ج3 - ف26
أَنَا هُوَ
ماريا فالتورتا
L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO
THE GOSPEL AS REVEALED TO ME
بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}
L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ
MARIA VALTORTA
الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.
الجزء الثالث / القسم الأول
26- (العِظة الأولى لسمعان الغيور ويوحنّا)
18 / 05 / 1945
بينما يَنـزِل يسوع المنحدر، في منتصفه، يَجِد عدداً كبيراً مِن التلاميذ، وأناساً آخرين كثيرين انضمّوا إلى التلاميذ بكلّ هدوء، قادِمين إلى هنا، في هذا المكان الـمُنعَزِل، طَلَباً للمعجزة، ورغبة في الاستماع إلى يسوع يتحدّث. لقد أتوا وكلّهم ثِقة، حسب دلالات الناس، أو حسب مَيل روحيّ. أظنُّ الملائكة الحارِسِين هُم الذين جَلَبوا لابن الله أناساً لهم رغبة في الله. ولستُ أظنُّ ذلك مِن نَسج الخيال. إذ لو فَكَّرنا بالمثابرة الماكرة والسريعة التي بها يَجلب الشيطان أعداء لله ولكلمته في الأوقات التي يتمكّن روح الشيطان الإيحاء للناس وإظهار المسيح لهم بمظهر الخاطئ، فالتفكير مسموح، بل أكثر مِن مسموح، لا بل عدل هو التفكير بأنّ الملائكة لم تكن أقلّ أو أدنى مِن الشياطين، وقد جَلَبَت للمسيح الأرواح التي أَفلَتَت مِن قبضة الشيطان.
ويسوع، بِدَوره، لكلّ هؤلاء الناس الذين انتَظَروه دون كَلَل ودون خوف، يُجزِل المعونات بالمعجزات والكلام. كَم مِن المعجزات! إنّها إيراق شبيه بذاك الذي يُجَمِّل مُنحَدَرات الجبل: معجزات باهرة مثل تلك التي أُجريَت على طفل انتُزِعَ مِن كومة مِن القشّ الـمُلتَهِب، وقد احتَرَقَ بشكل فظيع. جُلِبَ محمولاً على نقالة، وهو كَومة مِن لحم محروق، يئنّ بشكل يثير الشفقة تحت أقمشة غُطِّي بها لشدّة فظاعة مَنظَر الحروق. أَوشَكَ على أن يموت. وقد شَفاه يسوع بأن نَفَخَ عليه فأزالَ آثار الحروق نهائيّاً. يَنهَض الطفل عارياً تماماً ويركض سعيداً إلى أُمّه التي تلاطفه وهي تبكي مِن الفَرَح لدى رؤيتها جسده وقد شُفِي تماماً، دون أيّ أثر للنار؛ تُقَبِّل العينين اللتين كانت تظنّ أنّهما قد احتَرَقَتا، بينما هما الآن، على العكس، تلمعان وتُومِضان فَرَحاً؛ والشعر قصير كما لو أنّ النار قد قَصَّته دون تخريبه. وهناك المعجزة الصغيرة لذاك العجوز غريب الأطوار الذي يقول: "ليس مِن أجلي، ولكن عليَّ أن أكون الأب لأولئك الأيتام الصغار، ولا يمكنني العمل في الأرض مع هذه النوبات في الحنجرة التي تخنقني»…
ثمّ المعجزة غير المرئيّة، إنّما الأكيدة، التي تُثيرها كلمات يسوع: «بينكم مَن يبكي على نفسه ولا يجرؤ على القول: "ارحمني!" وأنا أُجيب: "ليكن كما تَطلُب. كلّ الرحمة، لكي تَعلَم أنّني أنا الرحمة". وفقط أنا بدوري أقول لكَ: "كُن كريماً". كُن كريماً مع الله. اقطع كلّ علاقة لكَ بالماضي. أمّا الله فإنّكَ تَشعُر به، وإليه، إلى الذي تَشعُر به، تعال إذن بقلب مُتحرِّر، وبحبّ كامل.» ومَن الذي يتوجّه إليه أو إليها يسوع بهذه الكلمات، لستُ أدري.
