ج2 - ف95

أَنَا هُوَ

ماريا فالتورتا

L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO

THE GOSPEL AS REVEALED TO ME

بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}

L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ

MARIA VALTORTA

الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.

 

الجزء الثاني / القسم الثاني

 

95- (يسوع في منطقة المياه الحلوة: "لا تشتهِ امرأة قريبكَ")

 

12 / 03 / 1945

 

يمرّ يسوع وسط شعب صغير حقيقيّ يناديه مِن كلّ صَوب. الواحد يُشير إلى جراحاته، وآخَر يُحصي بؤسه، وآخَر أيضاً يَقتَصِر على القَول: «ارحمني». وهناك مَن يُقدّم له طفله ليباركه. فالنهار الصافي بلا هواء جَعَلَ الكثيرين يأتون.

 

عندما يُوشِك يسوع على الوصول إلى مكانه، يَرِد مِن الدرب المؤدّي إلى النهر صُراخٌ يُثير الشَّفَقَة: «يا ابن داود ارحم بائِسكَ!»

 

يَلتَفِت يسوع إلى ذلك الاتّجاه، وكذلك التلاميذ والجَّمع. ولكنّ دَغلاً كثيفاً يُخفي ذاك الذي يتوسّل.

 

«مَن أنتَ؟ تقدّم.»

 

«لا أستطيع. إنّني نَجِس. ينبغي لي أن أتوجّه إلى الكاهن لأُشطَب مِن عالم الأحياء. لقد أَخطَأتُ وتَفشّى البرص في جسدي. ورجائي فيكَ أنتَ!»

 

«أبرص! أبرص! ملعون فلنرجمه!» ويَثور الجَّمع بصخب.

 

يُشير يسوع بالصمت وعدم الحَراك. «هو ليس أكثر نجاسة ممّن لا يزال في الخطيئة. ففي عينيّ الله، الخاطئ الذي لا يتوب هو أكثر نجاسة مِن الأبرص التائب. والقادر على الإيمان فليأتِ معي.»

 

يَلحَق به التلاميذ وبعض الفضوليين. آخرون مَطّوا الرّقاب، ولكنهم مَكَثَوا في أماكنهم.

 

يبتعد يسوع عن البيت والدرب باتّجاه الدَّغل. ثمّ بعد أن يتوقّف يَأمُر: «اظهَر!»

 

هو ذا رجل، أكبر قليلاً مِن مُراهِق، يَخرُج، ما زالَ جميلاً، بَدَت على وجهه بَوادِر شَارِب ما زال يَنبت، ولحية قليلة الكثافة. وجهه ما زال نَديّاً ومُكتَنِـزاً، وعيناه تَسبَحان بالدموع.

 

صَرخة هائلة تُحيّيه، وهي صادرة عن مجموعة مِن النساء المحجّبات، وهنّ يبكين في الدار، ولدى مرور يسوع، شَرَعْنَ يبكين بشكل أَعنَف أمام وَعيد الجَّمع: «يا بنيّ!» تصرخ امرأة وترتمي بين ذراعي أُخرى، قريبة لها أَم صديقة، لستُ أدري.

 

يُتابِع يسوع تَقَدّمه صوب البائس: «ما زِلتَ شابّاً صغيراً! مِن أين أتاكَ هذا البرص؟»

 

يخفض الشاب عينيه، يعتريه احمرار، يتلعثم، ولكنّه لا يجرؤ على أكثر مِن ذلك. يُكرّر يسوع السؤال، فيقول بعض الكلمات بأكثر وضوحاً، ولكن لم يُعرَف منها سوى هذه: «الأب... ذَهَبتُ... وقد ارتكبنا خطيئة... لستُ أنا وحدي...»

 

«هي ذي أُمّكَ التي ترجو وتبكي. وفي السماء يُوجَد الله، وهو يَعلَم. وهنا، أنا موجود وأَعلَم أيضاً. ولكن لكي أرحم فأنا في حاجة إلى تَواضُعكَ. تكلّم.»

 

«تكلّم يا بنيّ. ارحم الأحشاء التي حَمَلَتكَ.» تئنّ الأُمّ التي جَرَّت نفسها إلى حيث يسوع، وهي الآن جاثية، تُمسِك، على غير وعي منها، بِهُدب ثوب يسوع بيد، وتَمدُّ الأخرى صَوب وَلَدها، وهي تُظهِر وجهاً مسكيناً تحرقه الدموع.

 

يضع يسوع يده على رأسه. «تكلّم»، يُكرّر القَول.

