ج8 - ف34
أَنَا هُوَ
ماريا فالتورتا
L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO
THE GOSPEL AS REVEALED TO ME
بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}
L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ
MARIA VALTORTA
الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.
الجزء الثامن
34- (يسوع يمضي إلى عين نون)
03 / 03 / 1947
يسوع وحده، يتأمّل، جالساً تحت شجرة سنديان عملاقة قد نبتت على منحدر مِن الجبل يشرف على شكيم [نابلس]. المدينة، البيضاء-الورديّة تحت مطلع الشمس، الّتي هي إلى الأسفل، تنبسط على المنحدرات الأدنى للجبل. إنّها تبدو، وهي تُرى مِن الأعلى، كأنّها حفنة مكعّبات كبيرة قد بعثرها طفل كبير على مرج أخضر بمُنحَدَر. إنّ مجريَي الماء اللذين تقوم قربهما، يشكّلان نصف دائرة زرقاء-فضّية حول المدينة، ثمّ يدخلها أحدهما مُنشِداً ومتلألئاً بين المنازل البيضاء، ليخرج منها بعد ذلك ويجري وسط الخُضرة، ظاهراً حيناً ومختفياً حيناً آخر تحت أشجار الزيتون والبساتين الخصبة، في اتّجاه نهر الأردن. المجرى الآخر، الأكثر تواضعاً، يبقى خارج الأسوار، يلامسها تقريباً، ساقياً مساكب الخضروات الخصبة، ومِن ثمّ يمضي ليروي قطعان نعاج بيضاء ترعى في مروج تصبغها بالأحمر رؤوس زهور البرسيم الحمراء. إنّ الأُفق ينفتح واسعاً قبالة يسوع. فبعد تموّج تلال تنخفض أكثر فأكثر، يُرى بمشهد واحد، وادي الأردن الأخضر، تليه جبال ما وراء الأردن، الّتي تُفضي في الشمال الشرقيّ إلى قمم حورانيطس [حوران] المميّزة. الشمس، الّتي طلعت مِن ورائها، قد صفعت ثلاث غيوم عجيبة تشبه ثلاث شرائط شاشٍ رقيقة، قد تموضعت بشكل أفقيّ على وِشاح السماء الأزرق الفيروزيّ، والشاش الرقيق للغيوم الثلاث الطويلة والضيّقة، قد استحال زهريّاً-برتقاليّاً كما بعض المرجان الثمين. تبدو السماء مقفلة بهذا السياج الهوائي الرائع الجمال. يسوع يحدّق به، أو بالأحرى ينظر في هذا الاتّجاه، مستغرقاً. مَن يدري إن كان حتّى يراه. مرفقه مستند إلى ركبته، يده تدعم ذقنه المستند إلى جوف راحة يده، ينظر، يفكّر، يتأمّل. وفوقه، الطيور تضجّ مُزقزقة في جولات طيران مرحة.
يسوع يخفض نظره إلى شكيم [نابلس]، الّتي تستفيق أكثر فأكثر في شمس الصباح. وإلى الرّعاة والقطعان، الّذين قبلاً كانوا الوحيدين الّذين يُحيون المشهد، تنضمّ الآن مجموعات الحجّاج، ويمتزج رنين أجراس القطعان بجلاجل الحمير، والأصوات، وبوقع الخطى والكلام. الريح تحمل بموجات تصل إلى مسامع يسوع ضجيج المدينة الّتي تستيقظ، والناس الّذين يغادرون راحة الليل.
يسوع ينهض. يغادر مكانه الهادئ متنهّداً، وينزل سريعاً، عبر مسلك مختصر، صوب المدينة. يدخلها وسط قوافل المزارعين والحجّاج الّذين يهرعون، الأوّلون إلى تفريغ بضائعهم، الآخرون إلى مشترياتهم قبل الانطلاق. في زاوية مِن ساحة السوق، الرُّسُل والتلميذات هم بالفعل مجتمعون وينتظرون، وحولهم أهل أفرايم، شيلوه ولِبونة والكثيرون مِن شكيم [نابلس].