يقول يسوع أيضاً: «هؤلاء هُم رُسُلي. إنّهم مُعادِلون للمسيح، إذ إنّني اخترتُهم ليَكونوا كذلك. اقصدوهم بثقة. لقد تَعَلَّموا منّي كلّ ما أنتم في حاجة إليه مِن أجل نفوسكم...»
يَنظُر الرُّسُل إلى يسوع، مُتأثِّرين للغاية. أمّا هو فيبتسم ويُتابِع: «وسوف يَمنَحون نفوسكم نور نجمة، وانتعاش الندى بشكل يمنع عنكم التَّخَبط عَبَثاً في الظُّلُمات. ثمّ سآتي أنا بعد ذلك لأمنحكم مِلء الشمس وفَيضاً منها، والحكمة لتجعلكم أقوياء وسعداء، قوّة وسعادة فائقتي الطبيعة. السلام لكم يا أبنائي. ينتظرني آخرون، أكثر تعاسة وأكثر فقراً منكم. إنّما لستُ أترككم وحدكم. إنّني أترك لكم رُسُلي كما لو أنّني أترك أبناء حُبّي بحماية مُربِّيات، الأكثر حناناً والأكثر ائتماناً.»
يقوم يسوع بحركة وداع وبركة، ويَبتَعِد مُختَرِقاً الجمهور الذي لا يريد تركه يذهب، حينئذ تَحدُث المعجزة الأخيرة، تلك التي جَرَت على امرأة عجوز شِبه مشلولة، وقد أتت بصحبة حفيدها وهي تُحرِّك بفرح ذراعها اليمنى التي كانت سابقاً جامدة لا حَراك فيها. وتصرخ: «لقد مَسَّني بمعطفه أثناء مروره فَشُفيتُ! ولم أكن قد طلبتُ منه ذلك لأنّني عجوز... ولكنّه تَرَأَّفَ برغبتي المكتومة. بمعطفه، بهُدب منه مَسَّ ذراعي المريضة. لقد شفاني! آه! يا لِعَظَمَة ابن داود قدّيسنا! المجد لمسيحه! ولكن انظروا! ولكن انظروا! ساقي أيضاً حرّة مثل ذراعي... آه! لقد أَصبَحتُ مثل بنت العشرين!»
يتهافت عدد كبير مِن الناس نحو العجوز التي تُعلِن سعادتها بملء حنجرتها، ممّا يؤدّي إلى تمكُّن يسوع مِن الإفلات دونما إعاقة. ويتبعه الرُّسُل. وعندما يصبحون في مكان قَفر، تقريباً في السهل، وسط غيضة خلنج كثيفة تتّجه صوب البحيرة. يتوقّفون للحظة، كي يقول يسوع: «أبارككم! عودوا إلى عملكم ومارِسوه لحين عودتي، كما قُلتُ.»
بطرس، الصامت دائماً حتّى ذلك الحين، ينفجر: «ولكن، يا سيّدي، ماذا فعلتَ؟ لماذا القول إنَّ لدينا كلّ ما تحتاجه النُّفوس؟ صحيح! لقد مَنَحتَنا الكثير، ولكنّنا مُتصلِّبون، أنا على الأقلّ، و... وما منحتنيه يظلّ بالنسبة إليَّ قليلاً، لأنّ ما بقي لي منه قليل جدّاً. وهذا كَمَن، بعد تناول وجبة، ما زال في معدته الأكثر ثقلاً، أمّا الباقي فلم يعد منه شيء.»
يبتسم يسوع: «إذاً أين باقي الطعام؟»
«ولكن لستُ أدري. جُلّ ما أعرفه هو أنّني لو أكلتُ أطباقاً خفيفة، لا أعود أشعر بوجود أيّ شيء في المعدة بعد ساعة. إنّما لو أكلتُ جذوراً ثقيلة أو عَدَساً بالزيت، هه! فيلزمها الوقت لكي تنـزل!»