 

«إنّني البِكر وأساعد أبي في تجارته. وقد أَرسَلَني إلى أريحا عدّة مرّات لأقابل زبائنه، و... أحدهم... أحدهم كانت له زوجة شابّة وجميلة... ولقد... أُعجِبتُ بها... ومَضَيتُ إلى أبعد ممّا ينبغي... أَعجَبتُها... تَمَلَّكَتنا الشهوة... وارتكبنا الخطيئة أثناء غياب الزوج... لستُ أدري كيف حَدَثَ هذا، لقد كانت سليمة. نعم. ولم أكن سليماً فقط وأريدها... بل هي كذلك كانت سليمة وتريدني. ولستُ أدري إذا... إذا ما كانت قد اتَّخَذَت لها عُشّاقاً غيري، في الوقت نفسه، وأَدرَكَتها العدوى... جُلّ ما أَعلَمه هو أنّ البرص قد تفشّى فيها سريعاً، وهي الآن بين القبور، محكوم عليها أن تموت وهي حيّة... وأنا... وأنا... أُمّاه! لقد رَأَيتَ. يُوجَد القليل، ولكن يُقال إنّه البرص... وسوف أموت. متى؟... لم تَعُد لي حياة... ولا بيت... ولا أُمّ!... آه! أُمّاه! أَراكِ ولا أستطيع تقبيلكِ!... اليوم يأتون لتمزيق ثيابي وطردي مِن المنـزل... ومِن البلدة... إنّ ذلك لهو أسوأ مِن الموت. ولن أنال حتّى دموع أُمّي على جثّتي...»

 

يبكي الشاب. والأُمّ تبدو كَنَبتَة قَصَفَتها الريح، لشدّة ما هَزَّها البكاء والنحيب. يتناقش الناس بينما تتنازعهم أحاسيس متناقضة.

 

يسوع حزين، وهو يتكلّم: «وعندما ارتَكَبتَ الخطيئة، ألم تُفكّر بأُمّكَ؟ أكُنتَ مجنوناً لدرجة لم تتذكّر معها أنّ لكَ أُمّاً على الأرض، وأنّ الله موجود في السماء؟ ولو لم يكن البرص قد ظَهَرَ، ألم تكن لتتذكّر أبداً أنّكَ تُسيء إلى الله والقريب؟ ماذا فَعَلتَ بروحكَ وبشبابكَ؟»

 

«لقد جُرِّبتُ...»

 

«هل أنتَ طفل لتجهل أن هذه الثّمرة ملعونة؟ أنتَ تستحقّ أن تموت دون أن أرحمكَ.»

 

«آه! الرحمة! أنتَ وحدكَ تستطيع...»

 

«لستُ أنا، بل الله. وإذا أَقسَمتَ فوراً على ألّا تعود للخطيئة.»

 

«أُقسِم. أُقسِم. خلّصني يا رب. لم يبقَ أمامي سوى بضعة ساعات ليُحكم عليَّ. أُمّاه!... أمّاه! ساعِديني بدموعكِ!... آه! يا أُمّاه!»

 

واختَنَقَ صوت الأُمّ. وهي تتمسّك فقط بساق يسوع، وتَرفَع وجهها وعينيها الـمُتَوسّعتين مِن شدّة الألم، إنّه وجه مأساويّ لإنسان يَغرَق، وهو يَعلَم أنّه خَشَبَة الخلاص الوحيدة الذي يحميه ويمكنه أن يُخَلِّصه.

 

يَنظُر إليها يسوع. يبتسم لها بحنوّ. «انهضي أيّتها الأُمّ. لقد شُفِيَ ابنكِ. ولكن مِن أجلكِ أنتِ، وليس مِن أجله هو.»

 

ما زالت الأُمّ غير أكيدة. يبدو لها أنّ الشفاء لا يمكن أن يتمّ هكذا عن بُعد. ووسط دموعها تُشير بعدم اليقين.

 

«أيّها الرجل، انزع قميصكَ مِن على صدركَ، حيث كانت البُقعة. وليُفرَّج عن أُمّكَ.»

 

يُسقِط الشاب ثوبه ليبدو عارياً أمام أعين الجميع. فجسده ليس سوى جسد شاب نَضِر وأَملَس وفي صحّة جيّدة.

