ج2 - ف26
أَنَا هُوَ
ماريا فالتورتا
L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO
THE GOSPEL AS REVEALED TO ME
بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}
L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ
MARIA VALTORTA
الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.
الجزء الثاني / القسم الأول
26- (شِفاء الأبرص قرب كورازين)
06 / 11 / 1944
صورة دقيقة لدرجة الكمال تَحضُر إلى عين روحي منذ هذا الصباح، وحتّى قبل بزوغ الفجر، إنّها صورة أبرَص مسكين.
بالفعل إنّه حُطام إنسان. لا أستطيع تقدير عُمره، فالـمَرَض قد أتلَفَه كثيراً. هيكل عظمي نصف عار، يَظهَر جسده الذي تحوّل إلى حالة مومياء عجفاء. يداه ورجلاه قد تشوَّهَت وفَقَدَت أجزاء منها بشكل لم تعد أطرافه تبدو أطراف إنسان. اليدان المختصَرَتان والمشوَّهَتان تُشبِهان أقدام وحش مُجَنَّح، والقدمان مثل حافِرَيّ ثور لكثرة ما هما منقوصَتَان ومشوَّهَتَان.
ثمّ الرأس!... أظنّ أنّ جيفة لم تُدفَن. محنّطة بفعل الشمس والهواء، قد يكون لها رأس كهذا. ما يزال يحتفظ هنا وهناك ببعض مِن خصلات شعر ملتصقة على الجلد المصفرّ كقشرة الأرض وكان الغبار قد جفّفه على جمجمة، عينان بالكاد منفرجتان وغائرتان، الشفتان والأنف قَرَضَهُم المرض وقد تَعَرَّت الغضاريف واللثتان. والأذنان لم تعودا سوى بقايا صيوانين لا شكل لهما، وفوق كلّ هذا يمتدّ جلد شبيه بالرق، أصفر مثل بعض أنوع الصلصال، تبدو العظام تحته وكأنّها تُمزِّقه. قد تكون مهمة هذه البَشَرَة المحافظة على هذه العظام مجتمعة معاً في كيسها البَشِع، المطبوع بالندبات والممزّق بالجراح المتفسّخة. أطلال!
هذا يجعلني أفكّر بالضبط بشبح الموت يطوف الأرض حيث يغطّي هيكله العظمي جسد كالرق، ويلتَحِف بعباءة قَذِرَة مِن الأسمال (الخِرَق)، ليس في يديه حاصدة (مِنجَل)، إنّما عصا كثيرة العُقَد مُنتَزَعة مِن شجرة بكلّ تأكيد.
إنّه على عتبة كهف بعيد عن السَّكَن. كهف حقيقيّ خَرِب لدرجة أنّني لا أستطيع القول إذا ما كان في الأصل قبراً أو كوخ حطّابِين أو أطلال منزل قد تَهَدَّم. يَنظُر مِن جانب الطريق بعيداً أكثر مِن مائة متر عن كهفه، طريق مطروقة كثيراً، ترابيّة ومشمسة بشكل واسع. لا أحد على الطريق الآن. على مدّ النظر شمس وغبار ووحشة. أبعد مِن ذلك، صعوداً إلى الشمال الغربيّ، توجد بلدة أو مدينة. أرى أولى المنازل على بعد كيلو متر على الأقلّ.
يَنظُر الأبرَص ويتنهّد، ثمّ يأخذ قَصعَة ثَلِمَة ويملأها مِن جدول ويشرب. يتغلغل في علّيقة متشابكة خلف الكهف، ينحني ليقتَلِع مِن الأرض فجلات بريّة ويعود إلى الجدول حيث يخلّصها مِن كوم التراب الكبيرة العالقة فيها بماء الجدول القليل، ويأكلها على مهل بِحَملِها بعناء إلى فمه بيديه المشوَّهَتَين. إنّهما قاسيتان كالخشب، ولقد عانى مِن مضغها. إنّه يمصّها كثيراً دون التوصّل إلى بلعها رغم جرعات الماء التي يرشفها.