«نعم، يلزمها وقت. ولكن ثِق تماماً بأنّ الجذور والعدس التي تبدو لكَ بأنّها أكثر ما تملأ لكَ معدتكَ، هي الأغذية التي تمنحكَ أقلّ قدر مِن العناصر. إنّه امتلاء يمرّ دون كثير استفادة. أمّا الأطباق الصغيرة، على العكس، فهي التي لا تعود تشعر بوجودها خلال ساعة، لأنّها لم تعد في معدتكَ بل في الدم. فالغذاء، عندما يُهضَم، لا يعود في المعدة، بل تُصبِح خُلاصاته في الدم، ويكون هو الأكثر إفادة. والآن يبدو لكم، أنتَ ورفاقكَ، أنّ لا شيء، أو بالحري قدراً قليلاً ممّا قُلتُه لكم بقي في ذاكرتكم. قد تتذكّرون الفصول الأكثر مُلاءَمَة لمزاجكم الخاصّ: بالنسبة للعنيفين فصول العُنف، للمَيَّالين إلى التأمّل الفصول التي تَحمل على التأمّل، للمُحِبّين الفصول التي ليست سوى حبّ، بدون شكّ هو هكذا. إنّما ثِقوا تماماً: إنّكم تملكون كلّ شيء في ذواتكم، حتى لو بدا لكم أنّ كلّ شيء قد تبدَّدَ. لقد تَشَرَّبتموه. وسوف يُفرِغه لكم الفِكر مثل شريط بالألوان، مضيفاً الصبغات اللطيفة الناعمة أو القاسية الصارمة حسب الحاجة. لا تخافوا. فَكِّروا فقط أنّني أَعلَم، وأنّني أبداً ما كنتُ لأرسلكم لو كنتُ أعرف أنّكم غير جديرين بهذا العمل. وداعاً، هيّا يا بطرس، ابتسم! آمن! فِعل إيمان جميل بالحكمة كلّيّة الوجود. وداعاً للجميع. ليبق الربّ معكم.» ويغادرهم مسرعاً بينما هم ما يزالون منذَهِلين ومتأثّرين بكلّ ما سمعوه يقول إنّه يجب عليهم فعله.
«ومع ذلك يجب أن نطيع.» يقول توما.
«هه!... صحيح!... آه! يا لي مِن مسكين! أكاد أشتهي اللحاق به...» يتمتم بطرس.
«لا. لا تفعلها. أن تطيعه يعني أنّكَ تحبّه.» يقول يعقوب بن حلفى.
«وأن نبدأ وهو ما يزال قريباً يمكنه نصحنا إذا ما غلطنا، أمر أساسيّ، بل هو حتّى حَذَر مقدَّس. فينبغي لنا مساعدته.» ينصح الغيور.
«هذا صحيح. بالأحرى إنّ يسوع تَعِب. فيجب التخفيف عنه قليلاً، قدر استطاعتنا. حَمل الحقائب غير كاف، ولا تهيئة الأَسِرَّة والطعام. فيمكن لأيّ كان القيام بذلك. إنّما مساعدته كما يريد هو، في رسالته.» يؤكّد برتلماوس.
«تُجيد القول لأنّكَ عالِم، أمّا أنا... فأكاد أكون جاهلاً...» يئنّ يعقوب بن زَبْدي.
«آه! يا إلهي! ها هم الذين كانوا هناك في الأعلى يَصِلون! كيف سنتصرّف؟» يتساءل أندراوس.
ومتّى: «اعذروني إذا ما كنتُ أنا الأكثر بؤساً أقدِّم لكم النصيحة. أليس مِن الأفضل أن نصلّي للربّ بدل البقاء هنا ننوح على ما لا يمكن حلّه بالنواح؟ هيّا يا يوضاس، باعتباركَ تعرف الكتاب أفضل مِن الجميع، اتل صلاة سليمان باسم الجميع لننال الحكمة. بسرعة قبل أن يَصِلوا إلينا.»
ويبدأ يوضاس تدّاوس بصوته الجميل الجهوريّ: «يا إله آبائنا، يا رب الرحمة والرأفة، الذي خَلَقَ كلّ شيء... ألخ» حتّى: «... بالحكمة خَلِّص كلّ الذين، منذ البدء، حَسنوا لديك.» وفي تلك اللحظة تماماً، يَصِل الناس إليهم، يُحيطون بهم ويَنهالون عليهم بألف سؤال، ليَعلَموا أين ذَهَبَ المعلّم، ومتى سيعود، والسؤال الأصعب: ولكن كيف العمل لاتّباع المعلّم، ليس بالسيقان، بل بالنَّفْس، ولكن مِن خلال الطريق التي يحدّدها هو؟»
عند هذا السؤال يرتَبِك الرُّسُل. ينظرون إلى بعضهم، ويجيب الاسخريوطيّ: «باتّبِاع الكمال.» كما لو كانت تلك هي الإجابة التي يمكنها تفسير كلّ شيء!...
