ج2 - ف2
أَنَا هُوَ
ماريا فالتورتا
L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO
THE GOSPEL AS REVEALED TO ME
بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}
L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ
MARIA VALTORTA
الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.
الجزء الثاني / القسم الأول
2- (لقد بَكَت لأنّها كانت الشّريكة في الفِداء)
09 / 02 / 1944
كلام يسوع:
«إنّه الألم الرابع لمريم أُمّ الله. الأوّل كان في التقدمة إلى الهيكل؛ الثاني في الهرب إلى مصر؛ والثالث في وفاة يوسف؛ والرابع في انفصالي عنها.
عالِمَاً رغبة الآب، قلتُ لكِ أمس مساء إنّني كنتُ سأستعجل في وصف آلامنا لنجعلها معروفة. إنّما كما تَرَين فلقد ظَهَرَت للنور مِن خلال آلام والدتي. لقد شَرَحتُ الهرب إلى مصر قبل التقدمة لأنّه كان عليَّ فعل ذلك آنذاك. أعرف سبب ذلك وتدركينه أنتِ وستشرحينه للأب بصوتكِ.
إنّ لي قصداً معيّناً في تَعاقُب تأمّلاتكِ والشروحات التي أقدّمها لكِ بعدها، مع "إملاءات" بالمعنى الصحيح، لأرفعكِ وروحكِ مانحاً إيّاكِ غبطة الرؤيا، وكذلك لأنّ، بهذه الطريقة، يصبح الفرق جليّاً في الأسلوب بين عرضكِ وعرضي. عدا عن ذلك، فبوجود كُتُب كثيرة تتحدّث عنّي، وبلمسة هنا وتنقيح هناك وتغيير هنا وتنميق هناك، تُصبِح غير حقيقيّة؛ وأنا أرغَب في أن أَمنَح مَن يؤمن بي رؤيا تعود إلى حقيقة إقامتي على الأرض. لن أُنتَقَص بذلك، إنّما على العكس، سوف أُصبِح أعظم في تواضعي الذي، مِن أجلكم، أَصبَحَ خُبزاً ليعلّمكم أن تكونوا مُتواضِعين وأن تتشبّهوا بي، أنا الذي كنتُ إنساناً مثلكم، وحَمَلتُ تحت ثوب الإنسان كمال الله. فيجب أن أكون مثالاً لكم، والـمُثُل العليا ينبغي لها أن تكون دائماً كاملة.
لن أَتَّبع في التأمّلات ترتيباً زمنيّاً مُعادِلاً للذي في الأناجيل. سوف آخذ النقاط التي أراها أكثر نفعاً في يوم محدَّد مِن أجلكِ ومِن أجل الآخرين، مُتَّبعاً ترتيبي في التعليم وفي الصَّلاح.»
العِبرة التي تَبرز مِن انطلاقي تَهُمُّ بشكل خاصّ الأهل والأبناء الذين تدعوهم إرادة الله لإنكار ذات مُتبادَل بقصد أسمى أنواع الحُبّ. وبالمرتبة الثانية يخصّ كلّ الذين يتوجّب عليهم إنكار ذات مُضنٍ.
كم تُصادِفون ذلك في الحياة! إنّها أشواك إقامتكم الأرضيّة التي تخترق القلب: أعرف ذلك. إنّما لِمَن يتقبّلها بإذعان -انتبهي، لم أقل: "لِمَن يَرغَب بها ويتقبّلها بفرح" فهذا هو الكمال؛ بل قُلتُ: "بإذعان"- فهي تتبدّل بورود متفتِّحة للأبد. ولكن الذين يتقبَّلونها بإذعان قليلون جدّاً. وكالحمير الحرونة تتمرّدون وتصطَدِمون بإرادة الآب، هذا إذا لم تَسعون أيضاً إلى جرحه برفسات ولسعات روحيّة، أي بثورتكم وبتجديفكم ضدّ الله.
لا تقولوا: "أنا لم يكن لي سوى هذا الخير وقد انتَزَعَه الله مِنّي. إنّما أنا لم يكن لي سوى هذه العاطفة وقد انتَزَعَها الله مِنّي". كذلك مريم المرأة الـمُحِبَّة والعَطوفة بشكل كامل، إذ في "الممتلئة نعمة"، فحتّى الأشكال العاطفيّة كلّها والحسيّة كانت كاملة، لم يكن لها سوى خير واحد، حُبّ واحد على الأرض: ابنها. لم يكن باقياً لها سوى هذه الـمَوَدَّة. فأَبَواها كانا مُتَوَفَّين منذ زمن، ويوسف منذ أكثر مِن سنة. لم يكن لها غيري لأحبّها وأجعلها تُحِسُّ أنّها ليست وحيدة. فالأهل كانوا مُعادين لها قليلاً بسببي أنا، جاهِلِين طبيعتي الإلهيّة. فهي بالنسبة لهم الأُمّ التي لا تعرف فرض رأيها على ابنها الذي لا يُبالي بالحسّ السليم المشترَك، والذي يرفض مشاريع الزواج التي كانت ستزيد عزوة العائلة وترفع شأنها وحتّى تساعدها ماديّاً.
