ج7 - ف235
أَنَا هُوَ
ماريا فالتورتا
L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO
THE GOSPEL AS REVEALED TO ME
بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}
L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ
MARIA VALTORTA
الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.
الجزء السابع / القسم الثاني
235- (يسوع يذهب إلى مغارة الميلاد لينفرد)
14 / 12 / 1946
يسوع خلف الهيكل، عند باب القطعان، خارج المدينة. يحيط به الرُّسُل والتلاميذ الرّعاة ما عدا لاوي، مذعورين وحتّى غاضبين. لا أرى أيّاً مِن التلاميذ الآخرين الّذين كانوا معه قبلاً في الهيكل. إنّهم يتحاورون فيما بينهم. بالأحرى يمكنني القول يتجادلون فيما بينهم ومع يسوع، ومع يهوذا الاسخريوطيّ على وجه الخصوص. إنّهم يلومون هذا الأخير على غضب اليهود، ويفعلون ذلك بسخرية لاذعة إلى حدّ ما. يهوذا يدعهم يتكلّمون مُردّداً: «لقد تحدّثتُ إلى فرّيسيّين، كَتَبَة وكَهَنَة، ولم يكن أحد منهم بين الناس.»
إنّهم يلومون يسوع لعدم إنهائه الجدال بعدما أوقفه للمرّة الأولى. ويسوع يجيب: «كان عليَّ استكمال الإعلان عن نفسي.»
إنّهم مختلفون أيضاً حول المكان الّذي ينبغي الذهاب إليه، الآن حيث السبت قريب، والأيّام هي أيّام عيد. سمعان بطرس يقترح يوسف االذي مِن الرّامة، حيث أنّ بيت عنيا ليست مكاناً ينبغي التسبّب بالإزعاج فيه، وعلى الأخصّ بعدما صرّح يسوع بأنّه لا ينبغي الذهاب بعد إلى بيت عنيا.
توما يجيب «يوسف ليس في بيته، ولا نيقوديموس. لقد رحلا لأجل العيد. لقد حيّيتُهما البارحة عندما كنّا ننتظر يهوذا وقد قالا لي ذلك.»
«إلى عند نيقي إذن.» يقترح متّى.
«هي في أريحا لأجل العيد.» يجيب فيلبّس.
«إلى عند يوسف سيفوريس.» يقول يعقوب بن حلفى.
«همم! يوسف… لن نقدّم له هدية! لقد عانى مشاكل و… نعم، أقول ذلك! إنّه يجلّ المعلّم، إنّما يريد أن يكون في سلام. فهو يشبه قارباً عالقاً بين تيّارين متعارضين… وكيما يكون عائماً على الدوام… فإنّه يقيم حساباً لكلّ الأثقال، حتّى الصغير مارسيال… إلى درجة أنّه بدا له جميلاً جدّاً أنّه عهد به إلى يوسف الذي مِن الرّامة.» يقول بطرس.
«آه! ألهذا كان معه بالأمس؟!» يهتف أندراوس.
«بالتأكيد! لذلك مِن الأفضل تركه ساكناً في مرفأ آمن… إيه! نحن لسنا بغاية الشجاعة! والسنهدرين يخيف الجميع!» يقول أيضاً بطرس.
«تحدّث عن نفسكَ أرجوك. فأنا لا أخاف أحداً.» يقول الاسخريوطيّ.
«ولا أنا. فأنا أتحدّى كلّ الجيوش للدفاع عن المعلّم. إنّما نحن مَن نحن… الآخرون… إيه! عندهم أشغالهم، منازلهم، زوجاتهم، بناتهم… إنّهم يفكّرون بتلك الأمور.»
«نحن أيضاً عندنا كلّ هذا.» يلاحظ برتلماوس.
«لكنّنا الرُّسُل و...»
«وأنتم مشابهون للآخرين. لا تنتقدوا أحداً، لأنّ الاختبار لم يحلّ بعد.» يقول يسوع.
«لم يحلّ بعد؟ وما الّذي تريد أن نكابد أكثر بعد ممّا كابدناه؟ ومع ذلك فقد رأيتَ اليوم كيف دافعتُ عنكَ! كلّنا دافعنا عنكَ. إنّما أنا أكثر مِن الجميع! لقد أفسحتُ المجال ببضعة دفعات كانت لتقلب قارباً… لديّ فكرة! لنذهب إلى نوبة. سيكون العجوز مسروراً!»