يعقوب بن حلفى، أكثر تَواضُعاً وأكثر وَداعة، يُفكّر ويقول بعدئذ: «الكمال الذي يشير إليه رفيقي يمكن بلوغه مِن خلال الطاعة للشريعة. فالشريعة عدل، والعدل كمال.»
ولكنّ الناس غير راضين، ويسألونه بواسطة أحد الأشخاص، ويبدو أنّه رئيس ما: «ولكنّنا صغار كالأطفال في موضوع الخير. والأطفال لا يعرفون بعد ما هي دلالة الخير والشرّ. إنّهم لا يميّزون بينهما. ونحن، على تلك الطريق التي يحدّدها لنا هو، ما زلنا حديثي العهد، لدرجة أنّنا غير قادرين على التمييز. كان لنا سبيل معروف. والطريق القديمة التي لَقَّنونا إيّاها في المدارس صعبة وطويلة لدرجة أنّها توحي بالخوف! أمّا الآن، وحسب كلامه، فنرى أنّ هناك شيئاً ما يشبه القنطرة، نلاحظها مِن هنا. تحتها، درب الحيوانات والبشر. وفوقها، على الأقواس الخفيفة، تنطلق في الشمس والأفق، جانب الأغصان الأكثر ارتفاعاً، التي تحفّ وتغنّي في الهواء مع صوت العصافير، طريق أخرى ملساء، نظيفة ومُنيرة بقدر ما هي الطريق السفلى وَعِرَة وقَذِرة ومُظلِمة، إنّها طريق للمياه الصافية التي تُرَجِّع الصوت، التي هي البَرَكَة، بالماء الآتي مِن الله، ويداعبها ما يأتي مِن الله: أشعّة الشمس والنجوم، إيراقات جديدة وزهور وأجنحة سنونو. فنودُّ لو نرتقي إلى تلك الطريق الأكثر سموّاً والتي هي طريقه، والتي لا نعرفها لأنّنا مَسحوقون هنا في الأسفل تحت وطأة التربية القديمة. فكيف العمل؟»
الذي تَكَلَّمَ شاب في حوالي الخامسة والعشرين، أسمر، قويّ البنية، ذو نظرة تنمّ عن ذكاء، ومظهره أقلّ عامّية مِن أكثر الناس الموجودين، ويَستَنِد إلى آخر أكثر نضوجاً.
الاسخريوطيّ، بسبب ضخامة حجمه، يراه، فيتمتم لرفاقه: «بسرعة عَبِّروا عن مرادكم وفكركم. إنّه هَرْماس، وهو مع استفانوس الذي يحبّه غَمَالائيل!» أمر ينتهي بأن يُربَك الرُّسُل تماماً.
أخيراً يُجيب الغيور: «لا وجود للقوس إن لم يكن الأساس على الطريق المظلمة. فهي نقطة الارتكاز للقوس الذي ينطَلِق ابتداء منها ليسمو في الأفق الذي هو هدف أمنياتكم. فالحجارة المغروسة في الأرض، والـمُتحمِّلة الثِّقل دونما استمتاع بالأشعّة والطيران، لا تجهل آنئذ أنّ كلّ ذلك موجود، لأنّ سنونو يهبط مِن حين إلى آخر حتّى الوحل، وهو يصيح ويداعب أساس القوس، وشعاع نجم أو شمس ينـزل ليقول كم هي جميلة قبّة السماء الزرقاء. وفي العصور التي وَلَّت، نَزَلَت هكذا كلمة وعد سماويّة بين الحين والحين، شعاع حكمة سماويّ، لملاطفة الحجارة التي كانت تحمل عبء الغضب الإلهيّ. ذلك أنّ الحجارة كانت ضروريّة، فهي ليست ولن تكون غير ذي فائدة. فعليها ارتَفَعَ، وببطء، وعلى مَرّ الزمن كمال المعارف البشريّة حتّى بلوغ حريّة الزمن الراهن وحكمة المعرفة فائقة البشر.