الأهل، صوت الحسّ العام، الحسّ البشريّ -تُسَمُّونه الحسّ السليم، ولكنّه ليس سوى شعور بشريّ، يعني أنانيّة- كان الأهل يريدون تغييراً عمليّاً في حياتي. وفي الأعماق كان الخوف مِن المتاعِب التي ستُرهِق كاهلهم يوماً بسببي أنا الذي كنتُ أجرؤ على التعبير عن أفكار مِثاليّة جدّاً، حسب تفكيرهم، وقد كان ممكناً أن تغيظ المَجْمع. والتاريخ اليهوديّ كان مليئاً بالعِبَر حول مصائر الأنبياء. فرسالة النبيّ لم تكن سهلة، وغالباً ما كانت تجلب الموت للنبيّ والمتاعب لأهله. في الأساس كانت دائماً فكرة وجوب تَحَمُّلي يوماً مسؤوليّة والدتي.
لم يكونوا إذن مُوافِقِين على ألاّ تعاندني في أيّ أمر، وأن تكون عاشقة دائمة لابنها. كان ينبغي لهذه المقاومة أن تنمو فيما بعد، خلال سنوات الكِرازة الثلاث إلى درجة أن تَصِل إلى الاتّهامات العَلَنيّة، عندما كانوا يأتون لِيَجِدوني وسط الجموع، ويعتريهم الاحمرار مِن جنوني، حسب رأيهم، في الاصطدام بالطبقات ذات النفوذ. اتّهامات لي ولها، أُمّي المسكينة!
كانت مريم تعرف طِباع الأهل، إذ لم يكن الجميع مثل يعقوب ويوضاس وسمعان، ولا مثل والدتهم، مريم التي لحلفى (كِلُوبا)، وكانت تتوقّع كيف ستصبح هذه التصرّفات. وكانت تَعلَم ماذا سيكون مصيرها في غضون هذه السنوات الثلاث، وماذا ينتظرها فيما بعد، وتَعلَم كذلك مصيري أنا؛ ومع ذلك لم تكن تتمرّد مثلما تفعلون. بل لقد بَكَت. مَن منكم لم يكن ليبكي على فراق ابن يحبّه كما كنتُ أحبّها، لمجرّد التفكير بالأيّام الطويلة التي كنتُ سأتغيّب خلالها عن منزلها الذي بَقِيَت فيه وحيدة، أمام مستقبل ابن مُهيّأ للاصطدام بشرور الناس الذين يُحِسّون بأنفسهم مُذنِبين، وأنّ ذنوبهم تدفعهم لمحاربة البريء حتّى إرادة قتله.
لقد بَكَت لأنّها كانت الـمُشارِكَة في الفِداء وأُمّ الجنس البشريّ الذي تَقَبَّل مِن الله حياة جديدة. كان ينبغي لها أن تبكي مِن أجل كلّ الأُمّهات اللواتي لا يعلَمنَ أن يجعلن مِن آلامهنّ كأُمّهات إكليل مجد أزليّ.
كَم مِن الأُمّهات في العالم يختطف الموت مِن بين أيديهنّ ابناً! كَم مِن الأُمّهات تَنتَزِع إرادة فائقة الطبيعة ابناً مِن جانبهنّ! فَمِن أجل كلّ بناتها كأُمّهات لمسيحيّين، مِن أجل كلّ أخواتها في ألم بقائهنّ وحيدات، بَكَت مريم. وكذلك مِن أجل كلّ أبنائها، المولودين مِن المرأة، وقد أُعِدّوا ليُصبِحوا رُسُلاً لله وشهداء لحبّه، بالوفاء لـه أو بوحشيّة الناس.
دمي ودموع مريم هما المزيج الذي يُقوّي المدعوّين إلى مصير بطوليّ، يمحو نقصهم وحتّى الأخطاء الـمُرتكَبَة بسبب ضعفهم، بمنحهم، عدا عن الشهادة، مهما كانت، سلام الله، وإذا تألّموا مِن أجل الله، فمجد السماء.
أمّا الـمُرسَلون فيجدونه كالشعلة تدفئهم في البلاد التي يسودها الثلج. يَجِدونه كالندى في البلاد التي تَسودها شمس مُحرِقة. لقد انبَثَقَت دموع مريم مِن محبّتها وتدفَّقَت مِن قلب زَنبقيّ. فهي تمتلك إذاّ محبّة بَتوليّة متّحدة بالحبّ وبالنار، وطهارة بَتوليّة، رطوبة مُعطَّرة تشبه الماء المتجمّع في كأس زنبقة بعد ليلة غارقة بالندى.