«نعم. نعم. إلى نوبة.» يوافق الجميع.
«يوحنّا غير موجود. لسوف تقطعون كلّ المسافة دون جدوى. إلى نوبة يمكنكم الذهاب، إنّما ليس إلى بيت يوحنّا.»
«يمكنكم! وأنتَ ألا يمكنكَ؟»
«لا أريد يا سمعان بن يونا. لديَّ بالفعل مكان أذهب إليه لأمسيات عيد الأنوار هذه. إنما، في غيابي، يمكنكم أن تكونوا مرتاحي البال في أيّ مكان. لذلك أقول لكم: اذهبوا حيثما تشاؤون. أبارككم. وأذكّركم بالبقاء متّحدين بالجسد والروح، خاضعين لبطرس رئيسكم، إنّما ليس بصفته رئيساً، إنّما كأخ بِكر. سوف نفترق حالما يكون لاوي قد عاد مع حاجياتي.»
«هذا لا يا ربّي! أن أترككَ تذهب وحدكَ، هذا لن يكون أبداً!» يهتف بطرس.
«سيكون دوماً إذا ما أنا شئتُ ذلك يا سمعان بن يونا. إنّما لا تخف. لن أبقى في المدينة. ولا أحد، إلاّ إذا كان ملاكاً أو شيطاناً، سيكتشف ملاذي.»
«حسناً. فهناك شياطين كثيرة تكرهكَ. وأنا أقول لكَ بأنّكَ لن تذهب وحدكَ!»
«وهناك أيضاً ملائكة يا سمعان. وأنا سأذهب.»
«إنّما إلى أين؟ إنّما إلى أيّ منزل، بما أنّكَ رفضتَ أفضلها، بإرادتكَ أو بسبب الظروف؟! إنّكَ حتماً لن تودّ المكوث في هذا الفصل في مغارة ما على الجبال؟»
«وإن كان الأمر كذلك؟ سيكون دوماً أقل تجمّداً مِن قلوب البشر الّذين لا يحبّونني.» يقول يسوع كما لو أنّه يكلّم نفسه، خافضاً رأسه كي يخفي دمعة تلمع في عينيه.
«ها هو لاوي. إنّه يأتي على عجل.» يقول أندراوس، الّذي ينظر مِن جانب الطريق.
«فإذن لنتبادل السلام ونفترق. إذا ما أردتم الذهاب إلى نوبة، فبالكاد لديكم الوقت قبل المغيب.»
لاوي يصل لاهثاً تماماً: «إنّهم يبحثون عنكَ في كلّ مكان يا معلّم… لقد قال لي ذلك مَن يحبّونكَ… لقد قصدوا منازل كثيرة، خصوصاً تلك الّتي لأناس فقراء...»
«هل رأوكَ؟» يَسأَل يعقوب بن زَبْدي.
«بالتأكيد. وحتّى أنّهم أوقفوني. لكن أنا، الّذي كنتُ أعلم بالفعل، قد قلتُ: "إنّني ذاهب إلى جبعون"، وقد خرجتُ عبر باب دمشق وركضتُ وراء الأسوار… لم أكذب يا ربّ، فأنا وهؤلاء نذهب إلى جبعون ما بعد السبت. هذه الليلة سنبقى في أرياف مدينة داود… إنّها أيّام ذكرى بالنسبة لنا...» وينظر إلى يسوع بابتسامة ملائكيّة على وجهه الرجوليّ والملتحي، ابتسامة توقظ في قَسَماته طفل الليلة البعيدة.