إنّني الآن أقرأ اعتراضكَ: فهو مرسوم على وجهكَ. وهو الذي كان لدينا جميعاً قبل أن نعرف إدراك ماهيّة المذهَب الجديد، البُشرى الحسنة التي بُشِّر بها للذين، عبر تطوُّر تقهقري، لم يُصبِحوا بالغين طالما كانت ترتفع حجارة العِلم، ولكنّهم على الدوام يزيدون انغماساً في الظلمات مثل الجدار الذي ينهار في لُجّة لا نور فيها.
ونحن، لكي نفلت مِن ذلك العَمَه الفائق الطبيعة، ينبغي لنا تخليص الحجر الأساس، وبشجاعة، مِن كلّ الحجارة المتراكمة فوقه. لا تخافوا مِن هدم ذاك الجدار الذي ارتَفَعَ ولكنّه لا يُوصِل النسغ النقي الآتي مِن النبع الأزليّ. عودوا إلى الأساس. ينبغي ألّا يكون متغيِّراً. إنّه مِن الله آتٍ. وهو غير قابل للتبدّل. ولكن قبل إزاحة الحجارة، إذ ليست جميعها سيّئة وغير نافعة، اختَبِروها واحدة فواحدة، على صوت كلمة الله، وإذا لم تجدوها متنافرة فاحتَفِظوا بها، واجعَلوها تُستَخدَم في إعادة البناء. أمّا إذا كانت تُرَجِّع النغمة غير الـمُنسَجِمة للصوت البشريّ، أو النغمة الحادّة للصوت الشيطانيّ، حينئذ حَطِّموها فهي حجارة فاسدة. بالنسبة للاختبار، لا يمكن أن يحصل فيه لبس أو خطأ، ذلك أنّ الصوت، إذا كان مِن الله، فإنّه صوت حبّ، وإذا كان صوتاً بشريّاً، فهو صوت الأحاسيس، أمّا إذا كان صوت الشيطان، فهو صوت البغض والحقد. أقول: حَطِّموا. إذ مِن قبيل المحبّة عدم ترك بذور أو أشياء فاسدة وراءكم، بإمكانها غواية المسافِر وجعله يستخدمها في ما يُلحِق به الضرر. حَطِّموا تماماً كل شيء فاسد في عملكم، في كتاباتكم، وفي تعاليمكم أو في تصرفاتكم. فالأفضل الاستبقاء على مواد قليلة، والارتقاء بها ذراعاً واحداً، إنّما بحجارة صالحة، عن الارتفاع أمتاراً بحجارة فاسدة. إنّ أشعّة الشمس والسنونو تهبط حتّى على الجدران التي على سطح الأرض مباشرة، والزهيرات المتواضعة على المنحدر تتوصّل بسهولة إلى ملاطفة الحجارة المنخفضة، بينما الـمُتكبِّرة التي تصبو إلى الارتفاع، فغير نافعة ووَعِرَة، وليس لها سوى صفعات العليق وعناق النباتات السامة! فاهدموا لكي تعيدوا البناء وترتقوا، مع اختيار نوعيّة حجارتكم القديمة على نغمة صوت الله.»
«إنّكَ تجيد التحدّث أيّها الرجل. ولكن الصعود! كيف؟ وقد قلنا لكَ إنّنا أقلّ مِن أطفال، فمن يجعلنا نتسلّق العامود الصعب؟ سوف نختَبِر الحجارة على نغمة الله، وسوف نحطّم الحجارة الأقلّ صلاحاً، ولكن كيف الصعود؟ فلمجرّد التفكير في ذلك نُصاب بالدوار!» يقول استفانوس.
يوحنّا الذي سَمِعَ وهو حاني الرأس، يبتسم، ويَرفَع وجهاً مُنيراً، ويبدأ بالكلام: «أخوتي! هذا يُسبِّب الدوار، صحيح. ولكن مَن قال إنّ الصعود مباشرة ضروريّ؟ فهذا، ليس فقط الأطفال الصغار، بل البالغون أنفسهم لا يُجيدون فِعله. وحدهم الملائكة يمكنهم الانطلاق في الأفق لأنّهم أحرار مِن كلّ ثِقل مادّيّ. أمّا لدى البشر، فليس سوى أبطال القداسة الذين يتمكّنون مِن فِعل ذلك.