صوت ينادي: «أين أنتَ يا هابيل؟»
يتحرّك الأبرص، وعلى شفتيه شيء وكأنّه ابتسامة. ولكنّ شفتيه متآكلتان لدرجة أنّ محاولة الابتسامة هذه كانت عديمة الشكل. يُجيب بصوت غريب مُصرصر يذكّرني بأصوات بعض العصافير التي أجهل اسمها بالتحديد: «أنا هنا! كنتُ قد قَطَعتُ الأمل بأن تأتي. كنتُ أحسَبُ أنّ مكروهاً حَصَلَ لكَ. وقد كنتُ حزيناً... لو تخلّيتَ عنّي أنتَ أيضاً فَمَن الذي سيبقى لهابيل المسكين؟» وبينما يتكلّم هكذا يتوجّه صوب الشارع ضمن المسافة المسموح بها في الشريعة. يُرى لأنّه واقف في منتصف الشارع.
يَصِل إلى الشارع رجل يبدو وكأنّه يركض لشدّة سرعته في المشي.
«ولكن هل أنتَ صموئيل؟ آه! إن لم تكن أنتَ الذي أنتَظِر، وأنّى تَكُن فلا تُسئ إليَّ!»
«هذا أنا، هابيل، أنا بذاتي، وبمظهر حَسَن. انظر كيف أجري. إنّني متأخّر، أعرف ذلك، وأنا متألّم مِن أجلكَ. إنّما حينما سَتَعلَم... آه! ستكون سعيداً. وهنا، ليس معي فقط كِسَر الخبز الاعتياديّة، بل رغيف كامل طازج وجيّد، وكذلك معي سمكة لذيذة وقطعة جبن. وكلّ هذا لكَ. أريدكَ أن تكون في عيد أيّها الصديق المسكين، استعداداً لعيد أعظم كثيراً.»
«ولكن كيف؟ هل أنتَ غنيّ؟ لستُ أفهم شيئاً...»
«سأقول لكَ في الحال.»
«وبمظهر حَسَن، تبدو لستَ أنتَ!»
«تَحَقَّق إذاً. لقد عَلِمتُ بوجـود ذاك الرابّي القدّيـس في كفـرناحوم، فذهبتُ إليه...»
«مهلاً انتظر فأنا مصاب.»
«آه! هذا لا يهمّ. لم أعد أخشى شيئاً.» إنّ هذا الرجل ليس سِوى الأحدب المسكين الذي شفاه يسوع وعامَلَه معاملة حَسَنة، وهو يَصِل بالفعل بخطى سريعة على بُعد خطوات مِن الأبرص، ويتكلّم وهو يمشي، ويضحك سعيداً.
لكنّ الأبرص يُكرّر القول: «توقّف بحقّ الله، لو رآكَ أحدهم...»
«ها أنذا أتوقّف، انظر: إنّني أضع المؤونة هنا. كُل أنتَ بينما أتكلّم أنا.» ويَضَع الصرّة على صخرة كبيرة ويفتحها.
ثمّ يبتعد خطوات بينما يدنو الأبرص ويرتمي على هذه الوليمة غير الاعتياديّة. «آه! كَم مِن الزمن مضى ولم أستمتع هكذا! كم هو لذيذ! وتَصوَّر لو كنتُ ذهبتُ لأنام هكذا ومعدتي فارغة. ما مِن إنسان رحوم اليوم... ولا حتّى أنتَ... لقد أكلتُ فجلاً...»
«مسكين يا هابيل! لقد كنتُ أفكّر في ذلك. ولكنّني كنتُ أقول: حسناً الآن هو حزين، ولكنّه بعد ذلك سيصبح سعيداً!»
«سعيد، نعم، مِن أجل هذا الطعام. إنّما بعد ذلك...»
«لا بل ستكون سعيداً على الدوام.»
يهزّ الأبرص رأسه.
«كُن على يقين يا هابيل بأنّكَ لو استطعت أن تؤمن فستكون سعيداً.»
«ولكن الإيمان بـِمَن؟»
«بالرابّي، بالرابّي الذي شفاني.»