«حسناً. أنتم امضوا. وأنتم كذلك. وأنا أيضاً سأذهب. كلّ في طريقه. سوف تتقدّمونني إلى بلدة سليمان حيث سأكون هناك بعد بضعة أيّام. وقبل أن أفارقكم أكرّر لكم الكلام الّذي قلتُه لكم قبل أن أرسلكم اثنين اثنين عبر المدن: "امضوا، بشّروا، أعلنوا بأنّ ملكوت السماوات قريب جدّاً. أُشفوا المرضى، طهّروا البرص، أقيموا موتى الروح والجسد، فارضين باسمي قيامة الروح، البحث عنّي أنا الحياة، أو القيامة مِن الموت. ولا يُصِبْكم الكبرياء بسبب ما تعملون. تجنّبوا الخصام فيما بينكم ومع مَن لا يحبّنا. لا تطلبوا شيئاً لقاء ما تفعلون. اذهبوا بالأحرى وسط نعاج بيت إسرائيل الضالّة، أكثر منه الذهاب وسط الوثنيّين والسامريّين، وهذا ليس بدافع اشمئزاز، إنّما لأنّكم لستم مؤهّلين بعد لهدايتهم. أعطوا ما معكم دون أن تقلقوا بشأن الغد. افعلوا كلّ ما رأيتموني أفعله، وبروح شبيه بروحي. هاكم، إنّني أعطيكم السلطان لأن تعملوا ما أعمل، وما أريدكم أن تعملوه كي يكون الله مُمجَّداً".» ينفخ عليهم، يعانقهم واحداً فواحداً ويصرفهم.
يمضي الجميع على مضض. ملتفتين إلى الوراء عدّة مرّات. هو يحيّيهم بيده إلى أن يراهم قد رحلوا كلّهم، ثمّ ينزل إلى مجرى القدرون، وسط الأدغال، ويجلس على صخرة عند الضفة حيث الماء يقرقر. يشرب مِن هذا الماء الصافي والبارد بالتأكيد. يغسل وجهه، يديه، رجليه. يعاود ارتداء ملابسه ويعود للجلوس. إنّه يفكّر… ولا ينتبه لما يحدث حوله. بالفعل فإنّ الرسول يوحنّا، الّذي كان قد ابتعد مع رفاقه، يعود أدراجه لوحده، ويقتدي به، مختبئاً في دغل كثيف…
يسوع يبقى هناك لبعض الوقت، ثمّ ينهض، يضع كيسه على كتفه، ومحاذياً القدرون، وسط الأدغال، يصل إلى بئر عين روجيل، ومِن ثمّ يتّجه نحو الجنوب الغربي ليسلك طريق بيت لحم. ويوحنّا، على بُعد حوالي مائة متر إلى الوراء، يتبعه ملتحفاً تماماً بردائه كي لا يتمّ التعرّف إليه.
يمضيان دون توقّف على الطرق الّتي عرّاها الشتاء. يسوع، بخطواته الطويلة، يلتهم الطريق. يوحنّا يتبعه بمشقّة، لأنّه يجب أن يحرص لئلّا يُكتَشَف. يسوع يتوقّف لمرّتين ويلتفت. الأولى لدى مروره قرب التلّة الصغيرة حيث ذهب يهوذا ليتحدّث مع قيافا ورفاقه، الثانية عند بئر حيث جلس وقضم القليل مِن الخبز ومِن ثمّ شرب مِن جرّة أحدهم. ثمّ يستأنف المسير فيما الشمس تهبط، تهبط، وتهبط… ويحلّ المغيب. يصل إلى قبر راحيل عندما يتلاشى الاحمرار الأخير للغروب بمسحة بنفسجيّة. إنّ السماء إلى جهة الغرب تبدو كما عريشة مُزهِرة لنبتة الوِسْتارية (الغِليسين)، فيما إلى الشرق تتلوّن بالكوبالت النقيّ لسماء شرقيّة شتائيّة باردة، وقد أصبحت أولى الأنوار النجميّة تتبدّى عند أقصى حدود السماء.
يسوع يسرع كي يصل إلى وجهته قبل أن تحلّ الظلمة. وما أن يصل إلى مكان مرتفع، حيث يمكن رؤية بيت لحم بأكملها، حتّى يتوقّف، ينظر، يتنهّد… ثمّ يهرع نزولاً. هو لا يدخل إلى المدينة. إنّه يلتفّ حول منازلها الأخيرة. يمضي مباشرةً صوب أنقاض بيت أو برج داود، إلى حيث وُلِدَ. يجتاز الجدول الّذي يجري قرب المغارة، يطأ الفسحة الصغيرة المغطّاة بأوراق يابسة… يلقي نظرة إلى الداخل. المكان فارغ. يدخل…
ويوحنّا يتوقّف إلى أبعد قليلاً. محترساً لئلّا يُرى أو يُسمع. يبحث، ينظر. وبالتلمّس أكثر منه بالبصر يجد زريبة أخرى مِن الزرائب الـمُتداعية. يدخلها بدوره ويضيء في زاوية. هناك بعض القشّ، مِهاد وسخ، بعض الأغصان، تبن في الـمَعلَف.