لدينا مثال حيّ، وهو يَعرِف، في هذا العالم المنحطّ، أن يكون بطل قداسة كالأقدمين الذين ترعرعوا في إسرائيل. عندما كان الأحبار أصدقاء الله وكلمة العهد الأزليّ، وقد كانت موجودة بمفردها، إنّما مُطاعَة مِن كلّ إنسان مستقيم، إنّه يوحنّا السابق، وهو يعرف كيف يُحاوِل الصعود مباشرة. إنّ يوحنّا لَرَجل. ولكنّ النعمة التي وَهَبَته إيّاها نار الله بتطهيره، وهو بَعد في بطن أُمّه، كما طَهَّرَ السيرافيم شَفَتيّ النبيّ، ليستطيع أن يسبق مَسيّا دون أن يَدَع نتانة الخطيئة الأصليّة على درب المسيح الملكيّ، فلقد مَنَحَت يوحنّا جناحيّ ملاك، وقد جَعَلَتهُما التوبة ينموان، وفي الوقت ذاته أزالت ثِقل الإنسانيّة الذي اكتَسَبَه مِن طبيعة كونه وُلِدَ مِن امرأة. هاكم لماذا يوحنّا، مِن مغارته حيث يَكْرز بالتوبة، وبجسده حيث يلتهب الروح الذي اقتَرَنَ بالنعمة، يمكنه الانطلاق حتّى قمة القوس حيث فيما بعدها يقيم الله، الرب تعالى إلهنا، وبسيطرته على العصور السابقة، واليوم الحاضر، والمستقبل، يمكنه، بصوته النبويّ، وعينه التي تشبه عين النسر، والتي تستطيع تحديد الشمس الأزليّة، والتعرّف إليها، أن يُعلِن: "هو ذا حَمَل الله الحامل خطايا العالم"، وأن يموت بعد هذا النشيد السامي الذي سيخدم، ليس في هذا الوقت المحدود، ولكن في الزمان اللامحدود، في أورشليم الأزليّة والطوباويّة، للتهليل للشخص (الأقنوم) الثاني، ليُذكِّره بالشقاء البشريّ، ليرتل له هوشعنا في التألّقات الأزليّة.
ولكنّ حَمَل الله، الحَمَل الوديع للغاية، الذي تَرَكَ مسكنه السماويّ الـمُشرِق، حيث هو نار الله في عِناق النار -آه! الوِلادة الأزليّة، مِن الآب الذي يُدرِك بفكره اللامحدود والكامل القداسة كَلِمَته، ويَسحَبه إليه، مؤدّياً إلى انصهار الحبّ الذي يَخلق روح الحبّ حيث مركز السلطان والحكمة!- ولكنّ حَمَل الله الذي تخلّى عن شكله فائق الطُّهر واللاجسدي، لكي يحوي طُهره اللامتناهي وقداسته وطبيعته الإلهيّة في جسد مائت، يَعلَم أنّنا لسنا مُطَهَّرين بالنعمة، أنّنا لسنا كذلك بعد، ويَعلَم أنّنا لن نستطيع أن ننطلق إلى الأعالي، نحو القمّة حيث الله الواحد والثالوث، مثل النسر الذي هو يوحنّا. فإنّنا عصافير دوري صغيرة في السقف أو على الطريق، إنّنا السنونو التي تُلامِس الأفق ولكنّها تتغذّى على الحشرات، إنّنا القُبَّرات التي تريد أن تُقَلِّد الملائكة في غنائها، ولكنّ غناءنا بالنسبة إليها يشبه تهدّج صوت صراصير الصيف غير الـمُنسَجِم. وحَمَل الله الوديع، الآتي ليحمل خطايا العالم، يَعرف ذلك. إذ إنّه لم يعد روح السماوات اللامنتهي، بِتَحَوُّله إلى جسد مائت، ولانهائيّته مع ذلك لم تَنقُص، وهو يَعلَم كلّ شيء، ذلك أنّ حكمته ما تزال لانهائيّة.
