّكَ تشعر بالبرد! خذ معطفي.» يقول الغيور، ويضيف: «لقد اعتدتُ في القبور الجليديّة على ريح الشتاء.»

 

«لا يا سمعان. أُنظر! ها هي هناك بيت عنيا. سرعان ما سنكون في المنزل. ولا أشعر بالبرد على الإطلاق. لقد حظيتُ بفرح روحيّ كثير اليوم، وهذا يبعث على الراحة أكثر مِن رداء دافئ.»

 

«يا أخي، إنّكَ تمنحنا استحقاقات لا نملكها. فأنتَ، لا نحن، قد شفيتَ وعزّيتَ...» يقول تدّاوس.

 

«لقد أعددتما القلوب للإيمان بالمعجزة. لذلك فقد ساعدتما معي ومثلي على الشفاء والتعزية. لو تعلمون كم أغتبط بإشراككم معي في كلّ أعمالي! ألا تتذكّرون كلام يوحنّا بن زكريّا، نسيبي: "لا بدّ له مِن أن يَكبُر ولا بدّ لي مِن أن أَصغُر"؟ لقد كان بالضبط يقول ذلك لأنّ كلّ إنسان، مهما كان عظيماً، حتّى لو كان موسى أو إيليا، يخبو مثل نجم تلفّه أشعّة الشمس عند ظهور الآتي مِن السموات، وهو أعظم مِن أيّ إنسان، لأنّه الآتي مِن الآب الكلّيّ القداسة. إنّما أنا أيضاً، الـمُؤسِّس لهيئة ستدوم حتّى نهاية الأزمنة، والّتي ستكون مقدّسة مثل مؤّسسها ورئيسها، هيئة سوف تدوم لتمثّلني، وستكون واحدة معي، كما أنّ أعضاء وجسد الإنسان هي واحد مع الرأس الّذي يسودها، أنا أيضاً يجب أن أقول: "ينبغي أن ينير هذا الجسد [الكنيسة] وأنا أحتجب".

 

ينبغي أن تكونوا استمراريّتي. أنا، قريباً، لن أعود بعد وسطكم، هنا على الأرض، هنا بشكل مادّي، كي أقود رسلي، التلاميذ والّذين يتبعونني. آنذاك، سأكون روحيّاً معكم دوماً، وأرواحكم سوف تشعر بروحي، وتتلقّى نوري. إنّما ينبغي أن تظهروا عند الخطّ الأوّل عندما أكون قد عدتُ مِن حيث أتيتُ. لهذا أُعدّكم تدريجيّاً لهذا الظهور كطليعة. إنّكم أحياناً تلفتون انتباهي: "لقد كنتَ ترسلنا أكثر في الأزمنة الأولى". لقد كان عليكم أن تكونوا معروفين. والآن وقد صرتم معروفين، الآن حيث في هذه البقعة الصغيرة مِن الأرض أصبحتم "الرُّسُل"، فإنّني أحفظكم دوماً متّحدين بي، مشاركين في كلّ أعمالي، بحيث يقول العالم: "إنّه يجعلهم شركاءه في الأعمال الّتي يتمّها، لأنّهم سيبقون بعده ليكونوا استمراريّته. نعم يا أصدقائي. عليكم أن ترتقوا باضطراد، تستنيروا أكثر، تكونوا استمراريّتي، تكونوا أنا، فيما أنا، كما أُمّ تكفّ رويداً رويداً عن مساندة طفلها الصغير الّذي تعلّم المشي، أنسحب… لا ينبغي أن يكون الانتقال منّي إليكم مباغتاً. إنّ صغار القطيع، المؤمنين المتواضعين، سوف يفزعون مِن ذلك. إنّني أنقلهم بتُؤَدَة منّي إليكم، كي لا يشعروا بأنّهم وحيدون ولا حتّى للحظة واحدة. وأنتم أحبّوهم، كثيراً، كما أنا أحبّهم. أحبّوهم لذكري، كما أنا أحببتهم...»

 

يسوع يصمت، مستغرقاً في إحدى أفكاره الداخليّة. ولا يخرج منها إلّا حينما، على مشارف بيت عنيا، يلتقي مع الرُّسُل الآخرين القادمين عبر الطريق الأخرى. ويتابعون مجتمعين صوب منزل لعازر. ويوحنّا يقول أنّهم مُنتَظَرون بالفعل، لأنّ الخدّام قد رأوهم. ويقول إنّ لعازر مريض للغاية.