يوحنّا مسرور. إنّه يناجي نفسه: «أقلّه… سوف أسمع… و… إمّا أن نموت معاً أو أن أنقذه.» ثمّ يتنهّد ويقول: «وقد وُلِد هكذا! ويأتي هنا ليبكي ألمه… و… آه! أيّها الله الأزليّ! خلّص مسيحك! إنّ قلبي يرتجف، يا أيّها الله العليّ، فإنّه ينعزل دوماً قبل الأعمال العظيمة… وأيّة صنيعة عظيمة يمكن أن يَعمل، إن لم تكن تجلّيه كما الـمَلِك-المسيّا؟ آه! إنّ كلّ كلامه بداخلي… أنا فتىً ساذج وقليل الإدراك… الجميع قليل هو إدراكهم، يا أبانا الأزليّ! إنّما أنا خائف. يتملّكني خوف! لأنّه يتحدّث عن موت. وعن موت أليم، وعن خيانة وأمور رهيبة… إنّني خائف! خائف، يا إلهي! قَوِّ قلبي أيّها الربّ الأزليّ. قَوِّ قلبي الّذي لفتىً مسكين كما بالتأكيد تقوّي قلب ابنكَ للأحداث الآتية… آه! إنّني أشعر بذلك! هو قد أتى إلى هنا لأجل هذا، لأجل أن يسمعكَ أكثر مِن أيّ وقت ويتقوّى بمحبّتكَ. أنا أقتدي به أيا أيّها الآب كلّيّ القداسة! أَحِبَّني واجعل أن أحبّكَ أنا كي أحظى بالقوّة لمعاناة كلّ شيء دونما جُبن، كيما أشدّد مِن عزيمة ابنكَ.»
يوحنّا يصلّي مطوّلاً، منتصباً وذراعاه مرفوعتان، في الضوء المرتجف لغصنين قد أشعلهما فوق الموقد البدائيّ. إنّه يصلّي حتّى يرى أنّ النار على وشك أن تنطفئ. ثمّ يصعد إلى المعلف العريض ويقرفص في التبن. لم يعد سوى عتمة في العتمة، مُلتفّاً كما هو بردائه الداكن، والمغارة كما هي تلفّها الظلمة. إلى أن يتسلّل أوّل شعاع قمر مِن الفتحة المواجهة للشرق، ليقول إنّ الليل في أَوْجه. لكنّ يوحنّا، المتعب، قد نام. إنّ تنفّسه، وقرقرة مياه الجدول الخفيفة همّا الصوتان الوحيدان في هذه الليلة مِن كانون الأوّل [ديسمبر].
في الأعلى هي السماء، عليها تتموّج سُحُب خفيفة كأنّها أشرعة يصدمها القمر، تبدو بمجملها مثل تطواف أجناد ملائكيّة… ومع ذلك لا إنشاد ملائكي. مِن حين لآخر تتردّد بين الخرائب تَشَكّيات الطيور الليليّة: "هوو! هوو! هوو!" وأحياناً تنتهي بنوع مِن ضحكة الساحرة الخاصّة بالبوم، ومِن البعيد يصل نواح كما النعيب. أهو كلب محبوس في حظيرة ما وينبح للقمر، أم ذئب تحمل إليه الريح رائحة فريسة، ويضرب جنبيه بذيله، ويعوي اشتهاءً حيث لا يجرؤ على الاقتراب مِن الحظائر المحروسة جيّداً؟ لا أدري.
ثمّ ها هي أصوات ووقع أقدام ونور محمرّ يرتجف بين الخرائب. وها هم، الواحد وراء الآخر، التلاميذ الرّعاة: متّياس، يوحنّا، لاوي، يوسف، دانيال، بنيامين، إيلي، سمعان. متّياس يمسك بغصن مشتعل مرفوعاً عالياً كي يرى الطريق. إنّما مَن يهرع في المقدّمة هو لاوي، ويُدخِل رأسه أوّلاً داخل مغارة يسوع. وفوراً يرجع إلى الوراء ويشير بالتوقّف والصمت، وينظر ثانيةً… ومِن ثمّ، بيده اليمنى الممدودة إلى الخلف، يشير للآخرين بالمجيء ويبتعد، واضعاً إصبعه على شفتيه ليشير بالتزام الصمت، ليفسح المجال للآخرين، الّذين ينظرون الواحد بعد الآخر، وينسحبون متأثّرين مثل لاوي.