 

«انظري أيّتها الأُمّ.» يقول يسوع وهو ينحني ليُنهِض المرأة. إنّها حركة للإمساك بها كذلك، عندما يَدفَعها حبّها كأُمّ، ورؤيتها للمعجزة، للاندفاع صوب ابنها دون انتظار تطهيره. ولدى تنبيهها إلى عدم إمكانيّة ذهابها إلى حيث يَدفَعها حُبّها الأُموميّ، فتستسلم على صدر يسوع وتُقَبِّله في نشوة الفرح. إنّها تبكي وتضحك وتُقَبِّل وتُبارِك في آنٍ معاً... ويُلاطِفها يسوع بحنان. ثمّ يقول للشاب: «اذهب واعرض نفسكَ على الكاهِن، وتَذكَّر أنّ الله قد بَرَّأَكَ بفضل أُمّكَ، ولكي تكون بارّاً في المستقبل. اذهب!»

 

يَذهَب الشاب، بعد أن يُبارِك الـمُخَلِّص، وتلحق به عن بُعد أُمّه ومُرافِقاتها. بينما يهتف الجمهور هتافات هوشعنا.

 

يعود يسوع إلى مكانه.

 

«هو أيضاً كان قد نسيَ وجود إله يَأمر بالاستقامة والنـزاهة في السلوك. كان قد نَسِيَ أنّه مُحَرّم عليه اتّخاذ آلهة غير الله. كان قد نَسِيَ تقديس السبت كما عَلَّمتُكم. كان قد نَسِيَ الاحترام الوَدود لأُمّه. كان قد نَسِيَ وجوب عدم التَّدَنُّس، وجوب عدم السرقة والعيش في الباطل، وجوب عدم اشتهاء امرأة الغير، وجوب عدم الانتحار أو قتل النَّفْس، وجوب عدم الزنى. لقد نَسِيَ كلّ شيء. انظروا ماذا حَلَّ به.

 

”لاتَشتَهِ امرأة قريبكَ“.

 

وهذه ليست سوى وصية واحدة مع وصيّة ”لا تزنِ“. ذلك أنّ الشهوة تَسبق الفِعل دائماً. فالإنسان ضعيف جدّاً أمام إمكانيّة الشهوة، دون إشباع شهوته. وذُروة الحزن تَكمن في أنّ الإنسان لا يعرف أن يكون كذلك في شهواته المشروعة. ففي الشرّ، الشهوة ثمّ التنفيذ. أمّا في الخير فالشهوة ثمّ التوقّف، هذا إذا لم يكن الرجوع إلى الوراء.

 

ما قُلتُه له، أقوله لكم جميعاً، ذلك أنّ خطيئة الشهوة مُنتَشِرة مثل النجيل (نبات عشبي) الذي يتكاثر وحده: وهل أنتم أطفال لتَجهَلوا أنّ هذه التجربة هي سُمّ ويجب الهرب منها وتحاشيها؟ "لقد سَقَطتُ في التجربة". إنّها العبارة الأثريّة! ولكن بما أنّه كذلك مَثَل قديم أثريّ، وَجَبَ على الإنسان أن يتذكّر النتائج وأن يَعرف أن يقول: "لا". فتاريخنا لا تنقصه الأمثلة عن طهارة عَرفَت حماية نفسها رغم إغراءات الجنس وتهديدات العنف.

 

هل التجربة شَرّ؟ هي ليست كذلك، بل إنّها عمل الشرّير، ولكنّها تتحوّل إلى مجد للذي ينتَصِر عليها.

 

الزوج الذي يمضي إلى مُعاشَرات أخرى هو قاتل زوجته وأطفاله ونَفْسه. فالذي يَدخُل إلى منـزل غيره ليرتكب الزنى، هو سارق، ومِن أكثر الناس خِسّة ودُونيّة. فهو مثل الوقواق، يستولي دون كِلفة على عشّ غيره. والذي يتحايل على ثقة الصديق هو مُزيَّف، مُزوِّر، إذ يَشهَد لصداقة هو في الحقيقة لا يملكها. فالذي يتصرّف هكذا يُلحِق العار بنفسه وبأهله. فهل يمكن إذن أن يكون الله معه؟

 

لقد اجتَرَحتُ المعجزة مِن أجل تلك الأُمّ المسكينة. ولكنّ الفُجور يجعلني أشمئزّ لدرجة الثورة عليه. لقد صَرَختم خوفاً واشمئزازاً مِن البرص. أمّا أنا فقد صَرَخَت نفسي اشمئزازاً مِن الفُجور. كلّ الويلات تحيط بي، وأنا لها جميعاً الـمُخَلِّص. ولكنّني أُفَضِّل لمس ميت بارّ قد تَفَسَّخ جسده الذي كان نزيهاً، وهو الآن في سلام مع روحه، على أن أدنو مِن فاجِر زانٍ. أنا الـمُخَلِّص، ولكنّني البريء. فليتذكّر هذا كلّ الذين يأتون هنا، أو الذين يتحدّثون عنّي مُقدِّمين لي تَخَمُّرات أهوائهم.