 

«أعلم ذلك. لهذا قلتُ لكم بأنّنا سنمكث في منزل سمعان. إنّما لم أشأ الابتعاد دون أن أحيّيه مرّة أخرى.»

 

«إنّما لماذا لا تشفيه؟ إنّ ذلك سيكون عادلاً جدّاً. تترك أفضل خدّامكَ يموتون جميعاً. أنا لا أفهم...» يقول الاسخريوطيّ، الوَقِح على الدوام، حتّى في أفضل أوقاته.

 

«لا حاجة لأن تفهم قبل الأوان.»

 

«نعم. لا حاجة. لكن أتعلم ماذا يقول أعداؤكَ؟ أنّكَ تشفي عندما تقدر، لا عندما تشاء، أنّكَ تحمي متى تقدر… ألا تعلم أنّ ذاك العجوز الّذي مِن تيكوا قد مات؟ لقد مات مقتولاً؟»

 

«مات؟ مَن؟ إيلي-حنّة؟ كيف؟» الجميع يسألون، بانزعاج. وحده بطرس يَسأَل: «وأنتَ كيف تعلم ذلك؟»

 

«لقد علمتُ ذلك بالصدفة منذ قليل في المنزل حيث كنتُ، والله يعلم أنّني لا أكذب. يبدو أنّه لصّ، نزل بهيئة تاجر، وبدلاً مِن أن يدفع أجر المكان فقد قتله...»

 

«العجوز المسكين! يا للحياة التعيسة! يا للموت البائس! ألا تتكلّم يا معلّم؟» يقول كُثُر.

 

«ليس لديَّ ما أقوله سوى أنّ العجوز قد خدم المسيح حتّى موته. لو أنّ الأمر يكون هكذا بالنسبة للجميع!»

 

«إنّما قل يا ابن حلفى، أليس الأمر يا ترى كما كنتَ تقول، إيه؟» بطرس يَسأَل تدّاوس.

 

«ممكن. ابن يطرد أباه بدافع كراهية، وكراهية مِن هذا النوع، يمكن أن يكون قادراً على كلّ شيء. يا أخي، إنّ كلامكَ صحيح بحق: "والأخ سيكون ضدّ أخيه، والأب ضدّ أبنائه".»

 

«نعم. ومَن سيتصرّف هكذا سيظنّ بأنّه يخدم الله. عيون عمياء، قلوب متحجّرة، نفوس بلا نور. ورغم ذلك عليكم أن تحبّوهم.» يقول يسوع.

 

«ولكن ما العمل كي نحبّ مَن سيعاملنا هكذا؟ سيكون كثيراً إن لم نردّ وإن احتملنا أفعالهم بإذعان...» يهتف فيلبّس.

 

«أنا سوف أعطيكم مثالاً لتعليمكم، في حينه. وإن كنتم تحبّونني، فسوف تفعلون ما سأفعل أنا.»

 

«ها هما مكسيمين وسارة. لا بدّ أنّ لعازر مريض للغاية، طالما الأختان لم تأتيا لملاقاتكَ!» يلاحظ الغيور.

 

الاثنان يهرعان ويسجدان. وحتّى على وجهيهما، وعلى ثيابهما، يوجد المظهر المنسحق الّذي يطبعه الألم والعياء على أفراد العائلات الّتي تصارع ضدّ الموت. إنّهما لا يقولان سوى: «يا معلّم، تعال...» إنّما بنبرة مغتمّة بحيث يساوي أكثر مِن خطاب طويل. وفوراً يقودان يسوع إلى باب الجناح الصغير الّذي للعازر، فيما الخدّام الآخرون يهتمّون بالرُّسُل.

 

عند القرع الخفيف على الباب تهرع مرثا وتفتحه جزئيّاً، واضعةً في الشقّ وجهها النحيل والشاحب: «يا معلّم! تعال. لتكن مباركاً!»

 

يسوع يدخل، يعبر الغرفة الّتي تسبق غرفة المريض، ويدخل إلى غرفته. لعازر نائم. لعازر؟ إنّه هيكل عظميّ، مومياء مُصفَرّة تتنفّس… إنّ وجهه هو حقّاً جمجمة، وأثناء نومه يتّضح أكثر بعد تلاشيه الّذي يجعل منه بالفعل رأساً قد أَنحَلَه الموت. الجلد الشمعيّ والمشدود يلمع عند الزوايا الحادّة للوجنتين، للفكّين، على الجبين، على المحجرين الغائرين إلى درجة أنّهما يبدوان بلا عينين، على الأنف البارز الّذي يبدو أنّه كَبُرَ بلا حدّ بقدر ما ألغي محيط الخدّين. الشفتان شاحبتان إلى درجة الاختفاء، وتبدوان أنّهما لا تستطيعان الانغلاق على صفّي الأسنان نصف المكشوفة، المتباعدة. إنّه وجه ميت بحقّ.