«ماذا نفعل؟» يقول إيلي همساً.
«نلبث هنا نتأمّله.» يقول يوسف.
«لا. ليس مسموحاً لأحد انتهاك الأسرار الروحيّة للنفوس. لنتراجع قليلاً.» يقول متّياس.
«معكَ حقّ. لندخل إلى الإسطبل الملاصق. فنبقى هنا، وقربه.» يقول لاوي.
«هيّا بنا.» يقولون. إنّما قبل أن يبتعدوا يختلسون النظر مرّة أخرى إلى داخل مغارة الميلاد، ثمّ ينسحبون، متأثّرين، ساعين إلى عدم إحداث ضوضاء.
ولكنّهم حين يبلغون عتبة الإسطبل الملاصق يَسمعون شخير يوحنّا.
«يوجد أحد ما.» يقول متّياس متوقّفاً.
«وماذا سيحدث؟ لندخل نحن أيضاً. فكما لجأ إلى هنا متسوّل ما، لأنّه حتماً أحد المتسوّلين، فكذلك يمكننا نحن اللجوء إلى هنا.» يردّ بنيامين.
يدخلون ممسكين بالغصن المشتعل مرفوعاً عالياً. يوحنّا، المتكوّر تماماً فوق سريره الـمُرتَـجَل وغير المريح، بوجهه المحجوب بشعره وردائه، يتابع النوم. يقتربون على مهل بغية الجلوس على التبن المتناثر قرب الـمَعلَف. وفيما يفعلون ذلك يلقي دانيال نظرة متفحّصة أكثر على النائم ويتعرّف إليه. يقول: «إنّه رسول الربّ. يوحنّا بن زَبْدي. لقد عمدا للّجوء إلى هنا ليصلّيا… والنعاس غلب الرسول. لننسحب. قد يشعر بالإذلال لمعرفته أنّه اكتُشِف نائماً بدلاً مِن أن يصلّي...»
يعاودون الخروج، ويدخلون على مضض إلى الملاذ الّذي يلي ذاك. لا بل إنّ سمعان يتذمّر مِن ذلك: «لماذا لا نبقى عند عتبة مغارته، ننظر إليه مِن حين لآخر؟ لقد لبثنا لأعوام كثيرة تحت الندى وتحت ضوء النجوم كي نسهر على الحِملان! ولا نفعل ذلك لحَمَل الله؟ لدينا كلّ الحقّ بذلك، نحن الّذين عبدناه منذ أوّل نوم له!»
«إنّكَ على حقّ كإنسان وكعابد للإنسان-الله. إنّما ماذا رأيتَ وأنتَ تنظر إلى الداخل؟ أربّما الإنسان؟ لا. فنحن، مِن دون أن نعرف ذلك، قد اجتزنا العتبة الـمُتعذَّر عبورها، بعدما أزحنا الحجاب الثلاثيّ الممدود لحماية السرّ، وقد رأينا ما لم يره الكاهن الأعظم بذاته وهو يدخل قدس الأقداس. لقد رأينا محبّة الله فائقة الوصف والله. وغير مسموح لنا بمراقبتهما بعد. فقُدرة الله قد تعاقب حدقاتنا الجريئة الّتي رأت نشوة ابن الله. آه! لنكن مسرورين بما حظينا به! لقد أردنا المجيء إلى هنا لقضاء الليل في الصلاة قبل أن نبتعد لأجل مهمّتنا. لنصلّي ونتذكّر الليلة البعيدة… وبدلاً مِن ذلك فقد تأمّلنا محبّة الله! آه! لقد أحبّنا الأزليّ كثيراً بحقّ، إذ منحنا غبطة تأمّل المولود، وغبطة التألّم لأجله، وغبطة الإعلان عنه للعالم أجمع كما تلاميذ للمولود-الله، وللإنسان-الله! والآن قد مَنَحَنا هذا السرّ أيضاً… لنبارك العليّ ولا نرغبنّ أكثر!» يقول متّياس، ولديَّ انطباع بأنّه الأكثر سُلطة بين الرّعاة نظراً لحكمته وبرّه.