 

أُدرِك أنّكم تريدون منّي شيئاً آخر، ولكنّني غير قادر عليه. فحُطام شباب بالكاد تَشَكَّل، وقد تحطّم بالهوى، قد كَدَّرَني أكثر مما لو كنتُ لَمَستُ ميتاً. هيّا بنا إلى المرضى. وبسبب عدم تمكُّني مِن أن أكون الكلمة، بسبب الغَثَيان الذي يخنقني، فسأكون خلاص الذين لديهم الرجاء بي.

 

السلام معكم.»

 

بالفعل يسوع شاحب اللون، كما لو أنّه مُتألّمِ. لا يستردّ ابتسامته إلّا حينما ينحني على أطفال مرضى، وعلى عاجِزِين مُمَدَّدين على محفّاتهم. حينئذ فقط يعود نفسه، خاصّة عندما يَضَع إصبعه في فم طفل أَبكَم، في حوالي السادسة مِن عمره، ويجعله يقول: «يسوع» ثمّ «ماما».

 

يَنصَرِف الناس بهدوء تامّ. ويبقى يسوع يتمشّى في أشعّة الشمس التي تَغمر الدار إلى أن أَتاه الاسخريوطيّ: «يا معلّم، لستُ مطمئنّاً...»

 

«لماذا يا يهوذا؟»

 

«بسبب رجال أورشليم هؤلاء... فأنا أعرفهم. دعني أذهب هناك لبضعة أيّام. ولن أقول لكَ أن تُرسِلني وحدي. بل على العكس، أرجوكَ أن يكون غير ذلك. أَرسِلني مع سمعان ويوحنّا اللذين كانا معي في منتهى الظُّرف واللُّطف في رحلتي الأولى إلى اليهوديّة. الأوّل يدعمني والآخر يُطهّرني حتّى في أفكاري. لا يمكنكَ تَصَوُّر ما يُمَثِّله يوحنّا بالنسبة إليَّ! إنّه الندى الذي يُلَطِّف سَوراتي، والزيت على مياهي الـمُضطَرِبة... ثِق بذلك.»

 

«أَعلَم. وينبغي لكَ، بالتالي، ألّا تَندَهِش إذا ما أَحبَبتُه كثيراً. فهو سلامي. وأنتَ أيضاً، لو تكون صالحاً باستمرار، فسوف تكون عَزائي. لو تَستَخدِم نِعَم الله، ولديكَ منها الكثير، في سبيل الخير، كما تفعل منذ بضعة أيّام، فستصبح رسولاً حقيقيّاً.»

 

«وتحبّني مثل يوحنّا؟»

 

«أحبّكَ على النحو ذاته، إنّما فقط سأحبّكَ دون هَمّ ودون ألم.»

 

«آه! يا معلّمي، كم أنتَ طيّب!»

 

«اذهب إلى أورشليم. هذا لن ينفع في شيء، ولكنّني لا أريد أن أُخيّب أَمَلكَ في رغبتكَ بأن تكون لي نافعاً. سأقول ذلك، الآن حالاً، لسمعان ويوحنّا. هيّا بنا. هل ترى كَم يتألّم يسوعكَ بسبب بعض الزلّات والخطايا؟ إنّني كَمَن يَحمل حِملاً ثقيلاً جدّاً. فلا تُسبّب لي أبداً هذا الألم... أبداً، أبداً...»

 

«لا يا معلّم. لا. فأنا أحبّكَ وأنتَ تَعلَم... ولكنّني ضعيف...»

 

«الحبّ يمنح القوّة.»

 

يَدخُلان إلى البيت وينتهي كلّ شيء.

 

هذا حَسَن، لأنّ حالتي الوجدانيّة المعنويّة سيّئة جدّاً. وتعرفون السبب، جسديّاً -إن بسبب كَوننا في زَمَن الآلام، وإن بسبب أنّني قد كَتَبتُ كثيراً، لستُ أدري بالضبط لماذا.- فأنا أَمُرُّ بمرحلة فظيعة مِن الحرارة وآلام الصدر والعمود الفقريّ والنخاع الشوكي وألم البطن. إنّني أدفع ثمن كلّ الرطوبة وغياب الشمس عن هذا البلد العزيز.