يسوع يمضي نحوهم. يحيّيهم. ثمّ يقول لأهل السامرة: «والآن نفترق. عودوا إلى منازلكم. تذكّروا كلامي. أُنموا في البرّ.» يلتفت إلى يهوذا الاسخريوطيّ: «هل أعطيتَ، كما قلتُ، فقراء كلّ موضع؟»
«لقد أعطيتُ. ما عدا أهل أفرايم، لأنّهم سبق أن تلقّوا.»
«فإذن هيّا. اعملوا بحيث ينال كلّ فقير إغاثة.»
«إنّنا نبارككَ بالنيابة عنهم.»
«باركوا التلميذات. فهن اللواتي أعطينني المال. هيّا. ليكن السلام معكم.»
يرحلون على مضض، بحسرة. لكنّهم يطيعون.
يبقى يسوع مع الرُّسُل والتلميذات. يقول لهم: «إنّني ذاهب إلى عين نون. أريد تحيّة مكان المعمدان. ثمّ سأنزل إلى طريق الوادي. إنّها مريحة أكثر للنسوة.»
«ألن يكون مِن الأفضل، بدلاً مِن ذلك، سلوك طريق السامرة؟» يَسأَل الاسخريوطيّ.
«ليس علينا نحن أن نخشى اللصوص، حتّى لو كنّا على طريق مجاورة لكهوفهم. مَن يريد المجيء معي فليأتِ. ومَن لا يشعر برغبة في الذهاب إلى عين نون، فليبقَ هنا حتّى غداة السبت. ففي ذلك اليوم سأذهب إلى طرسة، مَن يبقى هنا ليلحق بي إلى ذاك الموضع.»
«أنا حقّاً… أُفضّل البقاء. لستُ بأفضل حال… إنّني متعب...» يقول الاسخريوطيّ.
«هذا واضح. تبدو كأنّكَ مريض. نظركَ مكتئب وكذلك المزاج وحتّى الجلد. إنّني أراقبكَ منذ بعض الوقت...» يقول بطرس.
«إنّما لا أحد يسألني إن كنتُ أعاني، ومع ذلك...»
«أكان ذلك ليرضيكَ؟ إنّني لا أعلم أبداً ما يرضيكَ. إنّما إن كان ذلك يرضيكَ، فإنّني أسألك الآن، وأنا على استعداد للبقاء معكَ كي أعتني بكَ...» يجيبه بطرس بطول أناة.
«لا، لا! إنّه فقط تَعَب. اذهب، اذهب. أنا أبقى حيث أنا.»
«أبقى أنا أيضاً. إنّني امرأة عجوز. سوف أرتاح وأنا أقوم مقام الأُمّ لكَ.» تقول إليز على نحو مفاجئ.
«أتبقين؟ قد قلتِ...» تُقاطع سالومة.
«إن كان الجميع يذهبون، فآتي أنا أيضاً، كي لا أبقى هنا وحدي. إنّما بما أنّ يهوذا يبقى...»
«أنا آتٍ إذن. لا أريدكِ أن تضحّي يا امرأة. حتماً ستذهبين عن طيب خاطر لرؤية ملجأ المعمدان...»
«أنا مِن بيت صور، ولم أشعر قطّ بالحاجة للذهاب إلى بيت لحم لرؤية المغارة حيث وُلِد المعلّم. هو أمر سأفعله حين لا أعود أحظى بالمعلّم. فبإمكانكَ أن تفكّر إن كنتُ أتحرّق شوقاً لرؤية الموضع حيث كان يوحنّا… أُفضّل ممارسة المحبّة، إنّني واثقة بأنّ لها قيمة أكثر مِن حجّ.»
«إنّكِ توجّهين لوماً للمعلّم. ألا تدركين ذلك؟»
«إنّني أتحدّث عن نفسي. هو يذهب إلى هناك وحسناً يفعل، فهو المعلّم. أنا امرأة عجوز، حيث انتزعت منّي الآلام كلّ فضول، وحيث المحبّة تجاه المسيح انتزعت منّي الرغبة في كلّ شيء سوى خدمته.»