 

يسوع ينحني لينظر. يستقيم. ينظر إلى الأختين اللتين تنظران إليه بكلّ نَفْسهما المتركّزة في عيونهما، نَفْس متألّمة، نَفْس مفعمة بالرجاء. يومئ إليهما، وبلا صوت يعاود الخروج إلى الفسحة الصغيرة الّتي تسبق الغرفتين. مرثا ومريم تتبعانه. تغلقان الباب وراءهما.

 

الثلاثة، وحدهم بين الجدران الأربعة، بصمت، تحت السماء الزرقاء، يتبادلون النظر. الأختان ما عادتا تُحسِنان حتّى السؤال، ما عادتا تُحسِنان حتّى الكلام. لكنّ يسوع يتكلّم: «إنّكما تعلمان مَن أنا. وأنا أعلم مَن تكونان. تعلمان أنّني أحبّكما. وأنا أعلم أنّكما تحبّانني. تعرفان قدرتي. وأنا أعرف مدى إيمانكما بي. تعلمان أيضاً، بالأخصّ أنتِ يا مريم، بقدر الحبّ يكون الحصول. والمحبّة هي إجادة الرجاء والإيمان فوق كلّ قياس وكلّ واقع يمكنه أن يدحض الإيمان والرجّاء. وعليه، لأجل كلّ هذا أقول لكما أن تُحسِنا الرجاء والإيمان رغم كلّ واقع مخالف. أتفهمانني؟ أقول: أَحسِنا الرجاء والإيمان رغم كلّ واقع مخالف. لا أستطيع المكوث سوى بضع ساعات. العليّ يعلم كم أودّ، كإنسان، البقاء هنا معكم كي أعينه وأعزّيه، كي أعينكما وأعزّيكما. إنّما، كابن الله، فأعلم أنّه مِن الضروريّ أن أرحل، أن أبتعد… ألّا أكون هنا عندما… سوف تتوقان إليَّ أكثر مِن الهواء الّذي تتنفّسانه. يوماً ما، في القريب العاجل، سوف تفهمان المبرّرات الّتي قد تبدو الآن لكما قاسية. إنّها مبرّرات إلهيّة. مؤلمة لي كإنسان كما لكما. مؤلمة الآن. الآن لأنّكما لا تستطيعان إحاطة وتأمّل جمالها وحكمتها، ولا أنا أستطيع الكشف عنها. وعندما يتمّ كلّ شيء، فعندئذ سوف تدركان وتغتبطان… أنصتا. عندما لعازر سيكون… قد مات… لا تبكيا هكذا! حينذاك أرسلوا فوراً في طلبي. وفي تلك الأثناء أَعِدّا للمأتم وادعيا عدداً كبيراً مِن الناس، كما يليق بلعازر وبمنزلكم. فهو يهوديّ عظيم. قلائل هم الّذين يُقدّورنه على حقيقته. لكنّه يتخطّى كثيرين في عينيّ الله… سوف أعلمكما أين أكون، كي تتمكّنا مِن إيجادي دوماً.»

 

«إنّما لماذا لا تكون هنا أقلّه في ذاك الوقت؟ سوف نرضخ، نعم، لموته… لكن أنتَ… لكن أنتَ… لكن أنتَ...» مرثا تنتحب، غير قادرة على قول شيء آخر. خانقةً شهقاتها بثيابها…

 

مريم، على العكس، تنظر إلى يسوع، تحدّق، تحدّق، كأنّها مسحورة… ولا تبكي.

 

«أَحسِنا الطاعة. أَحسِنا الإيمان، الرجاء… أَحسِنا قول نعم لله دوماً… لعازر يناديكما… اذهبا. سوف آتي بعد قليل… وإن لم تسنح لي بعد فرصة التحدّث إليكما على حده، فتذكّرا ما قلتُه لكما.»

 

وفيما تعاودان الدخول على عَجَل، يجلس يسوع على مقعد حجري ويصلّي.