«معكَ حقّ. إنّ الله قد أحبّنا كثيراً. يجب ألاّ نطالب بالمزيد. إنّ صموئيل، يوسف ومتّياس لم يحظوا سوى بفرح عبادة المولود والتألّم لأجله. ويونا قد مات دون التمكّن مِن اتّباعه. وإسحاق بالذات ليس هنا كي يرى ما رأيناه. وإن كان هناك مَن يستحقّ ذلك، فهو إسحاق الّذي أفنى نفسه في الإعلان عنه.» يقول يوحنّا.
«هذا صحيح! هذا صحيح! كم كان ليسعد إسحاق لرؤية هذا! لكنّنا سنخبره.» يقول دانيال.
«نعم. لنحفظ كلّ شيء في قلوبنا كي نقوله له.» يقول إيلي.
«وللتلاميذ والمؤمنين الآخرين!» يهتف بنيامين.
«لا. ليس للآخرين. وليس بدافع الأنانيّة، إنّما بدافع الاحتراس والاحترام للسرّ. وإذا ما شاء الله، فسوف تأتي الساعة الّتي سنتمكّن فيها مِن قول ذلك. علينا للآن أن نُحسِن الصمت.» يقول أيضاً متّياس، ومخاطباً سمعان: «أنتَ كنتَ مثلي تلميذاً ليوحنّا. تذكّر كيف كان يعلّمنا توخّي الاحتراس بشأن الأمور المقدّسة: "إذا ما الله يوماً، كما أغدق عليكم إحساناته، يغدق عليكم بعد بعطايا فائقة الطبيعة، فلا يجعلكم هذا مثل الثرثارين المخمورين. تذكّروا أنّ الله يتجلّى للأرواح، الكامنة في الجسد لأنّها جواهر سماويّة ويجب ألاّ تتعرض لرجاسات العالم. كونوا قدّيسين في أعضائكم وحواسّكم كيما تُحسِنوا كبح كلّ نزوة جسديّة. في عينيكم كما في أذنيكم، في لسانكم كما في يديكم. وقدّيسين في فِكركم، لتُحسِنوا كبح كبرياء البَوح بما تملكون. لأنّ الحواسّ والأعضاء والفِكر ينبغي أن تَخدم لا أن تَسود. أن تخدم الروح لا أن تَسود على الروح. فينبغي لها أن تحمي الروح لا أن تُشوّشه. وبالتالي، فعلى أسرار الله الّتي هي فيكم، باستثناء أمر صريح منه، ضعوا ختم احتراسكم، كما أنّ للروح ختم سجنه المؤقّت في الجسد. إنّ الجسد والفِكر سيكونان عديمي الجدوى تماماً، شرّيرين وخطرين، إذا لم يعملا على منح استحقاق بالمشقّة الّتي نجعلهما يكابدانها ردّاً على الإغراءات الّتي يثيرانها فينا، وإذا لم يفيدا في أن يكونا بمثابة هيكل للمذبح الّذي يطوف فوقه مجد الله: روحنا". أتذكران ذلك؟ أنتَ يا يوحنّا، وأنتَ يا سمعان؟ إنّني آمل بأن نعم، لأنّكما إن كنتما لا تتذكّران كلام معلّمنا الأوّل، فسيكون قد مات بحقّ بالنسبة إليكما. إنّ معلّماً يَحيا بقدر ما تَحيا عقيدته في تلاميذه. وحتّى إن استُبدِل فيما بعد بمعلّم أعظم، الّذي هو بالنسبة لتلاميذ يسوع معلّم المعلّمين، فغير مسموح أبداً نسيان كلام الأوّل، الّذي أَعَدَّنا كي نفهم ونحبّ بحكمة حَمَل الله.»
«هذا صحيح. إنّكَ تتكلّم بحكمة. سوف نطيعكَ.»
«إنّما كم هي باعثة على الألم، شاقّة، مقاومة رؤيته مرّة أخرى بعد ونحن بهذا القرب منه! هل سيكون بعد كما كان؟» يَسأَل سمعان.
«مَن يدري؟ كم كان وجهه يسطع!»
«أكثر مِن القمر في ليلة صافية!»
«كانت ترتسم على فمه ابتسامة إلهيّة...»