«ولكنّني أبرص وفي الدرجة النهائيّة، فكيف يستطيع شفائي؟»
«آه! يستطيع ذلك. إنّه قدّيس.»
«نعم، فأليشع كذلك شفى نعمان الأبرص... أعرف ذلك... إنّما أنا... أنا لا أستطيع المضيّ إلى الأردن.»
«سوف تُشفى دونما حاجة إلى الماء. اسمع: هذا الرابّي، هو المسيح، أتفهم؟ المسيح! ابن الله. وهو يَشفي جميع الذين يؤمنون... يقول: "أنا أريد ذلك". فتهرب الشياطين وتعود الأعضاء لتستوي والعميان يَستَعيدون النَّظَر.»
«آه! لو كان لي الإيمان أنا! ولكن كيف لي أن أرى المسيح؟»
«هاكَ... لقد جِئتُ مِن أجل ذلك. إنّه هنا في هذه البلدة. أعرف أين يكون هذا المساء. إن أردتَ... فقد قلتُ لنفسي: "أقول ذلك لهابيل، وإذا اهتدى إلى الإيمان أقوده إلى المعلّم".»
«هل أنتَ مجنون يا صموئيل؟ إذا ما اقتربتُ مِن المنازل فسأُرجَم.»
«لا، ليس حتّى المنازل. فلقد أوشَكَ الليل أن يهبط. سآخذكَ إلى هذه الغابة الصغيرة. وبعد ذلك أَذهَب كي أنادي المعلّم. وسآتي به إليكَ...»
«اذهَب، اذهَب حالاً! فأنا أَصِل بوسائلي الخاصّة إلى تلك النقطة. سوف أسير في الحفرة وراء السياج، إنّما أنتَ فاذهَب... اذهَب... آه! اذهَب وتعال به يا صديقي العزيز! لو كنتَ تعرف ماذا تعني الإصابة بهذا المرض والتأمّل بالشفاء!...»
لم يَعُد الأبرص يهتمّ بالأكل. إنّه يبكي ويُومي إلى صديقه متوسّلاً.
«أنا ذاهب وأنتَ تعال.» ويبتَعِد الأحدب سابقاً بخطى سريعة.
يَهبِط هابيل بصعوبة إلى الحفرة المحاذية للطريق، وهي مُزدَحِمَة بأدغال نَبَتَت في العمق الجافّ. في وسطها تماماً هناك سلسال ماء. يَهبِط الليل والبائس يزحَف بين الطاقات، وهو يترصّد دائماً وجود أحد المارّة على الطريق. وقد انبَطَح مرّتين في القاع: المرّة الأولى لدى مرور خَيَّال على وَقع خبب مطيّة، والمرّة الثانية لدى مرور ثلاثة أشخاص ومعهم حِمل شعير متوجِّهين صوب البلدة. ثمّ يُتابِع.
ولكنّ يسوع يصل مع صموئيل إلى الغابة الصغيرة قبله.
«سيكون هنا بعد قليل. إنّه يسير ببطء بسبب جراحه. اصبر.»
«لستُ على عَجَلة من أمري.»
«هل ستشفيه؟»
«هل يؤمن؟»
«آه! لقد كان ميتاً مِن الجوع. وكان يرى هذا الطعام بعد سنوات مِن الحرمان، ومع ذلك فقد عَافَ كلّ شيء بعد جرعات قليلة ليَجري إلى هنا.»