وها هو ذا الآن يُعَلِّمنا طريقه، طريق الحبّ. وهو الحبّ الذي لرحمته صار جسداً. ها هو ذا إذاً ذلك الحبّ الرحيم يُوجِد لنا الطريق التي حتّى الصغار يستطيعون تسلّقها، هو أوّل مَن يتسلّقها، ليس لحاجة شخصيّة، بل إنما لكي يُعَلّمنا. فهو ليس في حاجة حتّى لفتح جناحيه كي يذوب في الآب. أُقسِم أنّ روحه هنا على هذه الأرض البائسة، ولكنّه ما يزال مع الآب، فالله قادر على كلّ شيء، وهو الله. ولكنّه يسير أمامنا ويسبقنا تاركاً لنا أريج قداسته، ذَهَبَ ونَارَ حُبِّه. فانظروا إلى طريقه. آه! إنّها حتماً تَصِل إلى قمّة القوس! ولكن كم هي ساكنة وأكيدة! فهي ليست خطّاً مستقيماً، إنّها لَولَب. طريق أَطوَل، وتضحية الحبّ الرحيم تتجلّى في هذا الطول، حيث يَمكث هو حبّاً بنا نحن الضعفاء. الطريق أَطوَل، ولكنّها تُناسِب أكثر شقاءنا وبؤسنا. فالصعود إلى الحبّ، إلى الله، سهل وبسيط، كما الحبّ ذاته سهل وبسيط، ولكنها طريق نحو الأعماق، إذ إنّ الله غَور لا يمكن إدراكه لو لم يكن هو قد تَنازَلَ ليَجعَل إدراكنا مُمكِناً، ليَشعر بقبلات النُّفوس العاشقة له. (يبكي يوحنّا وهو يتكلّم ويبتسم في الوقت نفسه في نشوة كَشْف حقيقة الله) طويلة هي طريق الحبّ البسيطة، إذ إن الغَور الذي هو الله لا قرار له، وعظيمة هي لدرجة أنّ أيّاً كان يمكنه التقدّم فيها قَدر ما يشاء. ولكنّه الغَور الرائع وينادي غَورنا البائس. ينادينا بأنواره ويقول: «تعالوا إليَّ!»
آه! دعوة مِن الله! دعوة مِن الآب! اسمَعوا! اسمَعوا! ظَلَّت السماوات مفتوحة لأنّ المسيح فَتَحَ أبوابها على مصراعيها، وعَمِل على أن تُبقيها هكذا ملائكة الرحمة والمغفرة، لِكَيما، في انتظار سَكْب النعمة على البشر، تتسرّب منها الأنوار على الأقلّ، الأريج، الأناشيد القادرة على إغواء القلوب البشريّة بقداسة، لكي تَصِل إلينا الكلمات المفعمة عذوبة. إنّه صوت الله الذي يتحدّث، والصوت يقول: "طفولتكم؟ إنّها كنـزكم الـمُفضَّل! أودُّ لو تُصبِحون صغاراً تماماً ليكون فيكم التواضع والصدق وحبّ الأطفال الصغار، الحبّ الواثق للأطفال الصغار تجاه أبيهم. عجزكم؟ إنّه مُجْدٍ! آه! تعالوا. فإنّني حتّى لا أطلب منكم اختبار نغمة الحجارة بأنفسكم، صالحة كانت أم سيّئة. ولكن أعطوني إيّاها! أنا أختار وأنتم تعيدون بناء ذواتكم. الارتقاء نحو الكمال؟ آه! لا، يا أولادي الصغار. هنا، اليد في يد ابني، أخيكم، الآن، وهكذا، إلى جانبه ارتقوا..." الارتقاء! القدوم إليكَ أيّها الحُبّ الأزليّ! التشبّه بكَ يعني الحبّ!
الحبّ! هو ذا السرّ!... الحبّ! عطاء الذات... الحبّ! التلاشي... الحبّ! الانصهار... الجسد؟ لا شيء. الألم؟ لا شيء. الزمن؟ لا شيء. فالخطيئة ذاتها تتلاشى إذا ما صَهَرتَها في ناركَ يا الله! حيث لا يوجد سوى الحبّ. الحبّ! الحبّ الذي مَنَحَنا الإله المتجسِّد، يَغفر لنا كلّ شيء. والحبّ هو الفعل الذي لا يمكن لأحد أن يجيده سوى الصغار جدّاً. ولا أحد محبوب أكثر مِن الصغير جدّاً.
