ج9 - ف5

أَنَا هُوَ

ماريا فالتورتا

L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO

THE GOSPEL AS REVEALED TO ME

بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}

L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ

MARIA VALTORTA

الترجمة إلى اللغة العربية: ماري حلمي وفيكتور مصلح.

 

الجزء التاسع

 

5- (مساء الأحد في جَثْسَيْماني)

 

04 / 03 / 1945

 

يسوع مع أتباعه في سلام بستان الزيتون. إنّه المساء. مساء دافئ لقمر كامل. يجلسون على مقاعد طبيعية هي منحدرات بستان الزيتون، بالضبط هي الأولى، الماثلة على تلك الفسحة الطبيعيّة الصغيرة الّتي تشكّل فرجة عند المدخل. يُسمع هدير قدرون باصطدام حصى مجراه وكأنّه يحادث نفسه. صداح بلبل. النسيم المتنهّد ولا شيء آخر.

 

يسوع يتكلّم.

 

«بعد نصر هذا الصباح، أصبح روحكم مختلفاً. ماذا ينبغي لي أن أقول؟ فُـرِّج عنه؟ آه! نعم! بحسب البشريّة هو مُفرَّج عنه. لقد دخلتم المدينة وأنتم ترتعشون بسبب كلامي. كان يبدو أنّ كلّ واحد منكم خائف على نفسه مِن القتلة المأجورين خلف الأسوار، المتأهّبين للانقضاض عليه ووضعه في السجن.

 

في كلّ إنسان يوجد إنسان آخر يتكشّف في الأوقات الأكثر شدّة. فهناك البطل، الّذي في ساعات الخطر الأعظم، يثب خارجاً مِن الإنسان الوديع الّذي اعتاد العالم رؤيته والاعتقاد بتفاهته، البطل الّذي يقول للمعركة: "ها أنا ذا"، الّذي يقول للعدوّ، للمتغطرس: "كن ندّاً لي". وهناك القدّيس الّذي، حينما يهرب الجميع هلعين أمام الطغاة الّذين يريدون ضحايا، يقول: "خذوني رهينة وضحيّة. أنا أفدي الجميع". وهناك الوقح، الّذي ينتفع شخصيّاً مِن مصائب الجميع ويضحك على أجساد الضحايا. وهناك الخائن الّذي له شجاعته الخاصّة: شجاعة الشرّ. الخائن الّذي هو مزيج مِن الوقح والجبان، وهو كذلك ينتمي لفئة تظهر في ساعات الشدّة. لأنّه ينتفع بوقاحة مِن مصيبة وينضمّ بجبن إلى الجهة الأقوى، متجاسراً، للاستفادة منها، في مواجهة احتقار الأعداء ولعنات الّذين هجرهم. وفي النهاية هناك النوع الأكثر انتشاراً، وهو الجبان الّذي في ساعات الشدّة، لا يمكنه سوى الأسف مِن انتمائه لجهة وإنسان، إذ يُرشَق الآن بالحرم، والفرار... هذا الجبان ليس مجرماً كالوقح ولا مقززاً كالخائن. ولكنه يُظهِر دائماً النقص في بنيته الروحيّة.

 

أنتم... أنتم نظير ذلك. لا تنكروا. إنّني أقرأ الضمائر. هذا الصباح كنتم تفكّرون فيما بينكم: "ماذا سيحصل لنا؟ هل نذهب إلى الموت نحن أيضاً؟" والقسم الأدنى كان يتمتم: "مطلقاً!..."

 

نعم. ولكن هل خدعتُكم يوماً؟ مِن بداية كلامي حدّثتُكم عن اضطهاد وموت. وعندما أراد واحد منكم، لفرط إعجابه، أن يرى فيَّ مَلِكاً وأراد أن يقدّمني كمَلِك، كواحد مِن ملوك الأرض المساكين، مسكين دوماً وإن يكن مَلِكاً ويعيد الـمُلك لإسرائيل. فصحّحتُ على الفور خطأه، وقلتُ: "أنا مَلِك الروح. أَهِب حرماناً، تضحيات، آلاماً. ليس لديّ أشياء أخرى. هنا على الأرض لا شيء آخر لديّ. ولكني بعد موتي، وموتكم في الإيمان بي، سأعطيكم ملكوتاً أبديّاً: ملكوت السماوات". هل قلتُ لكم ربّما شيئاً مختلفاً؟ لا. تقولون لا.