«كيف تَعَرَّفتَ عليه؟»
«تَعلَم أنّني كنتُ أعيش على الحسنات منذ أن ابتُليتُ، وقد كنتُ أقطع المسافات لأذهب مِن مكان إلى آخر. كنتُ أمُرُّ مِن هنا كلّ سبعة أيّام، وقد أَنشَـأتُ علاقة مع هذا البائس المسكين... ففي ذات يوم تَقَدَّمَ، يدفعه الجوع، في قَلب عاصفة تجعل الذئاب تهرب، حتّى الطريق التي تقود إلى البلدة، سعياً وراء شيء ما. وقد كان ينبش الفضلات مثل كلب. وكنتُ أحمل في جعبتي خبزاً يابساً أعطانيه أناس أشفَقوا عليَّ، فتقاسمتُه معه. ومنذئذ نحن صديقان وآتي إليه كلّ أسبوع لأُجدِّد له المؤونة ممّا أملك. فإذا كان ما أملكه كثيراً فكثيراً، وإذا كان ما أملكه قليلاً فقليلاً. أَعمَل قَدر استطاعتي كما لو كان أخي. ومنذ الليلة التي شفيتَني بها، بوركتَ، وأنا أفكّر به... وبكَ.»
«أنتَ صالح يا صموئيل، لذلك زارتكَ النعمة. مَن يحبّ يستحقّ مِن الله كلّ شيء. ولكن هناك شيء ما بين الأدغال...»
«أهذا أنتَ يا هابيل؟»
«نعم هذا أنا.»
«هلمّ، فالمعلّم ينتظركَ هنا تحت شجرة الجوز.»
يَخرُج الأبرص مِن الحفرة ويَصعَد إلى الضفّة. يجتازها ويتقدّم في حقل. ينتظره يسوع مُسنِداً ظهره إلى شجرة جوز عالية جدّاً.
«أيّها المعلّم، المسيح، القدّيس، ارحمني!» ويرتمي على العشب عند قدمي يسوع، وقد أَلصَقَ وجهه بالأرض، ويتابع القول: «آه! يا سيّدي، إن شئتَ فأنتَ قادر أن تطهّرني!» ثمّ يجرؤ على الركوع ويمد ذراعيه الهيكليتين باليدين المختَصَرَتين ووجهه الـمُتلَف بادي العظام... وتسيل الدموع مِن مِحجريّ عينيه المصابتين وقد أتلَفهُما البَرَص.
يَنظُر إليه يسوع بكثير مِن الرحمة. يَنظُر إلى هذا الشبح الذي يلتهمه مرض فظيع، والذي لا يستطيع مجاورته سوى مَن يملك محبّة حقيقيّة، لكثرة ما يُثير مِن الاشمئزاز، ولرائحته الكريهة. وها هو المسيح يمدّ يده اليمنى الجميلة والسليمة، كما ليُداعِب المسكين.
وذاك، دون أن يَنهَض، يقفز إلى الخلف وعلى عقبيه ويصرخ: «لا تلمسني، ارحم نفسكَ!»
ولكن يسوع يتقدّم خطوة. وبوقار يفوح منه الصلاح عطراً، يضع أصابعه على الرأس الذي التَهَمه البَرَص ويقول بصوت مرتفع، بصوت ما هو إلا حبّ ومع ذلك هو آمِر: «قد شِئتُ فابرَأ.» وتبقى اليد على الرأس المسكين بضع دقائق. «قُم، امضِ وقابل الكاهِن. أَتمم ما تفرضه الشريعة. لا تتحدّث بما فعلتُه لكَ، إنّما كُن فقط صالحاً ولا تَعُد تخطئ. أبارككَ.»
«آه! يا سيدي! هابيل! لقد شُفيتُ تماماً!» ويصرخ صموئيل مِن الفَرَح لرؤيته التَّحول الحاصل لصديقه.
«نعم، إنه معافى، إيمانه جَعَلَه مُستحِقاً لذلك. وداعاً. السلام لكَ.»
«يا معلّم! يا معلّم! يا معلّم! لن أفارقكَ، لن أستطيع الابتعاد عنكَ.»
«افعَل الآن ما تفرضه الشريعة. بعدئذ سوف نلتقي مرّة أخرى. للمرّة الثانية فلتحلّ عليكَ بركتي.»
يبتعد يسوع وهو يشير لصموئيل بأن يبقى. ويبكي الصديقان مِن السرور، بينما يعودان تحت تألُّق رُبع القمر إلى الكهف ليَقِفا للمرّة الأخيرة أمام ذاك الجِّحر الخَرِب.
إنّها نهاية الرؤيا.