أنتَ يا مَن لا أعرفكَ، إنّما يا مَن يريد أن يعرف الخير، ليميّزه عن الشرّ، ليملك الأفق والشمس الأزليّة وكلّ ما هو فرح فائق الطبيعة، أَحبِب وسوف تنال هذا كلّه. أَحِبَّ المسيح. وستموت عن حياتكَ الدنيا ولكنّكَ سوف تُبعَث بروحكَ. بروح جديد دون الحاجة لاستخدام الحجارة، ستكون وللأبد ناراً لا تموت. الشعلة تتصاعد. فلا حاجة لها للسلّم ولا للأجنحة للصعود. حَرِّر الأنا فيكَ مِن كلّ بِناء، اجعل الحبّ داخلكَ وستصبح شعلة. دع ذلك يحدث دون أيّة قيود. على العكس، أَجِّج الشعلة مُلقِياً فيها، كوقود، كلّ ماضي ميولكَ ومعارفكَ. وكلّ ما هو أقل صَلاحاً يُتلَف في النار، أمّا ما هو مِن المعادن الثمينة فيتطهَّر. ارمِ بنفسكَ، يا أخي، في الثالوث الفاعِل والسعيد، وستُدرِك وتَفهَم ما يبدو لكَ غير قابل للإدراك إلّا للذين يَهِبون ذواتهم بلا قياس لناره المقدِّمة للذبيحة. وفي النهاية تَثبُت في الله بعناق الشعلة، وأنتَ تصلّي مِن أجلي أنا الابن الأصغر للمسيح الذي تَجاسَرَ وحَدَّثَكَ عن الحبّ.»
ذُهِل الجميع: الرُّسُل والتلاميذ والمؤمنون... أمّا الـمَعنيّ بالحديث فقد شَحب لونه، بينما أَصبَحَ يوحنّا بلون الأرجوان، ليس بِفعل التعب بقدر ما هو بِفعل الحبّ.
أخيراً يهتف استفانوس: «بورِكتَ! ولكن قُل لي مَن تكون؟»
سلوك يوحنّا يذكِّرني كثيراً بسلوك عذراء البشارة. يقول بتمهُّل وهو ينحني كما لِعِبادة الذي يَذكُر اسمه: «أنا يوحنّا. وأنتَ تَرى فيَّ أصغر خُدَّام الربّ.»
«ولكن مَن كان معلّمكَ قَبل ذلك؟»
«لا أحد غير الله، بما أنّني حَصَلتُ على حليب يوحنّا الروحيّ الذي سَبَقَ فَقَدَّسَه الله، آكُل خبز المسيح، كلمة الله، وأَشرَب نار الله التي تأتيني مِن السماء. المجد للربّ!»
«آه! ولكنّني لن أترككَ أبداً! لا أنتَ ولا ذاك. لن أترك أحداً أبداً. خذوني!»
«عندما... آه! ولكن هنا بطرس هو رئيسنا.» ويشير يوحنّا إلى بطرس الذي ذُهِل مِن ذلك، وقد أَعلَنَهُ هكذا «الأوَّل».
وعاد بطرس إلى رشده: «يا ابني، مِن أجل رسالة عظيمة، ينبغي التفكير بكلّ جدّيّة. هذا ملاكنا، وهو يُؤجِّج. ولكن يجب معرفة ما إذا كان يمكن للشعلة التي فينا أن تدوم. افحص ذاتكَ. ثمّ تعال إلى السيّد. وسنفتح لكَ قلوبنا كما إلى أخ حبيب جدّاً. وفي انتظار ذلك، إذا أردتَ التعرّف أكثر على نمط حياتنا، فابقَ. يمكن لرعايا المسيح أن تنمو بغير قياس لتتيح المجال للاختيار والتمييز بين الكامِلِين وغير الكامِلِين، بين الحِملان الحقيقيّة والكِباش المزيَّفَة.»
وبهذه الكلمات ينتهي أوّل ظهور علنيّ للرُّسُل.