 

وأنتم حينذاك كنتم تقولون أيضاً: "نحن لا نريد سوى هذا. معكَ، مثلكَ، بسببكَ، نريد أن نكون ونُعامل ونُعاني". نعم كنتم تتكلّمون هكذا. وكنتم صادقين كذلك. ولكن كان ذلك لأنّكم كنتم لا تفكّرون إلاّ كأطفال، كأطفال طائشين. كنتم تفكّرون أنّ اتّباعي سهل، وقد كنتم مُشَرّبين بالشهوات الثلاثيّة، لدرجة أنّكم لم تكونوا قادرين على الإقرار بأنّ ما كنتُ أُلـمّح إليه حقّ هو. كنتم تفكّرون: "هو ابن الله. إنّه يقول هذا كي يختبر محبّتنا. ولكنّه لن يُضرَب مِن البشر. فهو الّذي يجترح المعجزات، سيعرف اجتراح معجزة كبيرة لنفسه!" وكان كلّ واحد يضيف: "لا يمكنني التصديق بإمكانيّة أن يخونه أحد، ويُقبَض عليه ويُقتَل". كان إيمانكم البشريّ قويّاً جدّاً بقدرتي حتّى وصلتم إلى عدم الإيمان بأقوالي، الإيمان الحقّ، الروحيّ، الـمُقدَّس والـمُقدِّس.

 

"هو الّذي يجترح معجزات يمكنه أن يجترح واحدة لنفسه!" كنتم تقولون. وليس واحدة، بل معجزات كثيرة سأجترحها أيضاً. واثنتان منها لن يكون بإمكان أيّ عقل أن يتصوّرهما. ستكونان بحيث مَن يؤمن بالربّ فقط يمكنه تقبّلهما. وعلى مدى عصور وعصور، سيقول كلّ الآخرين: "محال!" وحتّى بعد الموت سأكون موضوع معارضة لكثيرين.

 

في صباح يوم ربيعيّ لطيف، أعلنتُ مِن على أحد الجبال التطويبات المختلفة. هناك واحدة أخرى: "طوبى للذين سوف يؤمنون دون أن يروا". لقد قلتُ بالفعل وأنا أجول في فلسطين: "طوبى للذين يسمعون كلمة الله ويحفظونها"، وأيضاً: "طوبى لِمَن يصنع مشيئة الله" وتطويبات أخرى، وقلتُ أخرى، ذلك أنّ في منزل أبي كثيرة جداً هي الأفراح الّتي تنتظر القدّيسين. إنّما هناك كذلك هذه. آه! طوبى للّذين سيؤمنون دون أن يروا بعيونهم الجسديّة! سيكونون قدّيسين لدرجة أنّهم وهم على الأرض سيرون الله. الله المختفي في سرّ المحبّة.

 

أمّا أنتم، الّذين كنتم معي منذ ثلاث سنوات، لم تتوصّلوا بعد إلى هذا الإيمان. وتؤمنون فقط بما ترون. ولهذا منذ الصباح، بعد الانتصار، تقولون: "هذا ما كنّا نقوله. إنّه ينتصر، ونحن معه". ومثل عصافير ترتّب ريشها المنفوش بعد عنف أحدهم، ترتقون للطيران، سكارى مِن الفرح، ممتلئين ثقة، أحراراً مِن انقباض كان قد وَضَعَهُ كلامي في قلوبكم.

 

إذن هل أنتم أكثر سكينة، حتّى في روحكم؟ لا. مازال روحكم أقلّ سكينة، لأنّكم ما زلتم غير مستعدّين للساعة الآتية. لقد تجرّعتم هتافات الهوشعنا كخمر قويّ ومستساغ. وسكرتم به. هل الرجل السكران قويّ؟ تكفيه يد طفل حتّى يترنّح ويسقط؟ هكذا أنتم. يكفيكم ظهور قتلة مأجورين حتّى تفرّوا كالغزلان الخَجِلة الّتي ترى قرب صخرة مِن الجبل خطم ابن آوى الحادّ، وبسرعة الريح، تتفرّق في الأماكن الصحراويّة الموحشة.