«ومِن مُقلتيه كانت تنبثق دمعة إلهيّة...»
«لم يكن يتكلّم. إنّما كلّ شيء فيه كان صلاة.»
«ماذا يكون قد رأى؟»
«الأزليّ أباه. أتشكّ بذلك؟ وحدها تلك الرؤية يمكنها أن تمنح هذا المظهر. إنّما ما الّذي أقوله؟ بل أكثر مِن أن يراه، لقد كان معه، فيه! الكلمة مع الفِكر! وكانا يتحابّان!... آه!...» يقول لاوي الّذي يبدو أنّه في نشوة هو كذلك.
«تحديداً لأجل ذلك كنتُ أقول بأنّه مِن غير المسموح لنا البقاء هنا. ضعوا في اعتباركم أنّه لم يشأ حتّى أن يكون رسوله معه...»
«هذا صحيح! يا للمعلّم القدّوس! إنّه بحاجة لذلك، بأكثر ممّا تحتاج أرض جافّة للماء، أن تغمره محبّة الله! فهناك مِن حوله الكثير جدّاً مِن الكراهية!...»
«إنّما كذلك عظيمة هي المحبّة. إنّني أودّ… نعم، أَفعَل ذلك! والعليّ حاضر هنا. إنّني أقدّم ذاتي، وأقول: "أيّها الربّ الإله العليّ، إله وأبو شعبكَ، الّذي تقبل القلوب والمذابح وتكرّسها، وتضحّي بالضحايا الـمَرْضيّة لديكَ، لتنزل مشيئتكَ مثل نار وتستنفذني كضحيّة مع المسيح، مثل المسيح وبالمسيح، ابنكَ ومسيحك، إلهي ومعلّمي. إنّني أتضرّع إليكَ. استجب صلاتي". ومتّياس، الّذي صلّى واقفاً ورافعاً ذراعيه، يعاود الجلوس على كومة الأغصان حيث يجلسون.
يحجم القمر عن إنارة المغارة لأنّه يتّجه صوب الغرب. إنّه لا يزال ينير الريف، إنّما لم يعد هنا في الداخل، وهكذا تختفي الوجوه والأشياء في عتمة واحدة. كذلك الكلام يغدو أكثر ندرة، والأصوات تخفت أكثر، إلى أن يغلب النعاس الإرادة الطيّبة، ولا يعود هناك سوى كلام متقطّع، وأحياناً دون إجابة… البرد، الّذي يصبح قارصاً عند الفجر، يغدو مُنشِّطاً ضدّ النوم، ويعاودون النهوض، يُشعِلون أغصاناً، يُدفّئون أطرافهم المخدّرة…
«كيف سيفعل هو، الّذي حتماً لا يفكّر بالنار؟ يقول لاوي الّذي تكاد تصطكّ أسنانه.»
«وهل سيحظى بطعام على الأقلّ؟» يَسأَل إيلي، ويضيف: «الآن لم يعد لدينا سوى محبّتنا وبعض مِن الطعام البائس… واليوم هو السبت...»
«أتعلم؟ نضع كلّ طعامنا عند عتبة المغارة، ومِن ثمّ نمضي. نحن يمكننا أن نجد دوماً الخبز قبل المساء، عند راحيل أو عند إليشيا. وسنكون بمثابة العناية للعناية الإلهيّة، العناية لابن مَن يدبّر كلّ أمورنا.» يقترح يوسف.
«نعم. نعم. لنشعل ناراً قوّية كي نرى جيّداً ونتدفّأ جيّداً، ومِن ثمّ نحمل كلّ شيء إلى هناك، ونبتعد قبل أن يخرج عند الفجر ويرانا هو أو الرسول.»
وفي وميض النار المتّقدة يفتحون أكياسهم ويُخرِجون خبزاً، أجباناً جافّة، بعض التفاح. ثمّ يحملون بعض الخشب ويخرجون باحتراس، فيما ينير لهم متّياس بغصن مأخوذ مِن النار. يضعون كلّ شيء تماماً عند مدخل المغارة، الخشب على الأرض، وفوقه الخبز والأطعمة الأخرى. ثمّ ينسحبون، معاودين اجتياز السيل، الواحد وراء الآخر، ويرحلون في أوّل انبلاج صامت للفجر، يخرقه فجأة صياح ديك.