تَجِدهُ النفوس الـمُكَرَّسة في هذه الصحراء التي هي الحياة الرهبانيّة الشاملة: صحراء، لأنّ لا شيء فيها حيّ سوى الاتّحاد بالله، وأنّ كلّ عاطفة أخرى تتفتّح فقط حين تُصبِح محبّة فائقة الطبيعة: للأهل والأصدقاء والرؤساء والـمَرؤوسين.
الـمُكَرَّسون لله يَجِدون هذا المزيج الإلهيّ وسط العالم الذي لا يفهمهم ولا يحبّهم، صحراء كذلك بالنسبة لأولئك الذين يَحيون كما لو كانوا وحيدين بقدر ما هم غير مَفهومين ومُستهزَأ بهم بسبب الحبّ الذي يحملونه لي.
تَجِده "ضحيّاتي" المحبوبات، لأنّ مريم هي الأولى التي كانت ضحيّة حُبّ يسوع، وكذلك اللواتي تَبِعنَها. إنّها تَهِب مِن يدها كأُمّ وكطبيبة، دموعها التي تقوّي وتثير الحماس مِن أجل التضحية الكبرى. دموع أُمّي المقدّسة.
مريم تصلّي. لا ترفض الصلاة لأنّ الله يبتليها بالألم. احفَظوا هذه الذكرى، إنّها تصلّي مع يسوع. تصلّي للآب، أبينا وأبيكم.
لقد تَلَيتُ الصلاة الربّية: "أبانا" للمرّة الأولى في حديقة الناصرة، عزاء لمعاناة مريم، لتقديم إرادتنا للأزليّ في اللحظة التي كانت تبدأ لأجل إرادته، مرحلة نكران ذات مُتنامية، بَلَغَت ذروتها بالنسبة لي عند نكران حياتي، وبالنسبة لمريم لدى موت ابنها.
لم يكن لدينا شيء يغفره الآب، ونحن الـذين "بلا خطيئة" قد طَلَبنا حينئذ مغفرة الآب ليَغفر لنا، وهذه المسامحة لم تكن سوى لِتنهيدة لا تَرقَى إلى جَلال رسالتنا. لتعليمكم أنّه بقدر كوننا في حالة نعمة مع الله، بقدر ذلك تكون الرسالة مُبارَكَة ومُثمِرة. لتعليمكم احترام الله والتواضع. فبحضور الله الآب، حتّى كمالاتنا كرجل وامرأة أَحَسَّت بالعدميّة وطَلَبَت المغفرة كما طَلَبَت "خبزنا كفاف يومنا".
ماذا كان خبزنا؟ آه! لم يكن ذاك الذي تعجنه يدا مريم الطاهرتان ويخبزه الفرن الصغير الذي طالما حَزَمتُ له العيدان والحطب. فهذا أيضاً ضروريّ طالما نحن على الأرض. ولكنّ خبزنا اليوميّ كان أن نؤدّي يوماً إثر يوم مهمّة رسالتنا. فليهبنا الله ذلك كلّ يوم لأنّ إتمام الرسالة التي يكلّفنا بها الله هو فَرَح يومنا، أليس كذلك يا صغيرتي المحبوبة؟ ألا تقولين كذلك أنتِ إنّ اليوم الذي يترككِ فيه صلاح الربّ دون رسالتكِ في الألم يبدو فارغاً وكأنّه غير موجود؟
مريم تصلّي مع يسوع. إنّ يسوع هو الذي يُقَوِّمكم يا أبنائي. وأنا الذي أجعل صلواتكم للآب مقبولة وذات نفع. لقد قلتُ ذلك: "كلّ ما تطلبونه مِن الآب باسمي يعطيكموه". والكنيسة تُقَوِّم صلواتها بالقول: "بيسوع المسيح ربّنا".
عندما تُصَلّون اتّحدوا دائماً، دائماً، دائماً بي. وأنا سوف أصلّي مِن أجلكم بصوت مرتَفِع مُجَلِّلاً صوتكم كبشر بصوتي كإنسان-إله. سوف أضع صلاتكم على يديَّ الـمُختَرَقَتَين وأرفعها للآب، فتصبح ذبيحة ذات قيمة لا حدّ لها. وصوتي الذائب بصوتكم سيرتَفِع كقُبلة بنويّة للآب، وحُمرة جراحاتي ستجعل صلاتكم أكثر قيمة. اثبتوا فيَّ إذا أردتم أن يثبت الله فيكم ومعكم وبكم.
لقد أنهيتِ الرواية بقولكِ: "ونحن..." وقد أردتِ القول: "ونحن الجاحِدِين بحقّ الإثنين اللذين صَعَدا الجلجلة لأجلنا". لقد فَعَلتِ جيّداً بوضع هذه الكلمات. ضعيها في كلّ مرة أُظهِر إحدى آلامنا. ولتكن مثل الجرس الذي يرنّ ويدعو إلى التأمّل والنَّدَم.
هذا يكفي الآن. استريحي. السلام معكِ.»