 

آه! احذروا الموت مِن العطش الرهيب في هذه الرمال المحرقة الّتي هي العالم بدون الله! لا تقولوا، لا تقولوا أيا أصدقائي، ما قاله إشَعياء وهو يلمّح إلى حالة أرواحكم الزائفة والخطرة. لا تقولوا: "هذا لا يتكلّم إلّا عن المؤامرات. ولكن ما مِن شيء يدعو للخوف، ما مِن شيء يستدعي الخوف. علينا ألاّ نخاف ممّا يتنبّأ به لنا. إنّ إسرائيل تحبّه، ونحن رأينا ذلك". كم مِن مرّة يطأ طفل عشب الرابية الـمُزهِر برجله الناعمة العارية ليجمع الورود منه، ويحملها إلى أُمّه، وهو يظنّ أنّه لن يجد سوى الزهور، وعلى العكس يطأ بعقبه رأس حيّة، فتعضّه ويموت! فلقد كانت الورود تخفي الحيّة.

 

هذا الصباح أيضاً... أيضاً هذا الصباح كان كذلك! أنا المدان الـمُكلّل بالورود. الورود!... كم تدوم الورود؟ ماذا يتبقّى منها حينما تتساقط تويجاتها كثلج مِن البتلات العطرة؟ أشواك.

 

أنا -قالها إشَعياء- سأكون لكم، ومعكم أقول أنّني سأكون للعالم، تقديساً، ولكن أيضاً حجر عثرة، وصخر عثار وشِركاً وخراباً لإسرائيل وللأرض. سأقدّس الّذين ستكون لهم إرادة صالحة وسأُسقِط وأُحطِّم إلى ألف قطعة الّذين ستكون لهم إرادة فاسدة.

 

الملائكة لا يقولون أقوالاً كاذبة، ولا أقوالاً لا تدوم طويلاً. هي تأتي مِن الله، الّذي هو الحقّ والّذي هو أزلي، وما يقولونه هو الحقّ والكلمة الثابتة. لقد قالوا: "السلام للناس ذوي الإرادة الصالحة". آنذاك كان قد وُلِد مخلّصكِ أيّتها الأرض. والآن يذهب فاديكِ إلى الموت. إنّما للحصول على السلام مِن الله، أي القداسة والمجد، يجب امتلاك "الإرادة الصالحة". فعبثاً هو ميلادي، عبثاً هو موتي لِمَن ليس لديهم هذه الإرادة الصالحة. إنّ صرختي الطفوليّة وحشرجتي، خطوتي الأولى والأخيرة، جرح الختان والذبح، كانت لتبقى بلا جدوى إن لم تكن فيكم، ولا في البشر، الإرادة الصالحة للتقدّس والافتداء.

 

وأقول لكم: كثيرون جدّاً هم الناس الّذين سيتعثّرون فيّ، أنا الّذي وُضِعت كعمود داعم لا كفخّ للبشر، وسيسقطون لأنّهم سكارى مِن الكبرياء، مِن الفسق، مِن البخل، وسيكونون محبوسين في شبكة خطاياهم، ويُستولى عليهم ويُسلّمون إلى الشيطان. ضعوا هذه الكلمات في قلوبكم، اختموها مِن أجل تلاميذ المستقبل.

 

هيّا بنا. إنّ الصخرة يقوم. خطوة أخرى إلى الأمام. على الجبل. يجب أن يتألّق على القمّة لأنّه هو الشمس، هو النور، وهو المشرق. والشمس تتلألأ على القمم. يجب أن يكون على الجبل، لأنّ الهيكل الحقيقيّ ينبغي أن يراه العالم كلّه. وأنا بذاتي سأبنيه بصخرة جسدي الحيّ الذبيح. سأجمع الأجزاء بملاط عَرَقي ودمي. وسأجلس على عرشي المغطّى بالقرمز الحيّ، مكلّلاً بإكليل جديد، والبعيدون سيأتون إليّ، سيعملون في هيكلي، حوله. أنا الأساس والقمّة. وسيمتدّ المسكن حوله وبشكل أعظم. وأنا بذاتي سأعمل حجارتي وصُنّاعي. كما عُمِلتُ بالإزميل مِن قِبَل الآب، مِن قِبَل المحبّة والإنسان والكراهية، هكذا سأعملها. ثمّ بعد أن يُنـزع ظلم الأرض في يوم واحد، على صخرة الكاهن إلى الأبد، ستأتي العيون السبع لترى الله وتفتح الينابيع السبعة لدحر نار الشيطان.

 

الشيطان... يا يهوذا. هيّا بنا. وتذكّر أنّ الوقت يضيق وينبغي أن يُسلّم الحَمَل مساء الخميس.»