«فإذن التجسّس عليَّ هو خدمة بالنسبة لكِ.»
«أتفعل أموراً تستأهل اللوم؟ إنّ مَن يفعل أموراً مضرّة هو مَن يُراقَب. أمّا أنا فلم أتجسّس أبداً على أحد يا رجل. أنا لا أنتمي إلى عائلة الحَيّات. ولا أخون.»
«ولا أنا.»
«ليشأ الله ذلك لخيركَ. لكن لستُ أفهم لماذا بقائي هنا للراحة هو مقيت لهذه الدرجة بالنسبة لكِ...»
يسوع، الصامت إلى الآن، يصغي، وسط الآخرين المندهشين لهذه المشاحنات، يرفع رأسه الّذي كان يُبقيه منحنياً قليلاً ويقول: «كفى. إنّ الرغبة الّتي بكَ، يمكن لامرأة مسنّة، ولأسباب أكثر، أن تملكها أكثر منكَ. ستبقيان هنا حتّى فجر غد السبت. ثمّ تلحقان بي. وأنتَ، في غضون ذلك، اذهب واشترِ ما قد يلزم لهذه الأيّام. اذهب وأسرع.
يهوذا يذهب على مضض لشراء الطعام. أندراوس يهمّ باللحاق به، لكنّ يسوع يمسكه مِن ذراعه قائلاً: «ابقَ. يمكنه فِعل ذلك بمفرده.» يسوع صارم جدّاً.
إليز تنظر إليه ومِن ثمّ تذهب إلى القرب منه قائلةً: «المغفرة يا معلّم، إن أنا كدّرتُكَ.»
«ما مِن شيء أغفره لكِ يا امرأة. وأنتِ، بالأحرى، اغفري لهذا الرجل، كما لو أنّه كان ابنكِ.»
«بهذا الشعور أبقى بقربه… حتى ولو هو ظنّ العكس… إنّكَ تفهمني...»
«نعم. وأباركك. وأقول لكِ بأنّكِ أحسنتِ الكلام بقولكِ أنّ الحجّ إلى المواضع الّتي كنتُ فيها سوف تكون ضرورة حين لا أعود بعد وسطكم… ضرورة لتعزية أرواحكم. للآن ينبغي خدمة رغبات يسوعكم فقط. وأنتِ قد أدركتِ إحدى رغباتي، حيث أنّكِ تضحّين بنفسكِ لحماية روح متهوّرة...»
الرُّسُل يتبادلون النظر فيما بينهم… كذلك التلميذات. وحدها مريم تبقى مُحجّبة تماماً، ولا ترفع رأسها لتتبادل النظر مع أحد. ومريم المجدليّة، الواقفة كأنّها مَلِكة تحكم، لم يغب أبداً عن ناظرها يهوذا الّذي يجول بين الباعة، وله نظرة عابسة وإيماءة احتقار فوق فمه المزموم. تعابيره تنطق أكثر ممّا لو كان يتكلّم…
يهوذا يعود. يعطي ما اشتراه لرفاقه. يسوّي رداءه الّذي كان قد استخدمه لحمل المشتريات، ويهمّ بإعطاء كيس المال ليسوع.
يسوع يدفعه بيده: «لا داعي لذلك، فلأجل الصدقات، لا تزال هناك مريم. عليكَ أنتَ أن تكون مُحسِناً هنا. كُثُر هم المتسوّلون الّذين ينزلون مِن كلّ المواضع كي يمضوا إلى أورشليم في هذه الأيّام. أَعطِ، دون تحيّز وبمحبّة، متذكّراً أنّنا كلّنا متسوّلون لرحمة الله وخبزه… وداعاً. وداعاً يا إليز. ليكن السلام معكما.» ويستدير سريعاً ليشرع بالسير بهمّة على الطريق الّتي كانت قربه، مِن دون إعطاء الوقت ليهوذا كي يحيّيه…
الجميع يتبعونه بصمت. يخرجون مِن المدينة متوجّهين نحو الشمال الشرقيّ، عبر الريف الجميل جدّاً...